كلمة رئيس الجلسة الدكتور محمد السماك في الجلسة الأولى من مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة والأخوات،
أهلًا بكم إلى هذا المحور الأول من نشاط يتضمن ثلاثة محاور وموضوع هذا المحور هو التغيير من منطلق الفكر الديني وكما تعلمون هو موضوع شيّق وشائك في الوقت ذاته ويحتاج إلى كثير من الدقة في معالجة هذا الأمر. إسمحوا لي أن أقدم مقدمة قصيرة قبل أن أعطي الكلام للسادة المتحدثين لفتح الشهية حول هذا الموضوع.
الإخوة والأخوات،
غالبًا ما يفهم الالتزام بالنص الديني على أنه إلتزام بالتفاسير الدينية التي أُفرزت في السابق، والتي لا تزال تفرز اليوم أسس ووقائع الحياة العامة في المجتمع الإسلامي.
وغالبًا ما يُفهم هذا الإلتزام، دينيًا وأخلاقيًا، على أنه يعني عدم التجاوب مع مقتضيات التغيير التي قد تفرضها سنّة الحياة. بل غالبًا ما يذهب هذا الإلتزام إلى ما هو أبعد، وهو التصدي للتغيير باعتباره تجاوزًا للمفهوم الديني ولثوابت العقيدة.
من أجل ذلك، غالبًا ما تجد المجتمعات الإسلامية نفسها في وضع يعكس الإنتقال من حالة الإلتزام إلى حالة الإلزام، أي من حالة الإلتزام الذاتي، إلى حالة إلزام الغير بهذه المفاهيم. بمعنى الإنتقال من مقاومة التغيير إلى التحريض على مقاومته والتصدي له واعتباره من البدع الضالة التي يصحّ فيها القول "وكل ضلالة في النار".
الإمام موسى الصدر لم يكن من هذا الرأي. كان يرى "أن الإنسان بطبيعته يتحرك نحو الكمال، وأنه إذا وجد في طريقة صعوبات ما، فإنه يتصدى لها ويواصل تقدمه. إنها طبيعة الإنسان منذ أن كان وفي أي مكان". فالتقدم تغيير متواصل.
أيها الإخوة والأخوات،
إن النص الديني، لأنه نص إلهي، فهو نص مقدس، وهو نص ثابت. وهو نص مطلق المعرفة: ﴿قلْ لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا﴾ [الكهف، 109].
أما فهم النص الديني، فهو فهم إنساني. وكل ما هو إنساني ليس مقدسًا، وليس ثابتاً. ثم إنه نسبي المعرفة: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ [الإسراء، 85].
إن المسافة المعرفية بين الآية الأولى ﴿قلْ لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي﴾ [الكهف، 109].، والآية الثانية ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ [الإسراء، 85]، تبين المسافة بين النص الديني والفهم الإنساني لهذا النص.
إن النص الديني عندما يدخل عقل الإنسان يتأنسن فهمه. يبقى النص مقدسًا، ولكن فهمه يتجرد من هذه القدسية ويصبح بالتالي فهمًا إنسانيًا مفتوحًا على الخطأ والصواب. وبالتالي على التطوير والتغيير، بل وحتى على النقض والتبديل.
لا يقلّل ذلك أبدًا من أهمية المفاهيم الإنسانية للنصوص الدينية التي يزخر بها تراثنا الفكري والفقهي، ولكنه يحمّلنا مسؤولية وجوب إعمال عقولنا لتجديد استخراج المفاهيم والأحكام والقواعد من النصوص ذاتها، وبما يتوافق مع طبيعة زماننا ومع ضرورات بيئتنا.
وللإمام علي كرّم الله وجهه قول سديد، وما قال إلا سديدًا، يقول الإمام علي: "ربِ من أعطيته العقل ماذا حرمته، ومن حرمته العقل ماذا أعطيته؟"... ذلك أن الله يُعرف بالعقل، وأنه يُعبد بالعقل. وبالعقل يتطلع الإنسان نحو الكمال الذي تحدث عنه الإمام الصدر كما ذكرتُ سابقًا، وهو تطلع مشروع يتطلب حركة تغيير مستمرة ومتواصلة، لأن الكمال لا سقف له، أما الاستسلام للواقع فهو تعطيل للعقل وتخلٍّ عن دور الإنسان في أن يكون مستحقًا للتكليف الإلهي له بأنه خليفة الله على الأرض ومكلفٌ بعمارتها. ومن أجل ذلك خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ومن أجل ذلك أيضاً كرّمه لذاته الإنسانية وليس لإيمانه أو لعنصريته أو للونه.
كان الإمام موسى الصدر مع هذا الرأي، بل لعله كان من روّاده. فقد رأى –والكلام له-: "أن الإسلام يفترض أن الإنسان المؤمن لا يقبل وضعه الحاضر"، أي أنه في حالة تمرد دائم على وضعه الحاضر لأنه يتطلع نحو الكمال، "ولا يقبل وضع مجتمعه"، ويعني عدم القبول التطلع نحو الأفضل، وهو تطلع يقتضي تغيير ما هو قائم، وهو ما كان يقول به الإمام. إن "الإسلام يفترض-كما يقول الإمام- أن يسعى المؤمن لتغيير هذا الوضع، مما يجعله في حالة صدام مع ذاته ومع المنتفعين من وضع مجتمعه"... الوضع السيء للمجتمعات، وكأني به كان يقرأ قبل عقود من الزمن ما تمرّ به مجتمعاتنا اليوم من تحرك واسع نحو التغيير.
إن الإصلاح هو هدف المصلحين جميعًا، أنبياء كانوا أو أئمة أو مفكرين أو رجال دولة. ولكن الإصلاح لا يكون إلا بالتغيير. والدين هو حافز أساس للتغيير وليس عقبة في طريقه، إنه يحثّ على التحرك نحو الكمال وعلى رفض الخنوع والاستسلام للواقع. ولكن كما قلنا لا يمكن إلا التمرد على الواقع إلا بتغييره إذا كان هناك تطلعات نحو الكمال. ألم يكن ذلك ما فعله الأنبياء؟ ألم يكن ذلك من أهم ما أنجزه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
ذلك أن الإصلاح ينطلق أساسًا من أن هناك وضعًا سيئًا يحتاج المجتمع إلى التخلص من أضراره ومن آثامه. ولا يكون ذلك إلا بالعمل على تغيير هذا الوضع السيء. ومن هنا يكون التغيير واجبًا دينيًا وأخلاقيًا وليس واجبًا سياسيًا أو وطنيًا فقط.
فعندما وصف القرآن الكريم المسلمين بأنهم: ﴿خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران، 110]، ربط ذلك –ربط شرطي- بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهذا يعني أن تكون الأمة في حركة إصلاح ذاتي لا تتوقف.
فالأمر بالمعروف عملية إصلاحية إيجابية، والنهي عن المنكر عملية إصلاحية سلبية. والعمليتان تغييريتان لثقافة أو لتقاليد أو حتى لسلطة أو لمجتمع ينكر المعروف ويرتكب المنكر.
لقد ذكّر الإمام الصدر في محاضرة له بالقول النبوي الشريف: "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم". وتساءل كيف يمكن للمرء أن يصلي ويصوم ولا يهتم بإبنه أو بمجتمعه أو بجاره؟ كيف يتركه ينحرف وهو مسلم؟ وقضى الإمام بأن الإسلام يرفض هذا المفهوم. وعليه، رفَضَ الإمام الصدر هذا المفهوم والتزم بالمفهوم الإسلامي الإصلاحي فكانت حركة المحرومين في الداخل اللبناني. وكانت حركة المقاومة ضد إسرائيل العدو الذي وصفه بالشر المطلق.
وكان بذلك نموذجًا للإصلاحي الذي انطلق في مسيرته التغييرية من منطلقات الإسلام، شرعةً ومنهاجًا.
أيها الإخوة والأخوات،
كنتُ أتمنى لو أسترسل أكثر في الحديث عن هذا الموضوع الشيق، ولكن دوري هنا هو مجرد إدارة الندوة وليس المشاركة فيها. خاصة وأن المتحدثين الثلاثة –بانتظار وصول صديقنا الألماني المتحث هنا- أعلام كبار في الفكر الإسلامي والإنساني.