حقا، نبيه بري يسكن كتابه.
في مرور 12 عاما على تبوئه سدة الرئاسة الثانية في لبنان وما يناهز 45 عاما في العمل العام، طالبياً وحزبياً وسياسياً، حاول بري ان يلخص مسيرته الضاجة بالاحداث والحوادث في 520 صفحة غلفت بالاخضر، وعنونها كاتبها الزميل في "السفير" نبيل هيثم "نبيه بري: اسكن هذا الكتاب".
في المستهل صورة لنبيه بري الطفل، وفصل عن البداية مكتوبة، كما الفصول الـ70 التي تلي، باسلوب روائي قصصي يرقى بالسياسة الى مرتبة الكتابة الادبية، ولكن بسهولتها الممتنعة.
وتعود بطاقة التعريف الى ما قبل ولادة بري عندما هاجر والده، مصطفى، الى سييراليون في افريقيا وعمل في تجارة الارز في مرحلة اولى، ثم في تجارة الالماس "بعدما اكتشف هذه الجوهرة البراقة في القارة الحالكة"، الى ولادته في افريقيا من فاطمة زين الدين، وقد دون والده بخط يده على نسخة من القرآن: "ولد المولود المبارك في الساعة السابعة من صباح اليوم الرابع من ايار سنة 1936".
كيف تكونت الشخصية السياسية لبري من خلال هذا الكتاب؟ وما كانت مواقفه وقراراته في بعض المحطات الاساسية في تاريخ لبنان، قبل الطائف وبعده؟
في علاقته برجال الدين والامام موسى الصدر
يقول رئيس المجلس ان نفوره من "الجو المشيخي لم يكن نفورا من الدين، اذ لمست ان عمل الشيخ او رجل الدين كان مقتصرا فقط على انه يلبي دعوات، يحضر مآتم واعراساً، يأكل، يشرب الشاي، يشرب قهوة، يطلق، يزوج او يتزوج. لعل في وظيفة المختار جدوى ومنفعة اكثر منه بكثير. كان الناس يقدمون اليه من محاصيلهم، وهو في مقابل ذلك، كان يقف بينهم في المناسبات، ويأتي اليهم بقصص وخرافات وروايات، مختلفة في كثير من تفاصيلها، على الدين والواقع، وليس هذا الامر فقط، بل تكون في كثير منها مسيئة الى الدين، وتؤدي الى فتن. رفضت معادلة ان الناس يدبسون للشيخ وهو يدبس لهم عقولهم. هذه المعادلة جعلتني ارى لاحقا في موسى الصدر، ليس مجرد رجل دين، او سيدا معمما، او الافغاني المتزمت المنغلق، بل جعلتني ارى فيه جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده، ولمست لديه الشعور الاسلامي الصحيح، والدين الحقيقي من دون قشور ومن دون تراكم من غبار السنين وما زيد عليه من اضافات. المصلح الاجتماعي بكل المعاني وجدته في هذا الرجل". الا ان بري تأثر بالشائعات التي طالت الصدر حينها وافترض "ان موسى الصدر، يناصب الزعيم الكبير جمال عبد الناصر - الذي رأيت فيه امل الامة - العداء، وانه ذلك الايراني من عهد الشاه". الا ان ما غير رأيه هو "حركة الامام الصدر التي راحت تترجم على ارض الواقع وخصوصا من موضعين متقاربين زمنيا عجلا في اتخاذ قرار انتمائي الى خط الصدر: الاول رفض افقار الناس وتحول الفقراء ضحايا الحرمان، والثاني اظهار حركته اوسع من طائف واشمل من منطقة جغرافية محددة، بل هي بحجم الوطن. ولا فارق في ما تهدف اليه بين مسلم ومسيحي، وبين منطقة واخرى". ويتذكر بري ان "كامل الاسعد سعى جهده لاحباط انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الا انه لم يوفق لان رئيس المجلس آنذاك صبري حمادة كان له الدور الداعم في المجلس مراعاة لظروف بيت عمه(...)". ويتحدث عن نشوء "هيئة نصرة الجنوب" عام 1970 عندما تعرضت المنطقة لاعتداءات اسرائيلية كثيفة. فاجرى الصدر حينها اتصالات باطراف سياسيين وقادة روحيين وكان الكاردينال انطونيوس بطرس خريش نائبا للرئيس فيها. "الدولة كانت في جانب والجنوب في جانب آخر، اضافة الى ان الانغماس الفلسطيني في المعطيات الداخلية اللبنانية قد تزايد واخذ يتكون شيء من كينونة شريكة لوظيفة الدولة مما دفع الامام الصدر الى ان يظهر انتقاده هذه الممارسات الى العلن وصار يجاهر بذلك في خطبه ويحذر الفلسطينيين من خطر هذا الانغماس في الداخل اللبناني وينصح لهم بعدم محاولة اقامة دولة داخل الدولة اللبنانية. ونتيجة لهذا الموقف بدأ بعض الاطراف الفلسطينيين بتركيز حملة ضد الصدر ولا سيما اليسار الفلسطيني الذي تناغم معه اطراف يساريون لبنانيون. كل من كانوا خارج اطار "فتح" اخذوا بضعون الامام في موقع الشبهة باستثناء الصاعقة لارتباطها بسوريا". ويقول انه جرى "نقاش طويل بيني وجورج حبش في مخيم شاتيلا وفي منزل الدكتور حسني المجذوب في بربور. وفي هذه اللقاءات كانت وجهة نظر حبش هجومية حيال الامام الصدر ولكن رغم ذلك ادت هذه المناقشات بيننا الى اتفاق على عقد لقاء بين حبش والصدر ليتعرف اليه عن قرب. وحصل هذا اللقاء لكنه لم يؤد الى تغيير او تعديل في الاقتناعات، بل تفاقمت الحملة على الصدر وظلت في تصاعد مستمر مما اضطره اخيرا الى الاعلان اننا لن نقبل بقيام دولة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية وان ما نراه ونشهده ليس مقاومة". ويقول بري ان اطلاق حركة المحرومين "امل" افضى الى ارتفاع الاصوات ضده:"بعض الاطراف الفلسطينيين اتهم الصدر بانه عميل للمخابرات منذ زمن فؤاد شهاب الذي اعاد اليه الجنسية". وعندما بادر الصدر بهذه الواقعة، رد عليه:"ان المخابرات على نقيض خطنا. لكنهم يرسلونهم اليَّ ليحاولوا ان يأخذوني الى مواقفهم او حتى لاكون عميلا صغيرا عندهم. الحقيقة انني اتعاون معهم ليكونوا عملاء عندي. ولذا، يجب الا تخاف ممن يأتي الى عندي، بل يجب ان تخاف عليه".
يتحدث بري عن بدء الحرب في لبنان يوم الاحد 13 نيسان 1975 وعن موقف الصدر منها: "في بادئ الامر، تولدت لدى الامام الصدر فكرة عقد لقاء موسع بين الافرقاء كلهم. لكن المؤامرة كانت اكبر من هذه الفكرة والامام الصدر في هذا المسعى كان كمن يحفر الجبل بابرة". ويقول بري ان "حزب الاحرار كان وراء محاولة اغتياله في الحازمية مع العلم انه اصدر بيانا استنكر هذا العمل (...)".
ويذكر حادث "السبت الاسود" الذي حدا الصدر على مغادرة مقر المجلس الشيعي في الحازمية:"كنا مع الامام في منزل الشيخ عبد الامير قبلان في بئر حسن . في هذا اللقاء، وضع الامام الصدر خريطة لبنان على الحائط وراح يشرح ابعاد المؤامرة التي يتعرض لها لبنان واهدافها لجهة خلق كيانات او دويلات طائفية، واستعان بمسطرة يدل فيها على حدود الدولة المارونية والدولة الشيعية والدولة السنية والدولة الدرزية.. وخلال هذا الشرح، عبر عن تخوفه من ان هذا الامر لا يتم الا بفرز سكاني يكون نتيجة لمجازر (...)".
في تغييب الصدر
ويقول بري ان الصدر طرح فكرة زيارته لليبيا "في منزل حسين الحسيني في خلدة. الا انه لم يلق حماسة في بادئ الامر لان ثمة نصيحة من وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام والامير عبد الله بن عبد العزيز بصرف النظر عنها. وكانت واضحة: لا تذهب الى ليبيا. لكن الامام الصدر اصر على السفر بعدما تلقى نصيحة من الرئيس الجزائري هواري بو مدين نظرا الى العلاقات الوثيقة لهذه الدولة بالحركات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ومن هذه الحركات ما كان يتقاضى اموالا منها ومن العراق".
ظل الأمام مصرّاً على السفر، وكان القرار في بداية الأمر أن أرافقه أنا نبيه برّي ومالك بدر الدين، لكنني توجهت الى الإمام متمنياً عليه ان يعفيني من السفر، وقلت له: أريد أن أستأذنك بالسفر، فأنا لم أرَ أولادي منذ العام ،1976 ولذلك اتمنّي أن تسمح لي بأن أذهب لزيارة عائلتي، وليسافر معك بديل مني.
لذا تقرّر ان يذهب مكاني الشيخ محمد يعقوب، اضافة الى مالك بدر الدين. لكن بدر الدين، الذي كان يشكو من "ديسك" في ظهره، تحرّك عليه الوجع، قبل يومين من السفر، مما ألزمه الفراش، ولم يعد يقوى على النهوض، فتقرّر ان يذهب الصحافي عباس بدر الدين، وسافر الإمام الصدر ورفيقاه بعد ذلك الى ليبيا.
قبل خمسة أيام من سفر الإمام والشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، سافرت الى الولايات المتحدة الاميركية، للاطمئنان الى عائلتي في ديترويت. واستمرّت زيارتي لعائلتي نحو اسبوع، انتقلت بعده من ديترويت الى نيويورك ونزلت لملاقاة صديق لي اسمه متري عبده، وكنت مقرراً أن أمضي وإياه يومين، ولكن في اليوم الأول لوصولي الى نيويورك، تلقيت اتصالاً من عائلتي في ديترويت يفيد بأن الشيخ محمد مهدي شمس الدين وحسين الحسيني اتصلا من لبنان، ويريدان أن يكلماني في أمر ضروري جداً، فسارعت الى الاتصال بلبنان وتحادثت مع حسين الحسيني، الذي لم يكن يعرف انني في نيويورك فسألته ما الأمر، فأخبرني بأن الإمام مفقود، ولا أثر له أو لرفيقيه وقال لي: ما دمت في ديترويت، نتمنى عليك، أن تذهب الى نيويورك، وترى سفيرنا هناك غسان تويني، وحاولا ان تفعلا شيئاً في هذا الشأن، في سبيل كشف مصيره.
وفعلاً، اتصلت بالسفير غسان تويني، وبقيت في نيويورك نحو خمسة أيام، وعملنا معاً باتصالات على هذه القضية في الأمم المتحدة.
وبعد انقضاء الأيام الخمسة، تركت نيويورك وعدت الى لبنان، لأجد أن "حركة المحرومين" قد اتخذت في غيابي، مجموعة من التدابير الموقتة، قضى أحدها بتعيين حسين الحسيني أميناً عاماً للحركة، ونبيه بري أميناً عاماً مساعداً. وانطلقت الحركة على هذا الأساس. واستمرت هذه القيادة الجديدة، نحو أحد عشر شهراً حتى أوائل الثمانينات، حين اجتمعت قيادات الأقاليم في الحركة في مدينة الزهراء في خلدة، وكانت هناك حملة ضد حسين الحسيني، يباركها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ويقوم بها صراحة حسين الموسوي. وأمام هذا الواقع المكهرب، اقترحت أن أذهب أنا واحمد اسماعيل - وهو احد اصدقاء الإمام - واحمد قبيسي لنقترح على صدري الصدر ابن الإمام، أن يتولى رئاسة الحركة، على أن أبقى أنا مسؤولاً سياسياً للحركة كما كنت، باعتبار ان صدري كان لا يزال في اول فتوّته، وذلك الى حين عودة الإمام الصدر. بالفعل ذهبنا وقابلنا السيدة أم صدري وفاتحناها بالأمر، فعارضت بشكل قاطع.
ووسط هذا الواقع المتشنّج، اتخذت قيادة الحركة، في 4 نيسان 1980 قراراً، قضى بخلع حسين الحسيني، وتعييني على رأس الحركة، وذلك الى حين اجراء الانتخابات، مع العلم انه لم تكن تربطني علاقات وثيقة بقيادات الأقاليم. ثم بعد فترة قصيرة، جرت الانتخابات، وانتخبوني رئيساً لمجلس قيادة حركة "امل" على ان أتسلم المسؤوليات في الرابع والعشرين من نيسان. وحددنا موعداً لتقبّل التهاني بانتخاب القيادة الجديدة، ولكن جاء خبر استشهاد السيد محمد باقر الصدر في العراق، على يد نظام صدام حسين، فتحوّلنا من تقبّل التهاني الى تقبل العزاء. اخذنا كحركة "امل" والمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، نتقبّل التعازي في مدينة الزهراء، في حين انطلقت تظاهرة عفوية في الضاحية الجنوبية، استنكاراً لهذه الجريمة، وما إن بلغت هذه التظاهرة محاذاة "جريدة بيروت" في حي معوض، حتى تعرّضت التظاهرة لاطلاق النار مصدره مبنى الجريدة التي كانت تابعة لنظام صدام حسين، فأصيب أحد المتظاهرين، الأمر الذي أشعل غضب الناس فحملوا السلاح، وبدأت المعارك بيننا وبين البعثيين العراقيين. وكانت للبعث العراقي علاقات مع جهات فلسطينية، لا سيما ما يسمى "جبهة التحرير العربية" والتي كانت جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية (...).
في الدخول السوري
و في الكتاب، يقول بري انه "قبل دخول السوريين الى لبنان، ذهبت مع الامام الصدر في زيارة لدمشق والتقينا وزير الخارجية عبد الحليم خدام . في هذا اللقاء كان حديث طويل عن الوضع اللبناني وحين بلغ الحديث موضوع الدور السوري في لبنان قال خدام: "ما دامت الأمور في لبنان بلغت هذا الحد، سندخل حتى لو اضطررنا الى ان نمنع التقسيم بالقوة. نحن لا نقبل بأن ينقسم لبنان على حدودنا. فهذا التقسيم ان تم سيهدد بتقسيم المنطقة كلها وهذا أكبر نصر لاسرائيل، سندخل، ولو أجبرونا فإننا سندخل بالقوة".
كان "أبو جمال" يتحدث بنبرة جدية وانفعالية عما يجري، فقلت: اذا سمحت لي بالكلام، فأنا ارى ان دخولكم لبنان عسكرياً، يكون محصّناً لو كان برضى كل الأطراف.
استغرب "أبو جمال" وقال: ماذا؟ كلامك يعني ان نطيّب خواطرهم. نحن سندخل برضاهم أو رغماً عنهم، ومن يحاول اعتراضنا ومواجهتنا، فسنقطع رقبته، نحن لا نمزح في هذا الشأن الخطير علينا وعلى المنطقة كلها.
لكنني أصررت على رأيي، فارتفع صوت "أبو جمال" منفعلا، عندها طلب مني الإمام الصدر أن أسكت فسكتّ.
بعدما انتهى هذا اللقاء، قال لي الإمام الصدر: إن ما قلته لـ"أبو جمال" لا يتناقض مع ما قاله هو، أنت تريد أن يدخل السوريون لبنان برضى كل الاطراف لكي نحقن الدماء، وتجري مصالحة، ان كلامك هو الصح بعينه، لكن الفرق بينك وبين "ابو جمال" هو ان السوري ليس في موقع أن يطيِّب خواطر أحد. لقد قرر دخول لبنان، وكما سمعت، اذا استقبلوه، وهذا هو المطلوب، فسيكون الأمر أسهل، اما اذا كان العكس، فهم بذلك يجنون على أنفسهم، ونحن في ظل هذا الوضع، من واجبنا ان نحقق الشيء الذي تريده أنت، بدل أن يتحقق الشيء الذي يريده "أبو جمال"، لذلك أطلب منك ان تتوجه الى بيروت، وتنقل الى كمال جنبلاط رسالة شفوية وتقول له عن لساني، إن الجماعة سيدخلون، ويجب أن تتحلوا بالحكمة، ولا تعترضوهم. وأيضاً اذهب الى "أبو عمار"، وقل له عن لساني أيضاً، إن موسى الصدر يبلغك تحياته، ويقول لك ان المصلحة تقتضي، بأن تأتي سريعاً الى دمشق، ولو أمكن لك أن تأتي غداً.
قلت للإمام: إن شاء الله سأذهب غداً صباحاً (كانت الساعة قد بلغت الثامنة مساء).
فقال لي: لا، أريدك ان تذهب الآن، وعلى عجل.
وفعلاً، تركت الإمام وتوجهت الى بيروت، ووصلتها في الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفي طريقي لاحظت حركة عسكرية سورية غير اعتيادية، وشاهدت بأم عيني أرتال الآليات السورية تتوجه من المزّة الى حدود المصنع، فتيقنت أن القرار السوري أكثر من جدّي، وليس من باب التهويل (...)".
في عهد أمين الجميل
يقول بري انه بدءاً من اللحظة الاولى من عهد الجميل، "نظر الينا على أننا مهزومون، ومن هذا المنطلق، شكّل الحكومة، ولم تحصل معنا أو مع غيرنا من الأطراف الوطنيين والاسلاميين، أي مشاورات في شأن تشكيل هذه الحكومة.
وقد أظهر الجميل من خلال ذلك، انه يسير وفق اقتناعاته، عبر التعاون مع تقليد معين، مع العلم انني عند تشكيل هذه الحكومة، لم أكن في وارد الدخول مع الجميّل في أي مشاورات، فأنا كنت من حيث المبدأ، ضد انتخابه، وبالتالي كانت نظرتي الى حكومته، نابعة من نظرتي الى العهد المنتخب في حمى الدبابات الاسرائيلية.
فور تشكيل هذه الحكومة، شرعت في الادلاء بتصريحات عنيفة، ضد أمين الجميل، وأعلنت ان هدفه هو التركيع والهيمنة، ولم أؤخذ بكل الكلام اللطيف والاستيعابي، الذي كان يجري تسويقه، بل أعلنت ان أمين الجميل هو استمرار لخط بشير الجميل، وان كان الشيخ أمين، قد حاول الظهور بمظهر النافض يده من اسرائيل، والمختلف عن نهج شقيقه بشير.
مارس امين الجميل على بيروت الغربية والضاحية الجنوبية، تضييقاً، يوازي الحصار الاسرائيلي، تعامل مع الناس بطريقة انتقامية، فلاحق كل من كان ينتمي الى الصف الوطني، كأن "الوطنية" تهمة توازي الخيانة، واصبحنا مهددين في حياتنا، وخصوصاً أن العناصر العسكرية سواء من حزب الكتائب او من "القوات اللبنانية"، كانت تأتي في وضح النهار، وتقوم بأعمال استفزاز وخطف للمواطنين واغتيالهم، فضلاً عن اعمال "التشبيح" والسرقة والترويع.
كان النهج المتبع، هو اخضاع الناس وتخويفهم، ولم تنفع المناشدات التي كانت تطلق، من مختلف الاطراف في المنطقة الغربية، لوقف هذه الاعمال العدوانية، إذ كانت كمن ينادي في الفراغ، وازداد الأمر ضراوة وخطورة، عندما أخذ جيش أمين الجيل يقسّم المناطق الوطنية مربعات، ثم يقوم بدهمها بذريعة البحث عن السلاح، لكن عمليات الدهم هذه، كانت تنتهي بشاحنات محمّلة بالمواطنين المعصوبي الأعين، تسوقهم الى المجهول.
وعندما بلغت المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية مرحلة متقدمة، صرنا نحاول أن نواجهها، وننصح بلاجدواها، وبعدم التفريط بلبنان، وسلخه عن محيطه العربي، ولكن من دون جدوى، اذ كان الجميّل وحكومته مراهنين على الاميركيين الشركاء الأساسيين في هذه المفاوضات، فضلاً عن أن هذه المفاوضات، كانت تحظى بدفاع عنها من بعض الأقلام في بعض الصحف، وكذلك من غالبية النوّاب وعلى رأسهم "الاقطاع السياسي". إلى أن أفضت هذه المفاوضات الى اتفاق بين لبنان واسرائيل، ليس فيه سوى إذلال ومسّ بسيادة لبنان وجرى توقيعه في 17 أيار ،1983 وردّة فعلي الأول على هذا الاتفاق، كانت أن أعلنت أنه ولد ميتاً، ثم انتقلت الى مقر قيادة حركة "أمل" في برج البراجنة، ودعوت المكتب السياسي والهيئة التنفيذية للحركة الى اجتماع مشترك، وكلّفنا الأخ عاكف حيدر إعداد كتيّب عرضنا فيه أسباب معارضتنا اتفاق 17 أيار، وبيّنا فيه تعارضه والسيادة اللبنانية، وأنه ليس سوى اتفاق إذعان وإذلال ووزعنا هذا الكتيّب على الناس، لكن فريق 17 أيار، أخذ يروج شائعات بأن هذا الاتفاق هو الأمثل، وان سوريا مع هذا الاتفاق وليست ضده".
هيئة الانقاذ
يقول بري انه كان في المبدأ ضد انشاء هذه الهيئة التي توجه الرئيس الياس سركيس بالدعوة الى انشائها وتم اعلانها بتدخل الاميركيين لدى الاسرائيليين عبر الموفد الاميركي فيليب حبيب.
وفي الاجتماع، ابلغ بري الى الحضور "اننا لا يمكن تحت اي ظرف ان نساوي الشقيق السوري او الفلسطيني بالعدو الاسرائيلي. لذا، ان ما يجب ان يصدر عنا من موقعنا كلبنانيين وعرب هو الدعوة الى الخروج الفوري لقوات الاحتلال الاسرائيلية من العاصمة ومن كل لبنان". واوضح ان اي اجتماع لاحق لم يحصل لهذه الهيئة وانه "انكشف مع الايام ان دور جوني عبده وجماعته كان بمنتهى السوء. كانوا ممهدين للاسرائيليين. كان كل عملهم مشبوها ودفعنا اثمانا باهظة نتيجة لهذا الدور. والغريب والمؤسف ان هؤلاء الممهدين صاروا لاحقا ينظّرون في الوطنية فعلا. هذا الامر من سخريات التاريخ".
في انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية
في هذا الباب، تذكر بري انه "عندما رشح بشير الجميل نفسه لرئاسة الجمهورية، شعرنا بان لون البلاد قد تغيّر وقررنا ان نحاول منع وصوله الى الرئاسة، وقد خضنا المعركة من منزل الرئيس صائب سلام في المصيطبة. وكان همنا الاساسي منصبّاً على عدم اكتمال نصاب الجلسة. ونتيجة الاتصالات التي اجريناها والوعود التي قطعها لنا النواب بعدم حضور الجلسة، تعزز الامل لدينا. وما زادنا ثقة بان الجلسة لن تعقد لعدم اكتمال النصاب، هو ان الرئيس سلام وضعنا في جو ان النواب الذين اتصل بهم شخصيا صاروا مضمونين ووعدوه انهم لن يذهبوا الى المدرسة الحربية. لكن المفاجأة الكبرى كانت يوم الانتخاب. اذ كنا في منزل الرئيس سلام نتابع من خلال التلفزيون وقائع وصول النواب الى المدرسة الحربية. والمضحك المبكي ان كل الذين اتصلنا بهم واعتبرهم الرئيس سلام مضمونين وقطعوا الوعود، كانوا اول الواصلين، وانتخبوا بشير الجميل. كان ذلك اكبر صفعة تلقيناها من هؤلاء الذين نكلوا بوعدهم، الى جانب شعورنا بان مرحلة جديدة بدأت للتو وليس فيها سوى مزيد من الويلات على لبنان (...) والغريب ان ثمة اشخاصاً كانوا معنا في الخط المعارض يتزاحمون للتهنئة". الا ان الجميل ارسل الى بري رسالة شفوية مع صديق مشترك هو محمد صعب يقول له:"انني ساحكم لبنان ست سنوات، وسيأتي في نهاية الامر، شاء ام ابى، قبل ام لم يقبل، برضاه سأحكم ورغما عنه سأحكم". فكان جواب بري في اليوم التالي عنوانا في جريدة الأمل: "جوابي: ست سنوات اعداماً".
ويقول عن انتفاضة 6 شباط انه "منذ اللحظة الاولى للانتصار، حاول كل المتضررين وخصوصا جماعة المخابرات تشويهها بالشائعات وقالوا انها انتفاضة شيعية. واني اقول للتاريخ ان هذا الامر ليس كذبا فقط، بل هو كذب وكذب وكذب الى يوم الدين. حتى ان ضباط الجيش الاساسيين الذين وقفوا معي كان اقربهم اليّ الضابط مصطفى حمدان وهو ليس شيعيا".
في تعيين ميشال عون رئيساً للحكومة الانتقالية
في ذلك الحين، اراد مجلس الوزراء تعيين المجلس العسكري، فاقترح الجميل العقيد ميشال عون، الا ان بري اقترح اميل لحود قائدا للجيش "لانه ضابط منيح" رغم انه لم يسمع عنه شيئا. اما جنبلاط فانتفض لتعيين عون في قيادة الجيش "مكافأة له على تدمير الجبل"، واضاف بري:"والضاحية وبيروت ايضا". ولان الآراء كانت متضاربة، ارجئ الاجتماع الى جلسة ثانية حاول فيها الجميل ان يقايض بري "على حساب الحلفاء الآخرين ولا سيما وليد جنبلاط. فعرض علي ان يسند مديرية الامن العام الى الشيعة ويعين على رأسها نبيه فرحات في مقابل ان اقبل بتعيين ميشال عون قائدا للجيش". الا انه لم يقبل. ولان الامر طال وظل الجميل مصرا على رأيه، عين ميشال عون. ويقول بري:"اغرب ما في امين الجميل انه اراد تمديد ولايته باي ثمن ومهما كلف الامر. فخروجه من القصر الجمهوري كان صعبا. لذلك، قاتل بكل قوته وبوسائل الدهاء في سبيل ان يجعل نفسه المرشح الاوحد. ومهد لذلك قبل أشهر من انتهاء ولايته، وأصرّ على إبقاء الوضع الحكومي مفكّكاً، من دون أن يسعى جدياً، الى تشكيل حكومة جديدة، رغم المقاطعة التي بدأها معه الرئيس الشهيد رشيد كرامي، والتي استمرت بعد استشهاده، مع الحكومة نفسها، والتي ترأسها الرئيس سليم الحص بالوكالة.
كان الجميّل يريد الوصول الى الفراغ، لكي يفرض نفسه بديلاً واتصل بالفرنسيين والاميركيين متوسلاً دعمهم، ثم توجّه أخيراً صوب سوريا، التي أقفلت باب التمديد في وجهه، لأن التجربة معه كانت مرّة، واتفاق 17 أيار خير شاهد على سياسته، ورغم ذلك، ظل يحاول مع السوريين، وحتى اليوم الأخير من ولايته.
بعدما رحل أمين الجميّل عن القصر الجمهوري، رمى البلد كله في المجهول، وعشنا حقبة، قد تكون الأسوأ في ما مرّ على لبنان، ولا تقلّ سوءاً من مرحلة الاحتلال الاسرائيلي، كونها هدّدت بتفكيك الكيان اللبناني.
منذ البداية كانت نيات ميشال عون جليّة امامنا تماماً، فقد عبّر عنها في شكل واضح وصريح خلال مرحلة التحضير لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، وسعى الى تحقيق هدف وحيد هو فرض نفسه على أنه المرشح الأنسب لتولّي رئاسة الجمهورية، ولذلك عطّل بالقوّة العسكريّة، وبالتنسيق مع "القوات اللبنانية" انتخاب رئيس غيره، كما حصل مع الرئيس سليمان فرنجية، ثم مع النائب مخايل الضاهر.
كان ميشال عون ظاهرة استثنائية في الاستماتة في سبيل الوصول الى رئاسة الجمهورية، ومهما كلّف الأمر، وحتى لو كان ذلك على أنقاض البلد كله.
في حروب الاخوة
يقول بري انه لم يتخذ قراراً بخوض معركة داخلية مع الحركة الوطنية ولا مع الفلسطينيين ولا مع الحزب التقدمي الاشتراكي ولا مع "حزب الله" ولا مع أي كان: "عشت لحظات ندم كبيرة جداً ولا سيما في موقعين: الأول عندما فرضت عليّ الفتنة بين حركة "أمل" والفلسطينيين، والثاني عندما فرضت عليّ أيضاً فتنة بين حركة "أمل" و"حزب الله". هاتان الفتنتان آلمتاني كثيراً لأن معركتي لم تكن هناك. كنت أشعر بأن يدا تقاتل يداً وعيناً تقاتل عيناً وشرياناً يقاتل شرياناً والدم ينزف نفسه. ان مجرّد تذكّرهما موجع ويعصرني وعندما كنت أعيشهما كان أمراً في منتهى الصعوبة والألم".
في وساطته وجعجع للتوزير
يقول بري انه التقاه مرة وحيدة لدى تشكيل حكومة الرئيس عمر كرامي في منزله في بربور، وان جعجع ابلغ اليه انه لا يرى "مصلحة في المشاركة ولا أستطيع أن اتعايش مع بعض الاشخاص داخل الوزارة، أي الياس حبيقة وسليمان فرنجية. واعتبر بري ان "سمير جعجع ضيّع أثمن فرصة أتيحت له".
في ما بعد الطائف
يقول بري ان الحكومة الاولى بعد الطائف "جمعت كل المتخاصمين في البلد أو بمعنى آخر كل الميليشيات، و"إن رئيس الحكومة رفيق الحريري" هرّب وزارة المال لصاحبه فؤاد السنيورة بعدما كان الاتفاق على تعيين رضا وحيد في هذا المنصب: "اظهرت القصة توافقاً تاماً بين الهراوي والحريري". ويؤكد بري انه لم يعط الحكومة صلاحيات استثنائية كان طلبها منه الحريري. وعنه يقول: "ان اللبنانيين ارتكبوا خطأ كبيراً، عندما بالغوا في المراهنة على رفيق الحريري، فبذلك ظلموا أنفسهم كما ظلموا الحريري نفسه.
لقد اصيب البلد في ذلك الحين بما يشبه الارتجاج في المخ، فما أن طُرح اسم رفيق الحريري لرئاسة الحكومة، حتى اعتقد الكثير الكثير من اللبنانيين، ان المشكلات التي يعانونها، والمعاناة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشونها، ستُحل بلمح البصر وكأن الحريري آتٍ ومعه العصا السحرية، ليس هذا فحسب، بل ان الكثير من اللبنانيين، اخذوا يتصرفون، كأن المشكلات قد انتهت بالفعل، حتى ان منهم من صار يفكّر في أن يشتري "شوال أحمر" لكي يملأه بالمال.
لم يكن هناك تفاؤل فحسب، بل كانت هستيريا تفاؤل، جعلت من أي أمر يقوم به او سيقوم به الحريري، صغيراً مهما كان حجمه كبيراً، ومهما كبر هذا الأمر يبقى أصغر من حجم الهستيريا التي استقبلت الحريري، فالناس علّقت عليه آمالها، ولذلك فقد أرادت منه الكثير، حتى أنني أذكر أن موجة الهستيريا هذه، سحبت نفسها على مجلس النواب نفسه، فاندفع أحد النواب، ووقف في جلسة الثقة بحكومة رفيق الحريري الأولى عام ،1992 وألقى كلمة، وتوجّه فيها الى الحريري قائلاً: أنت تطلب الثقة من المجلس، فهذا المجلس في حاجة الى ثقة منك. وخلف هذه الهستيريا، كان الجو مختلفاً تماماً عن حقيقة الأمر، صحيح ان رفيق الحريري جاء ولديه النية أن يعمل، وان يحدث تغييرات، لكنه جاء ليعمل وليغيّر على طريقته، وبأفكاره، والأيام اظهرت مكامن الخلل في أدائه.
تأثر رفيق الحريري بالهستيريا، ولكنه بدل أن يعمل على تبديد هذا الجو وتوضيح صورته الحقيقية، وإعادة ضبط ايقاع الناس، ظنّ أنه أقوى من الأزمة، فجاء اداؤه قاصراً عن التصدّي لها، وهذا القصور كان النتيجة الموضوعية للاعتقاد انه أكبر من حجمه الحقيقي، صحيح ان قدراته المالية كبيرة، لكنها دلّت على أنها ليست كل شيء. وهذا القصور ناجم أيضاً عن تشبث بالرأي، وهي احدى الصفات، التي امتاز بها رفيق الحريري، اضافة الى عدم استجابة النصائح التي اسديت له في مستهل حكمه (...).
رفيق الحريري لم يصارح الناس بحقيقة الوضع المالي والاقتصادي ولعله أخطأ برهانه على السلام في المنطقة وراكم أخطاء فوق أخطاء في مجالات عدة".
في انتخاب اميل لحود
لم ينكر بري في كتابه انه كان له "الدور الأساسي في هذا الموضوع، ففي تلك الفترة، لم يكن الموقف السوري قد حسم بعد حول هوية المرشح، وكان الحديث في البلد يدور، وفي وقت واحد حول أمرين، الأول هو ان الرئيس الياس الهراوي راغب بالتمديد له مرة ثانية، والثاني وصول لحود الى رئاسة الجمهورية، مع ترجيح الأمر الثاني، ولكن في غياب الموقف السوري الحاسم في هذا المجال، كون الرئيس حافظ الأسد لم يكن قد اتخذ قراره النهائي، الحاسم في شأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وحول شخص الرئيس. اذكر أنني في تلك الفترة، قمت بزيارة الى سوريا، والتقيت سيادة الرئيس الاسد، وقد كان الكلام في هذا اللقاء، على بساط أحمدي، حيث قمت مع الرئيس الأسد بجولة واسعة حول كل ما يتصل بالاستحقاق الرئاسي، مع استعراض شامل لكل التفاصيل التي رافقت التمديد للرئيس الهراوي، وقد كانت لي مساهمة أساسية في بناء قرار الرئيس الأسد، بدعم ترشيح العماد اميل لحود لرئاسة الجمهورية، حيث ابلغني سيادة الرئيس الأسد صراحة بقراره دعم سوريا ترشيح لحود، وبالتالي كنت أول من توضّح أمامه الموقف السوري.
بعد انتهاء اللقاء مع سيادة الرئيس الأسد، رجعت من دمشق الى بيروت، وفي اليوم ذاته حضر لحود ومعه جميل السيد الى مقر اقامتي في عين التينة وابلغت الى لحود موقف الأسد: لقد حسم الأمر واتخذ الرئيس الأسد القرار بالوقوف معك ودعم انتخابك. ويفصح بري ان ما كان يهمه حينها ان لا ينتخب لحود من دون ارادة الياس الهراوي وان التعاون حصل مع ميشال المر.
في فريق عمل لحود
لفت بري الى "مسألة أساسية شهدناها في مستهل عهد لحود كادت أن تؤدي إلى كارثة حقيقية والى الغاء النظام اللبناني كله وهي ان مجموعة من الاشخاص، جاؤوا مع الرئيس لحود، على أساس أنهم "فريق عمل"، ولكن، سرعان ما كشفوا نياتهم وبدأوا بممارسات وتصرفات خدمة لأنفسهم، وليس لمصلحة العهد، فهم اعتبروا الرئيس لحود كأنه "إله من تمر"، حيث أراد أفراد هذه المجموعة أن يأكلوه. وإنني أؤكد انه لولانا ولولا المساعدة السورية المباشرة، لكانوا أكلوه وأكلونا كلنا.
وقد كان لممارسات هذه المجموعة، الأثر السلبي الكبير على انطلاقة العهد، وتسببت هذه المجموعة، بل هي سعت الى توتير العلاقات بين الرئيس لحود وسائر الأفرقاء السياسيين في لبنان، هذا في وقت، صودرت فيه، حكومة العهد الأولى، التي ترأسها الرئيس سليم الحص، من قبل عدد من ضباط المخابرات والأمن العام، الذين تولّوا هم ادارة البلد، فيما كان الرئيس الحص، منهمكاً في كيفية مطاردة رفيق الحريري، والاقتصاص منه مهما كلّف الأمر. في حين ازدهرت "غرفة الشكاوى" في القصر الجمهوري، ودخل العسكر الى الادارات ونشطت "المصادر" و"الأوساط" و"المخبر الصالح" والحملات الاعلامية، الى جانب من سموا "الأشباح"، وهجموا على الجميع من دون استثناء.
وهنا أشير أيضاً الى أن الرئيس لحود، تأخر في خلع ثوبه العسكري، وأعطى كل فكره ووعيه لسمعه، وأذكر أنني في تلك الفترة، زرته وقلت له في حضور بعض الأصدقاء: يا فخامة الرئيس أعتقد أن سمعك جيد، ولكن يجب أن تكون الرؤية أمامك في منتهى الوضوح.
لقد قلت هذا الكلام للرئيس لحود، لأنني كنت أريد منه ان يرى الأمور على وضوحها وحقيقتها، أي أريده أن يلمس الأمور بيديه وعينيه، ولا يحكم على الأمور من خلال السمع فقط.
واستطيع أن أقول وبكل راحة ضمير، إنني لم أكن الوحيد، الذي عانى من حكومة العهد الأولى، بل البلد كله، بعدما ضربت هذه الحكومة شعار الشفافية، الذي رفع في مستهل العهد، وانحرفت عنه الى ممارسة التشفّي من كل الافرقاء من دون استثناء، وعلى كل الأصعدة. مع العلم انه كان مقرّراً أن تأتي حكومة غيرها في مستهل العهد، وبرئاسة رفيق الحريري".
وعن حكومة الرئيس سليم الحص وادائها يقول ان "انحراف حملة الحص في اتجاهي كان من ضمن السياسة التي اتبعتها تلك الحكومة لازالة آثار من اعتبرتهم اصدقاء "العهد البائد" في نظرهم أي عهد الرئيس الياس الهراوي وحكومات الرئيس رفيق الحريري، وأنا اعتبروني من ضمن "العهد البائد"، وهنا كانت غلطتهم الكبيرة، علماً أنني شخصياً، كنت أحد واجدي عهد الرئيس إميل لحود، بل أحد المصمّمين لهذا العهد.
بدأ الهجوم عليّ، بعدما باشرت الحكومة ما سمّته هي "الاصلاح الاداري" والذي كان في الحقيقة، أبعد ما يكون عن الاصلاح الاداري وغير الاداري، بل هو لم يمتّ بأية صلة الى أي اصلاح. لقد نحرت هذه الحكومة شعار "الشفافية" الكبير، الذي انطلق على أساسه العهد. ولأنها كانت حكومة انتقامية بكل المعايير، لم تستخدم من هذا الشعار سوى أول حرفين من هذه الكلمة، فتحوّل الأمر من "شفافية" الى "شفّ" موظفين من هنا وهناك، واستبدالهم بالقريبين والمحاسيب والأتباع والحلفاء". ويستغرب بري كيف أن حكومة الحص لم تلاحق الحريري على السيئات انما لاحقته وحاسبته على الحسنات: "لقد خدموا رفيق الحريري بسلاحهم ولم يخدموا البلاد أبداً".
في جماعة الأجهزة والمخابرات
يؤكد بري قبيل الانتخابات الرئاسية هذه السنة "اني بقيت على دعمي العهد وأيضاً الحكومة (حكومة الحريري). ولكن جماعة الأجهزة والمخابرات واصلوا التصرّف على نحو ما كانوا قد درجوا عليه أيام حكومة الحص، وواصلوا هجومهم على الجميع، وسخّروا "المصادر السياسية" و"الأوساط" لتوجيه الشتائم، والاساءة والافتراء على الجميع، كما جنّدوا "الأشباح" لتعمل تحت جنح الظلام، لاحباط أي مسعى يؤدي الى بعث الوحدة والوفاق بين اللبنانيين، على نحو ما حصل بالنسبة الى المبادرة، التي قمت باتجاه بكركي، بعد فترة قصيرة من انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلية من الجنوب اللبناني، والذي تمّ في أيار من العام .2000
فممارسات هذه الأجهزة، التي تمّت في حقّ الجميع، والتضييق الذي فرضته على بعض أطراف المعارضة، جرى استغلالها من بعض المعارضين، فحوّلوها في بداية الأمر معركة حريّات، وكادوا ينجحون في ذلك، خصوصاً بعدما أدى هذا التضييق الى بروز حالة تعاطف شعبي مع هؤلاء المعارضين. ولكن رغم النصائح الكثيرة، التي أسديت من مختلف الأطراف، لم يتراجع التضييق على هؤلاء، بل استمر وكأن هناك محاولة لزيادة التعاطف الشعبي مع هذه الاطراف.، الا ان ما لفت الانتباه، هو ان هذه الاطراف المعارضة، وبشكل مريب، بدّلت عنوان معركتها، فحوّلته من معركة حريات، الى معركة ضد سوريا، وضد الوجود السوري في لبنان، وشّنت حملة رهيبة ضد سوريا، وجيّشت الواقع المسيحي ضد سوريا، وتحت عناوين وشعارات مختلفة (...).
في نتيجة الأمر، كان الهمّ الأساسي لدى الاخوان السوريين، هو ابقاء الجو التفاهمي في لبنان، وعدم إثارة أي من عناصر التوتير السياسي، وبالتالي قرّروا عدم الدخول مباشرة على الخط، خصوصاً بعدما لمسوا عدم التجاوب من بكركي، وعدم الرضى من رئاسة الجمهورية، على مبادرتي، وبالتالي قرّرت أن آخذ كل النتائج في صدري، لكوني أنا المسؤول الأول والأخير عن هذه المبادرة، والتي كنت قبل القيام بها قد وضعت الاخوان السوريين في صورتها بالتفصيل، وبأنها قد تؤدي الى توحيد البلد، فباركوها وتمنوا لي التوفيق.
لكن الأيام دلّت بعد فترة قصيرة، على ان الذين اطلقوا النار على المبادرة، أدركوا أن الخطأ الكبير، الذي ارتكبوه بالقضاء على المبادرة، لكونها صادرة من عندي شخصياً، وهذه هي الحقيقة الوحيدة، كما انهم ادركوا أن جزءاً أساسياً مما تضمّنته، قد جرت ترجمته على أرض الواقع بشكل عادي، ومن دون ان تستثمر سياسياً على نحو يؤدي الى تقريب المسافات ما بين اللبنانيين، فهي نفذت من دون ان نستفيد منها.
فبالنسبة الى اعادة انتشار القوات السورية، فقد تمّت فعلاً، وبالتنسيق ما بين القيادتين اللبنانية والسورية، وهي ما كنت قد أشرت اليها في كلامي بعد لقائي البطريرك صفير، عندما تحدّثت عن اجتماع القيادتين اللبنانية والسورية. وكذلك الأمر بالنسبة الى الموقوفين، الذين تحدثت عنهم خارج اطار المبادرة، أيضاً تم الافراج عنهم، اضافة الى أن العلاقة ما بين بكركي ورئيس الجمهورية اميل لحود تطوّرت، وصارت أفضل مما كانت عليه، وايضاً ان العلاقة ما بين سوريا وبكركي، تحوّلت من متوترة الى هادئة، كل هذه الأمور كان يمكن أن تتطوّر الى أفضل لولا أنهم سمحوا للمبادرة بالعبور (...).
