"الخطر والفرصة" لإدوارد دجيرجيان ... الديبلوماسية الأميركية وقضايا الشرق الأوسط... تناقضات بيروت وجمالاتها ولقاء موسى الصدر وصداقة رفيق الحريري

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 14 كانون الثاني 2009

تنشر «الحياة» مقاطع من كتاب (DANGER AND OPPORTUNITY) «الخطر والفرصة» للديبلوماسي الأميركي ادوارد دجيرجيان الذي عمل في سفارة بلاده في بيروت، وكان سفيراً في دمشق ثم في تل أبيب في عهدي حافظ الأسد واسحق رابين، قبل أن يتولى مسؤوليات في وزارة الخارجية تتعلق بالشأن العراقي وسائر شؤون الشرق الأوسط.

* *

(...) كانت بيروت في الستينات من القرن الماضي مركزاً للجواسيس وشبكات التجسس في الشرق الأوسط، لأنها تقع في بؤرة الصراع العربي - الإسرائيلي إلى جانب القوى المتنافسة في الحرب الباردة. لذلك اعتبرت بيروت ولبنان بحق نموذجاً للبلد المتسامح الذي يحوي في داخله الثقافات والديانات والتيارات الفكرية والسياسية من دون حواجز وانشقاقات.

في بداية عملي، أرسلتني الإدارة الأميركية لدراسة اللغة العربية، في تلك الأثناء تسلمت أولى مهماتي الديبلوماسية في القسم السياسي في السفارة الأميركية. وبعد سنة من دراستي اللغة العربية، في معهد الخدمة الأجنبية، أصبحت سكرتيراً ثالثاً في السفارة ومترجماً للسفير الأميركي في لبنان. كما كنت أيضاً حلقة الاتصال بين السفير وكثير من المواطنين المسلمين والجماعات اليسارية والجماعات الوطنية التي تتبنى شعار القومية العربية.

بدأت خدمتي في السلك الديبلوماسي في الترجمة، أي أن أكون مترجماً للسفير الأميركي؛ وساعدتني هذه المهمة كثيراً في توسيع علاقاتي بالقادة اللبنانيين من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، المتطرفة منها والمعتدلة، اللبنانية والعربية، إلى جانب علاقات مع رجال الدين. وشكلت اللقاءات في الصالونات السياسية والترفيهية التي كانت تعقد غالباً في الأمسيات، وهي أوقات جميلة في بيروت، انطباعاتي عن مدى التناقض في الحياة الاجتماعية بين التقليد والحداثة. (……………………)

فيما يُنظر إلى لبنان على أنه نموذج لنظام التعايش بين الطوائف الدينية والسياسية، والذي يبدو ظاهراً نظاماً ناجحاً، إلاّ أنّه من الداخل يعد ضعيفاً وهشاً. كنت أشعر أنّه لو تعرّض لأيّ خدش بسيط ستظهر الخلافات الإقطاعية والعقائدية، وبالتالي تُحدث هذه الخلافات ضرراً كبيراً لهذا البلد. كان لبنان بالفعل على حافة صراع كبير لأسباب عدة، منها أولاً: التغير الديموغرافي، زيادة عدد المسلمين والذي جاء في مصلحتهم لمراجعة نظام تخصيص المقاعد والمناصب داخل الوزارة والبرلمان، ثانياً: تغير في الائتلافات والتحالفات السياسية، وثالثاً: التدخلات الخارجية من دول الجوار التي أدت إلى وجود خلافات غير محسومة.

للأسف، تفككت بيروت من داخلها وأصبح لبنان فريسةً للقوى الخارجية والصراعات الداخلية بين طوائفه وأحزابه السياسية. (………..)

في عام 1966، طلبت مقابلة شخصية مهمة هو زعيم شيعي متميز. وفتحت هذه المقابلة الباب لي وللإدارة الأميركية في واشنطن فرصة لفهم الفكر الشيعي الذي يلعب دوراً مهماً في لبنان وفي المنطقة في شكل عام، كما برز لاحقاً في ثورة إيران عام 1979، وظهور «حزب الله» في لبنان، وتعاظم وضع إيران في الشرق الأوسط عقب الحرب على العراق عام 2003.
(...).
يتمركز الشيعة في وادي البقاع وفي الجزء الجنوبي من لبنان، وعدد كبير منهم ليسوا على قدر كبير من التعليم، ومعظمهم مزارعون ويعيشون في مناطق لا تحوي مدارس أو مراكز للرعاية الصحية ولا طرقاً ممهدة أو خدمات أولية أساسية؛ والذين ينزحون إلى بيروت يعيشون في مساكن ومناطق عشوائية، والقادرون منهم هاجروا إلى الخارج في الخمسينات.

حين بدأ لبنان ينتعش اقتصادياً، بدأ الشيعة وكثير من المهمشين في الانضمام إلى تيارات سياسية علمانية مثل الماركسية والمنظمات اليسارية أو إلى حركات القومية العربية.

في ذلك الوقت برزت شخصية دينية من الشيعة هو موسى الصدر، وعلى رغم أنه ولد في إيران وجميع أجداده عاشوا في لبنان، إلا أنّه في الحقيقة اعتبر دخيلاً؛ لذلك ظلت هناك تساؤلات كثيرة حول أسباب رجوعه إلى لبنان بلد أجداده. (...)

في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1958، لم تتعاون حكومة فؤاد شهاب بصورة كبيرة مع الصدر، وبالتالي لم يستطع أن يحصل على امتيازات كبيرة يفيد بها أبناء طائفته في مدينة صور، إلا بعض المشاريع الصغيرة مثل بناء مدرسة للتعليم الفني والمهني، جرى تمويلها من الحكومة ومن بعض رجال الأعمال الشيعة. وكان يريد المزيد ليهدّئ مجتمعه مما قد يخلق جواً من الاستقرار. إلا أن مطلبه كان صعب المنال لأنّ فئة كبيرة من ذلك المجتمع كانت تعيش في فقر وحرمان.

الثقافات المتعددة الموجودة في لبنان والغالبية المسيحية المارونية ثم المسلمون السنّة والدروز، جميع هؤلاء كانت تمثلهم منظمات وأحزاب سياسية تعمل على تأمين مصالحهم؛ أما الشيعة فلم يكن لديهم سوى موسى الصدر الذي أنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969 فارتبط باسمه مدى الحياة.

بدأ نفوذ السيد موسى الصدر يقوى بعد إنشائه هذا المجلس، فقد كان طموحه أن يكون للشيعة في لبنان دور أساس وليس هامشياً؛ لذلك قررتُ مقابلة هذا الزعيم لكي أعرف منه، كمصدر أولي وأساسي، وضع الشيعة في لبنان.

اللقاء مع موسى الصدر
كانت السفارة الأميركية تهتم بإنشاء علاقات واتصالات مع المسيحيين والسنّة والدروز ومؤسساتهم، ولم تهتم أبداً بعلاقات أو اتصالات مع المجتمع الشيعي، فلم يكن لدى الإدارة الأميركية أي معلومات عن الأحوال السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية للشيعة في لبنان الذين بدأت قوتهم تزداد وتنمو.

بدأت في مساع كثيرة واتصالات مع المقربين من موسى الصدر حتى أستطيع مقابلته. وبعد أسابيع من الانتظار، تلقّيت اتصالاً هاتفياً من أحد معاونيه يبلغني موافقة الإمام على مقابلتي. لكن، كان عليّ أن أذهب إليه بسيارتي الخاصة من دون مرافقين، وحدد مكان المقابلة في المدينة القديمة في صور، وفي مبنى مدرسة ثانوية عند ملعب كرة القدم. وقد وصف لي المتحدث المكان المحدد للانتظار عند أريكة حجرية تحت شجرة، على أن أجلس حتى يأتي الإمام، وبالطبع كنت سعيداً بهذه الأخبار، كما كنت على يقين من أنني إذا طلبت الإذن من السفارة فسيستشعرون الخطر ويطلبون إلغاء المقابلة - لأسباب أمنية - لذلك قررت المقابلة على مسؤوليتي الشخصية.

وفي اليوم والساعة المحدّدين في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1966 ذهبت بسيارتي (بيجو 404) من بيروت إلى صور ووصلت إلى المكان المحدد وانتظرت أكثر من ساعة ونصف ساعة حتى ظننت أن كميناً نصب لي. أخيراً جاءت سيارة مرسيدس سوداء، وكان مع الإمام اثنان من الحراس فتحا له باب السيارة، فبرز شخص قوي البنية نافذ العين ذو لحية سوداء، وكان يلبس عباءة وغطاء رأس أسود، كان عليّ أن أعترف بأنني أُخذت عندما شاهدت هذا الرجل، لكنني ذهبت إليه وحييته باللغة العربية وردّ عليها بالمثل. جلسنا نتحدث حوالى ثلاث ساعات، وكان الحوار يشمل أحوال الشيعة، والوضع السياسي في لبنان والعالم العربي، والصراع العربي - الإسرائيلي.

في أثناء الحديث أثنيت على الجهود التي يبذلها الإمام للنهوض بالمجتمع الشيعي في جنوب لبنان، مثل المدرسة التي أنشأها للتعليم الفني والمهني في مدينة صور، والتي كنت زرتها بالفعل، وقلت له إنّها مدرسة جيدة. وسألته عما إذا كان من الممكن إنشاء صناعة خفيفة لمساعدة الفقراء من الشيعة، فقال ان الفكرة ليست صائبة، ومن الأفضل الاهتمام بالزراعة، فهي أكثر إفادة للمجتمع الشيعي لأن غالبيتهم من المزارعين. وعلمت منه أنه توجد مشاكل اجتماعية وصحية تحتاج إلى جهود كثيرة، خصوصاً أن كثيراً من القرى في الجنوب تفتقر الى الخدمات الصحيّة.

تكلم الصدر عن اهتمامه بمستقبل لبنان والمنطقة في شكل عام، وركز على أن العنصر الخطير في لبنان، من وجهة نظره، هو الأوضاع المتردية والسيئة للشيعة، فقد تعمدت الحكومة أن تهمل الجنوب اللبناني إلى أن أصبحت المنطقة بؤرة معاناة حقيقية لمن يعيش فيها. وبصفته قائداً دينياً للشيعة، عليه أن يعيد القيم الدينية لأهل هذا المجتمع حتى يستعيدوا ثقتهم واحترامهم لذاتهم. وركز كثيراً على العنصر النفسي لأبناء هذا المجتمع نتيجة أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة، إضافة إلى عدم الاعتراف بأي حقوق لهم مقارنة بالفئات والمجتمعات الأخرى في لبنان. وبصفته قائداً دينياً ذا شخصية زعامية، وضع موسى الصدر أجندة سياسية، كما قال عن نفسه: «أنا أخذت رجل الدين إلى الحياة الاجتماعية بعدما أزلت عنه غبار السنين».

على رغم جهود الإمام موسى الصدر ومحاولاته سلوك كل السبل السياسية لتحسين ظروف مجتمعه الدينية، إلا أنه لم يكن يُعرف عنه التطرف أو التعصب لطائفته، بل على العكس كانت رسالته الأساسية هي كسر الحواجز التي تفصل وتجزئ لبنان والعالم العربي. (…)

في أحد أيام الجمعة خطب الإمام في الجامع الرئيسي في مدينة صور، وأعلن بعد انتهاء الخطبة أنه سيذهب ليتمشّى، وطلب من المصلّين أن يشتركوا معه. وبينما كان الجمع محتشداً حوله، وقف عند محل لبيع المثلجات وكان المحل مُلكاً لرجل مسيحي، لم يكن يشتري منه أحد من الشيعة، إلا أن الإمام طلب من صاحب المحل أن يعطيه من هذه المثلجات لأنه أراد أن يكسر الحواجز بين المسلمين والمسيحيين، فالشيعة كانوا يعتبرون آنذاك أن الطعام والشراب الذي يصنعه أو يبيعه المسيحيون نجس، لذلك أراد أن يكسر الحواجز الدينية والاجتماعية والمعتقدات الخاطئة على غرار السيد المسيح. وعندما وقف الإمام ليشتري من هذه المثلجات، سأل الرجل: أي نوع من المثلجات تريد أن تبيع اليوم؟ وهو بذلك أراد أن يقول إن المسيحيين ليس بهم نجس أو محرمات.

طرح الدكتور فؤاد عجمي مواقف كثيرة للإمام موسى الصدر تدل على سماحته الدينية، منها خطبته في كنيسة كاثوليكية في فترة الصيام الكبير عند المسيحيين في عام 1975 في وقت وصل الاحتقان الطائفي إلى الذروة منذراً بحرب أهلية. وكانت ملاحظاته عن الدين والسياسة تكشف ما لديه من روح تؤمن بكل الأديان والطوائف، كما كانت لديه قناعة كبيرة ووعي بأن القادة الدينيين إذا امتلكوا زمام السياسة فسيواجهون الأخطار والانتقاضات نفسها التي توجه للقادة العلمانيين.

للأسف، لم يُعْطَ الإمام الصدر الفرصة لكي يكمل المشوار الذي بدأه والهدف الذي أراد تحقيقه (خدمة الإنسانية) لمواجهة المصالح الطائفية. ففي عام 1978 وهو في رحلة إلى ليبيا اختفى الإمام موسى الصدر  (...).

source