العمل والعمال: المحاضرة الأولى

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 26 كانون الأول 1970 الكاتب:موسى الصدر

يناقش الإمام الصدر في ثلاثية العمل والعمال مجموعة من القضايا المتعلقة بالعمل والقيمة والإنتاج، وفي المحاضرة الأولى يقف عند نظرية ماركس عن قيمة البضاعة وهل تعادل العمل المتجسد والمتبلور في البضاعة أو يختلف عن ذلك؟ بمناسبة عيد العمال نستعرض نصّ هذه المحاضرة حيث تكمن الإجابة. نصّ المحاضرة كاملًا:

* محاضرة في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى 1971، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
موضوع حديثنا العمل والعمال وهو يشمل:

أولًا، تعريف العمل
ثانيًا، الفرق بين السعي والعمل (حتى نتعرف بعض الشيء على المصطلحات الإسلامية).
ثالثًا، تقسيم العمل، العمل الفكري والجسمي والبسيط والمركب والمتجسد.
رابعًا، العمل والطبيعة.
خامسًا، أنواع العامل.
سادسًا، دور العمل في الإنتاج وفي هذا البحث بالذات، دور العمل في الإنتاج، عندنا مقارنة دقيقة بالنسبة لرأي الإسلام في دور العمل والمقايسة بين هذا الرأي وبين سائر المدارس الفكرية وتقييمها للعمل.
سابعًا، بحث متناسب وضروري وهو نظرية القيمة لأن مسألة تقييم العمل يقودنا إلى قضية تعيين وتحديد القيمة لأن القيمة كما تعرفون تحدد في المدارس الاقتصادية بأنواع من التفسيرات والتقييمات وأشهرها هو رأي ماركس بالنسبة للتساوي بين القيمة والعمل المتجسد في البضاعة وتقريبًا المدرسة الاقتصادية الماركسية تعتمد بشكل رئيسي على هذه النظرية المرتبطة بالعمل، فعلينا أن نبحث ونرى ونناقش.
هذه الأبحاث التي أحاول أن أختصرها وأفصلها، بنفس الوقت نفتح الحوار والمناقشة فيها. وإذا فاتتنا بعض جوانب العمل فعلى الشباب أن يذكرونا بأن نضيف هذه الجوانب في دراستنا.
أولًا، تعريف العمل:
العمل: أحب أن أطرح هذه الفكرة وهذا البحث مقدمة باعتبار أننا نقترب إلى حد كبير من المصطلحات العلمية المصطلح عليها والمستعملة في الإسلام وفي المدارس الفكرية الحديثة، فمن الضروري أن نحيط بهذه المصطلحات بعض الشيء.
العمل قطعة من الإنسان، ككل قطعة مادية يعني الإنسان قِطَعٌ. الإنسان المشهود، رأسه، يده، قطع من لحمه أو من جسمه، هذه قطع من الإنسان؛ العمل أيضًا قطعة من الإنسان حقيقة ودون تجاوز أو مسامحة، لأن العمل هو هذا التحرك الجسدي أو الفكري. يعني مثلًا أنا أرفع هذه المنفضة: عمل، أو أتحدث: عمل، أو أفكر: عمل، هذه طاقة يعني الطاقة التي أبذلها لرفع هذه المنفضة أو لتحريك اللسان أو لتحريك خلايا الدماغ لأجل التفكر. ما هي حقيقة هذه الطاقة؟ هذه الطاقة تفجير للمادة وتحول للمادة إلى الطاقة. طبعًا هذا مطروح اليوم على الصعيد الفلسفي في زاوية، نظرية أينشتاين بالنسبة لتحويل المادة إلى طاقة. الإنسان حينما يعمل يفجر خلايا جسمه إلى طاقة. أنا جالس، لا أعمل، في جسمي كميات من المواد بشكل خلايا وبشكل المواد الغذائية الموجودة في دمي. هذه المواد وقسم كبير من هذه المواد أيضًا مخزونة في أماكن مختلفة كما تعرفون. من أماكن الاختزان في الجسد هو الكبد، الذي يختزن كمية كبيرة من المواد الغذائية في الجسد، أو بعض مواد أخرى، مثل لبّ العظام، والطحال بالنسبة للكرويات البيضاء، وأمثال ذلك، طبعًا أنتم أخبر بهذه المواضيع.
في كثير من أماكن الجسد نجد كميات من المواد الغذائية المختزنة في كل جسد الإنسان؛ هذه المواد الغذائية المنتشرة، المواد يعني فسفور، يعني كربون، يعني سكر، يعني أنواع من المواد الكيميائية العضوية الموجودة في جسد الإنسان. هذه المواد بسبب الإعصار تتفجر وتتحول إلى طاقة، وإلّا كيف يتحرك الإنسان؟
أنتم تعرفون أن كل حركة صغيرة أو كبيرة، أنا أرفع هذه المنفضة، الطاقة التي أصدرها من أين آتي بها؟ الطاقة بحدّ ذاتها أو الطاقة التي أحرك بها لساني، -لأنه أنتم تعرفون أنه كل غمضة عين أصرف فيها طاقة ولو شيئًا قليلًا، كل تفكير أصرف فيه كمية من الطاقة، كل حركة يد أصرف فيها طاقة- هذه الطاقة التي أصرفها من أين آتي بها؟ آتي بها من داخلي وليس من الخارج. يعني ليس هناك ينبوع للطاقات من الغيب أو من الشهود يصبّ الطاقة لي، وتتحول هذه الطاقة إلى العمل. لا يوجد شيء من هذا النوع.
هذه الكهرباء، الأضواء التي تنير تصرف طاقة، هذه الطاقة من أين لها ذلك؟ من الينبوع. الشمس حينما تنير وتشرق، من أين لها ذلك؟ هذه الطاقة من أين نأتي بها؟ هناك تفجير، تعرفون أن ذرات الشمس تتفجر تفجيرًا ذريًا وتتحول ذرات الشمس إلى الإشراقات ولذلك للشمس ثقل، وزنها يخفّ، ونورها يقلّ، وأخيرًا وفي آخر الزمن وفي آخر الدهر: ﴿الشمس كورت﴾ [التكوير، 1]، سوف تصل الشمس إلى درجة التكوير. ما هو مصدر الطاقة البشرية التي نحن نصرفها حينما نرفع هذه المنفضة، أو حينما نحرك لساننا بالكلمة، أو حينما نحرك خلايا دماغنا بالتفكير، أو حينما يتحرك قلبنا، هذه الطاقة من أين نأتي بها؟ من الغيب تنصب على جسمنا الطاقات؟ مثل الكهرباء! ينبوع! لا يوجد ينبوع.
فإذًا، مصدر هذه الطاقة أنا، والطاقة كطاقة غير موجودة عندي. الطاقة، نعم الحرارة التي تصدر من جسمي قد تكون بصورة الحرارة في داخل جسدي؛ لو كانت كلها حرارة لكانت تنتهي، كذلك يوجد تفجير، يعني المواد السكرية التي آخذها والمواد اللحمية، والمواد النشوية كلها، تعرفون هذه المواد كلها تتحول إلى كالوريات، حرارة. فإذًا، هذه الطاقة المصروفة والتي هي العمل أو بتعبير أدقّ هي السعي.
سنقول الفرق بين السعي والعمل، هذه الطاقة المصروفة ما هي إلا مواد في جسمي تنفجر بواسطة الأعصاب، وتتحول إلى العمل الخارجي. هنا نقف قليلًا: فإذًا، هذه الحركة أو حركة اللسان وحركة الدماغ قبل أن تصبح طاقة كانت جزءًا مني، جزءًا من جسدي، قطعة مني، فالعمل قطعة من الإنسان، هذه نقولها لأسباب إسلامية، كما سوف نقول بالنسبة للتكريم، لأن تكريم الإنسان مفروض أن يتجسد في تكريم عمله وكلامه ولفظه كما سوف نبحث فيه، الآن نحن في صدد التعريف.
فإذًا، التعريف الأول للعمل: العمل قطعة من الإنسان تتفجر فتتحول إلى الطاقة.
التعريف الثاني العمل: ربط الإنسان بالكون أو بتعبير تفصيلي، العمل هو خالق الحضارات والثقافات وبالتالي التاريخ.
يعني الإنسان المطروح على الكرة الأرضية، الإنسان الذي طرح وقيل له حسب التعبير القرآني: ﴿اهبطوا﴾ [البقرة، 36]، نزلنا إلى العالم إلى هذه الحياة، ثم بدأ الإنسان يتفاعل مع الحياة. تفاعُل الإنسان مع الحياة تجسَّدَ بشكل حضاري، فخُلِقت حضارات، وتجسّدَ بشكل ثقافي فوجدت العلوم والآداب والفلسفات والقوانين. وبالتالي، يعني المجموع من الحضارة والثقافة شكلت التاريخ، لأن الحضارة والثقافة النابعتين من هذا الجيل حقبةٌ من التاريخ، والحضارة والثقافة النابعتين من الجيل السابق حقبةٌ، والحضارة والثقافة النابعتين من الجيل القادم كذلك حقبةٌ، هذه الحقب الثلاث يعني التاريخ. ماذا يعني التاريخ؟
الثقافة تفسيرها: الحياة الروحية أو تطور الحياة الروحية باعتبار أن أيّ حياة ليست ثابتة. الحياة الروحية يعني الانفعالات الروحية عند الإنسان، يعني أدب، فلسفة، قانون، علوم، هذه الأمور تسمّى بالثقافة.
الحضارة: هي أشمل من جانب الحياة الروحية المقترنة بالحياة العملية الجسدية، ولكن ليس مجرد الحياة المجسدة في تطوير الحياة الإنسانية؛ يعني الإنسان الأول حينما بدأ يفكر، هذه ثقافة، ولكن حينما بدأ يبني كوخًا، هذه حضارة. الإنسان البدائي حينما بدأ يخاف من العدو ويفكر في كيفية معالجة العدو، ثقافة؛ حينما بدأ يصنع من الصخر سكينًا، حضارة.
مرحلة حضارية، طبعًا بدائية وبالتالي تتدرّج؛ نحن في هذا اللقاء نتحدث [في] ما هو تحديد الحضارة بالضبط، وما هو تحديد الثقافة بالضبط، مصطلحات، ولا نناقش في المصطلحات كثيرًا. ولكن الحضارة تُفسَّر بتفاعل الإنسان مع الحياة، بينما الثقافة تفاعل الإنسان مع نفسه: يفكر فينتج. إذا جسّد هذا الإنتاج في الخارج، يكون حضارة. ولكن تفاعل الإنسان مع نفسه ليس بشكل تجريدي، بل انعكاسات خارجية. ولذلك، بعضهم يريد أن يُفسّر الحضارة الثقافية بشكل متعاكس، فيقول: الحضارة تأثير الإنسان على الحياة، والثقافة تأثير الحياة على الإنسان على الصعيد الفكري؛ ليس هناك أي بحث حول الموضوع، ولا أنا متمسك بهذه التحديدات مهما كان.
الإنسان، في الحقل الحضاري وفي الحقل الثقافي، في هذين الحقلين اللذين يبنيان التاريخ. بأي وسيلة يُبنى التاريخ، وبأي وسيلة يرتبط بالكون؟ يعني بالحياة حتى يكون التاريخ. الإنسان لو تُرِك في هذا العالم بدون عمل، ولا فكر ولا تحرك، لما كان هناك حضارة، ولا ثقافة ولا تاريخ بالتالي.
جبر التاريخ بمعزل عن الإنسان أسطورة. لا شيء اسمه جبر التاريخ. هناك شيء اسمه إنسان، البطل الوحيد على مسرح الكون. طبعًا، الإنسان يزداد ثقافة وحضارة وتفكيرًا وتجربة، يطوّر الكون ويتطور، هذا كله ثابت. شيء اسمه التاريخ بمعزل عن الإنسان، لا يوجد... الأرض نتيجة للزلازل تتغير، والرياح تجمع أكوامًا من الرمول فتكوّن صخورًا، هذه المسائل بمعزل عن الإنسان في تطورات في الحياة. لكن هذه التطورات ليست تاريخًا بالمعنى الذي نريده. قبل خلق الإنسان كان هناك ثورات، حتى خلق الإنسان هذه التطورات لا نسميها تاريخًا، وإنما نسميها جيولوجيا، تغيرات أرضية، وليس تاريخًا. التاريخ بطله الوحيد هو الإنسان، والعنصر الوحيد في هذه البطولة هو العمل، التحرك، وإلّا إذا ما تحرك فليس بتاريخ، ليس بحضارة وليس بثقافة.
فإذًا، التعريف الثاني للعمل الربط بين الإنسان وبين الحياة يعني خالق الحضارة، خالق الثقافة، خالق التاريخ.
التعريف الثالث: تحقيق رسالته الحياتية. الإنسان حسب مفهومنا الديني له رسالة، له مهمة، ذلك الذي يسميه القرآن سجودًا. عندما نحن ننظر إلى الرؤية الدينية عن الكون، يعني كيف ينظر الدين إلى الكون نجد: ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وكثير من الناس﴾ [الحج، 18]. كل موجود له مهمة. هذا الكون أشبه بمصنع كبير، أنت حينما تدخل مصنعًا أو ترى سيارة، بمجرد ما تركب سيارة جديدة تسأل ما مهمة هذا العقرب، وما عمل هذه الأرقام، وما عمل هذه الأجهزة، وما عمل هذه المفاتيح، وما عمل هذا الشيء الذي نضغط عليه بأرجلنا. كل شيء في السيارة له مهمة طبعًا، يعني حتى البراغي الصغيرة التي يضعونها هنا أمامي في الميكروفون كله له مهمة، هناك أشياء تجميلية مثل اللون الذي يغطي هذا الميكروفون. 
الإنسان المتدين الذي ينظر إلى الكون بمنظار الحياة، يعني يعتقد أن خالق الكون عاقل، فإذًا كل زاوية من زوايا هذا الكون لها مهمة، فيؤدي هذا العالم مهمته بإتقان. هذا الذي يسميه العالم بالسجود، لأن السجود يعني منتهى التواضع والإطاعة. الشمس لها مهمة معروفة. مهمة الشمس، التطهير من الجراثيم، الإنارة لكل شيء في المنظومة الشمسية لأن الشمس هي التي تنير الليل والنهار مع بعض التدفئة، التبخير، رطوبة المياه وتحويلها إلى أمطار، تنمية الأشجار والإنسان وهكذا.
هذه أدوار تقوم بها الشمس بكل إتقان، سجود، هذه تسمية قرآنية. القمر له دور، الأرض لها دور، الأشجار لها أدوار، تلطيف الجو، تحويل ثاني أوكسيد الكربون المنتشر في الفضاء تحوله الأشجار إلى أوكسيجين من جديد. حتى جسم الإنسان له دور يقوم بهذا الدور بإتقان إلا إذا حدث مرض. الإنسان العاقل، الإنسان الروح، الإنسان الإرادة، كذلك له دور. ما هي مهمة الإنسان في هذه الحياة؟ طالما كل برغي، وكل حبة رمل وكل ورقة عشب لها دور، فما هو دور الإنسان؟ دور الإنسان حسب تعبيرنا الديني، خلافة الله في الأرض. فمثلًا بالنسبة للإنسان، السيارة، كل شيء في السيارة له دور ويقوم به هذا الجزء أوتوماتيكيًا، ما عدا السائق، الذي يوجه، يغير ويبدل. الإنسان دوره في الحياة هو المتصرف الوحيد. كل شيء ينفذ أوامر الله أتوماتيكيًا دون إرادة، حتى جسم الإنسان، قلبه يتحرك وهو لا يعرف أي شيء عن القلب، ألوف السنين مرت على البشرية لا يعرفون ما هو القلب. الطفل الآن قلبه يتحرك وهو لا يعرف أي شيء عن القلب والمعدة أيضًا والغدد التي تفرز وهو لا يعرف شيئًا، الجسم كذلك سجوده الأوتوماتيكي التحرك.
يبقى الإنسان العاقل، الإنسان الروح، هو المتصرف الوحيد، هذا الذي يسميه القرآن خلافة الله. يعني على الإنسان أن يوجّه ويغير ويطور ويصحح. كيف يتمكن الإنسان من كل ذلك؟ عليه أن يتعلم لأنه إذا تعلم يتمكن من تغيير هذه الأشياء، وإذا ما تعلم لا يتمكن. لأن الإنسان أمام المجهول عاجز، حتى إذا عرفه أصبح سيدًا له، هذه طبيعة العلم، الإنسان عليه أن يعرف هذه القوى، هذه الأشياء، حتى إذا عرفها يسيطر عليها فيطورها لصالح نفسه ولصالح الكون كله.
على هذا الأساس، الإنسان دوره خلافة الله، يعني هو المتصرف الوحيد في الكون وفي الحياة. كيف يتمكن الإنسان أن يحقق هذا الدور؟ عن طريق العمل طبعًا. العمل الجسدي والعمل الفكري الذي هو التفكير والذي هو العلم، هذا هو دور الإنسان. 
فإذًا الإنسان يحقق دوره ومهمته في الحياة عن طريق عمله ليس إلا، هذا هو التعريف الثالث. طبعا هنا نصل إلى نقطة بأنه بلا عمل لا وجود مفيدًا للإنسان. لأن الإنسان بلا عمل لا يرتبط بالحياة، وبلا عمل لا يحقق دوره في الحياة، إنسان بلا عمل إذًا موجود عاطل ليس له أي فائدة أو أي نتيجة. وعند ذلك نعرف ما معنى: ﴿ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39].
وأخيرًا العمل هو طريق الإنسان إلى الله. إذا أنت في المفهوم الديني: ﴿إنا لله وإنا اليه راجعون﴾ [البقرة، 156]، إذا تريد أن تتقرب إلى الله، ما معنى التقرب إلى الله، بحث طويل عليك أن تعمل كعبادة، كخدمة، كتفكير، كمعرفة، بلا عمل لا يوجد شيء. نحن نقدر أن نقول إن العمل هو وجود الإنسان، هو شرف الإنسان. هذا هو تعريف العمل، قطعة من الإنسان ولكن القطعة الأشرف يعني الثمرة، الغاية، الهدف من وجود الإنسان. فإذًا، العمل شيء عظيم، هذا الذي نستخلص منه.
ثانيًا، الفرق بين السعي والعمل:
هنا أحب أن ألفت إلى مصطلح ربما نستفيد منه في المستقبل قبل أن ندخل في تقسيمات العمل. هناك فرق بين السعي وبين العمل. القرآن الكريم يقول: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39]، ولا يقول: "وأن ليس للإنسان إلّا ما عمل". ما الفرق بين العمل والسعي؟
في الحقيقة كل عمل له وجهان مثل الإنسان، ظهر وصدر، العمل أيضًا له وجهان، وجه بشري ووجه خارجي. مثلًا أنا أرفع هذه المنفضة وأضعها، فإذًا صدر مني الجهد، الحركة، السعي. ماذا حصل في الخارج؟ ارتفعت المنفضة وثم وضعت في مكانها، يدي بالنسبة إليّ سعي خارجي، يعني هذا المظهر الخارجي، كذلك الجانب الخارجي. روح العمل، باعث العمل، أو بتعبير فني، الطاقة المصروفة في العمل هي السعي، يعني ماذا أبذل من جهد، هذا هو السعي. العمل قد يتحقق، وأنت قد تضع يدك هنا، تضغط على هذه الكبريتة فلا تعمل أي شيء، وقد تضغط على مفتاح فتنير، الجهد المبذول واحد، ولكن الإنتاج يختلف، العمل يختلف، تكبس على رشاش، تكبس على مفتاح كهرباء فتفجر ملايين الأطنان من الديناميت، كل هذا كبسة واحدة، السعي هو الطاقة المصروفة، والعمل هو الخارج، يعني الذي يحصل في الخارج، هذا الذي يسميه النحاة الفرق بين المصدر وبين اسم المصدر، المصدر العمل، اسم المصدر السعي.
ثالثًا، تقسيم العمل:
يوجد انقسامات كثير واضحة، العمل الجسمي والعمل الفكري واضح، أحرك يدي أو أفكر. ولكن الشيء الذي نحتاج إلى توضيحه لأنه وارد كثيرًا في آراء علماء الاقتصاد وخاصة ماركس، العمل البسيط، العمل العادي والعمل المركب ومن أقسامه العمل الفني. الإنسان الخبير تكلفه أن يمدّ لك الكهرباء، حينما يسحب الكهرباء ويركب الشريط ويصل الشريط السلبي والموجب بالمكان المعين في الحقيقة وهو يحرك هذه اليد، وليس فقط يقوم بعمل جسماني عنده أيضًا عمل فكري، وليس فقط عملًا جسميًا وفكريًا هو يجسد في هذا التحرك خبرة مئات السنوات لأن هذا الرجل بقي مدة خمس أو عشر سنوات يدرس هذه الدراسة التي هي تجسيد لآراء ومطالعات وتجارب العلماء السابقين.
فإذا هو بهذا العمل الفني، يجسد طاقته الجسمية والفكرية وطاقات الآخرين، ولذلك لا تستطيع أن تقول لماركس إن أجرة عمل العامل البسيط الذي يضرب بالمعول يعادل أجرة عمل المهندس بنفس الضربة. ضربة المهندس تجسد خبرة ثلاثين عامًا وتجسد طاقة آلاف من الناس، بينما خبرة هذا العامل أقلّ من هذا الشيء، هناك فرق بين عمل وعمل، العمل البسيط والعمل المركب.
مثال آخر: العمل اليدوي والعمل مع الماكينة. العمل الآلي مثل ما ذكرت، أنا الآن أتكلم بصوتي، يصل إلى مكان معين، فلو ما كان هذا الميكروفون موجودًا صوتي كان يصل إلى مكان أقل، على الرغم من وحدة الجهد، هنا الكلام مع الميكروفون عمل مركب لأنه عملي أنا وعمل المسكين الذي اخترع الميكروفون، وكأنه هو يشتغل معي الآن، ولكنه ليس موجودًا بل غائب عن المسرح، ولا هو هذا الميكروفون الذي فكّر به والذي جرّبه والذي باعه والذي اشترى، كل أعمالهم الآن تتجسد في إيصال هذا الصوت إلى مسامعكم، هم يشتركون معي الآن. فهذا العمل لا تقدر أن تقول يعادل العمل البسيط الذي هو صراخ الطفل أو زعيق البدوي في الصحراء، يختلف العمل. أو مثلًا أنا أضرب بيدي هذه، أبذل جهدًا، هذا عمل بسيط. ولكن أحيانًا أضرب بالشاكوش هذا عمل مركب. لأن العمل بالشاكوش هو عملي زائدًا قوة الشاكوش والزائد قانون، الشيء الذي يعكس القوة من الطرف الثاني إلى الطرف الأول. أنا مثلًا أضغط على الزر فيرفع شاكوش كبير خمسين طنًا فيضرب على مكان كما هو في المصانع. أضغط على الزر، هذا الجهاز يرفع السيارة الكبيرة، هذا هو العمل المركب، يعني العمل زائد الآلة، العمل زائد الخبرة، العمل زائد خبرة الآخرين، فإذًا العمل: جسمي وفكري، بسيط ومركب. نقف عند هذه النقطة.
والعمل عمل بصورة عادية وعمل مجسد. العمل قد يكون عملًا مثل ما هو، حركة، كلمة، مثلما نعمل، وقد يتجسد هذا العمل في شي ما. كيف يتجسد العمل؟ والبضاعة، هذه البضاعة، الكبريت ما هو؟ أبسط من هذا، الخاتم، ما هي كمية الفضة الموجودة في الطبيعة طبعًا تعرفون أن الفضة غالبًا موجودة بشكل طبيعي بخلاف الحديد والأشياء الثانية. هذه كمية من المادة الطبيعية التي اسمها فضة، ثم خبير صائغ يأخذ هذه الكمية من الفضة فيحولها إلى خاتم، فإذًا مادة هذا الخاتم من الطبيعة، هيئة هذا الخاتم يعني شكله ولمعانه تجسيد لعمل الصائغ، فهذا الخاتم من الطبيعة ومن عمل مجسد. أنت لا ترى إلا المادة الطبيعية. ولكن هذا الشكل من أعطاه؟ الصائغ. فإذًا عمله تجسد في هذا، نفس الشيء الكبريت، في عمل العامل تجسد في هذه الهيئة، وإذا نزعت من هذا عمل العامل، يصبح بعض الأخشاب في الغابات وكمية من الفسفور في المناجم بأشكال مختلفة وأشياء ثانية، لا أدري ما هي المواد بالضبط.
فإذًا، هذا الكبريت فيه شيء من الطبيعة وفيه تجسيد أول بالمصطلح الإفرنجي بلورة (كريستاليزية)، بلورة للعمل، العمل تجسد في هذا الكبريت، أليس كذلك؟ إذًا قد يتجسد العمل في البضاعة، هذا الشيء مهم لأنه نقطة انطلاق في الاقتصاد. البضاعة تعادل العمل المجسد أو أكثر أو أقل. هنا نريد أن نعرف العمل المجسد، ولكن نضيف على ذلك: الآلة أيضًا عمل مجسد، أنا أحيانا أضرب بيدي على هذه الطاولة أو على هذا المسمار وقد لا أتمكن من أن أنفذ وأدخل المسمار في هذا الخشب، أحيانا أضرب بالشاكوش بسهولة أدخل المسمار في الخشب، ما هو الشاكوش؟ آلة، ما هي الآلة؟ كمية من الطبيعة مع كمية من العمل. هذا الشاكوش إذا نزعت عنه العمل ما هو؟ حديد مطروق. فإذًا الآلة عمل مجسد مثل البضاعة. هذا الميكروفون وسيلة إيصال الصوت إليكم، أيضًا المصانع كلها التي تنتج، ما هي المصانع، ففيها عمل مجسد زائد كمية من الطبيعة. فإذًا العمل قد يكون بالشكل الطبيعي: تحرك، صرف طاقة، وقد يكون بشكل مجسد في البضاعة، وقد يكون بشكل مجسد في الآلة، وقد يكون بشكل مجسد في رأس المال. نقف هنا قليلًا.
كذلك أنا حينما أصنع هذه البضاعة فأبيعها بسعرها الحقيقي وآخذ المال. هذه القيمة الشرائية بشكل العمل أو بشكل أخذت مقابل الكبريت كمية من القمح أو بأي شكل من الأشكال، ولكن العمل يتجسد في البضاعة وفي الآلة وفي رأس المال أيضًا. رأس المال أيضا فيه شيء من العمل، هذا لأي حد ظالم، هذا لأي حد مشروع، لأي حد على حق، ولأي حد ليس مشروعًا، سوف نتكلم به. ولكن رأس المال أيضا فيه شيء من العمل لأن رأس المال ثمن البضاعة، إن كان ثمن البضاعة عشر ليرات وبعته بخمسين ليرة ظلمت، سرقت، ولكن في هذه الخمسين ليرة كمية من العمل بمقدار ما كانت متجسدة في هذا الكبريت، كان أيضًا في رأس المال هذه الكمية من العمل، فالعمل يتجسد في عدة أمور.
رابعًا، العمل والطبيعة:
مثل أي بضاعة، أي آلة، أي أكل، أي شرب، هناك تفاعل العمل والطبيعة. الماء صحيح أنه من الطبيعة، من أي مصدر كان، ولكن هنا في القدح الموجود أمامي طبيعة وعمل. من الذي أتى به؟ فلو ما اقترنت الطبيعة بشيء من القوة الجسدية والفكرية عن طريق التحرك والأنابيب وعن طريق الحنفيات وعن طريق السحب وعن طريق المكائن ما كان وصل الماء إلى هنا. وهكذا كل شيء، هذا البيت طبيعة وعمل. الخاتم، الكبريت، كل شيء طبيعة وعمل، على طول مقترنان: الطبيعة والعمل في كل شيء. أو بتعبير آخر البضاعة والآلة والبيت والأشجار وكل ما يلبي حاجة الإنسان، طبيعة مخدومة، طبيعة ممهدة، هذه المناظر والأشجار وهذه الغابات طبيعة، فيها أثر مسح الإنسان، هذه بعض مبادىء أو بعض إيضاحات بسيطة.
خامسًا، أنواع العامل:
عندنا عدة إيضاحات أخرى حول العامل. طبعًا إسم العامل فاعل من كلمة عمل يعمل وهو عامل، ولكن العامل على أنواع لأنه يقال عمال وشغيلة، حتمًا تسمعون بهذا، العامل عدة أنواع. قد يشتغل العامل حسب الساعات دون تحديد الأعمال، هذا النوع الأول. يعني أنا آخذ أو أشتري خدمة شخص مدة ثماني أو عشر ساعات أو شهر أو شهرين أو سنة، ماذا أكلفه؟ ليس هناك بحث، آخذ ثماني ساعات أشغله بالزرع، بالغرس، بالكنس، بالكتابة، ليس هناك بحث، يعني العمل حسب الساعات يعني أستأجر، أشتري، آخذ ثماني ساعات من طاقات هذا الفرد دون تحديد نوع العمل، هذا واحد.
النوع الثاني، قد آخذ دون الساعة، هذا الذي نسميه  contractعقد التزامات، يبني بيتًا بساعة واحدة، بخمس ساعات، بعشرين شهر هو حر، أنا أريد بيتًا بصفاتٍ معينة. يعني أعيّن نوعية العمل، أريد غرس خمسين زيتونة، كم يأخذ وقتًا؟ ليس هناك بحث، هذا نوع ثانٍ من العمل.
النوع الثالث من العامل، تحديد الساعة والعمل معًا، مثل العمال العاديين الذين يُسمون بالشغيلة اليوم، عامل المصنع، عامل الكنس، الحاجب، السكرتير، المحاسب، أمين الصندوق، آخذ ساعات معينة لأعمال معينة. بالنسبة لهذا الموضوع، وكل هذه الأنواع قد يكون للغير، يعني أنت تأخذ عملي ساعات أو أنواعًا أو معًا، وقد أشتغل أنا للشركة التي أملكها وغيري، وقد أشتغل لنفسي، ربما تجدون المسائل واضحة ولكن ضرورية لأجل الإيضاح. لأننا سوف ننتقل إلى بحث أتصور من الضروري أن أفكر فيه. الإنسان قد يشتغل لنفسه، أنا عندي متجر صغير ماكنة صغيرة أنا أشتغل بيدي أنسج أو أغزل كلسات أو بلوزات أو كنزات، وأبيع أنا لنفسي عمل بالساعات أو بالنوعية لنفسي. وقد أعمل لأجل الشركة، أنت تعطيني رأس المال وأنا أشتغل ولي من الربح الثلث أو النصف أو الربع أو الثلثان، هذا الذي يسمونه بالمضاربة، والتي أنا أعتبرها بديلًا صحيحًا عن الربا في الإسلام والذي سوف نقف عنده.
فإذًا، قد يشتغل العامل لنفسه وقد يشتغل للشركة وقد يشتغل للغير، وإذا اشتغل للغير قد يأخذ أجرة وقد يتعلم ذلك الذي كنا نسميه ولا يزال بالصانع أو التلميذ. في سابق الزمن، في شرقنا المتدين كان نظام الصناع وليس نظام العمال، ولذلك، مشكلة العمل والعمال لم تطرح في الشرق، مشكلة العمل والعمال أساسًا انتقلت من الغرب الرأسمالي، في الشرق المؤمن الذي ما كان يومًا ما تتحكم فيه الرأسمالية المطلقة ما كان هنالك عمال، كان هناك صنّاع، ما هو الصانع؟ سنحكي بالتفاصيل، الشخص الذي يشتغل عند هذا الذي يشوي اللحم أو عند الحلاق يتعلم الحلاقة، عمله ربما يساوي خمس ليرات في النهار فيأخذ ليرة ويأخذ تعلمًا أيضًا. هذا الذي نسميه الصانع. نحن هنا نصنف هذه الأمور للانتقال إلى مرحلة أخرى، العامل قد يشتغل للشركة بينه وبين غيره، وقد يشتغل للغير مقابل المال أو مقابل التعلم أو التعلم والمال معًا. هنا وصلنا إلى نهاية هذه المبادىء الصغيرة التي شرحتها لكم بخلال هذه الفترة، هنا أنا أوجه سؤالًا ثم أنتقل إلى بحث آخر.
لماذا تحولت الشركات الصغرى إلى الشركات الكبرى والتي أدّت إلى تكثير العمال، أو بالمصطلح الصحيح الشغيلة؟ لماذا طغت الرأسمالية فصنفت الناس إلى رب العمل والعمال؟ هذا السؤال مطروح وجوابه من خلال هذه الأبحاث، لو كنا نعمل بالنسبة إلى العمال بصورة محقة لما تكونت الرأسمالية الكبرى كما ورد في الأحاديث ولما حصل الانقسام والانشقاق الطبقي بين الناس. هذا الذي علينا أن نتحدث فيه، ولكن قبل أن نتحدث في هذا الموضوع، موضوع حديثنا بعدما شرحنا المبادىء أو المصطلحات، ما هي ميزات العمل في المدارس الاجتماعية المختلفة ومنها الإسلام؟ يعني حصة العمل أو حصة العامل، كم؟ وقت الذي يشارك في الإنتاج ماذا يجب أن يأخذ العامل من عمله، كم ثمنه، ثمن عمله ماذا؟ نحن أمامنا عدة عناصر للإنتاج الإدارة، رأس المال، الآلة، العامل، هؤلاء يتعاونون حتى ينتجوا، ما هو دور العامل؟ ماذا يعطيه الإسلام من الميزات تجاه العناصر المختلفة.
الأسبوع القادم نكمل حديثنا وإلى اللقاء والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 5