كلمة غبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر ممثلًا بالمطران كيرللس بسترس
المجتمع المؤمن
أيها الأحباء،
أحييكم باسم صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك، وأتمنى لهذا المؤتمر النجاح من أجل تعزيز الوحدة الوطنية بين أبناء وطننا الحبيب لبنان الذي أراده لنا الله سبحانه تعالى مقرّ أمان ورسالة محبة ونموذجاً للعيش المشترك بين مختلف طوائفه ومكوناته.
إننا إذ نحيي في هذا المؤتمر ذكرى الإمام المغيب موسى الصدر ونستعيد أفكاره وتطلعاته من أجل ازدهار لبنان وسائر البلدان العربية وإنماء كل إنسان فيها من أيّ دين كان وإلى أيّ طائفة انتمى، نتوجَه إلى جميع المواطنين مسلمين ومسيحيّين مردّدين قول القرآن الكريم: "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم". وهذه الكلمة السواء هي أولاً أن نعبد الله نؤمن كلَنا، مسيحيّين ومسلمين، بأنه إله واحد، لا إله سواه، مهما تعدّدت التعابير التي من خلالها نعبّر عن وحدانيّته، ومهما تنوّعت الطرق للوصول إليه. هذه العلاقة بالله هي التي تحدد معنى الإنسان وتضع الأساسَ الثابتَ للعيش بسلام. وهذه الكلمة السواء هي ثانياً محبة القريب الذي خلقه الله على صورته ومثاله، تلك المحبة التي هي البرهانُ الوحيدُ على أنّنا نحبُّ حقاً الله ونتّقيه، كما قال القديس يوحنا الإنجيليّ في رسالته الأولى: "الله محبّة: فمن ثبت في المحبة ثبت في الله، وثبت الله فيه" (16:4).ثمّ أضاف: "من قال: "إنّي أحبّ الله"، وهو يُبغض أخاه، فهو كاذب. لأنّ من لا يحبُّ أخاه الذي يراه لا يستطيع أن يحبَّ الله الذي لا يراه" (20:4).
يطلب القرآن الكريم من المسلمين ألا يفرّقوا بين الأنبياء (راجع البقرة 136:2). ألا يجدر بنا نحن أيضاً أن لا نفرّقَ بين أتباع الأنبياء الذين أرسلهم الله هدى للناس ورحمة للعالمين؟ وعن أتباع هؤلاء الديانات ورد أيضاً في القرآن الكريم: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى، من آمن بالله اليوم الآخِر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون" (المائدة 69:5؛ راجع أيضاً سورة البقرة 62:2). فإذا كان أتباع هذه الديانات الأربع، الإسلام واليهودية والصابئة والمسيحيّة، سوف يخلصون في الآخرة ويدخلون فردوس الله، ألا يجدر بهم منذ الآن أن يحبَّ بعضُهم بعضاً ويحترمَ بعضُهم بعضاً؟ وإذا كان الله سبحانَه تعالى قد سمح بهذا الاختلاف في الأديان (راجع المائدة 48:5)، كيف يجرؤ البعض على أن يكفّرَ البعضَ الآخر، لا لسبب إلاّ لأنّ هذا الآخرَ مختلفٌ عنه؟ قال السيّد المسيح: "لا تدينوا لئلا تُدانوا". وقال بولس الرسول: " من أنت يا من يدين عبدَ غيره؟ إنّه لمولاه يسقط أو يخلص. ولكنّه سوف يخلص، لأنّ الله قادرٌ أن يخلّصَه". فلنترك دينونةَ الناس لله الذي، في اليوم الآخِر، سوف يدين كلَّ واحد بحسب أعماله. ولنركّز اهتمامَنا على التعاون من أجل ازدهار الوطن وخدمة جميع المواطنين من أيّ دين كانوا وإلى أيّ طائفة انتموا.
أيّها المسلمون والمسيحيّون في الشرق العربيّ، "تعالوا إلى كلمة سواء" في ما بيننا، ألاّ ينظرَ بعضُنا إلى بعض من وجهة نظر اختلافنا الدينيّ، ولا من وجهة نظر الأكثريّة والأقليّة، بل من حيث إنّنا جميعاً مؤمنون بالله الواحد ومواطنون في الوطن الواحد، متساوون في الحقوق والواجبات، مهما كان عدد أبناء طوائفنا. لا ينبغي للأقليات أن تبحث عن الحماية الخارجيّة بل عن المساواة، لأنّ الحماية الخارجيّة تفصل المواطنين بعضهم عن بعض. أمّا المساواة فهي السبيل الوحيد لربط جميع المواطنين بعضهم ببعض. الملحدون يركّزون العيش المشترَك على المساواة بين البشر. غير أنّ هذا لا يكفي لأنّه يفتح الباب واسعاً أمام الخصومات والنزاعات والبغض والحسد والكراهيّة، التي تصدر كلّها عن القلب. وما لم يتطهّر القلب بواسطة الإيمان، فلن يحصلَ السلام على الأرض، ويبقى الناسُ معرَّضين لسيطرة البعض على البعض الآخر واستعباد البعض للبعض الآخر. لذلك نحن المؤمنين بالله الواحد من مسيحيّين ومسلمين، إلى جانب المواطنة وقبل المواطنة، نركّز عيشَنا المشتركَ أوّلاً على الإيمان بالله الواحد، كما جاء في قول الإمام عليّ بن أبي طالب للأشتر: " الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق". فكرامةُ الناس والمساواةُ بينهم والمطالبةُ بحقوقهم لا يستجدونها من أحد، لا من دين ولا من طائفة ولا من حزب سياسيّ أو أيّ تجمّع بشريّ، بل هي متأصّلة فيهم منذ ولادتهم، لأنّ الله الواحد هو الذي خلقهم. ولأنّ الله الواحد خلق جميع الناس، ينتج من ذلك أنّ جميع الناس هم"أبناءُ الله"، بحسب التعبير المسيحيّ، و"عيالُ الله" بحسب التعبير الإسلاميّ، على ما ورد في الحديث الشريف:" الناس كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله". ولكونهم جميعاً أبناءَ الله وعيالَ الله هم إخوة بعضهم لبعض. الإيمان بالله والمواطنة هما إذاً الركنان الأساسيّان لبناء مجتمع مدنيّ يحترم كلَّ الأديان ويتساوى فيه جميع المواطنين ويعيشون معاً في سلام وأمان. الشرق منبت الأديان، ولا تزال مجتمعاتنا مؤمنة، ونرجو أن تبقى كذلك. لكنّ الإيمان غير التديّن. فربَّ متديّنٍ لم يدخلِ الإيمانُ في قلبه، كما ورد في سورة الحُجُرات: "قالت الأعرابُ آمنّا. قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبكم" (14:49). إنّ خطرَ الإنقسام بين المواطنين لا يكمن في الإيمان بل في التعصّب الدينيّ. لذلك فإنّ بناءَ الدول المعاصرة على أساس شرائع أحد الأديان في وطنٍ متعدّد الأديان هو سببٌ أساسيّ للتعصّب والتزمّت والتفرقة بين المواطنين، ومصدرٌ دائمٌ للنزاع والخصام فيما بينهم.
هذا ما آمن به الإمام موسى الصدر، رائدُ التعايش المسيحيّ الإسلاميّ وأوّل إمام مسلم يخطب في الكنائس وفي معاهد اللاهوت المسيحيّة. وما كان ذلك إلا رغبةً منه في تأكيد ضرورة العيش معاً بل التعاون بين المسلمين والمسيحيّين في وطن أراده موحَّداً ينعم فيه جميع مواطنيه، على تنوّع طوائفهم، بالحرّيّة والكرامة على أساس العدالة والمساواة والإنماء المتوازن بين جميع المناطق اللبنانيّة ورفع الحرمان عن جميع المحتاجين. وعندما كنّا نحن المسيحيّين ندعوه إلى التكلّم في كنائسنا ومعاهدنا، كنّا نعبّر بذلك نحن أيضاً عن رغبتنا في توطيد أواصر العيش المشترك والتعاون بين جميع اللبنانيّين.
في الختام أودّ أن أقرأ عليكم بعض ما جاء في النداء الذي ختمنا به سينودس الأساقفة الخاصّ بالشرق الأوسط في روما في تشرين الأول من العام الماضي. يقول النص:"منذ ظهور الإسلام في الشرق الأوسط في القرن السابع وإلى اليوم نعيش معاً ونتعاون في بناء حضارتنا المشتركة. لقد حصل في الماضي، وقد يحصل اليوم أيضاً، بعض الخلل في العلاقات بيننا. فعلينا، بالحوار، أن نزيلَ كلّ سوء فهم أو خلل. والحوار، كما يقول قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، ليس بيننا أمراً عابراً، بل هو ضرورة حيويّة يتعلّق بها مستقبلنا. فمن واجبنا تربية مؤمنينا على الحوار الدينيّ وعلى قبول التعدّديّة الدينيّة وعلى الاحترام والتقدير والمتبادَلين". ثم يُضيف: "نقول لمواطنينا المسلمين: إنّنا إخوة، والله يريدنا أن نحيا معاً، متّحدين في الإيمان بالله الواحد ووصيّة محبّة الله ومحبّة القريب. معاً سنعمل على بناء مجتمعات مدنيَة مبنيّة على المواطنة والحريّة الدينيّة وحرّيّة المعتقد. معاً سنتعاون على تعزيز العدل والسلام وحقوق الإنسان وقيم الحياة والعائلة. إنّ مسؤوليّتنا مشترَكة في بناء أوطاننا. نريد أن نقدّم للشرق والغرب نموذجاً للعيش المشترك بين أديان متعددة وللتعاون البنّاء بين حضارات متنوّعة لخير أوطاننا وخير البشريّة جمعاء"(رقم 9).
عشتم وعاش لبنان.