معنى العيد ومفهوم الوطن والمقاومة

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 10 كانون الأول 1969 الكاتب:موسى الصدر

يزخر شهر رمضان المبارك بالفرص والنعم الساكنة فيه حتى انقضائه وحلول الأول من شوال أول أيام عيد الفطر. ولا يترك الإمام الصدر هذه المناسبة إلا ويستثمرها ليحدثنا في رسالته هذه عن هذا الربط المدهش بين وداع شهر الله وبلوغنا آخره بنضج إيماني وبين استقبالنا للعيد والاستفادة من كل ما تعلمناه من مدرسة رمضان في بناء الوطن الجميل القوي.

* مخطوطة للإمام موسى الصدر بمناسبة عيد الفطر بتاريخ 10-12-1969، من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم

أيها المسلمون،
مرة أخرى نودع شهر رمضان المبارك الذي عزّ علينا فراقه، وندخل في رحاب عيد الفطر السعيد، بعد أن تكرر مرات ومرات هذا الوداع وهذا الترحاب، وسيتكرر بإذن الله.
وعند المحاسبة نرجو أن نكون قد بلغنا درجة النضج وتجاوزنا قشور هذه الشعائر الإلهية الخالدة، وأن نكون قد عرفنا أن الصيام والصلاة والعيد ليست طقوسًا وتقاليد مفروضة نقدمها تكريمًا لله ونؤديها ضرائب للغيب. بل إنها محركات ودوافع تجدد قوة الاندفاع في الحياة الصحيحة، وتصحح الانحراف والخطأ في السلوك الإنساني.
لقد بلغنا مرحلة نعرف: أن تفكُّر ساعة خير من عبادة سنوات، وأن التأمل في الشعائر والانتباه إلى الدوافع -ذلك الذي سماه الشرع المطهر بالنية- هو جوهر العبادة ومحتوى الأعمال الحقيقي.
أيها المحتفلون بالعيد،
لقد خرجتم من دورة رمضان التدريبية أقوياء في العزيمة، أشداء على تحمل الصعوبات والمحن، صامدين أمام الأهواء والمغريات.
ولقد تخرجتم من مدرسة رمضان الإلهية بعقول صافية تشتاق إلى المعرفة، وبقلوب طاهرة تهفو إلى ذكر الله وتحسس آلام المعذبين والمحرومين.
ولقد علّمكم الصيام كيف يكون الإخلاص للعقيدة وكيف تكون صيانتها في السر والعلانية. والآن، وفي يوم العيد تنطلقون إلى الحياة بأتم الاستعدادات لكي تصنعوا مجتمعًا كريمًا منيعًا ينمو فيه العطاء وتتعاظم الكفاءات ويذوب فيه الفساد والرياء، مجتمعًا يقذف الكسل والفوضى ويجتذب الجدية والإحساس بالمسؤولية.
إنكم مدعوون لبناء وطن ملؤه الجمال والنزاهة يعتمد على العلم والتنظيم، ويقوم على أساس تحسس آلام الكادحين والمظلومين وعلى التفاني في خدمتهم ورفع الحيف عنهم.
أيها الإخوة،
لقد كنا منذ أيام في رحلة إلى بدر الكبرى، فسمعنا نداء الله: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ [الأنفال، 26]. سمعنا وتذكرنا واقعنا الأليم وتآمر قوى البغي والضلال علينا وتحالف الصهيونية والاستعمار ضدنا، ثم سمعنا نداء الله يؤكد: ﴿فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال، 26].
وقد شهدنا معركة حنين في رمضان: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة، 25]. شهدنا معركة حنين هذه وتذكرنا معركة حزيران التي اكتوينا بنارها ثم عدنا فرأينا عناية الله ونجاح مساعينا وانتصارنا إذ نستمع لقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة، 26].
ودخلنا أيضًا مع رسول الله (ص) إلى مكة منتصرين متأدبين بتأديب الله: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر].
ولقد عشنا في رمضان أيضًا ذكريات شهيد الحق وقربان العدالة علي بن أبي طالب (ع)، وواسينا أحزان الرسول عام الحزن، وفي الثلث الأول من رمضان حينما مات أبو طالب ناصره وحاميه وتوفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى، ولاحظنا تأثير المرأة المؤمنة المجاهدة في حياة الأمة.
وأدركنا أخيرًا ليلة القدر العظيمة التي جعلها الله خيرًا من ألف شهر، وجعلناها بأمر من الله ساعة التوبة والدعاء ونقطة البداية في بناء حياتنا الجديدة، وليلة تقرير مصير مُشرق يتناسب مع ماضي أمتنا المجيد ويكون استمرارًا حقيقيًا له.
أيها اللبنانيون،
ها هم إخوانكم تدربوا في رمضان، وتجهّزوا بقلوب طاهرة مليئة بالمحبة وبعقول نيّرة مزودة بالعبر، وبعزيمة صارمة مخلصة استعدّوا لبناء لبنان الوطن الجميل القوي. وهم يمدّون أيديهم إليكم ليتعاونوا معكم في الدفاع عنه وفي عمرانه وتحسين أوضاعه، فمُدوا إليهم أيديكم المخلصة وتعاونوا في جبهة واحدة متراصة، واستعدوا لعودة المخلص يوم ميلاده لكي تصرخوا جميعًا في وجه المعتدين الصهاينة: هذا بيت أبي مكان للعبادة، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص.
أيها الأعزاء،
إن الوطن يعيش في ضمائر أبنائه قبل أن يعيش في الجغرافيا والتاريخ. ولا حياة للوطن بدون الإحساس بالمواطنية والمشاركة. وهذا الإحساس يجب أن يبرز بصورة واضحة وسريعة ودائمة في ترفعكم عن العائليات والإقليميات والطائفيات والحزبيات.
أن تدوي في لبنان أصوات من الشمال تدافع عن حقوق المواطنين في البقاع، وأن ترتفع صرخات في الجبل تعيد الحياة العمرانية والمساعي الدفاعية إلى الجنوب، وأن تسعى العائلات والأفراد المكتفية بصورة خاصة لرفع مستوى حياة الكادحين والمحرومين، وأن تنادي وتطالب طائفة وتشجب التمييز الطائفي الذي يمارس بالنسبة إلى غيرها: هذه هي المواطنية الحقة وهذه وسيلة بقاء أي وطن دون سواه.
وأنتم أيها المجاهدون الفلسطينيون،
لقد شرفكم الله وفضّلكم بأن تقضوا العيد في الخنادق وفي ساحات القتال. فاطمئنوا... إننا في هذه الأيام وفي كل يوم معكم قلبًا وفكرًا ولسانًا ويدًا. نؤيدكم ونناصركم، وندفع عنكم الأذى ونُسْمِع صوتكم للعالم. أنتم طلائع جيشنا وحماة مستقبلنا، أنتم مشاعل طريقنا الشاق إلى النصر، تنيرون الدرب بزيت دمائكم، وتبعثون الأمل والقوة في النفوس ببذل مهجكم وأرواحكم.
أيها الإخوة،
إن الطاقات والإمكانات التي وهبها الله تعالى للبنان كثيرة وكثيرة جدًا في داخل لبنان وخارجه.
وقد تعلمنا في شهر رمضان المبارك وفي تعاليم الأديان المقدسة أن شرف هذه الطاقات وبركتها هو بأن يستعملها الإنسان في خدمة أخيه، لا باحتكارها وتجميدها، ولذلك فسوف يسعى أبناء هذا البلد بتجنيد كافة طاقاتهم لخدمة قضية العرب الكبرى، قضية فلسطين.
وسوف يجنّدون هذه الطاقات لكي يدخلوا الاستقلال والحرية في كل بيت، ولكي يوصلوا العلم والعمران إلى كل قرية، ولكي يحافظوا بكل قوة وعزم عن كل منطقة وعن الجنوب بصورة خاصة.
أيها العيد،
يا موسم تحرر الإنسان من نفسه، أيها المدرب العظيم، يا ملتقى الإنسان بأخيه مهما تفاوتت ظروفهما واختلف سلوكهما، أيها العائد الإلهي هكذا وبالآمال العريضة نستقبلك ونرى فيك مع فرحة الإفطار، فرحة أرواحنا بلقاء الله. ونعاهدك على أننا نستعد إذا لزم الأمر لإدراك فرحة اللقاء بالشهادة لحماية بلادنا، وللمشاركة في تحرير أراضينا المغتصبة، والله الموفق والمعين.
وكل عام وأنتم بخير.

source
    الصفحة: /