إشراقات من ثورة كربلاء

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

على مشارف أربعين الإمام الحسين يتجدد الإحساس بضرورة بناء الإنسان المؤمن الرسالي. ويستثمر الإمام الصدر هذه المناسبة الفضيلة ليخلق من الحزن مستقبلًا أفضل بناءً على التجربة الحسينية، ويأتي نصّه "إشراقات من ثورة كربلاء" للتدليل على أهمية هذه التجربة.

*  تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك. عليك مني سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك. السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
نحن في الليلة الأخيرة من ذكريات عاشوراء، ونسأل الله أن نكون قد استفدنا من هذه اللقاءات وإقامة هذه الذكريات ومن هذه الفرصة النادرة في حياتنا. هذه الفرصة التي توفرت فيها الكثير من أسباب السعادة، وأُلقي فيها ببركة الإمام الحسين الكثير من أنواع الدروس والعبرة. وفي هذه الليلة أحب أن أذكر بعض وقائع هذه الليلة بصورة مسسلسلة ومعللة. أساسًا، صدر الأمر بقتل الحسين، وقطع المفاوضات التي كانت جارية بين عمر بن سعد وبين الإمام الحسين في كربلاء، جاء الأمر بقطع هذه المفاوضات مع الشمر الذي وصل عصر يوم تاسوعاء إلى كربلاء. ابن زياد كتب لعمر بن سعد: إني ما أرسلتك حتى تتفاوض مع الحسين، وإنما أرسلتك لكي تقتل الحسين، أو تأخذ منه البيعة، فإذا لا تتمكن من ذلك، فاعتزل وسلَّم الإمارة للشمر بن ذي الجوشن. وفور صدور هذا الأمر بادر عمر بن سعد إلى الأمر بالهجوم إلى الخيام الحسينية، وإلى الشروع في القتل. فالإمام الحسين (عليه السلام) أرسل وطلب منهم مهلة ليلة واحدة. وبعد أن تناقشوا فيما بينهم هل يقبلون هذا الاستمهال أو يرفضون، وافقوا على ذلك بضغط من بعض أفراد الجيش. الإمام الحسين طلب هذا الموعد لأجل إكمال ما ينوي إكماله في كثير من الأمور الكيفية في واقعة كربلاء.
أساسًا، من أول الأمر من حين خروج الحسين (عليه السلام) من مكة -وخاصة بعدما وصل خبر استشهاد مسلم بن عقيل- وأخيرًا، وبصورة أخص في هذه الليلة كانت نتائج المعركة واضحة ومبينة لأن المعركة غير متكافئة. آلاف، بل عشرات الألوف من الناس في جانب، وعشرات من الناس في جانب آخر. المعركة ليست متكافئة بوجه من الوجوه، ولا يمكن واحد بالمئة أن ينتصر الحسين (عليه السلام)، أو ينجو من القتل في معركته مع أهل الكوفة ومع جيش يزيد.
فإذًا، المصير محتوم لا مفر منه إلا الاستسلام والخضوع والذي رفض الحسين (عليه السلام) مسبقًا هذا الأمر. فليُقتل الحسين، وهو استعد للقتل. ولكن، حينما شعر الحسين بأن المعركة من الناحية الكمية غير متكافئة، حاول أن يزيد في الجانب الكيفي من المعركة، يقصد الحسين (عليه السلام) أن من وراء الموت والاستشهاد يجني ثمرة، يهز كما سمعتم ضمائر الأمة، يخلد في التاريخ، يحرك عواطف الناس، يكسب عاطفة الناس، واحترام الناس، وشعور الناس بمظلومية الحسين وبأنه على حق حتى تنتصر ثورة الحسين فيما بعد ذلك.
ولهذا، حاول الإمام الحسين في خلال هذه الفترة، وخاصة في هذه الليلة بالذات، أن يعطي للمعركة جلالها وجمالها وعزها وكرامتها ويجعل من كل تحرك من تحركات كربلاء، ومن كل زاوية من زوايا مدرسة كربلاء تحركًا مشرقًا وزاوية مشرقة حتى تكون واقعة كربلاء التي انتصر فيها الحسين، وقُتِل فيها الحسين لوحة مشرقة في تاريخ الأعصار وفي تاريخ الأمة. فلنجد، والحسين (عليه السلام) حاول أن يزيد في إشراقة وجه كربلاء، وفي إشراقة ثورة كربلاء، وبإعطاء هذه المعركة المعنويات والطابع الإنساني الجميل. وهذه المحاولة واضحة بصورة طبيعية في حياة الإمام الحسين، وبصورة مقصودة في هذه الليالي الأخيرة.
من باب المثل، حينما التقى الإمام الحسين (عليه السلام) بالحر بن يزيد الرياحي، الكتيبة الأولى من جيش يزيد، وقف الحر وجيشه الذي كان يفوق عدد أصحاب الحسين بأضعاف، وقف أمام الحسين، ومنع الحسين من التحرك. وفي الحقيقة هو سبب منع الحسين من التحرك من هذا المكان، بحسب الظاهر. بإمكاننا أن نعتبر الحر رأس الحراب ومقدمة قتل الحسين (عليه السلام). ومع ذلك نلاحظ معاملة الإمام الحسين مع الحر ومع جيش الحر معاملة إنسانية رائعة. أمر جيشه بأن يسقوا جميع أفراد جيش الحر، لأنهم كانوا عطاشى، وأن يسقوا الخيل، وأن يرشُّوا على أجساد الخيل من المياه الباردة، وأن يعاملوهم معاملة حسنة حتى أصبح وقت الصلاة؛ فقال الحسين (عليه السلام) للحر: أنا أصلي بجماعتي، وأنت تصلي بجماعتك. فقال: حاشاك يا ابن رسول الله، أنا أصلي معك وجيشي. فوقف الحسين إمامًا، وصلى خلفه أصحابه وصلى خلفه أعداؤه. هذه المعاملة النادرة الإنسانية النبيلة سيطرت على جماعة الحر وعلى الحر بهذه الصورة. وهذه المعاملة أيضًا التي فتحت في قلب الحر (رضوان الله عليه) فتحة وإشراقة امتدت وتوسعت أخيرًا حتى التحق الحر بن يزيد الرياحي في هذه الليلة بصفوف الحسين. فمعاملة الحسين لجماعة الحر معاملة إنسانية رائعة، ولكنها بالنسبة للحسين معاملة طبيعية. حاول الحسين (عليه السلام) في هذه المعركة وفي كل جزء من أجزائها أن يعطي طابعًا إنسانيًا مشرقًا لمعركته، بعد أن يئس من تكافؤ القوى.
هذه الليلة أخذ مهلة لأجل الصلاة حتى يفتح صفحة جديدة أمام أعين الناس، فيكشف عن واقع جيشه وعن واقع جيش خصمه. فيقول الناظرون أنه في هذه الليلة كنا نسمع من جيش الحسين ومن أصحاب الحسين (عليه السلام) دوي كدوي النحل. وكنا نرى أصحاب الحسين في هذه الليلة بين راكع وقاعد، وساجد وقائم. كلهم في حالة التهجد والابتهال والاستعداد للموت ولإدراك الشهادة. ومقابل هذه اللوحة، كانوا يرون في جيش ابن زياد ما يرون من الفساد والفجور والانحراف والمؤامرات. هذه اللوحة أيضًا تعطي الطابع المشرق الذي يقصده الحسين، ويزيد سندًا جديدًا ووثيقة جديدة على عدم تكافؤ المعركة من الناحية الكيفية والمعنوية. ومن هذه المواقف موقف الحسين يوم عاشوراء وصلاته.
هذه المواقف كلها معروفة ومذكورة، أحب أن أذكر في هذه الليلة شيئًا آخر، هذا الشي أن الحسين (عليه السلام) حاول في هذه الليلة أن يهيىء أصحابه، ويهيىء آل بيته، ويهيئ نساءه لأجل الدخول في المعركة الحاسمة بعز وقوة وجلد. يريد أن يبعد عنهم الجزع والبكاء ومظاهر الذل والاستكانة والخوف بصورة نهائية. ولهذا، بدأ بتمهيد هذه المعركة وهو في الطريق حينما كان يمشي، فقال: ﴿إنا لله وانا اليه راجعون﴾ [البقرة، 156]. فسأله ابنه عليّ الأكبر: لماذا استرجعت يا أبا؟ قال: سمعت مناديًا أو هاتفًا يقول القوم يسيرون والمنايا تسير بهم، فقلتُ إن نفوسنا قد نُعيت إلينا. سأله الابن عليّ الأكبر: يا أبا أوَلسنا على الحق؟ قال: نعم. قال: إذًا، لا نبالي بالموت. ومثل هذه المحاكاة والمقابلة والتحدث جرت بين الحسين (عليه السلام) وبين القاسم بن الحسن، حينما أخبرهم بأن الجيش يقتل الطفل الصغير، فسأل: هل يدخلون في خيامنا؟ قال: نعم. ثم سأل القاسم: هل أنا من جملة المقتولين؟ سكت الحسين، ثم سأله: كيف الموت عند يا ابن أخ؟ فقال: أحلى من العسل. بعد ذلك الإمام أخبره بأنه سوف يُقتل. وهكذا نرى في كل خطوة يخبرهم ويهيئهم لأجل الوصول... ولأجل التهيؤ لإدراك الشهادة.
في هذه الليلة أيضًا حاول أن يغربل أصحابه، لأن الحسين (عليه السلام) -وهو يعلم أنه سيُقتل- لا يريد صباح يوم عاشوراء عندما يشتد البأس ويحمى الوطيس [أن] يجد من أنصاره رجلًا هاربًا من هنا، أو رجلًا يرفع يديه مستسلمًا من هناك، أو رجلًا يغمى عليه من الخوف في الوسط، أو رجلًا يبكي هناك ويطلب التوسل إلى هذا وذاك... لا يريد ذلك. في الليل يجمعهم ويقول لهم بعد مقدمات طويلة: هذا الليل قد غشيكم (الليل غشاكم وغشيكم وأحاط بكم من كل جانب لا يرى أحد أحدًا) هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملًا، (استعينوا بالليل واهربوا)، وليأخذ كل واحد منكم بيد واحد من آل بيتي (لأن آل بيت الحسين من أهل المدينة، من أهل الحجاز ولا يعرفون طرق العراق)... أبوا ذلك. وفي بعض الآثار والمقاتل أن قسمًا كبيرًا من أصحابه ذهبوا في هذه الليلة، الحديث منقول عن سكينة (سلام الله عليها) بنت الحسين لأنها كانت تنظر فتجد آحاد وعشرات يتركون الخيمة من جانب ويذهبون والحسين مطأطئ الرأس ولا ينظر إليهم.
لا شك أنه كان لهذا الموقف أثر عميق في نفس الرائي والمتفرج، ولكن هذه الغربلة كان لا بد منها لأن الحسين يدخل في معركة غير متكافئة كما قلت؛ ولهذا، يريد أن يعطي لمعركته طابعًا كله الاعتزاز وكله القوة وكله الرجولة وكله البطولة، ولهذا السبب لا يقبل بالذل والخنوع غدًا. لا يريد الحسين حينما يشتد العطش بأصحابه أن ينحنوا أمام الضغط. لا يريد الحسين إذا جاء الشمر بن ذي الجوشن أمانًا خاصًا للعباس وإخوته وقال: أين بنو أختنا، أن يستسلم العباس، وهو يعرف أن العباس لا يستسلم، ولا يترك نصرة الحسين فرارًا من الموت.
فإذًا، الحسين في هذه الليلة مهّد بصورة طبيعية دقيقة أصحابه، أو حسب نقل آخر غربلهم حتى تأكد أن كل واحد منهم أصبح حسينًا صغيرًا. الحسين سيطر عليهم، استحسنوا إذا صح التعبير الأدبي، تحول كل واحد منهم إلى الحسين، إلى رجال لا يبالون بالموت، كما نسمع من مكالماتهم المتنوعة في هذه الليلة مع الإمام الحسين (عليه السلام). هذه المرحلة انتهت، يعني تمكن الحسين أن يهيئ أصحابه بعدما تأكد أن ابنه وإخوته وأهل بيته مستعدون لخوض غمار الموت، وعلى حد تعبير الشاعر:
لبسوا القلوب على الدروع  كأنما               يتسارعون إلى ذهاب الأنفس
بعدما تأكد من هذه المرحلة، أن رجاله أصبحوا أعزاء، رجاله لا ينحون، لا يطأطئون رؤوسهم، لا يستسلمون، يقولون معه: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، بين السلة والذلة وهيهات منّا الذلة. كان يعرف أن كل واحد منهم يقول هذه الكلمة التي صدرت عن لسان الحسين (عليه السلام). فإذًا، في واقعة كربلاء إلى آخر نفس من الرجال لا يبدو على المعركة أثر من آثار الذل أبدًا. كلهم أعزاء، أبطال، أقوياء، يتهافتون إلى الموت، ويدخلون بقوة، ويرسمون بذلك لوحة خالدة مشرقة في تاريخ البطولات والثورات.
انتهى الحسين من هذا الجانب وبدأ بالجانب الأصعب، الجانب الأصعب هو جانب النساء. الحسين حتمًا لو كان شخصًا عاديًا لكان يضطرب من هذا المصير. مع الحسين عشرات من النساء، وهؤلاء النساء سوف يموت ويقتل كل رجالهن، وسوف يقعن في أيدي الأعداء، وسوف يتهجم الأعداء عليهن من دون رحمة ولا شفقة. فهل هؤلاء النساء مستعدات لمواجهة هذه المعركة؟ أو يهربن ويبكين ويستسلمن ويجزعن ويفزعن، وبالتالي يقللن من قيمة الثورة الحسينية؟
الحسين يريد كما أن رجاله وقفوا صامدين بقوة وبعزة وببطولة، يريد أن نساءه ونساء أصحابه أيضًا يريد منهن أن يقفن ببطولة واعتزاز وقوة  ورجولة، لا ينحنين، ولا يفجعن، ولا يجزعن، ولا يرفعن أياديهن للاستسلام، لا يريد ذلك. يريد كما قلت، إن كان ولا بد فهو يقتل، فلتكن المعركة معركة كيفية معنوية يظهر على جميع صفحات هذه المعركة... البطولة والفداء والقوة والشجاعة حتى تعوض عن النقص العددي، حتى تخلد في التاريخ، حتى تهز مشاعر الناس، حتى تكسب احترام الناس وإعجاب الناس بهذه المعركة.
الحسين كان يفكر في هذا، أن غدًا بعد قتل رجاله، عشرات من النساء الثكالى، أولادهن قُتِلوا، أزواجهن قُتِلوا، ماذا يصنع لهؤلاء؟ ثم أمام الحسين، عشرات من الأولاد الصغار، من البنات الصغار، هؤلاء ماذا يصنعون بعد قتل رجالهن وآبائهن؟ أمام هؤلاء الأعداء ما هو موقفهم؟ كيف من الممكن أن يحتفظ الحسين (عليه السلام) بهذه المناظر المفزعة المفجعة، ويحافظ على عزتها وبطولتها وقوتها؟
هذه المرحلة الصعبة من تاريخ حياة الحسين (عليه السلام)، ومن وضع الحسين (عليه السلام) في هذه الليلة، والذي على أغلب الظن، في هذه الليلة حاول إنجاز هذه المهمة. ولا شك أن هذا الدور يجب أن يُؤدى باتقان بقيادة زينب (عليها السلام) التي أخذها لهذا السبب. وإلا زينب كانت امرأة متزوجة، ولها بيت مفصول عن بيت الحسين، وأولاد غير أولاد الحسين، ما كانت من عائلة الحسين. لماذا الحسين أخذ أخته من بين هؤلاء... ما اكتفى بزوجته، ما اكتفى بأخواته غير المتزوجات. لزينب دور خاص في انتظار هذا الدور، ويجب أن تؤدي زينب هذا الدور بإتقان وبقوة.
بعد أن انتهى من تحضير الرجال، كل رجل ذهب إلى خيمته وبدأوا... من يتهيأ، من يهيئ سلاحه، من يصلي، من يوصي، من يودع، من يكتب وصيته... كل لحاله. والحسين (عليه السلام) انتقل إلى خيمته الخاصة وهو يستعد أو يهيئ لتحضير زينب لهذا الأمر. يقول الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) وهو مريض، يقول: كنت في خيمتي في حالة شديدة من المرض، وكانت عمتي زينب تمرضني وتخدمني في هذه الليلة، يقول عليّ بن الحسين (عليه السلام): سمعت أبي يتلو هذه الأشعار والأبيات التقليدية المعروفة، أشعار كانت متعارفة عند العرب، حينما بطل من الأبطال، أو رجل من الرجال، يئس من الدنيا ويخاطب العالم، يتلو هذه الأبيات. الأبيات معروفة، كلكم سامعون:
يا دهر أفٍ لك من خليل                     كم لك بالإشراق والأصيل
إلى آخر الأبيات-التي لا أحفظها- هذه الأبيات، الحسين يقرأها ويحد سيفه. عليّ بن الحسين يقول بمجرد ما سمعت عرفت أن أبي يقصد بذلك الإعلام عن موته وعن انتهاء حياته. ولعله يريد أن يسمعني ويسمع عمتي بالواقعة. يقول للمرة الأولى عمتي ما سمعت هذه الأبيات، ولكن للمرة الثانية سمعت هذه الأبيات بعد أن كررها أبي بصوت أرفع. فسمعت زينب وهي أديبة، وهي خطيبة، عرفت المغزى من هذه الأبيات، فدخلت مضطربة على خيمة الحسين (عليه السلام)، وجرى بينها وبين الحسين حديث معروف. أُغمي على زينب، وتكلمت بكلمات ثم حاول الحسين (عليه السلام) أن يوقظها، أن يعافيها. ثم بدأ يسليها ويتحدث معها وينصحها، هنا ماذا جرى بين الحسين وبين زينب، في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ هذه البطولات وهذه الثورات؟ لا نعرف إلا القليل الذي تنقله الكتب التي تنقل لنا المصارع. نتيجة لهذا اللقاء ولهذه الأبحاث تحولت زينب إلى ذلك الجبل الشامخ، الذي تحمل على أكتافه أكثر من محنة الحسين وصعوبات الحسين ومصائب الحسين.
زينب في هذه الليلة تحولت إلى ذلك الموجود الذي تحمَّل كل ما تحمَّله الحسين، لأنه في يوم عاشوراء إذا كان الحسين عطشان، فزينب كانت عطشى. إذا كان الحسين يُقتل أحفاده وأبناؤه وإخوته وأصحابه، فكل هؤلاء للحسين ولزينب على حد سواء. إذا كانت المصائب تدخل على الحسين واحدة تلو الأخرى، فكلها تدخل على زينب من دون تفاوت. فإذًا، المصائب مشتركة. وقد خُصِّصت زينب (عليها السلام) بمصائب جمة، أولها استشهاد الحسين، لأن زينب (سلام الله عليه) حينما استشهد الحسين في الحقيقة شعرت بكل مصائب الدنيا، وهي تعبر عن ذلك حينما يريد الحسين أن يعزيها، يقول لها: إن أبي مات إن رسول الله قد مات، إن فاطمة أمي قد ماتت، إن الحسن قد مات. ترد زينب وتقول: يا أخي، حينما مات جدي كان لي أب، وأخ وأم؛ حينما ماتت أمي كان لي أب؛ حينما مات أبي كان لي أخ؛ حينما مات أخي الحسن لخصتُ كل ثقتي وكل أماني وكل حياتي في وجودك، وبموتك أنت سوف يموت أبي وجدي وأمي وإخوتي من جديد. فإذًا، موتك يختلف عن موت الآخرين، وهذا هو الواقع. موت الحسين (عليه السلام) واستشهاده بالنسبة إلى زينب غير شكل، نوع آخر من الموت تحملته زينب.
قُتل الإمام الحسين (سلام الله عليه) أمام أعين زينب، وقُتِل الجميع. بدأ دور زينب (عليها السلام). ما هي أدوار زينب بعد القتل؟ لا نحتاج إلى كثير من الدقة والتعمق في التاريخ، نحن نتمكن أن نتصور واقعة كربلاء بعد استشهاد الحسين في أذهاننا بصورة واضحة، نتمكن أن نتصور من هرب؟ من تشرد؟ كيف سيطر على هؤلاء الأولاد الذعر والخوف؟ ونتيجة الخوف أين ذهبوا؟ نتمكن أن نعرف كل هذا من هذا التصوير الموجز، ثم من قصة واحدة. أكتفي بنقلها لكم عن بعض كتب المقاتل. يقول أحد الصحفيين الموجودين في كربلاء، أنا كنت واقفًا فوجدتُ ابنة من بنات الحسين، يعني من بنات مخيم الحسين، ابنة الحسين، أو ابنة أخ الحسين، أو حفيدة الحسين، لا نعرف هويتها؛ وجدتها تهرب وذيلها مشتعل بالنار، هرعت إليها حتى أطفئ النار، وحتى أنقذها من الموت، فخافت مني حسب العادة، وهربت. فأسرعت حتى أخذتها، وأطفأت النار الموجودة في ذيلها، فاضطربت وقالت لي: أنت لنا أو علينا. قلت لها: سيدتي لا لكم ولا عليكم. قالت لي: هل قرأت القرآن. قلت: نعم. قالت: هل قرأت هذه الآية: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر﴾ [الضحى، 9]. قلت: نعم. قالت: أنا يتيمة الحسين (عليه السلام). بعد ذلك يقول بعدما اطمأنت من حديثي ومن كلامي، قالت: أريد أن أسألك سؤالًا. قلت لها: قولي. قالت: أين النجف أو أين الكوفة؟ قلت لها: وماذا تريدين من النجف أو من الكوفة؟ قالت: إن عمتي زينب أخبرتني بأن لنا هناك مقام -مقام أمير المؤمنين تقصد هذا- هو حامي الجار، ويحمي الدمار، فأريد أن ألتجئ إليه. قلت لها: سيدتي، مقام أمير المؤمنين أو الكوفة بعيد عن هنا، عشرات الكيلومترات، ليس قريبًا منك حتى تصلي إليه. من هذه المحادثة نتمكن أن نستوعب أسلوب تفكير هؤلاء الأولاد أنه أين ذهبوا، وكيف ذهبوا؟ قسم منهم فكر يروح للنجف، لا بد، ففرَّ إلى أماكن كثيرة من الصحراء، وقسم منهم أمام هذا الهول التجأوا، قسم منهم حتمًا التجأ [تحت الأشجار] وأمثال ذلك، حتى أنهى جيش عمر بن سعد مهمته في هذه الليلة، وما تركوا في مخيم الحسين قطعة صغيرة من الأشياء، من اللبس والحلي والفرش، ثم أحرقوا الخيام ورجعوا إلى خيامهم، وانتهت مهمتهم.
بعد ذلك هؤلاء النساء والأولاد من المسؤول عنهم في وسط هذا الليل المظلم؟ من الذي يجب أن يجمعهم؟ من الذي يجب أن يداوي جرحهم؟ هذه الصحراء، هؤلاء الأولاد والنساء، ما مشوا على الحرير طبعًا، مشوا على الصحراء فيها أشواك، فيها صخور، وأمثال ذلك. كل هذه المصائب على عاتق زينب (سلام الله عليها). وقد قامت بهذه المهمات في هذه الليلة بعد المصائب اللامتناهية التي عانتها في النهار، وعاشت مع الحسين كما قلت، وتحملت كل ما تحمل الحسين. ولكن في الليل بدأت هذه المصائب فداوت هذه الجروح وجمعت هؤلاء الأيتام، وهؤلاء النساء، وطلبت الماء لهم من الأعداء، وقدمت الماء طبعًا بمنظر لا يمكن توصيفه، ولا تعريفه في هذه الليلة. كل هذه المسائل كانت من واجبات زينب في هذه الليلة، كواجبات عائلية.
هنا قبل أن أمر من هذه النقطة، أحب أن أذكر كلمة صغيرة موجزة، هذه الكلمة هي منقولة عن الإمام الباقر (عليه السلام)، حينما يقول لقد كنت في ليلة عاشوراء في كربلاء، في آخر الليل -يقول الإمام الباقر- سمعت عمتي زينب تئن، انتبهت لهذا الأنين، فوجدتها تصلي صلاة الليل، وهي جالسة. بعد أداء المهمات، تصلي صلاة الليل. لا تستغربوا أيها الإخوة، لو ما كانت صلاة الليل لزينب، لو ما كانت هذه الصِلات الوثيقة بين زينب وبين الله، لما كانت تتحمل هذه المصائب الكبرى. صار الصباح...
أمر من هذه النقاط بصورة موجزة في آخر حديثي كاستعراض، قلت أن الحسين (سلام الله عليه) يريد أن يموت هو وأصحابه أعزاء، ثم يريد أن تعيش أخته وأخواته ونساؤه وأهل بيته بعد موته أعزاء أيضًا في نصائحه لهن يظهر بوضوح هذه الرغبة الصادقة من الحسين (عليه السلام). جاؤوا حتى يحملوا آل بيت الحسين (عليه السلام) على... كأسرى وينقلوهم من كربلاء. تركوا الأجساد طبعًا، ودفنوا أجسادهم وصلوا عليهم، ثم أرادوا أن يأخذوهم ويعيدوهم إلى الكوفة. هنا أخذوا هؤلاء... آل البيت، أخذوهم ومروا بهم على المقتل، على مصارع الحسين (عليه السلام) وآل بيت الحسين.
أنا أتصور أن هذا الموقف كان له سبب واحد، وهو الحقد والرغبة في التشفي. هؤلاء الذين كانوا يقولون حينما قال الحسين لهم: لماذا تقاتلوني؟ قالوا: إنما بغضًا لأبيك عليّ بن أبي طالب. هؤلاء كانوا ينتظرون أن يقتلوا الحسين، فتأتي بنت عليّ، فتقف أمامهم، وتبكي وتنوح، وهم يتشفون من ذلك. التشفي، هذا كان السبب في أن أخذوا... وإلا فما معنى أخذ الأولاد الصغار ومرورهم بجسد والدهم المذبوح المقطع. لماذا يريدون أن يفرجوا هذه المصارع إذا ما كان هناك نوع من الرغبة في التشفي!
حسب المنقول في بعض الآثار، حينما أقدمت وجاءت زينب (سلام الله عليها) بلا شك أن سائر النساء والأولاد، كلهم تقودهم زينب (سلام الله عليها)، يمشون وراء زينب. أتصور أن زينب تقدمت حتى وصلت إلى مصارع إخوتها والحسين (عليه السلام) وأبنائه وأحفاده، وأتصور أن جيش بني أمية واقف ويتفرج على هذا المنظر، هنا نجد هذه اللوحة المشرقة في تاريخ الثورة الحسينية، هذه اللوحة التي كان يريدها الحسين (عليه السلام)، واشتغل لتأمينها ولتسكينها، فنجد أن زينب (سلام الله عليه) تدنو من جسد الحسين، هذا الجسد المقطع، والذي غُطيَ بالكثير من قطع السيوف والرماح والحجارة فترفع هذه الأشياء، وتبعد عن الجسد هذه الأشياء بكل قوة وبكل بطولة. ثم ترفع جسد الحسين واضعةً يديها تحته وترفعه إلى السماء وتقول: اللهم تقبل منّا هذا القربان.
هذا كان بكاء زينب، تقبل منا هذا القربان، ماذا يعني؟ يعني أيها الناس، أيها المتشفون، لا تتشفوا، ولا ترتاحوا. ما فرض علينا أحد أن نأتي إلى المذبح فنُقتل، بل نحن أردنا ذلك. نحن حاولنا أن ندافع عن دين الله بتقديم هذه الضحايا، فنحن قدمنا هذه الضحية، ونقدم أكثر من هذا، لو نملك أكثر من هذا. وبهذه الوقفات تؤكد زينب (سلام الله عليها) من أنها تقدم وتقوم بالدور الرسالي الذي يريده منها الحسين (عليه السلام). فالحسين قُتِل باعتزاز، وأخته قامت بهذا الدور، وبدور بقية الحسين، وبعد استشهاد الحسين أيضًا باعتزاز.
ولزينب (سلام الله عليها) مواقف مشابهة عند ابن زياد. دخلت على ابن زياد وما سلّمت. فابن زياد سأل من هذه المتنكرة، أو من هذه المتكبرة؟ قالوا: هذه زينب بنت عليّ. قال لها ابن زياد -انتبه إلى التشفي، لاحظ الحقد واللؤم الموجود في هذه القلوب- قال لها: يا زينب، كيف رأيت صنع الله بأخيك. قالت زينب: والله ما رأيت إلا جميلًا، هؤلاء رجال كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم. قال لها -ابن زياد قال-: الحمد لله الذي قتلكم، فضحكم، وكذّب أحدوثتكم. قالت زينب: إنما يفتضح الكافر والمنافق، وهو غيرنا. وهكذا كان لها مواقف مع يزيد، وفي خطبة يزيد. ونحن علينا في هذه الفترة أن نأخذ هذا الدرس، هذا الدرس والعبرة التي هي ختام حديثي، وختام مجالسنا الليلية.
أيها الإخوة الأعزاء،
لا يمكن للرسالة، ولرسالة الرجل أن تنتهي وأن تنجح من دون أن تشترك فيها المرأة. لا عظيم في العالم إلا ووراؤه امرأة. المرأة إذا ما تربت لا يمكن للمجتمع أن ينجح، كما أننا يجب علينا تربية شبابنا، علينا أن نربي بناتنا. ما الذي جعل من زينب هذا الموجود الأسطوري البطولي الذي يتحمل هذه المصائب والمشاق؟ ما الذي جعل لزينب هذه البطولات؟ ما الذي أوجب ذلك غير إيمانها بالله؟ وإلا أي دافع عقلاني وموجب منطقي، هل كانت زينب ذات عائلة؟ أو ذات جيش؟ أو ذات قوة؟ أو ذات مال؟ ماذا كان لها حتى تقف هذه المواقف البطولية غير الإيمان بالله؟
وإذا لاحظنا الإيمان بالله عند زينب، نفهم أن زينب هذه الموجودة التي وقفت أمام يزيد وقالت: ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستحقر قدرك. علينا أن نقول أن زينب كانت غصنًا من أغصان شجرة الإيمان. زينب متصلة بالله، ذلك الله الذي ما قدروه: ﴿حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ [الزمر، 67]. زينب، صحيح أنها ليس لها عشيرة، ولا أموال، ولا جيش ولكنها متصلة بالله العظيم الذي هو أكبر من أن يوصف، الذي هو أكبر من يزيد ومن مكون يزيد، ومن باعث يزيد، ومن عشيرة يزيد، ومن جيش يزيد.
هذا الشعور كان عند زينب، ولهذا كانت تجد نفسها فوق يزيد، وفوق مستوى التحدث ليزيد. إذا تمكنا نحن أن نربي في نسائنا هذا النوع من الإيمان، هذا النوع من القوة النفسية، بإمكاننا أن نكوِّن منهن أبطالًا. نحن في معركتنا المصيرية الكبرى وفي معاركنا الحياتية الخاصة والعامة نحتاج إلى أن نربي نساء بطلات حتى يقفن بجانبنا في بيوتنا لتربية أولادنا، حتى إذا حصلت المعركة لا يجزعن ولا يفزعن، نحن نحتاج إليهن. ولهذا، لا محيص لنا في هذه المعارك إلا من تقوية روح الإيمان في أنفسنا وفي أنفس نسائنا، وتقوية روح الإيمان يجب أن تأتي عن طريق التوعية وممارسة الأعمال الدينية، ومن دون ذلك لا يمكن.
زينب (سلام الله عليها) كانت تكملة لثورة الحسين، ولحركة الحسين. والمرأة بصورة عامة في الإسلام تكملة لحركة الرجل، ولرسالة الرجل. فنسأل الله أن نستفيد من هذا الشهر المبارك، وأعتقد أن فرصة عاشوراء وفرصة ذكريات الحسين وزينب أنسب فرصة للبدء والعزم والشروع على الأقل بالسعي لتربية الرجال والنساء. نسأل الله أن يحشرنا مع الحسين في الآخرة، وأن يوفقنا لأن نسلك خط الحسين في الدنيا. نسأل الله أن يلهمنا الإخلاص في العمل، والتزكية في النية، وأن يلهمنا القوة والرجولة واسترخاص الحياة المهينة الذليلة، وتفضيل الموت بعز وكرامة على الحياة المليئة بالذل حتى نكون من الموكب الحسيني، وحتى نكون من أنصار الحسين في طول الطريق.
لأمواتنا جميعًا ولروح سيدنا المقدس ثواب الفاتحة.

source
عدد مرات التشغيل : 3