كلمة رئيس الجلسة الوزير سليم الصايغ في الجلسة الثانية من مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر
التحديث والتطوير عند الإمام الصدر ليس بالثورة عبر الوسيلة إنما بالثورة في الأهداف
السلام عليكم، المحور الثاني للقائنا اليوم هو التغيير الاجتماعي. ولي الشرف أن أنسّق هذه الطاولة المستديرة مع الدكتور دميانوس قطار، معالي الصديق الدكتور، من ثم الدكتور خليل حمدان، وسعادة السيد رائد شرف الدين.
ولقد كُلِّفت شرعيًا منذ لحظات بأن أعطي الوقت الذي أرتأيه للمحاضرين وبالتالي سنعتمد حوالي ثلث الساعة لكلٍ منهم وسأبدأ في المداخلة.
لقد قيل لي أنني لا يحق لي أن آخذ ذات الوقت أو نفس الوقت لكنني سأجتهد في هذا الموضوع وأعتبر أن لي أجر...
لا تزال القضية الاجتماعية محركة الشعوب في عالمنا المعاصر ولو كنا اليوم أمام حركات تحرر من جيل مختلف، لا قاسمًا مشتركًا فيما بينها إلا قضية الكرامة الإنسانية. إنها مسألة جذرية ولكنها تتطلب مقاربة حديثة تخرج الباحث من مجال الحقل التخصصي لتدخله في شمولية مسألة الأخلاقيات ودينامية بناء المجتمعات للوصول إلى مشروع تغييرٍ ذو وجهين أحدهما عنوانه السلطة والآخر عنوانه النهضة وفي وحدتهما توحيد وفي تفاعلهما تفعيل وفي تناغمهما ترنيم للكرامة الإنسانية.
من هنا تنبثق التحديات أمام قضية التغيير الاجتماعي، من الأفضل إلى الأصح إلى السعي إلى التوازن مما يطرح السؤال حول لمن تؤول الأولوية إلى:
الوطن أو الإنسان
التغيير أو التغير،
الدولة أو المجتمع،
الحق أو الفرد،
الغاية أو الوسيلة،
وأي من التساؤلات التالية هو الأصح:
المعلوم على يقين رداءته أم المجهول على إمكانية تحسنه؟
المساواة في بناء المواطن أم المفاضلة على أساس التقوى؟
التضامن في السراء والضراء أم التفرقة بالحق والحقيقة؟
الطمأنينة مع الميوعة الخانعة أم القلق مع الإنتفاضة المتحررة؟
فإذا سلمنا جدلًا بأن التوازن مطلوب دائمًا بين أصول كل من:
المعلوم والمجهول،
المساواة والمفاضلة،
التضامن والفرقة،
الطمأنينة والقلق،
تبقى القضية التي وَجُبَت معالجتها فورًا،
هل يمكننا الفصل بين السياسة والاجتماع عندما يتعلق الأمر بنمطٍ تغييري كالذي يؤسس له سماحة الإمام موسى الصدر؟
والسؤال ليس نظريًا أبدًا، لأن الفصل أو الربط له انعكاساته وآثاره على مقاربة مسألة التغيير.
فالفصل يذهب بنا إلى وجهة السلطة فيكون التغيير محدود الأفق، سطحيّ المستوى، حقوقيّ الإطار، إقتصاديّ المدى.
أما الربط فيذهب بنا إلى وجهة النهضة، فيكون التغيير لا متناهيًا، أخلاقيّ المنبع، نموذجيّ التجربة، كونيّ الإرتقاء، اجتماعيّ المرجع، كمشروع الله فينا.
ففي فكر الإمام تشوّق إلى وحدة كاملة بشموليتها المتكاملة بعناصرها، لا فصل فيها بين التغيير الاجتماعي والتغيير السياسي. ولعل في هذا الاستنتاج فرصة حقيقية لحصول نهضة كبرى، أو لإحداث ثورة في الأهداف، تولّد تغييرًا أساسيًا في المجتمع، وفي ذلك التقاء مع مفاهيم الميثاق الاجتماعي، وإرشادًا لسياسات الحكم الاجتماعية، مما يستدعي التوقف عند هاتين المسألتين:
أ- الإلتقاء مع الميثاق الاجتماعي
ب- والإرشاد للسياسات الاجتماعية
بالطبع، لن أفصل لأن الدقائق معدودة إنما سأمر بسرعةٍ على مفاصل أو مكامن الالتقاء مع الميثاق الاجتماعي.
أ- الإلتقاء مع الميثاق الاجتماعي
يبرز هذا اللقاء أو الإلتقاء في الغاية والمفاهيم.
في الغاية أولًا:
جاء الميثاق عام 2010 وذلك قبل سنتين من الثورات العربية، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا على تغييب الإمام موسى الصدر، وبالحقيقة كلٌ هو ابن الظرف والحقبة التي عاشها أو التي انبثق منها. لكن ما بدر إلى ذهني وأنا أحضّر هذه الكلمة هو كيف أن الإمام والمساحة لا تحتمل للتفصيل برزت وتميّزت بمعاصرته لعقيدتين، عرف أن يتخطاهما مع المحافظة على إيجابية كل منهما:
العقيدة الأولى، وهي المادية التاريخية والتي تقوم على الصراع الطبقي الذي يشكل دينامية التغيير في المجتمع،
والعقيدة الثانية، وهي الأصولية الدينية التي ترى أن القرآن الكريم قد أعطى الأجوبة على كل المسائل، ولا بد من التغيير بالرجوع إلى أصوله وأصوله فقط.
جاء الإمام الصدر ليقول بحسنات كل عقيدة لكنه بدل الصراع بين الطبقات اعتمد الصراع بين المواقع: بين الموقع الاجتماعي للمحرومين والمواقع الأخرى المتقابلة، وفي هذا اختراق للطبقية وتعبئة لكل الذين آمنوا بمركزية الإنسان في المجتمع. وهو بذلك يطبّق تعاليم الإسلام الذي قال بالزكاة والصدقة من الجميع كخيار حر وملتزم يقوم به المؤمن لنصرة المحروم.
فالإمام حوّل إذًا، الصراع الطبقي المصدّع للمجتمع إلى صراعٍ اجتماعي محوّل للمجتمع.
أما بالنسبة للأصولية الدينية، فهو ينهل من القرآن كل ما يعزز فكرة التغيير، وفي القرآن الكريم حداثة دائمة، يفقهها المجتهد كلما عمّق اجتهاده وطوّر معرفته وأنضج خبرته، فيفسّر الكتاب بطريقة يخدم فيها مشروع الله على الأرض وتوكّل عليه خليفته الإنسان، مرشدًا إياه على قاعدة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
إن معاصرة الماركسية بقوتها وبروز الأصولية الدينية في آن، حمل الإمام الصدر على الذهاب إلى أبعد من المادية وأشمل من الأصولية، فربط الإنسان بالمطلق: بالحكمة المطلقة، الخير المطلق، البهاء المطلق، القوة المطلقة والحق المطلق، وهو الله، وطلب إليه أن يكون كما أراد الله، صورة عنه، حاملًا لعدالته وكرامته. هذا الربط المباشر، الإسلامي المنهل، الكوني البعد، للإنسان بالخالق، فيه كل قوة الوجود الإنساني، والدعوة للتحرر من كل القيود، بما فيها المادية، بما فيها الديالكتية المادية والرجعية القيمية.
كل فكرة من أفكار الإمام تحمل في طياتها ثورة على الذات ونداء للنشوء وتحفيزًا للإرتقاء. وفي هذا بالطبع إلتقاء مع ما وضعناه في لبنان بالتعاون مع المجتمع المدني وهذا منشور ومعروف في الميثاق الاجتماعي والاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية.
وفي الجزء الثاني من البحث الذي لن أقدمه شفهيًا، قلنا بالتلاقي مع الاستراتيجيات ومع السياسات ولا بد هنا من أن أشير الى أهمية ما قاله الإمام في برنامجه الإصلاحي حول التغيير الاجتماعي. كل ما قاله، كل ما قاله وطالب به هو اليوم معروف ومكتوب والبعض منه قد تُرجم سياسات وخطط إنما ما أردت أن أحفظ اليوم ولربما لم يُترجم في أي سياسة ولربما علينا أن نتطلع إلى ذلك ونضع الحكومات والمسؤولين في المستقبل أمام هذا المبدأ وهو اعتبار أن الهجرة اللبنانية هي عامل إغناء وإثراء للوطن وعلينا أن نتعامل معها ليس كشيء طارئ إنما كعاملٍ طبيعي في مجتمعنا، علينا أن ننظم التكامل بين قدراتنا في الهجرة وقدراتنا الوطنية على شرط أن يعود المهاجرون الى وطنهم لكي يبنوا، لكي يستثمروا ويحوّلوا هكذا طاقاتهم الى قدراتٍ إنتاجية.
في هذا المبدأ لم أره في أيٍ من سياساتنا في لبنان أو من استراتجياتنا لأننا اعتبرنا دائمًا لأن الاغتراب والهجرة هما شيئين طارئين.
في الخلاصة، وأريد بالطبع أن أحوّلكم إلى البحث المكتوب الذي أخذ مني بالحقيقة ساعات من التأمل والقراءة والبحث وفحص الضمير، كذلك الأمر، لأننا عندما نقرأ في الإمام موسى الصدر، نحن لا نعرف إذا كنا نصلي أو كنا نقرأ في علم الإقتصاد أو في علم الاجتماع، أو في علم السياسة أو في علم الدين، كل هذا يمتزج وبالنتيجة ننتهي بتربية وطنية، ننتهي بتربية مدنية، ننتهي بتربية أخلاقية. وأستطيع القول أن ما قد قال به الإمام الصدر عن لبنان شيء عظيم جدًا، -قاله قبل سنوات من رسالة البابا يوحنا بولس الثاني عندما أعطى إرشاده الرسولي عن لبنان- قال برسالة لبنان الإنسانية ذات البعد الحضاري. ولا نستطيع أن نفصل كرامة الوطن عن كرامة الإنسان كما لا نستطيع أن نفصل كرامة الإنسان عن كرامة الله، لأن الإنسان كما قلنا هو ترجمة لمشروع الله على الأرض. بالطبع أنا سأترك المجال للنقاش فيما بعد لكنني مسرور جدًا اليوم أن مؤسسة الإمام موسى الصدر قد شرّفتني بالحقيقة أن أكون معكم وأن أتكلم من موقعي الأكاديمي ومن موقع الخبرة كذلك الأمر في العمل الاجتماعي في سدة الوزراة، وأنا أتشرف كذلك بأن أكون محاطًا بهذه الكوكبة من رجال الفكر والعمال الكبار في حقل الإقتصاد والاجتماع؛ وبالتالي أحب أن أقدم معالي الوزير دميانوس قطار، الدكتور قطار الذي تبوأ سدة الوزارة في عهدٍ قصير ولكنه كبير الأثر، وهو أكاديمي وباحث ومستشار لكبرى الشركات العالمية واليوم سيقدم لنا نظرته حول دور المؤسسات العربية في عملية التغيير.
الكلام لك معالي الدكتور قطار.