المهدي ودور المسجد

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

بسم الله الرحمن الرحيم
سادتي وإخواني الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله.
شهد الله لا أتمكن من أن أصف شعوري في هذه اللحظات. نحن في اليمونة، بين الأبطال. الأبطال الذين عبروا ظلام الزمن، الأبطال الذين تجاوزوا الصعوبات والمحن، الأبطال الذين حفظوا الأمانة وما وهنوا، ولا فرّطوا بحفظ قيمهم، وخُلُقهم وإيمانهم.
نحن في اليمونة، وبحضور نخبة من كبار القوم الذين تركوا ساعات راحتهم وعملهم، وسعوا مشتاقين إلى هذا اللقاء. نحتفل في مدرسة، بذكرى مولد الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (ع). ولا نكتفي بإحياء الذكرى، بل نجسِّد تقديسنا للذكرى، بتكريس الخط، خط ذكرى الإمام، يعني خط الأمل والتهيؤ. سوف نكرس هذه المفاهيم، في هذا اليوم بإذن الله، فنحاول أن تلتقي طاقاتنا وجهودنا مع جهود أبطال هذه البلدة وطاقاتهم في رفع بيت الله وإكمال المسجد المكرّم في هذه البلدة.
والأيام، كما سمعتم، أيام الاستقلال -والاستقلال كما نفهمه- يتجاوز بمعناه الاستقلال السياسي، ويشمل الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال الفكري والاستقلال الخُلُقي.
أيام مباركة، وساعات مباركة، فلقاؤنا في ذهني كالحلم المشرق؛ ويكون لي الشرف، كل الشرف، أن أقف في هذه الذكرى، ذكرانا في مولد الإمام الثاني عشر. وكما تعلمون الإمام الثاني عشر إمام منتظر، نحن ننتظر ظهوره لكي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا.
والفكرة، بصورة موجزة، لا تختص بهذه الطائفة، بل في كتب أحاديث المسلمين، بجميع مذاهبهم، مئات وألوف من الروايات، تدلّ وتثبت أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قال: لو لم يبقَ من العالم إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من أهل بيتي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعدما ملئت ظلمًا وجورًا.
فالحديث متواتر عند جميع فرق المسلمين، فالرأي لا يختص بطائفة. ثم الفكرة، كانت ولا تزال عامة، تشمل مفاهيم جميع الأديان. فانتظار المخلّص، وانتظار المنقذ، وانتظار الروح الحق المعزِّي، وانتظار أمر ما، موجود عند جميع الفرق والأديان، وعند جميع المتشرعين بالشرائع.
ثم إن الفكرة تتجاوز النطاق الديني، وتشمل النطاق العلمي أيضًا؛ فإذا لاحظنا سعي البشر في مختلف حدوده، وفي متنوع حقوله: في حقل العلم، والفلسفة، والأدب، والتجارب الاجتماعية، وتجربة الأنظمة والقوانين، نجد أن البشر متحرك نحو الكمال، ونحو الأفضل في جميع شؤون حياته. صحيح أن الإنسان قد ينحدر وينزل ويخطىء وينحرف، ولكن هذه الزّلات في السير الأساسي والخط العريض في حياة البشر، أمور جزئية. فالإنسانية منذ البدء كانت تتكامل، وتعلو، وتسمو وتتقدم نحو الأفضل، وهي مطمئنة بأن الأفضل ميسور لها، ولهذا تسعى لأجله. لو كان البشر يعتقد -كما يقول البعض- بأن الإنسان في تدهور، أو بأن العالم في تأخر، أو بأن الأمر نحو الأسوأ، لما كان يسعى، ويشتغل، ويتحرك بأمل وبفطرة وبإيمان نحو المستقبل.
فإذًا، العلم هو النشاط الواسع الذي ينبثق من الحقول المختلفة العلمية، والأنظمة الاجتماعية والمساعي التي تُبذل لأجل التجربة في الحقول الاجتماعية، والعادات والسِّير والأخلاق وجميع شؤون البشر تبشِّر بالمستقبل الأفضل، بمستقبل يوفر لجميع البشر أن يصرفوا جميع طاقاتهم، وإمكاناتهم وكفاءاتهم في سبيل حياة سعيدة... لأن البشر، كما تعلمون، في هذا الوقت، وفي جميع الأنظمة، قسم من طاقات البشر، أو بتعبير أصح، قسم قليل من طاقات البشر، يصرف في سبيل حياة البشر. أما الكثير الكثير من الطاقات، والكثير الكثير من الأفراد، لا يزالون خارج المسرح، لا تُستعمل طاقاتهم في سبيل حياة البشرية وسعادة البشر.
فكل واحد منا، في أي حقل من الحقول البشرية، يسعى أن يقصد القمة. ما هي القمة؟ القمة أن يكون الإنسان، كل إنسان، بجميع طاقاته، ليس فقط بطاقاته المادية، أو طاقاته الفكرية. الإنسان، كل إنسان، بجميع طاقاته يمكن أن يُستفاد منها؛ تبرز هذه الطاقات، تستعمل هذه الطاقات في سبيل خير البشرية. ولا شك أن هذا النظام كالحلم، يراود مخيلة كل إنسان يعيش، وكل إنسان يسعى.
فإذًا، المستقبل الأفضل المثالي، الذي كان يُحلم به من أيام أفلاطون، وكان يُسميه المدينة الفاضلة، هذا المستقبل، هذا المجتمع المثالي الذي يشترك في بنائه وتكوينه جميع الطاقات، جميع أبناءالبشر، هذا المستقبل هو حلم كل إنسان. وليست عقيدة الشيعة، بالنسبة إلى المهدي، إلا انتظار الداعي والمبشر، لهذا المستقبل الذي هو أمل الجميع ومستقبل الجميع.
فإذًا، لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذه العقيدة، بمقدار ما أريد أن آخذ الجانب التربوي من العقيدة، مع أني أعترف أن فكرة الانتظار، انتظار الفرج تشوّهت عندنا، وانحرفت في نفوسنا، فأصبحنا اتكاليين، نترك العمل والسعي بانتظار مجيء صاحب الزمان. هذا التشويه آفة جميع القيم، ووسيلة لعدم الاستفادة من جميع المُثُل.
والحقيقة أن فكرة الانتظار أدت دورًا كبيرًا في حياة هذا المذهب، لأن الأمل هو الحياة في المستقبل. الإنسان الذي يئس من المستقبل، يعني وضع حائطًا بين نفسه وبين المستقبل... (عفوًا أحب أن أذكِّر أن إخواننا أبناء اليمونة ضيافتهم أن يستمعوا، وليس أن يتحركوا، أو أن يتكلموا، أو أن يتهيأوا للضيافة، هذا الكلام كنت أريد أن أقوله من أول الحفلة أرجو الاستماع، وربما ثقيل على بعض المسامع) الأمل هو طريق المستقبل، صلة الإنسان بالمستقبل. الإنسان الذي يئس، يعني جعل بينه وبين المستقبل سدًا لا يمكن تجاوزه.
فإذًا، اليأس يعني الجمود، والجمود حقيقةً يعني الوقوف والموت، لأن الحياة واستمرار الحياة يعني بقائي في اللحظة الثانية. يعني حركتي من اللحظة الأولى إلى اللحظة الثانية. فإذا كان الجمود، يعني لا يوجد حركة، وإذا لا يوجد حركة يعني موت.
فإذًا، الأمل هو عبارة عن الطريق المفتوح. واليأس يعني الاستسلام للوضع الحاضر. لا أقول أن الذي يئس من مستقبله يموت الموتة الطبيعية... لا، يموت الموتة الحقيقية، ليس الموتة الطبيعية. يعني الإنسان الذي يئس من المستقبل يفكر أنه ليس هناك فائدة، فإذًا، (خلينا بحالنا)، نأكل ونمشي في الأسواق ونرتع في كفاية (بزيادة). هذا معناه، أنه منذ الآن، ليس هناك ارتفاعات، ليس هناك تحرك، ليس هناك تقدم، جمود وخمود وبقاء.
فإذًا، الأمل طريق المستقبل، وإذا يئسنا نخضع للحاضر، والخضوع للحاضر يعني ليس لدينا مستقبل، يعني لا يوجد عندنا برامج، يعني رضينا بالأمر الواقع، يعني ذبنا في حالنا ذوبان السكر في الماء، إذا احترمنا أنفسنا، فالأمل شرط البقاء.
وقد مرّ علينا كما تعلمون، أيها الإخوان -التاريخ يكشف بوضوح– كما مرّ على كل أمة، لقد مرّ علينا زمن وزمن، وفترات طويلات من المحن، لولا الأمل بمجيء صاحب الزمان، وبالفرج الإلهي المعجز، لو لم يكن هذا الأمل لكنا متنا وذبنا. ولكن أملنا بكلام الرسول: لو لم يكن للعالم إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يأتي رجل... هذا اتضح وكرّس الأمل لأننا لا نشك بصدق الرسول وبقول النبي. فإذًا، أملنا هو الذي أبقانا، وهو الذي حفظنا، وهو الذي جعل بيننا وبين المستقبل خطًا وطريقًا. فإذًا، الأمل نبع من هذه العقيدة.
أيضًا، هذه الفكرة ليست مختصة بنا. يمكن أنتم تعلمون، أنه بعد ارتفاع المسيح (ع)، أو بعد استشهاده وارتفاعه حسب رأي المسيحيين، الاضطهاد الذي عاناه المسيحيون في العالم، لا مثيل له في التاريخ، في تاريخ الأديان... ولكن الأمل ببشارة المسيح حينما يقول: يأتي روح الحق... هذا الذي يُفسر بروح القدس، وتجلي روح القدس، واتحاده مع الكنيسة، لو لم يكن هذا الأمل... الفقرة التي نحن نفسرها بالتفسير بمجيء النبي محمد طبعًا... هذه الفقرة، لو لم تكن يعني الأمل بالمستقبل، الأمل بالانتصار... لما كانوا تمكنوا من البقاء، لأن الاضطهاد تجاوز حدّ الطاقة البشرية. معروف التاريخ يبحث في هذا الموضوع، وهكذا.
فإذًا، الأمل نتيجة تربوية لانتظار الفرج. وقد أدى دوره الكبير في تاريخنا، وسوف يؤدي بإذن الله، دوره الكبير في تاريخنا القادم.
والنقطة الثانية، الانتظار... ليس معنى الانتظار ترك الشيء على الآخرين، هذا معناه عدم الانتظار، هذا معناه الاستسلام. اليوم لو فرضنا أننا بانتظار هجوم مفاجىء، يقال أننا بانتظار هجوم مفاجئ من العدو، نحن بالانتظار، ما معناه؟ يعني أننا نقعد في بيوتنا، وننام، ونأكل ولا نبالي ولا نراقب؟ هذا ليس اسمه الانتظار في اللغة العربية. الانتظار معناه أنه نحن على الاستعداد، نحن بأيادينا سيوفنا، بأيادينا بنادقنا... نتدرب، نتجند، نهيىء أنفسنا، نضع نواطير، نضع مراقبين، نضع رادارًا، نضع وسائل الكشف حتى نعرف متى يكون هذا الهجوم المفاجىء هذا معنى الانتظار.
نحن بانتظار المهدي الذي ماذا سيعمل؟ سيملأ العالم قسطًا وعدلًا، بعدما ملئت ظلمًا وجورًا كم هو عظيم هذا الحلم، كم هو كبير هذا الهدف. المهدي وحده يريد أن يملأ العالم قسطًا وعدلًا، بعدما ملئت ظلمًا وجورًا! يعني هدف ولا أكبر منه إلا صاحب الهدف طبعًا.
هذا الهدف بيد المهدي وحده؟ لا، بمساندتنا نحن. هل نكتفي بهذا التعبير "بمساعدتنا نحن"؟ نحن نريد أن ننصر المهدي على العالم بعرضه وطوله، وعلمه، وفنه، وتدريبه وقوته إذا ما كنا مستعدين. فإذًا، ماذا نحن منتظرون؟
نحن منتظرون يعني نتهيأ للقيام بهذا الدور حينما دُعينا إليه يعني وقت الذي رفع الصوت وقال أيها الناس، نقول له لبيك، نترك كل ما نملك... يجب أن نكون مستعدين. مثلما قلنا، أيادينا على سيوفنا، منتظرين وإلا ما معنى الانتظار.
الانتظار يعني التهيؤ، يعني التجنيد، يعني التدريب: التدريب النفسي، التدريب الفكري، التدريب الروحي، التدريب الجسدي، والفني والعسكري وهكذا كانوا، وكنا.
لا شك، أن أهل اليمونة، أنسب وأحسن من غيرهم من هذه النواحي. كثير منّا ينسى الماضي، ويفكر أنهم -كما سمعتم في هذه الكلمة الطيبة والقصائد اللطيفة- كانوا يحافظون على قيمهم ومُثُلهم، وعقيدتهم ومذهبهم (ببلاش)؟ من دون سعي، من دون جهد؟
هذا لا يمكن، أيها الإخوان، الحياة لها ثمن، العز له ثمن، الانتصار له ثمن، النجاح له ثمن... (بلاش)، أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها، مفروض أن يدفع الإنسان ثمن مكسبه، معروف في القصص، في هذا النوع من الحديث أشياء كثيرة... أن الذي ينتظر مجيء الأكل أو العز أو المجد، الذي ينتظر مجيء الانتصار فجأة ومن دون تعب، لا أذكر القصص... ولكن أنقل لكم كلامًا عن علي (ع) قال: الأماني غرور الحمقى، الأحمق هو الوحيد الذي ينتظر الانتصار من دون تعب، الأحمق هو الوحيد الذي ينتظر المال من دون تعب، ينتظر المجد من دون تعب، ينتظر القوة من دون تعب ومن دون سعي... هذا لا يمكن، الأماني غرور الحمقى.
فإذًا، الانتظار هذا الذي كان يجنّد أجدادكم والسلف الصالح، وقفوا وحفظوا أنفسهم، أنظروا الأمل في آثارهم: القلاع، والمعسكرات، والأديرة. أنظروا إلى المسيحيين الذين كانوا موجودين هنا، لو لم يكونوا مع الأديرة الصلبة، الصخرة... سابقًا ما كان أحد يفكر في هذه المسائل وفي هذه اللقاءات التي نحن اليوم نلتقي فيها سابقًا يعني قبل مئات السنين، لا أتكلم طبعًا منذ خمسين سنة... كانوا في خطر، لأن مصير البشر، ومقدرات الإنسان، كان بيد أهواء الحكام ألم يكن هذا سابقًا؟ كانوا يلعبون بالناس كما يريدون فلو لم يكن هذا الصمود؛ وهذا الوقوف، وهذه المعسكرات، وهذه الأديرة، وهذه الصلابة، وهذا الإيمان، وهذا البعد عن الكسل، لما كانوا يقدرون أن يبقوا، عاشوا وعشنا في ظروف صعبة جعلتنا نستحق الحياة.
...غنيهم وفقيرهم، كلهم يقفون أمام الله صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص، لا فضل لأحدهم على أحد يتجاورون ويتناسبون، ويتصاحبون، ولا يتكبرون.
حتى الإمام الذي هو مبدئيًا، قائد في هذا العمل، لا يجوز له أن يبتعد عن المأموم، ولا أن يتعالى عن المأموم، ولا أن يبتدىء، الإمام إذا كان مقره بعيدًا عن مكان المأمومين، فصلاة الجماعة باطلة، إذا كان مقر الإمام بمقدار شبر أقل أو أرفع عن مكان المأمومين صلاة الجماعة باطلة، إذا كان [هناك] حجاب بين الإمام والمأمومين صلاة الجماعة باطلة. إشعارًا وإلحاحًا بأن الإمام يجب أن يكون مع الناس، ومتصلًا بالناس، لا يترفع عنهم، ولا يتعالى عليهم، ولا يحتجب عنهم ولا يحول ويبتعد عنهم. هلّا تجد في هذا حكمًا اجتماعيًا سليمًا؟
حتى في صلاة الفرادى، صلاة الفرادى عبادة، اتصال مع الله، تحدث مع الله. يمكن تصلي أنت في زاوية بيتك، في خلوتك، في ليلك، في سَحْرِك صلاة الفرادى... إذا فكرت فيها، تجد فيها أحكامًا اجتماعية كثيرة؛ تجد فيها النظافة، تجد فيها التقيد بالوقت: ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا﴾ [النساء، 103]؛ تجد فيها رعاية لحقوق الناس، الصلاة في المكان المغتصب واللباس المغتصب والشيء المغتصب باطلة؛ نجد في شروط الصلاة، رعاية اجتماعية والشؤون المطلقة. ثم في صميم الصلاة أما كان من الممكن أن الله يأمرنا بالصلاة، ويقول لنا إجلسوا على الكرسي، واغمضوا عيونكم ولا تتحركوا، وتوجهوا بقلبكم إلى الله؟! أما كان هذا الشيء ممكنًا؟! لماذا لم يقل ذلك؟!
أحد الباحثين الكبار اسمه محمد أسد، هذا الرجل يقول في صلاة المسلمين أعظم درس لحياتهم، يقول: الإنسان إذا كان يصلي وهو ساكت هادئ متوجه بقلبه إلى الله، كان متوجهًا إلى الله ولكن ما قالوا هكذا كما يقول الصوفيون، لماذا قال ما قال، لأن الله يريد أنت في صلاتك تكون متوجهًا بقلبك إلى الله، وتعمل يعني تقوم وتقعد وتركع وتسجد... حتى في آنٍ واحد تتوجه في قلبك إلى الله، وتقوم بعمل ما من كلام أو ذكر أو قيام أو ركوع أو سجود، حتى تتمكن من الجمع بين المقامين: مقام التوجه إلى الله بالقلب، ومقام صدور العمل من الجسد. يعني الله يريد يدرّبك ويمرّنك على أن قلبك يشتغل مع جسمك معًا لماذا؟ لكي تتمكن بعد هذا التدريب أنك حينما تعمل تبيع وتشتري: ﴿وابتغِ فيما أتاك الله الدار الآخرة﴾ [القصص، 77]، يريد أن يربي في صورة هذا المؤمن مسجد رسول الله، حينما تبيع وتشتري تنتبه كأنك تجاهد في سبيل الله، الكادّ لعياله كالمجاهد في سبيل الله؛ يريد أن يبني في نفسك ثورة تقوم حتى في العبادات. شؤون المجتمع رؤية، الصوم، الفطر، الحج، الأضحى، أي حكم من الأحكام الإسلامية، أي حكم من الأحكام الدينية تتجاهل شؤون المجتمع؟ لا يوجد، فإذًا، الدين يهتم بجميع الشؤون. وبعبارة موجزة، وبعبارة واضحة، أعتذر منكم إذا كنت سأذكر مثلًا؛ الدين شأنه في حياتنا شأن التعاليم التي تصدر عن شركات السيارات والموتورات والمصانع للزبائن الذين يريدون أن يستعملوا هذه الوسائل والسيارات.
توضيح المثل. أنت اليوم تشتري سيارة، ويقول لك، مالك السيارة، أو صاحب السيارة، أو صاحب الشركة، أو المسؤول عن الشركة يعطيك تعليمات. أي تعليمات يعطيك؟ يقول لك أنت يجب أن تمرن هذه السيارة كذا ألف كيلومتر، روداج هذا يسمونه، أليس كذلك؟ ثم يقول لك في هذه الفترة يجب أن تغيّر الزيت كل كذا كيلومتر، البنزين كل كذا كيلومتر وأمثال ذلك؛ ثم في هذه الفترة لا تطلع على الجبل... هذه الأشياء المعروفة وأنتم أخبر منا. ثم يقول لك في خلال استفادتك من هذه السيارة المفروض أن تراعي شؤون هذه السيارة. وقت الذي تريد توقف السيارة تعمل كذا، وقت الذي تريد تطلع بسرعة إعمل كذا، وقت الذي تريد ترجع إلى الوراء إعمل كذا... هذه الأوامر، تغيير الزيت، تغيير... وأمثال ذلك من الأشياء التي يقولونها لك. إما أنت تعرف عن سابق، أو تتعلم في هذه الأوامر الصادرة عن الشركة.
حضرتك أو حضرتي أخذنا السيارة قلنا لماذا الرجل يريد أن يتأمّر علينا ويتحكم فينا، أنا لا أريد أن أسمع له لا أريد أن أنفذ هذه الأوامر... أنا حر طيب أنت حر؟ ماذا تعمل؟ تأخذ السيارة في أول يوم وتطلع إلى الجبل من دون روداج، لا تغير الزيت. تأخذ السيارة بعد الروداج تريد أن تقف تحط رجلك على البنزين، ما الذي يصير؟ من الخاسر؟ الخاسر الشركة؟! أنت الخاسر! تخسر السيارة وقد تخسر عمرك! نفس الشيء قوانين السير وأمثال ذلك.
فإذًا، هذه القوانين والتعاليم التي تعطيها الشركة، تعطيها لمصلحتك. على أي أساس تعطي الشركة هذه التعاليم؟ بأي حق تُصدر هذه التعاليم؟ بحق الخبرة لأن الرجل هو الذي صنع السيارة، أليس كذلك؟ هو الذي حطّ (الكالوري)، هو الذي حطّ الدواليب، هو الذي صنع الفيتاس، هو الذي عمل وعمل... ما دام يعرف، ويعرف ماذا يوجد داخل هذه السيارة... ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات﴾ [مريم، 59]. فإذا كنا نريد أن نعيش بشهواتنا، بخلافاتنا، بصعوباتنا، بميوعتنا، بذوباننا، بسهراتنا، بفسادنا هذا معناه أنه لا نستحق الحياة، محكومين بالموت، أو على الأقل بالحياة الغير كريمة.
الأمل والانتظار، كانا من نتائج هذه العقيدة في تاريخنا فذكرى مولد صاحب الزمان في هذه البلدة الطيبة، ذكرى الأمل والانتظار. وما أجمل اقتران حفلة ذكرى صاحب الزمان بإكمال المسجد، لأن المسجد كما سمعتم، المسجد بدء الطريق، النقطة الأولى... المسجد هو الذي يكرس الأمل ويهيىء الانتظار، التكريس الخارجي، المسجد الصحيح لماذا؟ أليس المسجد مكانًا لعبادة الله؟ وعبادة الله، عبادة الله تكرّس وتصون الإيمان.
هذه نقطة نحلّها بيننا هل يكون الواحد مؤمن بقلبه ولا يمارس إيمانه في جسده؟ هذا لا يمكن! يعني إذا الواحد، يريد أن يقول: أنا مؤمن بقلبي، ولكن في الخارج لا يمارس أي عمل يدل على وجود هذا الإيمان في قلبه هذا مستحيل: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون﴾ [الروم، 10].
الإنسان الذي يريد أن يحتفظ بإيمانه يجب أن يمارس إيمانه وإلا البشر شيء واحد، الإنسان شيء واحد، ليس شيئان: جسم وحده وروح وحدها، الجسم لا يشتغل والروح نائمة، هذا مستحيل! العمل الخارجي يعكس العمل النفسي، والعكس بالعكس. فإذا ما مارسنا إيماننا، فإذا ما قمنا بواجبنا...
المشكلة أننا نحن كنا مؤمنين، ثم هذا الإيمان ضَعُفَ ضَعُفَ ضَعُفَ بقي هيكل، بقي نقش، أُسمي نفسي إيمان، أُسمي نفسي أني مؤمن ولكن في الحقيقة، هذا الإيمان، متى تبرز منه حركة وحياة، ممكن أن نحكم ونحاكم أنفسنا، ونقضي بيننا وبين وجداننا وبين ربنا كل واحد منا أخبر بنفسه هل يتمكن أحدنا أن يقول، أن هذا الإيمان الإيمان الإيمان الذي نتغنى به، متى يظهر؟ متى يحكي؟ متى يأمر؟ متى ينهي؟ ومتى يدفش؟ متى يقف؟ هذا غير واضح مكتوب أنك مسلم أو مسيحي، مكتوب فقط حبر على ورق، في الهويات، وحبر على ورق في القلب فقط ليس أكثر.
الإيمان الحي، هو الإيمان الذي يحرك، يدفع يمنع، يوقف، يدفش، يقول، يأمر، ينهى. المسجد محل العبادة، والعبادة تكريس للإيمان، والإيمان مبدأ ومنبع الأمل واليأس قلنا موت وجمود. نقول اليأس كفر، لماذا كفر اليأس؟ لأن اليأس معناه عدم الإيمان بالحق. أما الإيمان بالله والله هو الحق وهو العدل وهو العلم، وهو صاحب الأسماء الحسنى، والأمثال العليا؛ فالإيمان بالله يستلزم أن نؤمن بأن العالم أيضًا عالم الحق، والعدل، والعلم والجمال... لماذا؟ لأن هذا العالم من صنع الله.
المهندس الخبير، حينما يبني بناية جيدة، قائمة على أساس الخبرة والفن الموجود عنده، ولهذا أنت بإمكانك أن تعرف عن طريق البناء، خبرة المهندس أليس كذلك؟ فإذًا، الإيمان بالله الحق يعني: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق﴾ [الدخان، 38-39] الإيمان بالله العالم، يعني أن الأرض مبنية على أساس العلم، ومع الجهل لا يمكن السير في هذه الأرض إلا سير الأعمى والغريق.
الإيمان بالله العادل، يعني الأرض مبنية على أساس العدل وهكذا. فإذا نحن نؤمن بالله، ونرى أنفسنا على حق، معناه أن المستقبل لنا. لماذا؟ لأن الكون قائم على أساس الحق فالحق ينتصر لأنه من صميم الكون، ومن قاعدة الحياة، ولهذا تسمع لهذه الآيات: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر﴾ [الأنبياء، 105]،  كتبنا في الكتب السماوية القديمة وإلى اليوم: ﴿أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء، 105]. أما غير الصالح، فهو غريب في الكون هذا أجنبي هذا مثل دخول الشيء الزائد غير المغذي في الجسد. دخول بحصة في الجسد! لا ينفع! يثقل يثقل! يزعج، ويوجد المرض، والجسد لا يتحمل! يصارع، ويكافح، ويشتغل حتى يدفعها إلى الخارج، هذا هو الغريب، غير المتناسب مع الجسد.
وهكذا الكون! الذي هو كون الله الحق، العدل، العالم... الباطل فيه غريب، والجاهل فيه غريب، والظالم فيه غريب، والمنحرف فيه غريب، والفوضوي فيه غريب، وهكذا بعد مدة تُدفع خارجًا. لا مجال على أرض الله للجاهل، لا مكان في أرض الله للظالم، لا مكان في بلاد الله للمنحرف الفوضوي. هؤلاء مواطنون غير صالحون الله لا يقبل أن يكونوا مواطنين لا مكان لهم، يأتون ويذهبون: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا﴾ [النور، 55]، ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ [القصص، 5]، هذا سير العالم.
فإذًا، المستقبل للحق! فإذا أنت حازم رأيك... هناك من لا يؤمنون بخطنا، هذا شيء ثانٍ، فإذا نحن بالفعل على حق، فهذا الإيمان يلتزم مع الإيمان بالنجاح. فإذًا، الإيمان بالله مستلزم بالأمل، واليأس كفر. والمسجد يكرس الإيمان، فإذًا، يكرس الأمل وهكذا نرى الصلة الطيبة المتناسبة بين حفلة ذكرى مولد الإمام، مولد الأمل، ومع بناء المسجد.
من الناحية الثانية، الانتظار والتهيؤ. المسجد! واأسفاه على المسجد! كيف كان وكيف صار المسجد كان محل الأبطال هل تعلمون لماذا يسمون المحراب محرابًا؟ كل مسجد فيه محراب المسيحيون يسمونه المذبح والله التفكير بهذه الشعارات يخجلنا... محراب؟ مذبح ؟ صليب؟ صليب شعار الصلب، شعار الانتقام، شعار الثأر. أين... هل يمكن للمسيحي أن يتفاهم مع اليهودي؟ ممكن هذا، هذا تناسي الصليب أليس الصليب معناه شعار الصلب؟ صلب المسيح! ومن صلبه؟ الذين صلبوه مباشرة والذين رضوا بصلبه، ولو وجدوا اليوم أيضًا مسيحًا وألف مسيح لكانوا يصلبونه. أليس كذلك؟  
فإذًا، المحراب شعار المسجد، وسيلة الحرب، المذبح... هذه الشعارات، شعارات حية نابضة، لا يجب أن نحنطها، ونحولها إلى أداة للجمود والسكون، والوقوف، وترك الدنيا، والابتعاد عنها، والانعزال عن العالم.
المسجد فبركة، المسجد مصنع الرجال، المسجد يهيئ: ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ [الأعراف، 31]... الزينة مفسرة بالسلاح، لأنه لا زينة للرجل إلا السلاح. هل نتزين بالملابس والحرير؟ نتزين بالكحل وتصفيف الشعر؟ هذه زينة النساء... لا النساء المؤمنات، النساء اللوحات، لا النساء-الإنسان.
فإذًا، ﴿خذوا زينتكم﴾ [الأعراف، 31] والزينة مفسرة في جميع التفاسير بالسلاح: ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ [الأعراف، 31]، المسجد محل للتجنيد، محل للحركة، محل للحياة والاندفاع، محل للتحرر، محل للانتظار.
فنحن نحيي ذكرى صاحب الزمان، ذكرى الأمل والانتظار وسوف نكرس بإذن الله هذين الهدفين العظيمين الأمل والانتظار لبناء المسجد. وما أحوجنا في هذا اليوم إلى الأمل والانتظار، لأن النكبات والمحن حاولت أن تأخذ منا الأمل والانتظار.
تصور أن الكثير من الناس انقطعوا عن الأمل بالمستقبل. يجب أن يعرفوا أن اليأس كفر، المؤمن لا ييأس كيفما كان، ليس مهمًا! اليهود كم اضطهدوا؟ كم سنة اضطهدوا؟ كم مئة سنة اضطهدوا؟ وكانوا منبوذين في كل مجتمع، تذكرون أنتم في العالم ولكن صمدوا وصبروا. والله ليس أرحم لنا... الذي يعمل يصل، أي إنسان كان، وأية أمة كانت. فإذًا، لا موجب أبدًا لفقد الأمل أمام العدو، ولو كان وراءه من وراءه من الدول العالمية الكبرى.
في واقعة بدر، المشركون كانوا يرفعون شعارين: فقسم منهم رفع شعارًا أو صنمًا، كانوا يسمونه: هُبل، وكانوا يرددون الأنشودة المعروفة: إعلُ هُبل، إعلُ هُبل؛ المسلمون جاوبوا بأمر النبي: الله أعلى وأجلّ. أما الفئة الثانية فكانوا يرفعون الصنم الثاني العزى وكانوا يقولون: هذه عزّى، ولا عزى لكم، فالمسلمون أجابوا: الله مولانا ولا مولى لكم. لو كان لهم هبل والعزى، نحن لنا الله: ﴿وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ [الزمر، 67].
الأمل بهذا الله العظيم، الأمل نحن لا نفقده أبدًا، ولن نفقده وقد مرّت علينا ظروف أظلم من هذا وما فقدنا الأمل. نحن اليوم بحاجة إلى الأمل وإلى الانتظار والتهيؤ، كما سمعتم، لا يمكن أن يقبل منا الله الانتظار بمعنى الاتكال والتوكل والتواكل.
﴿ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ [الحج، 40]، من الذي سينصره الله؟ ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ [الحج، 41]، هؤلاء هم، هذا الخط.
فما أحوجنا في هذا اليوم إلى الأمل والانتظار! بوركتم يا أهل اليمونة الكرام وبورك ضيوفكم الأجلاء الأعزاء، لإحياء ذكرى ما أحوجنا إلى درك معانيها.
والسلام عليكم. 

source
عدد مرات التشغيل : 10