الفيل

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرًا أبابيل * ترميهم بحجارةٍ من سجيل * فجعلهم كعصفٍ مأكول﴾ [الفيل]
صدق الله العظيم
هذه السورة المباركة تتحدث عن واقعة الفيل، وهي واقعة معروفة لدى العرب أجمع، حتى إنهم جعلوها بداية تاريخهم. وفي الآثار الإسلامية أن ولادة الرسول الأكرم صادفت هذه السنة أيضًا. وعلى كل حال، فعلينا أن نتذكر أن الخلاف بين الحبشة وبين الجزيرة، كان من قديم الزمن جاريًا، على طرفي البحر الأحمر. فكان في بعض الأحيان حكام الحبشة يسيطرون على الطرف الآخر من البحر الأحمر، وقد يمر بعض الوقت ويصبح التسلط لحكام اليمن على الطرف الآخر من البحر.
في هذه الفترة كانت الحبشة مسيطرة على اليمن، وكان يحكم اليمن حاكم حبشي يسمى "أبرهة". جعل في اليمن حكمًا واسعًا نافذًا يريد أن يسيطر على أرجاء الجزيرة. وجد أن مكانة الكعبة عند العرب مكانة كبيرة تجتذب الزوار والحجاج فتخلق للعرب في خارج اليمن مكانة اقتصادية واجتماعية وثقافية. وحاول أبرهة أن ينافس الكعبة، فبنى في اليمن معبدًا، وحاول منع العرب من زيارة الكعبة، لأنه كان يدرك أن الكعبة رمز وحدة العرب وقوتهم، ونشاط تجارتهم وإمكانية تحولهم الثقافي. وعندما لم ينجح في منع الناس من زيارة الكعبة، حاول أن يهدم الكعبة. فبعث لقريش رسلًا، وأكد لهم أنه لا يقصدهم بل إنما يقصد هدم الكعبة. ومع ذلك فإنه وجد في طريقه صعوبات واصطدامات ووقفات من القبائل العربية التي كانت ترى اعتداءً صارخًا من حاكم اليمن الأجنبي على كعبتهم وقبلتهم.
اقترب "أبرهة" من مكة، وبدأ جيشه ينهب أموال المكيين، وفي الجملة نهب عددًا من الإبل لسيد قريش "عبد المطلب"، وهو جد الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. راجعه "عبد المطلب" بخصوص الإبل، ولم يراجعه لمنعه عن هدم الكعبة، وعندما سأله "أبرهة"، قال: " أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه".
هذه الثقة الكلية، أدخلت الضعف في نفس "أبرهة"، فـ"أبرهة" بتردده حاول أن يعود، ولكنه لم يتمكن من العودة بسبب نصيحة أصحابه، وبسبب الخوف على جيشه وهزيمته في اليمن أخيرًا. في هذا الوقت، ورغم وجود الصعوبات في الطريق، حاول أن يدخل فامتنع بعض الأفيال من الدخول إلى المسجد الحرام. ولكنه أصر على الدخول فشاهد الناس - جميع الناس - أعدادًا كبيرة من الطير، فئات ففئات، هذا القسم الذي يسميه القرآن الكريم بالأبابيل، فئة إثر فئة، ومجموعة إثر مجموعة. وكان الطير حاملًا حجارة من سجيل. والسجيل عبارة عن صخور صغار تتكون من تركيب الطين مع الرمال. جاء الطير بصورة مجموعات ووقف وطار فوق رأس جيش "أبرهة" ورمت المجموعات ما عندها من الأحجار، فقضت على جيش أبرهة.
ومن الطبيعي أننا إذا نظرنا إلى العدد الكبير من الطير، وإلى الكميات الكثيرة من الأحجار التي تحملها مئات الألوف أو الملايين من الطير، لا نستغرب الحادثة. لعلكم شاهدتم مرات هجوم الجراد على البساتين وعلى المدن وعلى المزارع. فالجراد صغير وطاقته قليلة فعندما تأتي موجات الجراد بالملايين تقضي على الحرث والنسل والشجر والزرع وكل شيء. وهكذا عندما كانت الأعداد الكبيرة من الطير، تمر وتحمل أحجارًا صغيرة، أو تحمل ما لصق بأقدام الطيور من التراب المختلط بالرمال، فترمي هذه المواد بكميات كبيرة على الجيش والفيل، من الطبيعي أن تجعله كعصف مأكول.
وعلى كل حال، فالسورة تنقل صورة واضحة مرت على تاريخ العرب. وشاهدها الكثير من الناس، وجعلوها بداية تاريخهم واعتزوا بالحادثة، واعتبروها حماية من الله سبحانه وتعالى لكعبتهم، ولقبلتهم، ولحماية أرزاقهم، ومجدهم وكرامتهم.

وللآية والسورة معانٍ أخرى، وتحدث عن المعاني الأخرى بعض أصحاب المدرسة العلمية في التفسير، سنتحدث فيها في الحلقة القادمة بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد تحدثنا في المعنى الواضح من الآية الكريمة والسورة المباركة وهنا نستعرض بعض ما قاله أصحاب المدرسة العلمية في التفسير وفي طليعتهم الإمام "محمد عبده" وغيره من تلامذته أنهم يحاولون أن يحللوا هذه السورة المباركة وهذه الآيات تحليلًا علميًا فيجعلونها حادثة طبيعية ويستندون في ذلك إلى ما ورد في انتشار الأمراض والجدري في سنة الفيل، في عام الفيل في مكة المكرمة.
يقول الإمام "محمد عبده" أن الطير قد يكون المقصود به بعض الميكروبات والجراثيم الطائرة. الأشياء والموجودات التي لا تُرى ولكنها تحمل الجراثيم والأمراض والأوبئة، فعصفت موجة من الأوبئة على جيش "أبرهة" وجعلت أفراد هذا الجيش مرضى بمرض الجدري الصعب فتناثرت لحومهم وتقطعت أعضاؤهم وأجسادهم فماتوا في الغالب وهربوا من حول الكعبة، وبذلك انتصر الله وسبحانه وتعالى وهو صاحب النصر على المعتدين على الكعبة. والحقيقة أن هذه الرؤية بإمكاننا أن نناقش فيها رغم احترامنا الكبير للإمام "محمد عبده" وابتكاراته وأفكاره وتأثيره في تاريخ الثقافة الإسلامية الحديثة.
أولًا: عام الفيل لم يكن يبتعد عن تاريخ نزول هذه السورة المباركة إلا أقل من ثلاثة وخمسين عامًا ففي حال نزول هذه السورة المباركة كان الكثير من الناس من الذين شاهدوا حدث الفيل أحياء يرزقون، وكانوا شاهدين وشاهدوا القصة بوضوح. ثم أن الحادثة انتشرت بين العرب وكانت معروفة لديهم.
من جهة أخرى عندما يكون السبب في هزيمة أصحاب الفيل الجدري أو الجراثيم أو الميكروبات التي لا تُرى، إذًا، عندما يقول القرآن ﴿وأرسل عليهم طيرًا﴾ والعرب لم يشاهدوا الطيور أبدًا فبإمكانهم أن يناقشوا وأن يكذبوا، ونحن نعلم أن القرآن كان يتحدى العرب، وأن الكثيرين من العرب كانوا ينتظرون عثرة أو غلطة في الآيات الكريمة حتى يردوا التحدي وينكروا صدق الرسالة.
فلو كانت الصورة التي ينقلها القرآن غير الصورة التي هي أمام الناس وأمام أعين الناس لما أمكن تصديق هؤلاء الناس لما حدث، وخاصة أن القرآن الكريم يقول: ﴿ألم ترَ﴾ وكأنه يستشهد الناس.
ومن جهة أخرى إذا أردنا أن نضع صورة طبيعية لا استثنائية للحادث فكيف يمكن أن نتصور أن مرض الجدري أو أي مرض آخر يأتي فيعصف بفئة من الناس دون فئة أخرى، وبفرقة منهم على الإطلاق دون أن يصيب أحدًا من أبناء مكة، وكيف يمكن لهذا المرض أنه خلال لحظات يقضي على الناس الذين يحاولون هدم الكعبة فيجعلهم كعصف مأكول دون أن يؤثر في الآخرين أبدًا، أو دون أن يحرضهم بإنهاء مهمتهم ثم الإستسلام للمرض؟
مسائل لا يمكن قبولها. وعلى كل حال فبإمكاننا أن ننتبه الى أن كثرة الطيور وكثرة عدد الرمال والكميات التي تسكب على رؤوس الناس تخفف الاستغراب والدهشة من الحادثة، فكما ذكرنا عندما نشاهد أن الجراد يعصف بالمزارع فلا يمكن أن نستغرب أن الطير بكميات كبيرة خاصة أنها تطير من فوق الأرض التي فيها الرمال البحرية بكثرة، إذ أننا نعرف أن مكة المكرمة تبتعد عن ساحل البحر عشرات الكيلو مترات. إذًا، وجود الطيور الكثيرة على هذه الأرض ومع وجود المطر يجعل أن كميات من الرمال المتجمدة في أقدام الطيور وفي أجنحتها وعندما تعبر هذه القبائل الكثيرة الكبيرة من الطيور على رأس هذا الجيش بإمكانها أن تقضي عليه وتجعله كعصف مأكول.
إذًا، نحن نأخذ بظاهر السورة ونعتبرها معجزة إلهية لأسباب كثيرة، سندرس هذه الأسباب خلال السورة المباركة القادمة وهي سورة إيلاف وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 31