لقاء النبي موسى مع الخضر

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فوجد عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدُنّا علمًا * قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلمنِ مما عُلِّمتَ رُشدًا * قال إنك لن تستطيع معيَ صبرًا * وكيف تصبر على ما لم تُحِطْ بـه خُبرًا * قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدث لك منه ذكرًا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معيَ صبرًا * قال لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسْرًا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلامًا فقتله قال أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرًا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يُضيّفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضَّ فأقامه قال لو شئت لاتّخذت عليه أجرًا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا﴾ [الكهف، 65 - 82]
صدق الله العظيم
هذه الآيات المباركة قسم من واقعة يشرحها القرآن الكريم بالتفصيل المناسب، لما في القصة من عِبَر ونتائج تربوية حياتية للإنسان المؤمن. في هذه الحادثة، النبي "موسى" (ع) يلتقي مع رجل صالح، يعبر عنه القرآن الكريم، بأنه ﴿عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا﴾. النبي "موسى" (ع) عندما يلتقي بهذا الرجل... والأحاديث تسمي هذا الرجل بأنه "الخضر" (ع) أحد الأنبياء؛ نحن في مصطلحنا الدارج، نسميه بـ"خضر"، وفي اللغات الأوروبية يُعبّر عن هذا القديس، عن هذا النبي بـ"جورج".
التقى "موسى" مع هذا الرجل، وطلب منه أن يعلمه مما علمه الله. هذا العبد الصالح، تأكيدًا لرغبة "موسى" في التعلم، وتحذيرًا لنفسه في القبول والإطاعة، قال له: ﴿إنك لن تستطيع معي صبرًا* وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا﴾. "موسى" المتعطش إلى العلم والمعرفة قال: ﴿ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا﴾. فذهبا معًا، فوجد "موسى" في طريقه تصرفات غريبة من الرجل. كانا في السفينة، فالعبد الصالح خرق السفينة، فاعترض "موسى" على هذا التصرف الغريب. ثم ذهبا فوجدا غلامًا فقتله الرجل الصالح، احتج على هذا الأمر -حسب المقاييس المتوفرة لدى "موسى"-، احتج بشدة على العبد الصالح، ولكن هذا رفض احتجاج "موسى" وطلب منه الصبر والاستمرار. وفي المرحلة الثالثة وصلا إلى قرية، رفض أهل القرية ضيافتهما، ولكن الرجل الصالح، رغم هذا الموقف وجد جدارًا يريد أن ينقض فأقامه. عند ذلك نفد صبر "موسى" واعترض عليه للمرة الثالثة.
فالعبد الصالح ذكر أن هذه التصرفات كانت لأسباب، وأنك لا تستطيع أن تسلك هذا السبيل طالما أنك في المستوى الموجود عندك من المعرفة. ثم شرح لـ"موسى" هذه الحوادث الثلاثة، فقال: ﴿أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا﴾، فالعيب كان لصيانة السفينة التي كانت تتعرض لمطامع الملك. والغلام كان منحرفًا، وكان يشكل اعتداء خطرًا أو على حد التعبير القرآني: ﴿طغيانًا وكفرًا﴾ على والديه المؤمنين. و﴿الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا﴾، ﴿فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك﴾. ثم أضاف أن كل ما عملت خلال هذه الفترة، ﴿ما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا﴾.
هذه الحادثة تعطي توجيهات معينة ومواقف واضحة، نذكر ما يساعدنا الوقت والانطباعات السريعة والمدروسة خلال هذه الآيات المباركات:
أولًا، النبي "موسى"، رغم مما أنعم الله عليه من العلم، وجد أن فوقه عَالِمٌ وعارف، فـ﴿فوق كل ذي علم عليم﴾ [يوسف، 76]. وهذا يعني أن الإنسان، مهما بلغ من العلم، فهو لم يزل بحاجة إلى التعلم. يقول أحد الباحثين أن علم الإنسانية كله أشبه شيء بكرة من النور في فضاء لامتناهٍ من الظلام، فكلما زاد علم الإنسان أو الإنسانية اتسعت الكرة، وباتساع الكرة تلمس السطح الخارجي للكرة، بحجم أكبر من الظلام. فالإنسان عندما يتقدم في العلم يشعر بجهل أكثر. ولذلك، من ميزات العلم التواضع؛ والمغرور ليس بعالم لأنه يجهل. ويقول أحد المربين العرفاء: بأني وصلت من العلم درجة، حتى علمت أنني لا أعلم شيئًا. النبي "موسى" رباه ربه فكان متواضعًا، عندما وجد رجلًا أفضل منه تمسك به وطلب منه المعرفة.
النقطة الثانية، إن تصرف النبي "موسى"، كان منسجمًا مع القواعد والأسس التي كان مكلفًا بها، ولم يكن من الممكن للنبي "موسى" أن يتجاوز هذه الأسس. هذه الأسس والقواعد واجبات للناس في مستوى معين من المعرفة. فكان مثلًا يستغرب خرق السفينة، استنادًا إلى المبدأ العام أن السفينة ملك للناس ولا يجوز لأحد أن يخرقها. ولكن العبد الصالح الذي يذكره القرآن بمدح وبالتالي يمضي في تصرفاته، هذا الرجل كان مطلعًا بمسائل أخرى، وبمقدار اطلاعه في المسائل كانت مسؤوليته أكثر وأكبر، وكان يتصرف على ضوء مسؤوليته. وهذا الموقف يتكرر في قضية قتل الغلام وبناء الجدار.
وهذا الحوار يؤكد أن مسؤولية الإنسان بمقدار وعيه ومعرفته. وهذا مبدأ اجتماعي أساسي يجب أن يتبع. فالإنسان ليس مكلفًا حسب مركزه أو انتمائه أو مستواه الاجتماعي، بل المسؤولية بمقدار الوعي؛ لأن كل ما يملكه الإنسان أمانة من الله لديه. فإذا كان واعيًا فعليه أن يضع نعمة الله، وهي إمكاناته المتوفرة لديه في خدمة الله، أي في خدمة الإنسان.
إذًا، النبي "موسى" كان مكلفًا بمقدار معرفته، مسؤولًا عن مدى وعيه، والرجل الصالح كان مكلفًا أكثر، لأن وعيه ومعرفته كانت أكثر، وكان مسؤولًا لو لم يفعل ما فعل. إذًا، المسؤولية تساوي الوعي. وهذا المبدأ علينا أن نأخذه بعين الاعتبار، في دراساتنا الاجتماعية، وفي مسؤولياتنا الإنسانية والوطنية والدينية. وفي الدين تعاليم تؤكد على هذا المبدأ. ففي الحديث الشريف أن "حسنات الأبرار سيئات المقربين"[1]. الإنسان الصالح قد يتصرف تصرفًا يتناسب مع وعيه، ولكن المقرب إلى الله أي الذي هو أرفع منه شأنًا ووعيًا، إذا تصرف بمثل هذا التصرف قد يكون مسؤولًا.
وهذا هو التفسير لما نشاهد  في الأدعية الواردة عن الأئمة الأطهار آل البيت (ع)، بل الأدعية التي وردت عن الرسول الكريم (ص)، عندما نشاهدهم يجزعون من العذاب، ويتوسلون إلى الله، لأجل المغفرة ويبدون تخوفهم من النار. لا أعتقد أن هذه الأدعية لأجل التربية، ونحن نؤمن بعصمتهم، ولكن الحقيقة أنهم هم كانوا معصومين عن الذنب، ولكن هناك تصرفات لا تعد من الذنب، ولكنها مسؤولية الإنسان الواعي بمستوى النبي، أو بمستوى الأئمة. لذلك، عندما كانوا يشعرون بمسؤوليتهم القصوى، كانوا يتخوفون من التقصير.
وهكذا ننتقل إلى السلم الاجتماعي. فالإنسان العادي مسؤوليته محدودة، ولكن كلما زاد عمله وإمكاناته وكفاءاته، زادت مسؤولياته إذا كان واعيًا لهذه الكفاءات والإمكانات. فالمطلوب من الحاكم، أو من الشخصية المسؤولة، أو من القائد أكثر مما هو المطلوب من الإنسان العادي. ولذلك، يعد الحديث الشريف المتواتر، أن المسؤول إذا شعر أنه ليس قادرًا على تحمل مسؤولياته، فعليه أن يترك وإلا فهو يعصي الله عصيانًا كبيرًا، لأنه يعطل على الناس قيادة رشيدة.
نسأل الله أن نكون عند حسن ظن ربنا الذي أنعم علينا بالكفاءات، وأن نؤدي واجبنا في كل مجال. وفي هذه الآيات مطالب أخرى، وتوجيهات كثيرة، ولكن الوقت مع الأسف لا يساعدنا على ذلك.
نسأل الله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________________________

[1] بحار الأنوار، ج11، ص256.

source
عدد مرات التشغيل : 2