"اجتمعنا من أجل الإنسان ... الذي كانت من أجله الأديان"
عظة الصيام للإمام السيد موسى الصدر
كنيسة الآباء الكبوشيين في بيروت، 18 شباط 1975
قداسة البابا،
في 21 حزيران 1963 شهد هذا الصرح المقدس حدثَا أقلّ ما يوصف به أنه استثنائي - أول عالم دين مسلم يحظى بشرف حضور مراسم تتويج قداسة البابا بولس السادس. لماذا اختيار الإمام الصدر دون غيره؟
سؤال يُخلّف وراءه ألف سؤال مثله، ولعلّ بعضًا من الإجابة يكمن في هذه الرؤية البابوية كأنها قراءة للمستقبل حين توسمت في شخصية الإمام السيد موسى الصدر القدرة على أن يكون من رجالات الله في خدمة الإنسان في لبنان. والواقع أن هذه الرؤية لم تخطئ أبدًا، ففي 18 شباط 1975، وبمناسبة الصوم الكبير، كان اللبنانيون على موعد مع مشهد مهيب: إمام في كنيسة في لبنان وعلى مذبحها مصلٍّ وواعظ. صلاة الإنسان مع نفسه، وصلاة الإنسان مع الله؛ في كنيسة الآباء الكبوشيين وبمناسبة الصوم الكبير، تكلّم الإمام الصدر عن الأديان ووحدتها، وعن الإيمان، وعن الإنسان - أمانة الله على الأرض - الذي يجب أن يكون الاجتماع دائمًا من أجله. كانت تلك لحظة إنسانية إستثنائية أغنتْ التجربة اللبنانية في التعايش، وأثبتت أن لبنان متميز بتجربته الذي يجب ان تكون نموذجا للعالم يقتدى بها كقيمة إنسانية حضارية. كان موقفًا من سلسلة مواقف تسم سيرة الرجل ومسيرته.
شرف عظيم جدا لنا، كعائلة الإمام الصدر، أن يتكرّم قداستكم بمنحنا هذه الفرصة العظيمة لعرض قضيتنا قضية الإمام الصدر الذي نذر نفسه لنصرة الضعفاء وضحّى بحرّيته قربانًا لكرامة الإنسان في كلّ مكان.
ولعلّه توفيق ربّاني أن نجتمع بكم ظهيرة يوم جمعة أي على مسافة دقائق من صلاة الجمعة وهي من أقدس الشعائر عند المسلمين؛ كما نحن على مسافة أيام من الصوم الكبير للمسيحيين الذي ما إن ينتهي حتى يبدأ صوم شهر رمضان عند المسلمين. أيضًا لم تمضِ سوى أيام على لقائكم التاريخي مع شيخ الأزهر في الإمارات العربية المتحدة وإعلانكما عن وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك.
في العاشر من أيار 1997، زار قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لبنان، وأعلن في الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" بأن لبنان هو أكثر من وطن، إنّه رسالة. وهذا ما كان الإمام يؤكد عليه بقوله "إن رسالة اللبنانيين في التعايش، ولبنان أمانة الله". وفي مطلع شباط 2019، أي منذ أيام فقط، يقرّر الحبر الأعظم أن يبعث برسالته في المحبّة والسلام والأخوة من شبه الجزيرة العربيّة؛ من ضفاف الأرض التي سعى منها الرسل والأنبياء مع بزوغ التاريخ، ضفاف الأرض التي يتعذّب أهلها وتتشلّع مجتمعاتها مع بداية القرن الـ 21. بين هذا وذاك سجلّ زاخر بالإنجازات والإخفاقات، وهو ما تطرّقت إليه وثيقة الأخوة الإنسانية بشمولية وشجاعة.
لم يُتحْ للإمام الصدر أن يكون حاضرًا في أحداث السنوات الأربعين المنصرمة بفعل جريمة تغييبه وإخفائه القسري. لكنّ أفكاره الاجتماعية ومنظومة القيم التي دعا إلى إرسائها في المجتمع ما تزال منارات مضيئة في ظلمات الأصوليّات التكفيرية التي تعيث فسادًا وإجرامًا في منطقة الشرق الأوسط والعالم. وجهوده لإعادة الاعتبار إلى الإنسان وكرامته وحقوقه تستحق التمحيص في مجتمعات الشرق، مهبط الوحي والرسالات السماوية ومرتع الرسل والأنبياء. وفي لبنان هذا البلد الحاضن لمختلف الأديان، والواحة النموذجية لتعايش المذاهب الدينية، كان الإمام الصدر دائمًا ما يستعين بإخوانه في الدين لشدّ أزره في حماية الوطن من العنف، فيقول:
"أما مواقف قداسة البابا، فكم مرة ترجمتها صلواته العميقة، من أجل لبنان، وكم مرة عبّرت عنها نداءاته الحارة المتقابلة بصلوات ومناشدات كبار علماء المسلمين. هذه الفرص النادرة، وهذه الطاقات المتوافرة المتوجة بعناية الله العظيم الذي وعدنا بنصره، إن نصرنا عبده الإنسان، المواطن المحروم. هذه كلها، أليست جبهة ثابتة الدعائم، ضاربة الجذور، واصلة الماضي بالمستقبل مقربة الأرض من عرش السماء؟"
نقول، لو كان حاضرًا معنا اليوم، لكان توأمًا لكلّ صوت يُرفع في سبيل خدمة الإنسان، مثل قداستكم.
نودّ التركيز أمام قداستكم على قضية أساسية واحدة من القضايا التي شغلت الامام ولكنها متشعبة الطروحات.
لعلّ أفظع نكبات الشرق في العقود الأخيرة هي خسارته لمسيحييه. هجرتهم القسريّة من العراق وسوريا، والنزف المزمن في بقيّة دول المنطقة. ولعلّه كان الهمّ الأكبر الذي أرّق الإمام الصدر طوال سنوات نضاله. وكان قد قرأ هوية لبنان الثقافية والاجتماعية والتاريخية، فخرج بخلاصة قيّمة هي أن لبنان وارث المسيح وحاضن تراث القرآن الكريم ووطن التعايش التاريخي بين أبنائه وأديانهم وبلد التعاطف بين المسلمين والمسيحيين. ذكّر الإمام الصدر بأصالة الوجود المسيحي في لبنان والشرق، كما بيّن دورهم التاريخي الحضاري. هو يقول: "أليس بفضلهم سمّي لبنان نافذة الحضارة المشرقيّة-المغربيّة؟ ألم يرحلوا إلى الغرب بأعمق ما في روحانية الشرق، ويقفلوا إلى الشرق بأجدى ما في تجارب الغرب؟"
واليوم، هل من باب للرجاء؟ هجرة مسيحيي الشرق نقمة عليه، فهل تكون نعمة للحضارة البشرية؟ نتحدث عن ملايين المسيحيين المشرقيين المنتشرين عبر العالم، أي نتحدث عن ملايين الرسل المُحمّلين بمضامين ثقافية وتواصلية وإبداعية يختزنون إرث الشرق وثقافته، وهم اجتازوا الحاجز الثقافي مع الغرب، تمامًا كما يسهل إعفاؤهم من الوصمة الفحص التي تسِمُ -الآن- كلّ مشرقي مسلم. وهذه المؤهلات تلقي على عاتقهم المهمّة النبيلة في إعادة سكان الأرض إلى رشدهم.
كي يتحوّل هذا الحلم إلى حقيقة، يحتاج إلى البيئة المؤاتية في الشرق كما في الغرب. وقد وجدنا المفردات الأساسية لهذه البيئة في وثيقة "الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، والله ندعو أن يُكتب لها النجاح.
قداستكم،
الوفد الزائر لمقامكم يتشكّل من أسرة الإمام الصدر وترأسه شقيقته السيدة رباب الصدر التي نذرت حياتها للنضال في سبيل ما آمن به الإمام المغيّب: نصرة المتعبين والمحرومين، رعاية اليتيمات، مداواة المرضى، تمكين المرأة، التعليم للجميع، نشر رسالة التسامح، حفظ لبنان الرسالة، والدفاع عن قيم التسامح والسلام والحرية والعدالة.
في 25 آب 1978، لبّى الإمام الصدر وأخواه رفيقا دربه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين دعوة رسمية من ليبيا، وانقطع الاتصال بهم في 31 آب 1978 بعد لقائهم معمر القذافي. هذا الانقطاع التعسفي لمسيرة الرجل ما كان ليحدث لولا معتقداته ومسيرته ونشاطه السلمي. رؤيته للإنسان وعلاقته بالله، إيمانه بأخيه في الدين والوطن، رسالته في الحياة التي أودت بحرّيته وحريّة أخويه.
لقد جزمت جميع التحقيقات الرسمية اللبنانية والإيطالية، والقرارات القضائية الإيطالية التي صدرت في الأعوام 1979، 1982 و2015 بعدم خروجهم من ليبيا، كما اعترف بذلك القذافي في خطاب علني في العام 2002، وثمّ أكّدت السلطات الليبية المتعاقبة ذلك، وآخرها في مذكرة تفاهم رسمية لبنانية-ليبية في العام 2014، ولكنهم لم يُحركوا ساكنًا لتنفيذ المذكرة ولا الوعود ولا حتى مساعدتنا في الوصول إلى الإمام وأخويه وتحريرهم.
من قرّر إخفاء الإمام الصدر من المشهد هم حفنة مستبدّين. عاقبوه على احترامه لحق الاختلاف ونشاطه الدؤوب لصون كرامة الإنسان وحقه في التمايز والتواصل. ومن يستطيع إعادة الإمام الصدر إلى المشهد هم المناضلون في سبيل الحريّة والكرامة والعدل. إن نضالنا في متابعة قضية إخفائهم القسري وحتى تحريرهم هي من صميم إيماننا وواجبنا الإنساني والديني. ومن هنا، من الصرح الذي استقبله منذ 56 عامًا جئناكم طالبين دعائكم ودعمكم لقضية تحرير الإمام الصدر وأخويه، وإننا لعلى ثقة إنما تدعمون بذلك قضايا الحق والعدالة والإنسان التي عهدناكم تنصرونها.
نشكر قداستكم على فرصة اللقاء والإصغاء إلى مطلبنا.