الإمام الصدر... رؤية ثاقبة في زمن الإفلاس الاقتصادي

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
calendar icon 11 كانون الثاني 2017 الكاتب:الدكتور علي الخطيب

* استاذ في الجامعة اللبنانية- كلية العلوم الاقتصادية وادارة الاعمال
بسم الله الرحمن الرحيم

 والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المصطفى وآله.Abhath_Fil_Iqtisad_imam_musa_sadr
إنّ الإحاطة بفكر الإمام السيد موسى الصدر بالنسبة لشخص مثلي كنملة تحمل التراب من جبل إلى سهل لتغيّر موقع الجبل. إلا أنه ما لا يدرك كلّه لا يُترك جلّه.
في المرحلة الأخيرة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 حفلت الأدبيات الاقتصادية بالحديث عن أن الاقتصاد ليس علمًا أو أنّ علم الاقتصاد أكاذيب أو تخمينات أو وجهات نظر فيها نظر1 (Les mensonges de l’économie) (كذب الاقتصاديون ولو صدقوا)2 ، وقال غالبريت أنه أمضى 70 سنة في تعليم الاقتصاد بالجامعات الأميركية ووصل إلى نتيجة أن الوقائع تكذِّب ما يقوله الاقتصاديون. هنا نكتشف أهمية الرؤية الثاقبة للإمام السيد موسى الصدر الذي توقّع إفلاس الفكر الاقتصادي الاشتراكي والرأسمالي أمام الحقيقة قبل الكلام أعلاه بـ 50 سنة. فقد فنَّد أسس التفكير الماركسي والفكر الرأسمالي، وبيّن أنّ خطّ الأنبياء والأولياء يحتوي مذهبًا اقتصاديًا، بعيدًا عن الأكاذيب والتخمينات، إنما هو صادر عن الله سبحانه وتعالى ﴿إن هو إلا وحيٌ يوحى﴾ [النجم، 4] وعن الأنبياء والأولياء والمعصومين. وإذا كانت الأفكار الاقتصادية المعاصرة وُلِدت في ظل الحضارة المادية والحيوانية والعدوانية، فإنّ تغيّر هذه الحضارة من منكرة ومتنكّرة لله إلى حضارة مؤمنة3 بالله كفيل بتغيّر الأفكار الاقتصادية. وهنا تصح أفكار الإمام الصدر التي ذكرها منذ 50 عامًا، هي الخطوط العريضة التي تسكن مستقبلنا وتشدُّ إليها أفكار الماضي الماركسي والرأسمالي.
فأفكار الإمام الصدر نابعة من أربعة مصادر تشكّل ضمانة صحتها: الوحي والسنة والتجربة والعقل والشهود4 فهو المجتهد الرباني. ولقد تمكّنت هذه الأفكار نتيجة واقعيتها وصحتها، من نقل اللبنانيين المحرومين إلى قوة قهرت الصهيونية العالمية التي كانت تمسك بالقرار العالمي، وتتّسم بأنها القوة الوحيدة في هذا العالم، والتي لا تُقهر 5(La fin du monde unique)
واعترف كثيرون أنه لم يعد الغرب وحده يقرر مصير العالم اليوم 6(Nous ne sommes plus seuls au monde) وكلّه بفضل انتصار المقاومة التي أسسها الإمام على الكيان الصهيوني.
 عقد الإمام في أبحاثه مقارنة بين الأنظمة الاقتصادية الثلاثة:
الماركسي والرأسمالي والإسلامي، وبيّن أن النظام الماركسي عادل في التوزيع، غير كفؤ بالإنتاج، وأن النظام الرأسمالي كفؤ بالإنتاج ظالم في التوزيع، وأنّ النظام الإسلامي كفؤ بالإنتاج وعادل في التوزيع.
وبيّنت الأيام والتجارب سقوط النظام الماركسي لعدم كفاءته، وترنّح النظام الرأسمالي لظلمه. وإننا نترقّب في القريب إن شاء الله ولادة النظام الاقتصادي العالمي العادل والكفؤ الذي يقوم على الإيمان بالله والإيمان بالإنسان7.
فهذه الدولة الإيرانية التي وصف الإمام الصدر ثورتها بنداء الأنبياء، تمكنت إلى الآن من تغيير نظام القيم العالمي بنقله من نظام قائم على حب القوة إلى نظام قائم على قوة الحب؛ حب الإنسان، حب الطبيعة، حب الله سبحانه، بعد أن قتلوا الإنسان بحروب متواصلة، ودمّروا الطبيعة وأنكروا الله وتنكّروا له.
وإنّ أهم ما امتاز به السيد الإمام شموليته الإنسانية، فقد ابتكر مفهومًا جديدًا للتنمية التكاملية، وهي نقل كل إنسان وكل الإنسان من النقص إلى الكمال.
وقد جمع في هذا المفهوم كل تجارب الأنبياء والأولياء، خاصة المسيح ومحمد وعلي (عليهم السلام)، فالمسيح (ع) يقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، والنبي (ص) يقول: لولا الخبز لما صمنا ولا صلّينا" أي إنّ للإنسان حاجات مادية ومعنوية فكما يجب تلبية الحاجات المادية للإنسان، يجب تلبية حاجاته المعنوية أيضًا. وهذا الأمر مفقود في الحضارة المادية أيام الإمام موسى الصدر، عندما ساد المشروع الغربي على العالم. حيث قال الفيلسوف الفرنسي Malraux مالرو أنّ الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة في التاريخ تسأل الفرد فيها: ما معنى حياتك؟ يقول: لا أدري!
أما علي (ع) فقد قالت دراسة للأمم المتحدة سنة 2002 أنّ نص عهد الأشتر8 هو أهم نصّ للحكم الصالح في التاريخ9.
وقد كان الإمام موسى الصدر منسجمًا مع ذاته يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، عكس الكثيرين الذين يقولون ما لا يفعلون.
مصداقيته وشفافيته كانت في الصلاة كما في الندوات، في الصلاة يقرأ ﴿أرأيت الذي يكذّب بالدين* فذلك الذي يدعُّ اليتيم* ولا يحضّ على طعام المسكين﴾ [الماعون، 1-3]. وفي الحياة العامة حشد الناس وخطب بهم ونظّمهم من أجل اقتلاع الحرمان ومحاربة الفقر والمرض والجهل، مؤسّسًا حركة المحرومين10.
وتعجّ اليوم ساحات العالم بالحرمان وعدم المساواة، حيث ذكر أحدهم أنّ 85 مليارديرًا يملكون ما يملكه 3.7 مليار إنسان11. هذا في العالم، أما في لبنان فثلث اللبنانيين فقراء محرومون. وأنّ القطاع المصرفي يجني أرباحًا سنوية جمّة حيث تملك 11 عائلة 85% من إيداعات البنوك. وهذا ما حذَّر منه الإمام الصدر حين حدّد في ميثاق الحركة رؤيته الاقتصادية لمشروعه في لبنان: "ترفض الحركة الظلم الاقتصادي وأسبابه من احتكار واستثمار الإنسان لأخيه الإنسان وتحويل المواطن إلى المستهلك والمجتمع إلى تجمع المستهلكين، وحصر النشاطات الاقتصادية في أعمال الربا والتحول إلى سوق للإنتاج العالمي".
لقد آمن الإمام الصدر بالتخطيط والعمل المؤسسي، كان واثق الخطوة، يثق بالله سبحانه وتعالى وحسن الظنّ بالناس، صاحب يقين وعقل وقلب وبصيرة، عظُم الخالق عنده فصغر ما دونه بنظره. لقد شكّل مع علماء زمانه لا سيّما الإمام الراحل روح الله الخميني (قدس سره) والإمام السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) وغيرهما كثيرين من البطريرك خريش إلى البابا بولس السادس إلى باباخانوف إلى مالك بن نبي وغريغوار حداد ويواكيم مبارك وغيرهم من الروحانيين الضوء الذي ينقل الناس من الظلمات إلى النور.
سيبقى مخطط الإمام الصدر حاضرًا في مواجهة الطغاة، حتى تُملأ الأرض قسطًا وعدلًا وحتى لا يبقى فيها محروم واحد.
__________________________________

1- John Kenneth Galbraith, les mensonges de l’économie, Bernard Grasset, Paris 2004.
2- Business Week الطبعة العربية أيار 2009، كذب الاقتصاديون ولو صدقوا، حيث تخصص ملفًّا للأزمة الاقتصادية، وكيف أنّ كثيرين ممن نالوا جائزة نوبل للاقتصاد لم يتوقّعوا الأزمة وكيف أنهم لا يتفقون جميعًا على حلّ لها.
3- 
ذكرت مجلة Science et vie في أحد أعدادها أن هناك 6 مليارات إنسان اليوم في العالم مؤمن بالله،
Science et vie, Hors-série, Dieu et la science, Décembre 2013 p.66
4- 
 إنه الواصل إلى الحق والحقيقة والذي أوصل غيره إليها، إنه كامل مكمِّل.
5-
 Bertrand Badie et Dominique Vidal, L’état du monde 2011, la Découverte, Paris 2010.
6- 
Bertrand Badie, la Découverte, Paris 2016.
7-  ﴿وَلّوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا واتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَاَخَذْنَاهُم بِما كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف، 96].
8- 
 البرنامج الذي أعطاه الإمام علي "ع" لمالك الأشتر واليه على مصر كي يحكم ذاك البلد على ضوئه. وفي حكومة علي (ع) لم يبقَ أحد إلا ناعمً  وكان يأكل من البرّ، ويستظل من الحرّ، ويشرب من ماء الفرات حسب أحمد بن حنبل، أي أن كل الناس كانت حاجياتهم الأساسية مؤمّنة، وقد رشّوا الحبَّ في البراري ليشبع الطير كما شبع بنو آدم في عهد علي (ع).
9- 
أنظر الصحيح من سيرة الإمام علي (ع) للمحقق السيد جعفر مرتضى العاملي.
10- 
 د. صادق النابلسي، قيام طائفة... أمّة موسى الصدر، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ط1، 2014م (أطروحة دكتوراه).
11- 
Joseph E. Stiglitz, La Grande Fracture, les sociétés inégalitaires et ce que nous pouvons faire pour les changer LLL paris 2015.
كذلك تهيمن 147 شركة متعددة الجنسيات على الاقتصاد العالمي، انظر:
147sociétés dominent l’économie mondiale, problèmes économiques n◦ :3130 deuxième quinzaine de Mars 2016. Les multinationales au XXIe siècle, p : 5.

source