كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر حسن ممثلاً بالشيخ غسان الحلبي
ديناميات الحركة عند الإمام الصدر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، إلى يوم الدين.
إنه لمن الصواب المثمر أن يصار إلى مقاربة مسألة مفهوم التغيير عند الإمام الصدر من حيث هو كلي الحضور في حركة وجود الإنسان ذاتها، وليس من حيث هو مُدرك يتم تبنيه كنشاط حيوي. هذا يعني أن الإمام كان عاصفةً في إيمانه وفكره، في قلبه وفي عقله، أي في أنفاسه وحركاته من المبادرة في الحياة إلى الحياة وحتى غاية القصد.
إنسانٌ لا يعي فقط ذاته في اللحظة المضيئة للوجود، وإنما أيضاً هو يعي مغزاه في هذا المعطى الإلهي العظيم، ويعي أهميتها القصوى في محيطها، وناسه في محل الروح فيه.
يدرك أن الإنسان بطبيعته متحرك نحو الكمال"، وهذه الحركة إن لم تكن مستنارة بالهدي الرباني في معناه الصادق في نفسه فهي تحت خطر الإنزلاق إلى حركة الإنحدار في المسالك المسترذلة وعواقبها الوخيمة البغيضة في عين الحق.
لذلك، لم يحدد الإمام أفق الرؤية، بل رآه في بصيرته، في فطرته الإنسانية الحقيقية، وهي الإيمان بالله، مميِّزاً بين المعنى الحقيقي لالتزامات هذا الإيمان الروحية والاجتماعية والوجودية من ناحية، وبين المفهوم التجريدي من ناحية أخرى كما قال، يعني أن تعبد الله كأنك لا تراه، هذا إن لم يكن لك طيفاً من الأطياف. الحال الأول يفرض الحركة في الحق لتحقيق دلالاته، والثاني يضع الفرد في شبه غيبوبة عن ذات نفسه.
الحركة عنده إذاً ليست من الواجبات التكليفية، بل هي عين سلوك الإيمان في الزمن الراهن. روح هذه الحركة هي الوعي الذي عبر عنه الإمام بهذه الكلمة الجامعة: "نعيش حالة ضيم"، ولافت أن ننتبه إلى أن هذا التعبير صاعدُ من ألم الناس ولسان قلبها، وليس من منسوخ الكتب الذي يستعمل عادة كلمة "الظلم" (والضيم هو الظلم). إن الخروج من هذه الحالة التي يأباها الله تعالى لخلقه هو في حركة السعي من أجل رفعها عنه "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى". (النجم 39)
ولقد نبه الإمام إلى أن هذه الإندفاعة نحو التغيير يجب أن تبدأ من داخل الإنسان قبل الوثوب إلى الخارج على جهل من حقيقتنا داخل الصدور. "مشكلاتنا تبدأ من عند أنفسنا" يقول، والقصد أن تبدأ الحركة بك، في عملك وفي لسانك وفي قلبك وفي سيرتك. تضع مرآة الحق أمامك متسائلاً: "أهناك شبه بيني وبينه؟"، فإن لم يكن شبه، فإنه لا ينفعك الاتكال على الحق، وإن صار شبه، فتلك هي البداية.
هذا بدوره يضع "المناقبية والسلوكية" في مستوى الضرورة، بحيث إن الاستهتار بهما هو نقض لاحترام المرء لنفسه، وانزلاق في الآن عينه إلى نقيض المنطلق الإيماني عمليا، وهذا في حقيقته هدم للأساس، "فالممارسة العملية هي المقياس، كما ينبه الإمام، وليس الشكليات والمظاهر، لأن قيمة الشيء بحقيقته وجوهره، لا بظاهره وشكله".
أراد الإمام هذه الرؤية، بضوابطها التي تمد جذورها في المُثل الإيمانية، رسالة ترقى إلى مستوى "الدعوة العالمية"، لأنها إنسانية، على النقيض تماماً من الوقوع فريسة العصبية الطائفية التي يأباها الإمام بلا هوادة. ويؤكد بوضوح ساطع الإنفتاح على جميع الشعوب، وهو بهذا لايقطع في الدين مع سياق التطور، لأن "الفكر الديني المتطور هو القادر على نزع الصبغة الطائفية التعصبية عن الدين"، ويرى الإمام بنافذ بصيرته الحاجة إلى ما يسميه "ثورة تجريدية في عالم الأديان"، أي، وفقاً لرؤياه الإلتزام بالمثل وبالمبادىء الموحدة فوق كل انحياز ضيق الأفق إلى حزبية الطوائف والمذاهب. ويجب علينا هنا أن نلتقط الإشارة بأن قلب الإمام، هنا أكثر من أي مكان آخر، كان، كما يقال، "على لبنان"، بل كان اللبناني في الصميم، وفي القيمة الموضوعية لهذا الإلتزام، أراه يرقى فوق الميثاق الوطني ذاته، لأنه بمقام الروح فيه، فما ينفع الإنسان إذا ربح الميثاق وخسر وطنه نتيجة التحصن خلف أسوار الطوائف والعصبيات المذهبية؟
هل أردت ديناميات الحركة عند الإمام الصدر إلى استنفار مذهبي؟ على العكس تماماً من ذلك، أدت إلى استنهاض فكري عبَر عنه بيان المثقفين آنذاك (1974) لاستدراك المستقبل تحت عنوان لبناني في الصميم: حركة الإمام إنما هي حركة شعبية لبنانية ذات أبعاد وطنية عامة. سارع المثقفون إلى طرح الأفكار الجامعة التي تشكل نواة التفاعل الوطني البناء، ومن جهته، تلقى الإمام الطرح بعقله النير، ووضع السياق فوق عجلة لبنان الأفضل. لكن الحرب كانت بالمرصاد، ويد الطغاة البائدة كانت تتربص شراً.
طبعاً، كانت فلسطين في عمق الضمير، لم يقفز الإمام إليها قفزاً، رآها ببصيرة المؤمن وفراسة البصيرة، معركة حضاريةً طويلة الأمد، ذات بعد كياني ومصيري، لهذا، فمن المنطق القول بأن هذا الغضب الرشيد الكامن في دينامية حركته كان استشعاراً عميقاً لهول مأساة فلسطين والألم الجنوبي الذي كان مثل توأم لها آنذاك.
وأراني مندفعاً إلى القول بأن الإمام على وشك أن يقول لكل اللبنانيين اليوم: عودوا إلى الوراء كأنكم تتقدمون إلى أمام، ومن يقرأ "نداء التغيير" الذي تمت صياغته عام 1972، ومن ثم "ورقة العمل" عام 1977 التي تضمنت ملاحظات أساسية في بناء لبنان الجديد، لفقه هذا القول ومعناه. واسمحوا لي أن أقول بأنَ تلك النصوص تنحو المنجى الصادق في سياق التفاعل في رؤية وطنية متكاملة، لا على قياس تحالفات، ولا على وزن أوضاع سائدة، وإنما هي الرؤية التي تريد أن تتشبث بصخر الخلاص لا أقول خشبته. والرجاء أن يتفاعل المؤتمر في بحوثه في عمق هذه الرؤية ليظل الصوت عالياً لمن له أُذنان ولمن ألقى السمع وهو شهيد.