مفهوم المعاد

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد﴾ [آل عمران، 30]
﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون﴾ [فصلت، 21]

صدق الله العظيم
وفي هذه الحلقة، نتمكن من إلقاء الأضواء على المحاسبة الإلهية، وعلى مفهوم المعاد والجنة والنار في أبعادها العامة تاركين البحث في التفاصيل للعلم المختص بها. نتمكن من ذلك، بعد معرفة المعادلة القرآنية حول مساواة الإنسان لسعيه، وبعد التذكر للغاية من الموت والحياة، وغير ذلك مما أشير إليه في الحلقات الثلاث السابقة.
أولًا: إن العمل عندما يصدر عن الإنسان، يبقى في العالم دون فناء أو تقلص. يبقى بصورته الأصلية أو المتطورة، وينعكس على الإنسان لأنه صادر عنه، وأنه عاش العمل من خلال نيته، ومن خلال سعيه. وهذا هو مفهوم تسجيل العمل على الكتاب الذي يخرجه ربنا إليه منشورًا يوم القيامة، ومعنى شهادة الأيدي والأرجل والجلود؛ وهذا هو معنى إلزام الطائر في عنق الإنسان، وغير ذلك من التعبيرات التي نراها في هذه الآيات: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا * إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا﴾ [الإسراء، 13-14]، وقوله تعالى: ﴿حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون﴾ [فصلت، 20].
وهذا العمل أيضًا ينعكس على العالم، مهما كان العمل صغيرًا. فلا يمكن أن يحدث في الكون حادث إلا ويتفاعل وينعكس ويؤثر على مختلف الموجودات. وهذا أيضًا هو مفهوم تسجيل العمل في الكتاب، كتاب الكون الذي ورد في القرآن الكريم.
وبقاء الفعل لا يحتاج دركه إلى أكثر من دقة في الحقائق الكونية الثابتة التي اكتشفها العلم، ويؤكدها العقل والتجربة؛ يبقى العمل بعد صدوره بكمه وبنوعيته وبآثاره.
ثانيًا: إن هذه المساعي، والأعمال الصادرة عن الإنسان هي بمنزلة ترسيم تدريجي للوحة هي لوحة وجود الإنسان وحياته. فكل موقف منه هو بمنزلة ريشة تتحرك لترسم صورة، واللوحة في الحقيقة هي مجموعة الريشات المستعملة. أو قل إن الذات الإنسانية عدّاد يعد التحركات ويحفظها ويجسدها ويصونها خلال الزمن.
ثالثًا: والجزاء، هو معايشة الإنسان في الآخرة أعماله التي صدرت عنه في الحياة الدنيا وآثار هذه الأعمال. ومن الطبيعي أن صورة العمل في العالم الآخر تختلف عن صورته هنا. ولكنهما عن حقيقة واحدة يعبِّران وعن هذه الحقيقة يكشفان كالماء عندما يتجمد أو يتبخر.
فالإنسان في الآخرة يجد ما عمل من خير أو شر محضرًا، يعرفهما، ويميزهما بدقة، ويدرك مسؤوليته عنهما. وبالتعبير القرآني: ﴿كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا﴾ [الإسراء، 14].
والحقيقة أن العذاب والثواب هناك، هما خلاصة الأعمال والتصرفات الصادرة عن الإنسان، لا إنهما جزاء يختلف في النوعية والحقيقة عن الأعمال يحصل في عالمنا مثلها، مثلًا: السجن أو الغرامة للسارق، أو لكل من خالف قوانين السير. فالسجن والمال، حقيقتان تختلفان عن السرقة أو السير المخالف للقانون. بل العذاب هو صورة علوية، ملكوتية، للأعمال الصادرة عن الإنسان. ولعلنا نتمكن أن ندرك بدقة صورة كريهة للعمل السيىء الذي يصدر عن شخص في غطاء جميل. فلنفكر في اغتصاب حق، أو إيذاء بريء، أو كبرياء على الناس على المستويات العالية، ثم ندرك صورها الواقعية، وبشاعة تلك الصورة بشيء من الدقة. وهكذا نرى جانب الثواب وترابطه مع العمل الصالح في حياتنا هذه.
رابعًا: ومعنى ذلك، أن جزاء كل عمل حاصل مع العمل مباشرة ودون تأخير، وفي حال حصوله. ولكن حصوله في العالم، والغطاء الجميل الذي يغطيه، وظروف هذا العالم، ودوافع العمل، والمنافع الحاصلة منه، والغفلة، وغير ذلك تمنع رؤية حقيقة العمل، وبالتالي عن الجزاء. وحسب التعبير القرآني: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ [ق، 22].
فلندرك أن التحرك له من الأبعاد الخالدة والصور الباقية المتتابعة ما يجعلنا نفكر في المسؤولية الإلهية، وفي تأثير العمل على أنفسنا، أو على العالم. نفكر في ذلك كله طويلًا، قبل الإقدام على العمل.
وأخيرًا، نختم هذه الأمور بمثال، ولنتصور الفاكهة التي نضجت وهي كاملة أو معيوبة، لكي نتأكد أن سلامة هذه الفاكهة، أو عيبها، ليست وليدة يوم الحصاد، بل هي نتيجة سعي المزارع ساعة السقي أو عدمه، وساعة مكافحة الأمراض وخدمة الشجر أو تركهما. فالعيب أثر مباشر لكسل المزارع، ساعة السقي، أو وقت الكفاح للأمراض وغير ذلك، وليست وليدة الساعة الأخيرة.
وهكذا الجزاء، ليس نتيجة العمل والوضع يوم المعاد، بل هو أثر فعلنا في هذه الدنيا. فنحن هنا، إذ نتصرف نعيش فعلنا، ونعيش جزاء فعلنا، ولكننا في غفلة عن رؤية الجزاء دون العمل، وسنرى ذلك يوم القيامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

source
عدد مرات التشغيل : 2