أي لبنان نريد؟

calendar icon 16 نيسان 1976 الكاتب:موسى الصدر

في ذكرى المحنة الدامية التي عصفت بلبنان، رفع الإمام الصدر صوته ليس للتأبين، بل لاستخلاص الدروس ووضع الأسس التي تحفظ لبنانَ وحدةً وعروبةً وعدالةً. فأصدر هذا البيان بتاريخ 16 نيسان 1976، الذي نشرته جريدة النهار بتاريخ 17 نيسان من العام نفسه، في محاولة منه لرسم طريق الخلاص، بدءًا من الاعتراف بالواقع المرير، ووصولًا إلى تحديد المبادئ التي يجب أن تقودنا نحو غدٍ لبناني أفضل. نص البيان كاملًا:

أيها اللبنانيون،
مرت سنة قاسية على الوطن وعلى المواطنين، تجاوزت في آلامها ومن نتائجها قرنًا. مرت علينا أطول سنة في تاريخ العالم ودخلت السنة الثانية من عمر الأزمة اللبنانية الكارثة، وهي تحرقنا وتكوي بنارها الأشقاء والأصدقاء في المنطقة وفي أقطار الأرض، ولا ندري إذا كان المطلوب منا أن نكون لغمًا لتفجير المنطقة، وأن نبعث بالشرور الماحقة إلى العالم كله؟
إننا نعرف أن مؤامرة دنيئة كبرى فتكت بنا، وإن غاياتها لم تحقق بعد، وإن حجم هذه المؤامرة يتجاوز حدود الوطن، وإن لبنان في الوضع الذي وصل إليه يغري القوى المتصارعة في العالم العربي وفي العالم. وإن التجارة بالأرواح وبالسلاح والسياسات الهدامة والأحقاد المتفجرة داخل الوطن وخارجه، كلها، وجدت الفرصة الكبرى للتحرك، وإن الجو أصبح ملائمًا لضرب الثورة الفلسطينية، ولاحتلال الجنوب، ولتمزيق الوطن، بل لضرب الأشقاء العرب خصوصًا سورية.
فهل كُتِبَ علينا -رحماك ربي- أن نحترق إلى النهاية، وأن نحرق أعزاءنا وأهدافنا، وأن نفجِّر المنطقة؟ وهل قَبِلْنا، نحن اللبنانيين مشاعل الحضارة وينابيع الإنسانية، هل قَبِلْنا أن نتجرد عن جميع القيم، وأن نفقد كل اعتبار، وأن نسفِّه كل صديق ونهدد كل شقيق؟
لا، لا نرضى حتمًا أن نمارس الدور الذي كان المطلوب أن تلعبه إسرائيل فلم تتمكن، وأن يصبح وطننا الحبيب بركان المؤامرات...، نرفض المؤامرة مهما كانت كبيرة ودنيئة ونقطع دابرها بوعي وتضحيات ونحطم أدواتها حتى لو كانت بين أضلعنا والتصقت والتفت حول أعناقنا...
أيها الإخوة المواطنون،
ما هي حصيلة سنة من الاقتتال؟ ومن الرابح؟ وما هي نتائجها الحقيقية بعيدًا عن التبريرات والتحليلات وعن الإعلام الموجَّه هنا وهناك؟ وما هي قيمة كل ما حصل في معزل عن المناخ الغاضب والجو المتوتر الذي يدين التعقل والعمل المخلص والالتزام العنيد بالمبادئ والقيم؟
إن ذكرى مرور سنة على المحنة فرصة للتقييم لا نفوتها، لأن مصير الوطن ومستقبل أولادنا وكرامة المواطن وسلامة الأمة وكل ما نملك وجميع أبعاد وجودنا مرهونة بهذا التفكير والتقييم.
فلنفكرْ ولنحكمْ مهما كان الحكم قاسيًا فلم يبقَ لنا شيء نخشاه، لقد فقدنا كل شيء وأصبحنا غرباء عن الوطن وفي الوطن نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، ولنعترفْ ولنعملْ، فسوف لا نعاني أقسى مما عانيناه.
سقطت من دون رجعة
إن الدولة التي كانت تحكمنا والتي سقطت من دون رجعة، إن الدولة هذه تمادت في الظلم وبالغت في حرمان الناس، وفي نهاية الستينات حوَّلت الجنوب إلى جبهة ساخنة وقودها المواطن الأعزل ونفر من الثوار الفلسطينيين من دون أن تتحمل مسؤولياتها، ومن دون استعداد وطني وعربي قبالة مطامع شخصية وهمية. وتكاثرت الأخطاء -أخطاؤنا جميعًا لبنانيين وفلسطينيين- ثم انسحبت الدولة المتآمرة على شعبها من الجنوب، ورفعت شعار السيادة التي تنازلت عنها. ثم استعانت بالتسلح الشعبي المشحون متذرعة بحفظ السيادة في المناطق الأخرى واضعة الميليشيات موضع الجيش الذي كان الوهم الكبير، وأُسدِل الستار على الفصل الأول من المؤامرة.
وجاء الفصل الثاني: استُشْهِدَ معروف سعد مدافعًا عن المحرومين وقُتِلَ المدنيون، لبنانيون وفلسطينيون، في عين الرمانة وانفجر الوضع بين بعض اللبنانيين المضللين والفلسطينيين في الدكوانة-تل الزعتر، ثم انتقل الصراع الدامي إلى اللبنانيين أنفسهم بعضهم مع البعض في كل المناطق لإبعاد الخطر عن الثورة الفلسطينية وانتشر القتال. وحاولت أيادٍ غامضة ومأجورة وأجهزة مشبوهة ممارسة جرائم استفزازية، من خطف وقتل على الهوية وتشويه الجثث وإعادة الاقتتال كلما وقف إطلاق النار، وكانت مشاركة الدولة واستدراج المتقاتلين في هذه الأحداث بارزة مما أكسبت المعركة لونًا طائفيًّا وتعمَّق الجرح وتصاعد الإجرام.
وسيطر على لبنان مناخ القتال الذي التهم المواطنين والمناطق جميعًا، وشلَّ المحاولات الرامية إلى خلق وإيجاد قواسم مشتركة، والخروج من المحنة فلم يبقَ سمع للاستماع، ولا قلب للاسترحام، ولا عقل للتفكر حتى، ولا يد لمنع الاقتتال ولمسح الجراح.
وكان الموقف الموضوعي الوحيد تحديد الأهداف والأبعاد للمعركة، لكي تجري في مسارها الصحيح ولخدمة الوحدة أرضًا وشعبًا أو لصيانة الوطن والمقاومة الفلسطينية والتعديلات السياسية.
وهكذا حاولنا أن نعطي مفهومًا صحيحًا للموت الذي شمل المواطنين، ونمنع هدر الدماء، ونخلق للمصابين العزاء. وبالفعل خاض الكثير من الشباب المؤمنين بوطنهم معارك بطولية وقدَّموا الشهداء دفاعًا عن هذه الأهداف المقدسة التي وُضِعَتْ أمامهم، واستمر القتال وسقط الآلاف من القتلى وعشرات الألوف من الجرحى، والدمار انتشر في المرافق الحيوية، وفشلت الاجتماعات والمحاولات واللقاءات.
أما الأشقاء العرب والأصدقاء فكانوا يناشدون ولا من يسمع، ويحضرون فلا يلبون، وينصحون، وكنا نستمر في الحرب، وتتهم كل فئة الأخرى بأنها البادئة وتتبرأ من مسؤوليتها، حتى إذا انتهت الجولة تطلب ثمن الانتصار وتطرح المطالب.
وسقط المسلخ وتشرد الآلاف وسقط مخيم الضبيه وحُوصِرَ تل الزعتر ودُمِّرَت حارة الغوارنة وسبنيه وحوش الأمراء، وانقطع التموين عن معظم أحياء بيروت المهددة، وتجاوز الانفصاليون العنصريون كل حد. وارتفعت صرخات الاستنجاد بالشقيقة سورية بعدما استقال رئيس الحكومة واهتزت الآمال.
بين ليلة وضحاها
وكانت نجدة سورية ومغامرة دخول جيش التحرير الفلسطيني من أجل حماية الأرواح البريئة وصيانة وحدة الوطن والثورة الفلسطينية.
وتغيرت معادلات القوى وسقطت الدامور، وحُوصِرَتْ زحلة وزغرتا، وانحسرت القوة المتجاوزة، وانهارت القوة المساندة لها، أي الجيش، والمؤسسات الرسمية واحدة تلو الأخرى وانتهت أسطورة الحماية الأجنبية.
والقوة السورية هذه جعلت بادرتها تقبل في صورة مبدئية وتوقف القتال، وبدأ الحوار وقُدِّمَت مطالب إصلاحية كانت خلاصة الحوار الفوقي الذي جرى في غياب المتقاتلين الذين كانوا لا يجتمعون ولا يحاورون ويعزلون بعضهم البعض، قُدِّمَت المطالب هذه في صورة مرحلية عربونًا للمتقاتلين ومن أجل تثبيت وقف إطلاق النار.
وانتصرت الإرادة الوطنية، وبرزت العروبة والموقف القومي الصارم، واعترفت الفئات المتحجرة بمبدأ التطوير وتجاوز الوطن محنته الدامية مبتدئًا بالاستعداد لاستقبال عهد جديد، عهد العدالة والمساواة واللاطائفية الحقيقية، عهد عروبة لبنان، عزاء للمفجوعين، وضمادًا لجراح الشعب وبشارة للغد الأفضل.
وانكشفت عناصر المعادلة وبرزت سورية امتدادًا للإرادة القومية الوطنية في لبنان وسندًا لها وحصنًا منيعًا للمقاومة الفلسطينية.
وكان موقف سورية هو البديل عن الحلول الأخرى للمحنة التي أقلقت العالم من تعريب وتدويل وتدخل أجنبي والتقسيم.
وعرف العدو، بل الأعداء والحاقدون والمخربون، في الداخل وفي الخارج مواقف القوة والضعف في لبنان، وأدركوا مقاتل الإرادة الوطنية والثورة الفلسطينية وبدأ الفصل الآخر من المؤامرة الكبرى.
وبين ليلة وضحاها انقلبت الأوضاع، تعثرت المحادثات وانهارت اللجان المشتركة، وتجمدت المساعي واستعرت الحرب في بيروت وفي الجبل وتكوَّنت جيوش متعددة وانقسمت الآليات والأسلحة الثقيلة مع رفاق السلاح في الجبهات المتقاتلة، وتفجَّر الوضع مرة أخرى وتوترت العلاقات بين الحلفاء في الجبهة الوطنية، وبدأت موجة إعلامية كاسحة في الصحف والشارع والأندية ضد سورية، وانتشرت العدوى إلى العالم العربي وانقلبت المواقف واختلطت الأوراق وبرزت ملامح التدخلات الأجنبية خصوصًا الأميركية، ولاحت في الأفق أنياب العدو ومطامعه وانقلب الرأي العام العالمي في اتجاه تحضيره للتدخل في لبنان والحبل على الجرار!
من المسؤول؟ ما هو السبب؟ من المستفيد؟ أما الخاسر الأكبر فهو لبنان وإنسانه مرة أخرى.
النقاط العشر
ودخلنا السنة الثانية من عمر الأزمة الفاجعة وبعد الضحايا والأثمان الباهظة التي تحمَّلناها نجد أمامنا النقاط العشر التي تتناقض تمامًا مع أمانينا قبل بدء الأزمة ومع مكاسبنا المبدئية بعد المبادرة السورية والنقاط هي:
1- الحرمان، أرضية الانفجار، وجوهر التخلف اللبناني، اتسعت رقعته وتعمقت وتحول الكثيرون من المواطنين من أصحاب الدخل المتوسط والمحدود بل من المرفهين، عدا تجار السياسة والسلاح، تحولوا إلى محرومين وانقطعت سبل المعيشة المتواضعة عن الأكثرية الساحقة من الناس. الحرمان زاد، على رغم أن جميع ضحايا الحرب الأهلية تقريبًا كانوا من المحرومين، وبذلك دفعوا ثمنًا باهظًا يفوق ما تكلف الثورات الاجتماعية في العالم.
2- الجنوب وجبهته ومواطنوه أصبحوا تحت رحمة الأقدار والاعتداء أكثر بكثير من بدايات الأزمة، فقد انقطعت السلطة اللبنانية عن المنطقة نهائيًّا وتفرغت عن السلاح الدفاعي. وها نحن نسمع كل يوم تصريحًا ونرى حشودًا، ونلاحظ ذرائع وأعذارًا متجددة للهجوم تجعلها موضع مساومات وضغوط ومناورات.
3- السيادة الوطنية انحسرت نهائيًّا ولم يبقَ شبر واحد من الأرض، بما فيه مقر السلطات الثلاث الأصلية، إلا تحكمه فئات مسلحة.
ويزيد في الآلام أن الإحساس بسقوط السيادة بدوره سقط، وأن المطالبة باسترداده غابت عن الساحة اللهم إلا لأجل التحديات والمناورات السياسية.
4- سقطت المؤسسات الرسمية كلها، وتمزَّق الجيش ووقف رفاق السلاح مع الآليات والأسلحة المتنوعة وجهًا لوجه بعضهم أمام بعض، وأُحْرِقَت المستندات والوثائق والخرائط أو نُهِبَتْ.
5- القتال أخذ الطابع الطائفي في شكل صارخ، والصحف العالمية التي كانت طوال المعركة ترفض الطرح العنصري لها، بدأت تتحدث عنها في شكل مثير، وتنشر الصور الاستفزازية وتحرِّض المسيحيين والمسلمين معًا.
6- تمزَّقت أوصال الوطن ترابًا وشعبًا وقِيمًا وإعلامًا وقانونًا، وتحوَّل لبنان الواحد لا إلى بلدين فحسب بل إلى بلاد عدة، وأصبح شعبه أشلاء وتجمعات متعددة.
7- المطالب الإصلاحية، السياسية والاجتماعية والإنمائية، تبخرت ولم يبقَ منها إلا استقالة الرئيس. أما البقية منها فقد أصبحت شعارات وتحركًا في فراغ، فلا حكم حتى تبحث في إصلاحه، ولا مال في الخزانة وفي قدرة المواطن لكي يُنفق في المشاريع الإنمائية وفي تحقيق العدالة الاجتماعية. أما الدراسات والخرائط، فإنها احترقت مع كبار المهندسين بأبشع صورة، ولا ندري كم يحتاج إليه الوطن الجريح من سنوات حتى يعود إلى نقطة الصفر وحد البداية.
8- أما السبيل المختار لتحقيق التقدم الاجتماعي والمطالب الإصلاحية، وهو النضال الديموقراطي، فقد قُضِيَ عليه تحت وطأة السلاح المشهور، وتعود المسلحين استعماله المرتجل وفي الضباب المسيطر على المواقف من جراء الأحقاد والأحكام السابقة والاتهامات التي تمطر من كل جانب.
9- والمقاومة الفلسطينية، أمانة الوطن ورسالته، أصبحت مكشوفة جريحة مرهقة، معرضة للاعتداءات والمؤامرات تتحمل أعباء المقاتلين والمهجرين، وتُستدرج في المفاوضات والمصالحات والتفتيش عن الحلول لمشاكل الوطن.
10- وسورية الشقيقة، بعد التضحيات الكبرى أصبحت معرضة لموجة معادية في الشارع وفي الصحف وفي الأندية، حتى في الكثير من الأوساط العربية، موجة تحاول إبرازها خصمًا للإرادة الوطنية منتدبة، منحازة مختلفة مع حلفائها حامية للظالمين والمتجاوزين المعتدين.
هذه هي خلاصة الفصل الآخر من المؤامرة الكبرى والمرحلة التي تمر بها الإرادة الوطنية، وهل أمامنا فصل آخر أو فصول؟
ماذا نريد
أيها اللبنانيون،
يا بناة الأوطان وحَمَلة الثقافات ومصدري الحضارات، يا صانعي التاريخ للمهاجر،
ماذا تنتظرون؟ سقط السقف، وحارت القيادات، وانحرف الكثير من الزعامات أو تخلت عن مسؤولياتها... أنتم وحدكم في الساح غرباء، حيارى، مهددون.
ماذا نعمل؟ ومن يعمل؟ وكيف العمل؟ إنني كمواطن عادي أفتش معكم عن الجواب. ومسؤولية كل فرد منكم أن يفكر وأن يجيب وأن يخرج من الظلمة الدامسة. إلى أين؟ ماذا تريد؟
أولًا- نريد لبنانًا واحدًا أرضًا وشعبًا بإرادة عنيدة جبارة. لا نريد التقسيم وخلق إسرائيل ثانية أو إسرائيلات أخرى، نرفض الدولة المارونية والدولة الشيعية والدولة السنية والدولة الدرزية. نريد أن نعيش معًا كمواطنين، مسلمين ومسيحيين، مهما حصل في الماضي القريب والبعيد ومهما كان من الدماء والدمار. إن ما حصل لم يكن من عملنا ولا نتيجة لإرادتنا. إننا نتبرأ منه ونصرُّ على التعايش معًا في وطن واحد، نعيش أمانينا وقيمنا ورسالتنا الحضارية.
ثانيًا- نريد لبنانًا عربيًّا، لا جسمًا غريبًا في المنطقة يأخذ ولا يعطي، أو يعطي ولا يأخذ، بلدًا متفاعلًا مع أشقائه يتحمل معهم مسؤولياته العربية ويشارك في المصير العربي ويتمتع بكامل مزاياه. نريد الخروج من النفاق السياسي والتقزم الوطني بحجة عدم التمحور، نريد التخلص من السلوك وراء شعارات ذات معانٍ متعددة. نريد لبنان العربي الحر المستقل.
ثالثًا- نريد وطنًا متطورًا عصريًّا في مستوى أماني المواطنين. فقد مات الذي كان ولم يكتب لتجربتنا السابقة النجاح، وقد استمرت مراسم الاحتفال بموته ودفنه سنة أو أكثر. لذلك، فإننا نريد لبنانًا جديدًا قائمًا على أسس جديدة، وطن العدل وتكافوء الفرص يتساوى الجميع أمام القانون، لبنانًا لاطائفيًّا، دولة معاصرة. نريد هذا مع التمسك الكامل بأدياننا وقيمنا وتراثنا، لا نريد المحاكاة والاقتباس المحض لتجارب الآخرين واستيراد نماذج للأنظمة، نريد وطنًا ونظامًا نابعًا من أراضينا وتاريخنا، نريد استثمار كل ثروات الوطن وخلق الكفاية الاقتصادية والاجتماعية.
رابعًا- نريد صيانة المقاومة الفلسطينية محفوظة الجانب ومطمئنة البال غير معرضة للاعتداء، متفرغة لقضية التحرير، بعيدة عن التناقضات اللبنانية والمحاور السياسية متعاطفة مع الإرادة الوطنية الحقة، محلقة في سماء انتصاراتها العسكرية داخل الأرض المحتلة وانتصاراتها السياسية في العالم. نريد شعلة تنير طريق الثورات العادلة في أرجاء الوطن العربي، مثالًا للمناقبية والتنظيم.
خامسًا- نريد أمنًا كاملًا، لا سلاحًا ومسلحين. نريد حماية السلطات فقط للمواطنين فلا يحتاج المواطن إلى الدفاع عن النفس. نريد حل الميليشيات وضمها إلى الحرس الوطني وجمع أسلحتها في المخازن واستمرار التدريب العام لساعات المحنة.
سادسًا- نريد عهدًا جديدًا ورئيسًا جديدًا صالحًا صادقًا في مستوى الآمال والآلام. نريد رجالًا جددًا وأفكارًا جديدة وبرامج عمل وخطة تنمية شاملة ونظامًا جديدًا للمؤسسات.
سابعًا- لا نقبل بالاعتداء على الوطن، إنسانه وأرضه وجوه وبحره، لا نريد أن نسكت عن الاعتداءات على الجنوب وتبريرها، ولا الإهمال في حقه. نريد مجتمع جد، لا مجتمع رخاء وترف. نريد لذلك جيشًا موحدًا لاطائفيًّا مزودًا بكفايات وبأسلحة متطورة في مستوى الأخطار التي تهدد الوطن.
ثامنًا- نريد كل هذا لا بقوة السلاح، بل بقوة الواقع المأسوي الذي نعيشه والذي يدين الماضي. نريد كل هذا لا تحديًا لأحد، بل تعاونًا مع جميع المخلصين من المواطنين، فالواقع والمستقبل يتحدياننا ويتحديان كل من لا يريد هذا.
ثورة دستورية
أيها الإخوة المواطنون،
أمام هذه الإرادات الأساسية تتكون خطة تحركنا، تحرك جميع المخلصين للبنان وترتسم أبعاد المواقف المطلوبة في الأشهر المقبلة.
لذلك، فإن واجب المواطنين جميعًا وفي المناطق اللبنانية من دون استثناء أن يحددوا مواقفهم، وأن يعبروا عن آرائهم، وأن يلتقوا بعضهم بعضًا على ضوء هذه الأهداف، وأن يتحملوا مسؤولياتهم الكبرى بإخلاص ووعي، وأن لا يسمحوا للانتماءات والانقسامات والمواقف السابقة تستمر في انقسامهم وفي تباعدهم، وفي القضاء على تكوين الإرادة الوطنية المشتركة وانطلاقها.
ورجال القوات المسلحة، أولئك النخبة الذين وضعوا حياتهم في خدمة الوطن، وأقسموا يمين الشرف على حفظه وخدمته، أولئك الذين تكلفهم مواقفهم حياتهم وحياة رفاقهم، عليهم أن يكونوا عند حسن ظن الوطن بهم فينطلقوا أينما كانوا لخلق الإرادة المشتركة، وللانطلاق الواعي من المبادئ والأهداف الثابتة، وأن يتذكروا أن المستقبل -إلى حد كبير- رهن بإرادتهم وأن التاريخ في انتظار مواقفهم.
إن الأحزاب والقادة السياسيين يتحملون في هذه الظروف القاسية مسؤوليات أكبر، ويتمكنون من أداء رسالتهم التاريخية في سبيل خلق الإرادة الوطنية المشتركة ويقدرون من خلال تأثيرهم البالغ على الرأي العام أن ينقلوا الوطن من وضعه المأسوي الحاضر إلى مستقبل أفضل.
إن تلاقي الأحزاب الوطنية والقيادات الواعية المخلصة في هذا اليوم العصيب هو ضمانة بقاء لبنان ووحدته وتطويره.
أما السادة النواب، البقية الباقية من النظام، والحلقة الموصلة للماضي إلى المستقبل، أولئك الذين حفظتهم التناقضات ومعادلات الرعب وعدم نجاح التحركات العسكرية، أولئك الذين أرادهم الله أن يحملوا مسؤولية الاستمرار ووضع الأسس الصحيحة لمستقبل الوطن، في معزل عن سلوكهم السياسي السابق، أما النواب الكرام فعليهم أن يقوموا بإقدام وشجاعة وبواقعية واعية، فيختاروا رئيسًا للبلاد يوحي بالثقة، ويتجرد عن المصالح الخاصة ويتفانى في سبيل تنفيذ الإرادة الوطنية المشتركة.
إن النواب يتمكنون اليوم وبعد اختيار الرئيس أن يقوموا بثورة دستورية، وأن يغيروا ما تقتضيه مصلحة الوطن من النظام والدستور، وذلك بعدما استحال نجاح التحركات العسكرية واستحالة أيضًا بقاء الوضع كما كان، وبعدما تأكدوا من عدم إمكان ترقيع الوضع السابق.
إن النواب، في هذا الوقت بالذات، يتمكنون من أن يجسدوا البقية الباقية من آمال الشعب، فليختاروا السبل التي تضع الشعب أمام مصيره المنقذ والتي يتطلبها الوطن والتاريخ والأجيال منهم.
إن النواب يمكنهم أن يضعوا ميثاق شرف لمدة سنتين لإنجاز مهمة البناء بعيدًا عن المصالح الخاصة والانتخابية.
إنهم يقدرون على درس المطالب التي وردت في البيان الرئاسي ومناقشتها وتطويرها، والاتفاق على المزيد من أسس التطوير.
أيها الإخوة المواطنون،
إننا اليوم أمام مرحلة جديدة من العمل الوطني اتضحت بعد عودة الأخ أبو عمار ورفاقه من دمشق، وبعد مقابلة للرئيس حافظ الأسد، وبعد الإعلان عن المبادئ المتفق عليها.
لم يبقَ أمامنا إلا أن يرتفع صوت مخلص مسيحي يلتقي مع صوت مخلص مسلم يعبران عن الإرادة المشتركة الوطنية ويخلقا حماية شعبية عامة للثورة الدستورية المطلوبة.
فإلى العمل أيها الأعزاء،
والسلام عليكم ورحمة الله.
_______________________________
* بيان للإمام الصدر كتبه بتاريخ 16 نيسان 1976 بمناسبة مرور سنة على الأحداث الدامية التي مزقت لبنان عام 1975، ونشرته جريدة النهار بتاريخ 17 نيسان 1976.

source