الإسلام: الأصالة ـ الروحية ـ التطور

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 23 تموز 1966 الكاتب:موسى الصدر

الإسلام الأصالة، الإسلام الروحية، الإسلام التطور عناوين يرسمها الإمام الصدر في هذه المحاضرة ليُظهر وجه الإسلام الحقيقي في مواجهة تحديات الحياة. وقد ألقاها الإمام مرّتين: مرّة في 22 تموز 1966 في بيروت في كلية بيروت للبنات وأخرى في 19 آذار 1970 في القاهرة في المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين. نستعيد النصّ كاملًا:

محاضرة للإمام موسى الصدر ألقاها في كلية بيروت للبنات في صيف 1966، وأعاد إلقاءها في مقر المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين في القاهرة بتاريخ 19 آذار 1970. ونُشرت في كتاب "مصادر الثقافة في لبنان"، مكتبة لبنان وفي كتيب "الأصالة الروحية التطور"، جمعيات الشبان المسلمين 1970.
اختير لي في هذه السلسلة من المحاضرات موضوع "الإسلام" والموضوع في حدّ ذاته واسع جدًّا. ثم إن اعتبار هذا الموضوع حلقة من مصادر الثقافة في لبنان يضيف جانبًا جديدًا على موضوع المحاضرة، جانبًا ثقافيًا تاريخيًا يشمل حقلًا مترامي الأطراف، متنوع الجوانب، شمول ثقافة لبنان وتنوعها.
فالبحث عن تأثير الإسلام في الثقافة بلبنان، يمتدّ منذ أيام الزحف الإسلامي نحو هذه المنطقة واستقرار الحكومات والأنظمة الإسلامية في دمشق وغيرها، إلى جولات الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري في جبال لبنان، والتأثيرات والتفاعلات العامة لتعميم الدعوة الإسلامية في جميع هذه المناطق طيلة القرون المتتالية. ومن مشاركة علماء لبنان في توسيع الثقافة والحضارة ونقلها إلى أقطار العالم، إلى الإنتاج الضخم من الكتب والمحاضرات، الذي نجده عند علماء جبل عامل وبعلبك وبيروت وطرابلس.
أضف إلى ذلك انفعال اللغة العربية بصورة عامة بالتعاليم الإسلامية، بالقرآن الكريم بالذات، هذا وغيره يتجاوز إمكانية البحث عنه في محاضرة واحدة. ثم إن مستوى الداعية والمحاضرين والمستمعين يجعل المحاضرة جامعية يطالب صاحبها ببحث موضوعي جديد.
هذه العناصر جعلتني أحتار في انتخاب الجانب الذي يكون الحديث عنه ملائمًا. وفرضت عليّ تأخيرًا في تقديم المحاضرة ربما خرجت به عن الطريقة المتبعة في هذه السلسلة.
فحاولتُ أخيرًا أن أفسّر العنوان العام لسلسلة المحاضرات وأوسِّع مدلوله فأختار البحث عن أحد مصادر الثقافة في لبنان لا عن تأثير هذه المصادر في ثقافتنا اللبنانية كما هو المطلوب.
وحثّني على هذه المحاولة تلاقي الأفكار والآراء الشرقية والغربية في لبنان حول كلّ شيء وحول الإسلام مما قد يوجب الغموض في النقاط الأساسية من الإسلام، تلك النقاط التي أخذت القسط الأكبر من دراسات علماء كبار أمثال ماسيه ولامنس ودرمينجهام وماسينيون وأمثالهم.
ويؤكد لكم قبول العذر أني أحاول عدم الخروج عن اختصاصي بصورة عامة، وفي هذا الحقل بصورة خاصة، وأرجو أن أوفّق لأداء المهمة مع بذل جهدي المقلّ وتقديمه المتواضع.
طريقة البحث في المسائل الدينية
قلت إن تلاقي الأفكار ودراسات هؤلاء العلماء جعلت الغموض يكتنف بعض النقاط في الإسلام. ولكني ما أردت اتهام هؤلاء الأفذاذ الذين صرفوا عمرهم في دراسة الشرق والإسلام ولا قصدتُ التقليل من قيمة دراساتهم الواسعة العميقة وخدماتهم الكبرى للثقافة العالمية.
بل أريد أن أقول إن المبادئ الدينية والحقائق والأفكار المذهبية لا يمكن أن تعبّر عنها ألفاظ وعبارات محضة، ولا تدرس من خلال مطالعة بعض الكتب والمقالات التي تبحث عنها. ذلك أن لكلّ علم وكلّ عرف مصطلحاته الخاصة التي لا تعرف حقائقها إلّا بدراسة واسعة في حقول العلم المذكور أو ممارسة ذلك العرف ممارسة تامة، وهي مصطلحات تسمى حقائق عرفية عامة أو خاصة. والفقهاء يعبرون عنها بالحقائق الشرعية أو الحقائق المتشرّعة، أما المعاني والأفكار الدينية فيضاف إليها أنها تقارن سلسلة من الخواطر الروحية والحياة المعنوية والأحداث التاريخية التي تنتقل بالسيرة عبر الأجيال وترتبط بسلسلة طويلة من العقائد والتربية الدينية والعشرة الطويلة مع أبطال الفكرة ومؤسسيها.
هذه الميزة التي تشبه إلى حدّ ما ميزات الأدب والفن تجعل من الصعب جدًا دراسة المبادئ والأفكار الدينية بعمق والحكم لها أو عليها.
بل يجب على الباحث أن يطّلع عليها وعلى جميع جوانبها وعلى تاريخها، ويلاحظ الأحداث والنصوص والقرائن ثم يحاول أن يناقش أصحاب المبدأ ويستوضح الملابسات والمتشابهات لكي يتمكن من الخوض فيها والإحاطة بها.
وأعتقد أن مراجعة كتب أصول الفقه (مباحث الألفاظ) تؤكد ما ذكر. لهذا، فإنّا نعتقد أن أفضل طريقة لدراسة هذه المبادئ والأفكار هي الطريقة المتبعة في هذه المحاضرات وهي طريقة "الندوة اللبنانية" في محاضراتها من إناطة البحث بأصحاب المبادئ ومطالبتهم بموضوعية البحث والدراسة.
أما النقاط التي أحاول البحث عنها في هذه المحاضرة فهي:
1) الأصالة أو ذاتية الإسلام.
2) الروحية في الإسلام وقوتها أو ضعفها.
3) اهتمام الإسلام بشؤون المجتمع وعدم الاكتفاء بالإيمان والأخلاق ثم حلّ مشكلة التطور.
1) الأصالة
تحت هذا العنوان نناقش ما ملأ كتب المستشرقين والكثيرين من الباحثين الجدد حيث أكدوا أن الإسلام أخذ الكثير الكثير من عقائد الأديان السماوية الأخرى التي كانت شائعة في أوساط العالم العربي حين كانت معبرًا لرحلات النبي محمد التجارية قبل ظهور الإسلام. وتأثر الإسلام كذلك بالأفكار والعادات الوثنية السائدة في الجزيرة وعند الفرس والروم الذين كانوا على اتصال تجاري وسياسي مع العرب في مكّة، والعادات السومرية أو الصابئية أثّرت في العبادات والسير الإسلامية. وأفضل ألّا أنقل نصوص ما قالوا، حذرًا من إطالة الكلام.
رأي الإسلام في الأديان:
وقبل أن ندرس مدى صحة هذا الكلام يجب أن نلاحظ منطق الإسلام حول الأديان السماوية. فالقرآن يعلن أن رسالة محمد هي العقد الأخير من سلسلة الأديان الإلهية، وأن محمدًا هو خاتم الأنبياء، مؤمن بهم ومصدّق بأنهم رسل ربه.
﴿قل ما كنت بدعًا من الرسل﴾ [الأحقاف، 9].
﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله﴾ [البقرة، 285].

والقرآن يؤكد أيضًا أن دين الله واحد ويسميه الإسلام، ويعتبر أن جميع الأنبياء كانوا يبشرون به وقد جعل الله لكلّ منهم شرعة ومنهاجًا.
﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ [الشورى، 13].
وفي كثير من الآيات القرآنية نجد القرآن ينقل عقائد وأحكامًا وقصصًا تربوية عن الرسالات السماوية ويعتمد عليها. إذا لاحظنا هذا المنطق فلا نجد أيّة غرابة أو أيّ مانع من بعض التشابه في العقائد والأحكام والأخلاق الإسلامية مع الأديان السماوية الأخرى.
الطابع المميز للإسلام
ولكننا نقول إن الإسلام مع ذلك له طابع خاص في جميع حقوله وتعاليمه، يعطيه ذاتية خاصة ويميزه عما عداه من الأديان ومن العقائد الأخرى.
والباحث في مختلف حقول الإسلام يمكنه أن يكتشف هذا الطابع بوضوح، هذا الطابع الذي يعبّر عنه بالتوحيد فيسمي الإسلام بـ "دين التوحيد".
فكلمة الإسلام حسب المصطلح القرآني هو التسليم لله رب العالمين الذي ﴿له أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون﴾ [آل عمران، 83].
فالإسلام إذًا هو الانضمام والانخراط في سلك جميع من في السماوات والأرض والاتحاد معهم في المبدأ والسير والمرجع أزليًا أبديًا.
والإسلام أيضًا حسب التفسير القرآني هو السجود الإرادي من الإنسان وتسبيحه وصلاته والتحاقه بذلك بركب الكائنات الواحد، الذي هو بمجموع أجزائه ساجد ومسبح ومصلّ لله الواحد في محراب الكون الواحد.
﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس﴾ [الحج، 18].
﴿يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير﴾ [التغابن، 1].
﴿ويسبح الرعد بحمده﴾ [الرعد، 13]. ﴿تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإنْ من شيء إلّا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ [الإسراء، 44].
﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كلّ قد علم صلاته وتسبيحه﴾ [النور، 41].

والمجتمع كالجسد الواحد، في رأي الإسلام، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأجزاء بالسهر والحمى (حديث شريف). والإنسان، أيضًا في رأي الإسلام، موجود واحد بجسمه وروحه وحدة متكاملة متفاعلة.
وفي حقل العقيدة والإيمان أن الله هو ﴿الأول والآخر والظاهر والباطن﴾ [الحديد، 3] والمبدأ والمنتهى ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ [البقرة، 156].
والغاية في السير والعبادة والجهاد هو الله الواحد ﴿وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين﴾ [البينة، 5] ﴿ويكون الدين كلّه لله﴾ [الأنفال، 39].
وفي الأنظمة الاجتماعية والمالية والمدنية والأخلاقية نجد محاولات واضحة لجعلها على قاعدة واحدة تقرب بين الأفراد حتى تجعل من كلّ واحد بعضًا من الكلّ، لا فردًا من الكليّ على حدّ التعبير المنطقي.
وقد عبَّر القرآن عن الأموال والتعهدات والقوى المادية والمعنوية للأفراد المختلفة أنها "لكم"، فأضافها إلى المجموع تكريسًا لهذه التربية وتأكيدًا لهذه القاعدة.
وتأثر الفن الإسلامي بهذا الطابع المميز فأصبح طابعه الانحناء الذي يشكل خطًّا واحدًا على اختلاف أشكاله وأنواعه (Arabesque).
وبكلمة موجزة، إن الطابع المميز للإسلام هو الوحدة في الإيمان والتشريع والفن والتفسيرات. فلنعد الآن إلى ذكر بعض التفاصيل خاصة حول ما ورد في عبارات الأستاذ ماسيه لكي نرى الأصالة الذاتية بوضوح أكثر.
الله
فالله هو الذات الواحد الأحد، ﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى، 11]، ﴿له الأسماء الحسنى﴾ [طه، 8] والأمثال العليا والصفات الكمالية كلّها، يتعالى عن كلّ نقص وحاجة فهو الصمد، ﴿لم يلد ولم يولد﴾ [الإخلاص، 3]، مجرّد من الانتساب الخاصّ إلى كلّ شيء أو إلى كلّ فرد أو إلى كلّ ظاهرة. فالعالم بأجمعه والبشر بجميع أفراده والأحداث كلّها أمامه سواء، هو الخالق والمستمرّ في خلقه ولا وجود ولا بقاء للموجودات دون إرادته ودون تصرفه، وهو عالم الغيب والشهادة لا يغرب عنه مثقال ذرة.
ويرى الباحث أن هذا الكمال المطلق الذي يتجلى في تفسير الله يعكس على الخلق جوانب تربوية عديدة ويبعده عن مجرد فكرة تجريدية وصورة قلبية أو طقوس مذهبية.
فالتعمق في التجرد والابتعاد عن الشبه والتعالي عن أيّ ربط خاصّ بشيء، ينزع صفة القداسة الذاتية عن كلّ شيء، ويحرر الإنسان من أيّ قيد عقلي أو عملي أو عاطفي أو اجتماعي فيجعل منه، وهو عبد لله، الحرّ المنطلق في جميع شؤون الحياة لا يقف أمامه مانع، وينعكس الكمال الإلهي على الكون كلّه، وعلى الإنسان بالذات فيرى الكون والإنسان في أحسن صورة وأكمل تقويم وأدق تنظيم.
والإحاطة القيومية، على حدّ التعبير القرآني، تربط بين التجرد المطلق الإلهي وبين أن يكون الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وأن تكون ﴿الأرض جميعًا قبضته﴾ [الزمر، 67] ﴿والسموات مطويات بيمينه﴾ [الزمر، 67] فالأبصار لا تدركه ولكنه يدرك الأبصار.
إن الله بعيد عن إدراك العقول "كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم" (حديث شريف). ومع ذلك ﴿هو معكم أين ما كنتم﴾ [الحديد، 4] حيث إنه "مع كلّ شيء لا بالمقارنة وغير كلّ شيء لا بالمزايلة" (نهج البلاغة). وهذه الإحاطة تشعر الإنسان بالاطمئنان بالقوة وتزيل عنه الوحشة وتوحي إليه بالمسؤولية. وهكذا نرى تأثير الفكرة العميقة في الحياة الإنسانية وابتعادها عن التجريد. ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ [البقرة، 115] "وقلب المؤمن عرش الرحمن"، حديث شريف،  و"أنا عند المنكسرة قلوبهم"، حديث شريف، و"من عاد مريضًا فقد عادني في عرشي"، حديث شريف، و"المحسن يلمس يد الله حال إحسانه" حديث شريف.
هكذا يرى الباحث صورة جديدة لله في الاسلام تختلف عن جميع الصور الأخرى، وإذا كان يمكننا تلخيص الإيمان المسيحي بالله بكلمة موجزة هي أن "الله هو المحبة" يمكن تلخيص الإيمان الإسلامي بالله بأن ﴿الله هو الحقّ﴾ بما لكلمة الحقّ من معنى.
ولقد أجاد مترجمو القرآن المتأخرون حيث احتفظوا بكلمة الله من دون تعبير آخر مشابه في سائر اللغات.
الملائكة
وهي فكرة قديمة قِدَم الأديان لكنها بصورة عامة، في الإسلام وفي الأديان كلّها، تختلف عما ورد في آراء الفلاسفة باسم أرباب الأنواع وباسم المثل الأفلاطونية أو الأنوار الأسفهبدية.
نوقش موضوع الملائكة في الإسلام في كتب الباحثين من الشرق والغرب مناقشات مفصلة وساعدهم على هذه المناقشات كلمات علماء الكلام والسير من الأساطير والتخرصات حول الملائكة وحول المقربين منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بالذات؛ ورأى بعض المستشرقين الكبار خلال مقارناتهم أن هذه الفكرة في الإسلام دخيلة، واعتمدوا لذلك صيغ هذه الأسماء وغير ذلك.
ونحن حينما نحاول البحث في ذاتية الفكرة الإسلامية عن الملائكة نعيد إلى ذاكرة المستمعين ما ورد في أول المحاضرة حول تصديق الإسلام بالأديان السماوية السابقة وبما جاء فيها ثم نقول:
إن ما ورد في كلمات علماء المسلمين في الكلام والسيرة والفقه أيضًا كلّه يحمّل قائليها المسؤوليات. أما مصادر الشريعة الإسلامية فخالية من هذه التفاصيل، ولا تهتم إلّا بالإيمان بالملائكة وبالجانب التربوي منه الذي سوف نبحث فيه؛ أما حقيقة الملائكة وتفاصيلها وتجردها وماديتها فلا تجدها في المصادر الأصلية ولهذا فالاعتقاد بهذه التفاصيل وبغيرها لا يعدّ من الإيمان الإسلامي الذي يدين به المسلم بل كلّ ما يجب أن يؤمن به المسلم هو وجود ملائكة الله فقط كما يجب أن يؤمن بالله وبكتبه وبرسله، وأن الله جعل من الملائكة رسلًا، وأنهم يسبحون بحمد ربهم ويقدسونه في الليل والنهار ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ [التحريم، 4]. يؤمن المسلم بهذا كلّه لأن القرآن نصّ عليه وأخبر عنه. أما الجانب العلمي في فكرة الملائكة فلا أعرف أيّ مبدأ أو دين غير الإسلام تعرض له ما عدا الذي ورد في إنجيل متى في الإصحاح الأول وفي أعمال الرسل بصورة موجزة.
هذا الجانب تشير إليه بعض الآيات القرآنية التي تعبِّر عن الملائكة بـ ﴿المدبّرات أمرا﴾ [النازعات، 5] والتي تسند كثيرًا من الأحداث الكبار في الدنيا والآخرة إلى الملائكة، ومن هذه الآيات: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزَّل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ [فصلت، 30-31].
تتلخّص الفكرة في أن الملائكة هم الذين يدبّرون القوى الكونية الظاهرة والخفية بأمر من الله، وأنهم يطيعون الله ولا يتخلفون عن أمره. فمن يسلك سبيل الحقّ تواكبه الملائكة قائلين له ﴿نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ [فصلت، 31]. فالسالك ليس منفردًا في طريق الحقّ بل القوى الكونية التي هي طوع يد الملائكة تسانده وتقويه وترفع وحشته.
إن المؤمن السالك في سبيل الحقّ والعدل لا يشعر بالوحدة والوحشة، بل يشعر بمواكبة الكون وتأييده لقواه فيطمئن بأنه المنتصر حيث ﴿إن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير﴾ [التحريم، 4].
وهذا الشعور هو ضروري بالنسبة لحملة الرسالات وأصحاب المبادئ الذين يحاولون التأسيس وإعادة بناء الإنسان ومجتمعه.
الشيطان
والحديث عن الشيطان، مَلَك الشرور، يرتبط بالحديث عن الملائكة، حيث إنه كان مخلوقًا معهم، حسب وصف القرآن، قبل خلق آدم، مطيعًا ساجدًا مسبحًا لله ثم عصاه حينما أمره بالسجود لآدم فرفض استكبارًا واعتزازًا بعنصره، ثم أُمْهِلَ إلى يوم الدين وهو يقود حملة الإغواء وتضليل البشر بالتعاون مع جنوده قوى الشرّ.
ويختلف هذا التفسير اختلافًا كليًّا عن معنى أهريمان عند الفرس القدامى حيث إنه خالق الشرور وهو في صراع دائم على رأيهم، مع آهورمزدا إله الخير.
يختلف تفسير الشيطان المخلوق عن أهريمان الخلق تمامًا مبدأً وأثرًا؛ حيث إن مشكلة الصراع النفسي التي يعانيها الإنسان المؤمن بإلهي الخير والشرّ هي مشكلة كبيرة حيث إنه يرى الكون كلّه والمجتمع والإنسان كلّ منهما يتبعض. وهذا الإنسان الذي يشعر بالازدواجية في وجوده وفي مجتمعه وفي مبدئه ومصيره ويعيش في صراع أبدي ذاتًا وسلوكًا وزمانًا لهو إنسان محطم ضعيف حقًّا.
ويختلف معنى الشيطان في الإسلام عن معنى ملاك جهنم ورئيس هذا العالم وإله الدنيا في سائر التفسيرات. وأخيرًا يتفاوت مفهومنا عن الشيطان عن رأي البعض من أنه الموحد الأكبر الذي امتنع عن السجود لغير الله وصار عندهم رأس القديسين وقائد الموحدين.
أما أصالة الفكر الديني حول الشيطان فإنها تبلغ القمة في القرآن من الناحية التربوية فإن الشيطان اسمه الأصلي إبليس الذي كان من المقربين عند الله، فطُرِدَ من مقام القرب لأجل معصية صدرت عنه استكبارًا فسُمي الشيطان. فانحرافه وطرده وشقاؤه لعصيانه أوامر ربه، لا لذاتية الشقاء فيه ولا لعفوية الطرد وإبعاده عن مقام القرب.
ومن جهة ثانية، فإن الشيطان كذات يمثل وحدة قوى الشرّ وتكتلها أمام قوى الخير في صراع أزليّ أبديّ بين الحقّ والباطل مهما كان نوعهما أو وصفهما أو قدرهما.
وأهمّ النواحي التربوية في إعطاء فكرة الشيطان واستلامه مهمة الإغواء والتضليل مع جنوده التي منها النفس الأمّارة بالسوء، أهم هذه النواحي هي تكريس اختيار الإنسان والتأكيد على أنه مخيَّر بين الخير والشرّ، لا مسيَّر لا يهتدي إلّا إلى دوره الكوني المقرر له.
وقد أوضح القرآن الكريم هذه الناحية في لوحة تاريخية رائعة أوضح فيها كيفية الخلق في سورة البقرة الآيات 30 إلى 38، وبموجب هذه الآيات أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة لا آلة مسيَّرة ولا شبه آلة. بل أراد خلق موجود يتصرف حسب إرادته ويمارس حريته، حيث إن حرية التصرف لا تتم إلّا مع وجود نزعتي الخير والشرّ في الإنسان، وإلّا مع وجود طريقي الخير والشرّ في الأرض. خلق الله الإنسان بهذه الخصائص، ثمّ علمه الأسماء وجعله مستعدًا لمعرفة حقائق الكون والقوى الكونية، متمكنًا من الإحاطة بها عن طريق معرفتها. ثمّ أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فخضعوا وسجدوا له بأمر الله، وخضوعهم للإنسان يستلزم مطاوعة القوى الكونية التي هي بيد الملائكة له. فأصبح آدم سيد الكون، خليفة الله في الأرض. وامتنع إبليس من السجود لآدم، وطُرِدَ من مقام المقربين، وأُمْهِلَ حسب طلبه إلى يوم القيامة، وبدأ هو وجنوده بإغواء البشر وأصبحوا من الدعاة إلى طريق الشرّ يساندون النزعة الشريرة في الإنسان.
فالكون ميدان للسير في الخطّ المستقيم وللانحراف والضلال. والإنسان أمام مفترق الطريقين يسمع صوت الله بلسان عقله وبلسان ضميره وبلسان أنبياء الله وبالطرق الأخرى للهداية، وصوت الشيطان بلسان نفسه الأمارة بالسوء وبلسان عناصر السوء والفساد من البشر وغيرهم. يستمع الإنسان في حياته إلى النداءَين فيجيب بملء إرادته لنداء الخير أو لنداء الشرّ. وهكذا نرى أن الشيطان في مفهومه الإسلامي يقوم بدور بارز في تعميق التخير الإنساني ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة﴾ [الأنفال، 42].
النبي
والنبي عبد من عباد الله له ما لهم من الحالات والرغبات، ويشعر بما يشعرون من الصراع النفسي بين الخير والشرّ. لكنّه يتّبع في القول والفعل ومعاشرة الناس ما يُوحى إليه، وإن لم يكن مطابقًا لمراضيهم، لا ينحرف ولا ينطق عن الهوى، ولا يساير ولا يجامل رغبات الناس ولا يزن الأمور بالموازين الشايعة.
إن النبي عبد من عباد الله لا ملاك ولا نصف إله. يعيش ويهرم ويموت ويحشر ويحاسب يوم القيامة. وبذلك يصبح قدوة صالحة للناس، إمامًا لهم، سندًا حيًّا لواقعية رسالته، مثبتًا إمكانية تطبيق تعاليمه الدينية.
وقد ورد في القرآن الكريم في سيرة الأنبياء عامة وفي سيرة النبي محمد خاصة دلائل كثيرة على ذلك، حيث وجّه إليهم النقد والتشجيع والتأييد والتهديد والنصيحة والعتاب على بعض التصرفات. والنبي مع ذلك يتمتع بعناية الله ووحيه وتسديده، وبذلك يصبح قوله وعمله ورضاه عن عمل الآخرين هي سيرة وأسوة حسنة للأمة.
فالصفة المميزة للنبي في رأي الإسلام كونه عبدًا ورسولًا في نفس الوقت، وبذلك تبدو بوضوح أصالة الفكرة وعدم انفعالها بالعاطفة الطبقية كما يقول برتراند راسل حيث يتهم الإسلام بذلك نظرًا لموقفه من السيد المسيح وتأكيده أنه ما قُتِل وما صُلِب. إن الإسلام المنكر لصلب المسيح يؤكد أن كثيرًا من الأنبياء قُتِلوا في سبيل رسالتهم. ﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون﴾ [البقرة، 87].
فلا ينكر صلب المسيح لعاطفة الزمالة ولا للتأثر بآراء النوستيسيزم بدليل موقفه أيضًا من المسيح بالذات، بل للرسالة مقام إنساني كبير، لا ينزع صفات البشر عن حاملها وهو مع ذلك مقام الاتصال بالله ونقل تعاليمه بكلّ أمانة ودون خطأ وتحريف.
المعاد
إن المعاد من المبادئ العامة لجميع الأديان ولأكثر المدارس الفلسفية ولكنه عند الإسلام يتميز بخصائص مهمة تجعله فكرة ذات أصالة.
هذه الميزات هي أولًا أن الجزاء في يوم المعاد بنفس الأفعال الصادرة عن الإنسان: ﴿يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا﴾ [آل عمران، 30]. ويختلف هذا التفسير عن المجازاة في الحقوق الجزائية وعن تفاسير المعاد في غير الإسلام حيث إن الجزاء نوع من ردّ الفعل الحسن أو القبيح للانتقام أو للتأديب أو الإصلاح. فالعمل يختلف عن الجزاء عادة، ولكن الجزاء في المعاد الإسلامي هو نفس الأعمال التي تتمثل بالصورة المتناسبة لعالم الخلود. والمعاد، من جهة ثانية، يوم بروز النتائج ووقت اكتشاف حقيقة الأعمال وإلّا فالجزاء حسب تحديد القرآن هو مقترن بالعمل وقت صدوره ولكنّه خفيّ عن الأبصار، ﴿ذلك يوم الوعيد﴾ [ق، 20]. ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ [ق، 22].
ومن جهة ثالثة، فالمعاد عند الإسلام هو تمثل الإنسان بجسمه وروحه للحساب وليتلقى حصاد عمره. أما النقاش المعروف بين فلاسفة الإسلام الملتزمين إنما هو حول تحديد معنى الجسم الذي يحشر، لا في أصل المعاد الجسماني.
والباحث يعرف بعد هذه الملاحظات مدى الفرق الواضح بين المعاد الإسلامي وبين معنى السماء أو معنى عودة الروح عند المصريين القدامى أو الوثنيين في الجزيرة أو انتصار النور على الظلمة عند المجوس.
وأخيرًا
تبلغ الذاتية في الإسلام قمتها في قسم الأمثال وقسم التاريخ، حيث إننا نعرف اليوم مدى ثقافة الإنسان في أقطار العالم ومقدار معرفته في العلوم والتاريخ حال ظهور النبي محمد وحال نزول القرآن. إننا نعرف ذلك، ولكننا نجد أن القرآن لم يتأثر أصلًا بالآراء العلمية السائدة في عصره وبالمعلومات التاريخية المعروفة عند البشر في ذلك الوقت.
فالآيات الواردة في الاستشهاد بحركات الشمس والقمر والنجوم والأرض وغيرها لم تتأثر إطلاقًا بالهيئة البطليموسية وآرائها.
والآيات التي تشير إلى مبدأ الخلق وتكوين الأرض واتساع الكون وغيرها تكاد أن تنطبق على أحدث النظريات العلمية من دون تأثر بثقافة عصر نزول القرآن.
والآيات التي تنقل تاريخ الفراعنة وخاصة فيما يعود إلى فرعون يوسف وتسميته بالعزيز وفيما يعود إلى غرق فرعون المعاصر للنبي موسى ونجاته ببدنه، هذه الآيات لم تتأثر أصلًا بالروايات الشائعة في عصر ظهور النبي محمد، بل إن بعض هذه المعلومات كانت خفية عن معرفة البشر إلى زمن اكتشاف تاريخ الفراعنة بواسطة شامبليون.
2) الروحية في الاسلام
هذا البحث أثار اهتمام كثير من الناقدين والمهتمين بالشؤون الدينية وقد قرأت طويلًا، وسمعت الكثيرين يناقشون هذا الجانب من الإسلام ويقفون عند "تدخل الإسلام في الشؤون المادية وعند مقابلة التعدي بالمثل وردّ الكيد بالكيد والاهتمام بالزواج والتأكيد عليه، وحتى الجنّة عند الإسلام التي تشبَّه ببستان أيضًا".
وتجاهل بعض هؤلاء الباحثين الروحية المتناهية التي تتجلى في العقائد الإسلامية في الخالق وصفاته وأسمائه، وفي جعل الإيمان بالغيب الركن الأساسي للإسلام في القرآن. ومهما كان فعلينا أن نناقش هذا الموضوع بصورة موجزة بعد إلفات نظر المستمع الكريم إلى مقدمة إيضاحية.
إن التقليد الشائع يقتضي تقسيم الأشياء عامة، وأعمال الإنسان بالذات إلى مادية وروحية. وحسب هذا التقسيم يبدو أن لنا أمورًا مادية والاشتغال بها يُعدّ الانصراف إلى المادة نظير الأكل والشرب والزواج والتجارة وأمثال ذلك. ومقابل هذه الأمور فالصلاة والعبادة والفداء والتضحية والانصراف إلى التفكر تُعدّ من المعنويات والروحيات لأن القسم الأول هو أمور زائلة تناسب جسد الإنسان ورغباته الآنية، والقسم الثاني هو تلبيته لميول سامية ولرغبات روح الإنسان وقواها فتعد أمورًا غير مادية.
والحقيقة أن هذا التقسيم خالٍ من الدقة ولا ينطبق على التفسير الفلسفي، ولا على التعاليم الدينية ولا يحظى بإقناع روح المؤمن الفاحصة.
فالمادة في التفسير الفلسفي كلّ موجود يحتاج إلى الحيز والأبعاد، أو كلّ موجود متحرك متطور الحقيقة، والمجرد أيّ غير المادة هو ما ليس له أبعاد، وما لا يحتاج في ذاته إلى زمان أو مكان أو حركة.
وعلى هذا التفسير فجميع الحركات الصادرة عن الإنسان مادية حتى العبادات والفداء والإحسان وحتى التفكر، فإنه يقترن بحركات خلايا الدماغ التي هي مادية. ولا يتمكن الفيلسوف أن يتصور انفصال الجسم عن الروح وصدور أفعال من أحدهما بمعزل عن الآخر لكي يسمي بعضها أفعالًا مادية وبعضها الآخر أفعالًا روحية. بل التفاعل بين الجسم والروح يبلغ درجة تجعل منهما، عند كثير من الفلاسفة، تركيبًا اتحاديًا، وقد أبدع صدر الدين الشيرازي حيث جعل الروح ذات حدوث جسماني وبقاء روحاني.
فالميزان الصحيح لمعرفة مادية شيء وروحيته في أعمال الإنسان هو باعث العمل وغايته، فكم من صلاة أو صدقة أو تفكر هي من المادة في الصميم، وما أكثر الأعمال المادية أو الاجتماعية أو الإدارية التي تصدر لغايات سامية فتجعل منها عبادات مقدسة، ويتمكن المؤمن أن يجعل حياته كلّها سجودًا لله.
ومن جهة أخرى إذا لاحظنا أن جميع الموجودات من خلق الله وجميع جوانب وجود الإنسان حقيقة واقعة تبرز الإرادة الإلهية، إذا لاحظنا هذا كلّه، فمن الصعب جدًا أن نفرّق بين وجود وآخر، وأن نميز بين جانب وعمل وبين سائر الجوانب والأعمال، بل لا يمكن التفريق والتمييز إلّا إذا انحرف الإنسان بعمله عن الرسالة الحياتية التي أرادها الله له.
والآن نعود لكي نبحث في الجانب الروحي من الإسلام ونقول إن الإسلام يقدس جميع الموجودات الكونية ويعتبرها، بمادياتها ومعنوياتها، كلّها ساجدة لله مسبحة بحمده، وحتى الموجودات الشريرة أو الضارة فشرورها وأضرارها نسبية وإذا استعملت بقدرها وفي موضعها فلا شرّ ولا ضرر.
وبالنسبة إلى الإنسان يعترف الإسلام بجميع جوانب وجوده وجميع رغباته، ويحترم ذلك، ثم يحاول تنظيم صِلاته بغيره وتنسيق نشاطاته وتعديل رغباته لكي يلعب دوره الكوني أيّ دور خلافة الله في الأرض، فيعيش بجميع جوانب وجوده أفضل عيش وأطيبه وأكثره تمتعًا بالكون.
وفي هذا الخطّ، خطّ أداء الواجب، كلّ عمل من الإنسان عبادة وكلّ حركة منه مقدسة والعكس بالعكس.
وهكذا نرى أن الإسلام يعطي صفة الروحية لجميع أعمال الإنسان الصادرة عن باعث سليم، ويصبغ جميع الموجودات بصبغة القداسة.
فالأصحّ في التعبير ألّا نقول بضعف روحية الإسلام واهتمامه بالماديات، بل نقول بقوة هذا الجانب إلى حدّ يحول كلّ شيء إلى الروحيات.
ولعلّ السبب في تعبير القرآن في أغلب المواضيع بالنفس دون الروح لأجل هذه المقارنة حيث إن الروح المهتمة بتصريف شؤون الجسد تسمى نفسًا. أما الروح فهي اسم خاص للشأن التجردي المطلق الذي يتجلى حال نزول الوحي وتدبير الشرع والذي يواكب الملائكة في بعض الآيات القرآنية.
ومن أطرف ما يُرى في الأحكام والتعاليم الإسلامية أنها تؤكد على أن ما خلق الله من الزينة والطيبات هو خلق للإنسان وتوجه باللوم إلى من حرمها. إنها تؤكد على هذه ومع ذلك فقد جعلتها فتنة وذلك تأكيد على أن النعم كلّما ازدادت، والأموال كلّما كثرت، والجاه كلّما عرض يجب، بنفس القياس، الازدياد من الإيمان والإكثار من التقوى، وإلّا فالإنسان يقع في خطر الانحراف عن الخطّ المستقيم والالتهاء بالجانب الشخصي عنها والاستسلام لها. عليّ يقول: "ليس الزهد ألّا تملك شيئًا بل الزهد ألّا يملكك شيء".
وعلى ضوء واقع الإنسان وواقع الخلق وتفسير المعاد وكون الجزاء بنفس الأعمال، على ضوء هذه الأمور، نفهم واقع الجنة والنعم التي هيّأها الله لعباده المتقين.
وقد حاول القرآن الكريم بعد ذلك أن يسبغ على النعم هذه صفات روحية: كالخلود والطهارة وعدم السأم والخمول ووجود الصفاء وشمول الأخوة وعدم استماع اللغو والتأثيم ﴿إلّا قيلا سلامًا سلاما﴾ [الواقعة، 26]. ومع ذلك كلّه جعل القرآن رضوان الله أكبر نعمة من نعم الجنة وأفضلها، ولكنها تغنّي النفوس الكبيرة التي كانت تقول: "إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك بل وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك".
أما حديث مقابلة التعدي بمثله من دون ظلم ولا تجاوز، فهو جزء من النظام العام الذي وضع لصيانة المجتمع وسلامته وحفظًا للإنسان، وسوف نبحث فيه في القسم الأخير من محاضرتنا.
وأحب أن أذكر هنا نقطة واحدة هي أن الإسلام في هذه المواضيع اعتبر العفو خيرًا وأقرب للتقوى إذ لا يوجب تمادي الطغيان والركون إلى الظلم وإلّا فهو منظلم يُعَدُّ الإنسان به أحد الظالمَين.
3) شؤون المجتمع
إن الإسلام لم يكتفِ في تعاليمه بالعقائد وبالتوجيه الخلقي، بل قدم نظامًا عامًا للحياة يشمل صلات الفرد بالآخرين وبالدولة وتنظيمات إدارية ودولية فضلًا عن قوانين الأحوال الشخصية.
هذه التدخلات التفصيلية في الشؤون الحياتية تفتح مجالًا للتساؤل عن سببها، ثمّ هل بالإمكان وضع نظام ديني يتمتع بالقداسة والثبات للمجتمع وشؤونه المتطورة في كلّ عصر حتى أصبحت كلّ يوم هي في شأن؟
ولأجل إيضاح هذه النقطة، التي أعتبرها أهمّ النقاط في هذه المحاضرة، والتي تجاوز السؤال عنها نطاق الكتب الباحثة عن الإسلام، بل أصبحت مجالًا لتساؤلات الجميع حتى المسلمين أنفسهم، لأجل إيضاح هذه النقطة نطرح أولًا هذا السؤال:
هل الذين يكتفون أو يريدون من الأديان أن تكتفي بالإيمان والأخلاق يعتقدون أن صيانة الإيمان والمحافظة على الأخلاق الحسنة أمران ممكنان لمن لا يرتبط في عمله الخارجي بخطة تتناسب مع الإيمان والأخلاق المذكورين؟
هل الإنسان، وهو موجود واحد لا موجودات متعددة، هذا الإنسان هل يتمكن أن يعزل روحه عن تأثيرات جسده أو يمنع جسمه من التفاعل مع روحه؟ والإيمان والأخلاق اللذان هما من أفعال النفس وصفاتها، هل يمكن إبعادهما عن تأثيرات أعمال الجسد؟
طبعًا الجواب سلبي وواضح، فإن التفاعل بين جوانب وجود الإنسان أمر بديهي ولهذا ولأجل صيانة الإيمان والأخلاق لا بدّ من أن يتقيد الإنسان بعمله وأن يرتبط برباط يتناسب مع الصيانة الروحية المذكورة.
والقرآن الكريم مثل بقية الكتب المقدسة يؤكد هذا التفاعل، ويعلن أن ممارسة الأعمال السيئة تنزع الإيمان من القلب: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون﴾ [الروم، 10]. ثم هل من المعقول أن يعيش الإنسان في مجتمع يناقض الخطّ الذي يسلكه في عمله ويتنافى مع إيمانه وأخلاقه ثم لا ينفعل بذاك المجتمع؟
إن الإنسان في تكوينه، في حياته، في حاجاته، في وعيه، في تفكيره وفي جميع جوانب حياته، الإنسان في جميع ذلك موجود اجتماعي يتفاعل مع مجتمعه الذي يعيش فيه. فهل يمكنه أن يعزل إيمانه وأخلاقه وأعماله الشخصية من تفاعلات مجتمعه؟
أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال أيضًا واضح ولهذا فقد أكّد الإسلام على لزوم إيجاد مجتمع يتناسب مع الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة وأعلن بصراحة: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع" (حديث شريف). أكرر كلمة "ما آمن" لكي ننتبه إلى التناقض الذي يراه الإسلام بين الإيمان وبين سوء الوضع الاجتماعي الذي يوجب هذه الظاهرة، والقرآن يؤكد هذا المبدأ ﴿أرأيت الذى يكذب بالدين* فذلك الذي يدع اليتيم* ولا يحضّ على طعام المسكين﴾ [الماعون، 1-3]. وعلى هذا الأساس نجد أن الإسلام، الذي يؤكد نبيّه "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، (حديث شريف)، يحاول لأجل هذه الغاية أن يتدخل في الحياة العملية للإنسان، ثمّ في الحياة الاجتماعية فيضع للأول مبدأ الحلال والحرام وللثاني الأنظمة القانونية الواسعة التي تشكل ما يقرب النصف من التعاليم الإسلامية.
فلندخل الآن في مطالعة السؤال المهم الذي يُطرح وهو صعوبة انسجام القوانين الثابتة مع المجتمع المتطور. والجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى عرض أمور ثلاثة:
أولًا، إن التطور في الحياة وفي التاريخ البشري معناه تفاعل الإنسان مع الكون. فالإنسان في كلّ يوم تزداد تجاربه وتتقدم علومه، فيكشف أشياء جديدة من الكون، ثمّ يستعمل معرفته الجديدة ويمارس وعيه الجديد، فيستفيد من القوى الكونية المكتشفة، ويطوّر بذلك حياته الشخصية والاجتماعية، وينتقل إلى فصل جديد من فصول التاريخ البشري الطويل.
فالتطور هو قراءة الإنسان سطرًا جديدًا من كتاب الكون، وطي صفحة جديدة من هذا الكتاب وممارسة معرفته الجديدة والتغيرات الناتجة عنها.
هذا مفهومنا عن التطور. فليس هناك موجب غريب للتطور، يدخل من عالم آخر في حياة الإنسان وفي العالم الذي يعيش فيه الإنسان. ليس هناك شيء يطوّر حياة الإنسان من الخارج ولا هناك فقد عامل من عوامل الحياة الإنسانية لكي تتغير الحياة من أجله.
إن التطور هو تفاعل الإنسان مع الكون فقط، والمعروف أن الإنسان والكون عنصران كانا في مسرح الحياة من أول الخلق ما زاد فيهما شيء ولا نقص منهما شيء بل تبدأ كلّ صفحة جديدة من الحياة بكشف جديد للإنسان عن الكون وبتفاعل بينهما.
ثانيًا، إن الدين حسب رأي الإسلام شريعة وضعها خالق الكون والإنسان أيّ الله سبحانه. وخالق الكون يعرف جميع جوانب وجوده ظواهره وبواطنه، ويعرف أيضًا جميع جوانب وجود الإنسان وجميع حاجاته ورغباته. إن الله يعرف هذا كلّه فوضع قوانين لكي يتمتع الإنسان بالكون فيحيا حياة طيبة كاملة، تمامًا مثلما تضع مؤسسات صنع السيارات توجيهات لصيانة السيارة والاستفادة الكاملة منها لأن المؤسسة خبيرة بكيفية صنع السيارة ومشخصاتها وطرق الاستفادة الكاملة منها.
ثالثًا، قلنا إن الله خالق للكون وعارف به وخالق للإنسان وعارف به، وقد وضع نصوصًا وتوجيهات لكي يعيش الإنسان في الكون حياة طيبة كاملة ذات هدف كبير.
وحسب رأي الإسلام أيضًا وضع الله الشريعة والتوجيهات المذكورة بكلمات صادرة عنه، وهي الآيات القرآنية. والإيمان الإسلامي يرى أن معاني القرآن منزلة بألفاظه بعينها. والمعروف أن كلام الله يختلف عن كلام البشر تمامًا حيث إن فهم كلام البشر محدود بمستوى معرفة القائل ولا يمكن التجاوز لهذا الحدّ، وكلّما ازداد مستوى معرفة المتكلم ازداد إمكان تفسير كلامه والتعمق فيه، ولهذا السبب يتعمق القضاة والمحامون في تفسير نصوص القوانين إلى درجات تتجاوز جدًا حدود تفسير كلام العامة من الناس.
وحيث إن مستوى معرفة الله لا حدّ له فيمكن الاعتماد على جميع مراحل مدلولات كلامه، وكلّما ازداد التعمق فيه يتبين معنى جديد لكلامه. فكلام الله من هذه الناحية مثل الحقائق الكونية بل هو بعينه من الحقائق الكونية. يكتشف الإنسان منه في كلّ مرحلة شيئًا جديدًا، وكما يكتشف من الكون في كلّ مرحلة شيئًا جديدًا وكما تظهر كلّ يوم صفحة جديدة من حقيقة الإنسان بمعرفته الجديدة.
وبعد عرض هذه المقدمة نعود إلى الجواب عن التساؤل المذكور فنقول إن الإنسان له تفاعلات مع الكون تشكل أسس التطور، وهذه التفاعلات تنظمها شريعة الله ولها أيضًا مع كلّ مرحلة من التطور تعاليم متطورة تتناسب مع المرحلة التي يعيشها الإنسان فتنظم الصِلات والتفاعلات الثابتة بين الإنسان والكون.
وخلاصة الجواب أن على مسرحنا عوامل ثلاثة يواكب كلّ منها الآخرين باكتشاف مراحل جديدة وحقائق جديدة، هي الإنسان، الدين والكون.
وبهذه الطريقة الموجزة يمكننا أن نحتفظ بصفة القداسة للأنظمة الدينية العائدة للإنسان والمجتمع مع إفساح المجال لتطويرها في الإطار العام الذي يتضح للباحث عنها. والتعاليم المتطورة تحتفظ بإلهيتها وقوتها وقيادتها قيادة متطورة، إنها مستقاة من القواعد الثابتة الدينية.

source