الاتصال بفكر الامام موسى الصدر حوار مع الحلم والايمان العميق، يسع الزمن حاضرا ومستقبلا، والاسئلة التي تتجاوز السقوف المرصودة لها، عن الوطن والدولة والهوية والعروبة والدين والطائفة... واشد القضايا الانسانية الساخنة على مسرحها اللبناني، حيث الاجابة تواكب حركة التاريخ وسياقها الاحتمالي، وتنتمي الى الغد والمستقبل والقادم من الايام والاوضاع داخل دائرة الحقيقة وفاعليتها في مواجهة الظلام والصنمية وألعاب السياسة التي عرفها الواقع اللبناني والعربي والدولي.
على ان حكاية الامام مع لبنان حكاية من يقع على وطن الهي طبعته الاديان بطابعها القدسي الجمالي، وهو يتشكل على وحي القضاء والقدر.
لبنان في قلب الامام كان ريحانة العالم وايقونته الساحرة. وفي عقله كان لبنان الامانة والرسالة والنموذج الانساني والحضاري والديني المثير للدهشة والرهبة في آن، بل هو الذخيرة الربانية الباقية عهدة على الانسانية وحجة على العالم اجمع.
ولان معنى لبنان يرتبط عضويا بمنظومة العيش المشترك، وبهذا التنوع في الاديان والمذاهب، والتعدد في الثقافات التي تنسج رداءها الحضاري على مساحة الوطن، فان واجبه كان يحتم عليه تطوير هذه الاطروحة الفريدة والدفاع عنها عندما تتهددها المخاطر، وجهالات من اعشى بصره وامرض قلبه الباطل.
ولم يكن العدل والحرية وحدهما هما اللذان يدفعانه الى الثقة بهذا النظام المجتمعي الذي يلبي رغبة الحوار والانفتاح ويكرس شروط الامان الانساني، في ظل بيئة فيها من المرونة والسعة والامتداد والتطور وقوة الجاذبية ما يسمح بالخروج من دائرة الخوف والعصبية والعنصرية الى فضاء فيه دلالة مؤثرة على القيمة الانسانية في تحقيق ارقى درجات التوازن والمساواة والشعور بمبدأ الاخوة والانسانية، وانما كان العيش المشترك يمثل بالنسبة اليه الفكرة المخلّصة التي تفتح للمسلمين والمسيحيين معا ابواب السلام والاكتمال.
فالحكم او النظام القائم على التفوق والاكراه تتصارع فيه قوى وعناصر المجتمع، ويسود فيه منطق التحارب والتناحر وكل اشكال الارهاب والاقصاء، لم يكن يريده الامام للبنان وانما كان يجهد ان يبقى لبنان في عيشه المشترك المدى والفكرة التي يفترض ان تعم العالم اجمع تفاديا للاستمرار في دوامة العنف الديني والسياسي، وفي صنع الحدود والحواجز وهياكل القطيعة بين بني البشر. على ان الامام كان واضحا في تحديده معنى التعايش عندما قال: "التعايش بكل ما للكلمة من معنى قدر لبنان" وهو تعبير يترجم مسار وجود لبنان ومصيره، وكأنه يحدد هوية لبنان ومعناه، جوهره ومكونه، ومشروعه الحضاري، بل دوره ووظيفته الانسانية.
وكذلك فهو يرتقي في تفسيره لمفهوم التعايش الى مستوى التنظير، والدعوة الى مبدأ يلامس حدود الايديولوجيا. انها ايديولوجيا السلام التي يراها ارقى مستوى من الابداع الاجتماعي للمجموعات الدينية المختلفة. يقول الامام الصدر: "التعايش امانة حضارية تاريخية امّن الله عليه هذا الشعب انه ارادة الديانتين الكبيرتين، بل ارادة الاديان كلها، فالبحث عن التعايش يتجاوز اختيار اللبنانيين، فهو قدرهم يجب القبول له وتحضير سبله...".
نعم، التعايش امانة وامانة ثقيلة، وعظمة الانسان اللبناني هو في حمله لهذه الامانة التي ابت كثير من المجتمعات ان تحملها تحقيقا لنظام يقوم على العقل لا على القتل. ومن ثم فان الامام يعتبر ان التعايش ارادة الديانتين الاسلامية والمسيحية بل ارادة الاديان جميعها. وهذا الكلام للامام يضفي بعدا شرعيا على التعايش، بمعنى ان هذا المبدأ له غطاؤه الشرعي من الاسلام والمسيحية، وله مصادره وجذوره في الاديان الاخرى ايضا. فمبدأ التعايش ينجم عن قواعد ومرتكزات اساسية في الشرائع السماوية وليس ظاهرة او فكرة ناشئة من اوضاع او مصالح طارئة تفرض هذا النوع من التآخي والتراحم. الامر الذي يعطي قوة لهذا المبدأ في اذهان الناس، ويستجيب لمشاعرهم الدينية ولا يعاندها، لانه يتوافق والديانة التي يعتنقونها، ويلبي شرطا اجتماعيا وسياسيا يعنى عناية كبرى بأن يكون المجتمع غير عنصري او طائفي او مذهبي، مما يفرد النظام الاجتماعي بسمة لا نظير لها خالية من العزلة واشكال التمييز ومجردة من كل ملابسة او تعسف. وعليه فان الامام كان يرى في التجربة اللبنانية تجربة غنية ورائدة ومتقدمة وحضارية وفي التعايش الاسلامي - المسيحي ثروة يجب التمسك بها. ففي حديث له لجريدة "النهار" في العام 1977 يعبر فيه عن ايمانه بلبنان وتربته الصالحة التي تنمو فيها نبتة العيش المشترك يقول: "ان لبنان ضرورة حضارية للعالم والتعايش امانة عالمية في اعناق اللبنانيين واذا سقطت تجربة لبنان فسوف تظلم التجربة الانسانية".
فأمام النظم القائمة على الفرقة والفوضى في القوانين التي تنعكس حروبا بين بني البشر، وتعصبا دينيا يؤثر على النظام العالمي بأسره ويجعله باستمرار معرضا لاقسى انواع العنف الديني، لم يجد الامام بدا من اعتبار لبنان النموذج الحضاري البديل الذي يمكن ان يحرر المجتمعات من عقدها ومشاكلها ويفسح في المجال للروابط الانسانية ان تنمو على هدي التعارف والاعتراف بالآخر وخصوصياته الدينية والثقافية، ودور الانسان وقيمته الايجابية في الانتاج والعمل لصالح مجتمعه واستقراره وتوزانه.
وربما سوف يبدو من خلال اجراء موازنة بين مقومات مجتمع العيش المشترك، ومقومات اي مجتمع آخر، البون الشاسع الذي يسمح لاحدهما النمو وفق نظام مرن وشامل يرتكز على مشتركات اكثر طواعية واكبر استعدادا لتلبية حاجات الافراد والمحافظة على السمات الاساسية لمجتمع متنوع الافكار ومتعدد الثقافة ومنفتح على البيئات والاتجاهات والقوانين التي تتناول شؤون الافراد والجماعات وتنظم مجالات نشاطهم الانساني والاجتماعي دون ان تضع قيودا على تجربتها القابلة للتجدد والترقي بما يخدم ويعزز حصانة واصالة صيغتها، فيما يقود الآخر مكونه البشري اما الى الذوبان في المصهر الثقافي الاحادي، واما الى مشاحنات وخصومات تدفع الافراد داخل هذا المجتمع الى ممارسة القهر المتبادل، ولعل ما هو حاصل اليوم في اكثر من بقعة في هذا العالم دليل على ما كان الامام يرمي اليه. لذلك حمل اللبنانيين امانة العيش المشترك لتكون المناقض الثقافي والحضاري لمن يريد ان ينحدر بالمجتمعات الى شريعة الغاب.
في واقع الامر كان الامام ينظر الى نجاح الصيغة اللبنانية باعتبارها اساسا في بناء الدولة الواحدة الكونية التي ينمو فيها الشعور الديني والروح الانسانية، ويسود فيها التعايش بين افراد وجماعات الديانات المختلفة وتنطلق فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية المتكافئة القائمة على الثقة والاحترام المتبادل، فأمام هذه الصورة كان الامام يعوّل كثيرا على التجربة اللبنانية وريادتها في رفد تجارب اخرى، يمكن البناء عليها لخلق بيئة كونية واحدة لا عصبية فيها او تمييز او تقاتل.
ومع تعاظم الاحداث الاليمة على الساحة اللبنانية كان قلق الامام كبيرا مخافة اهتزاز الركائز الاساسية للصيغة، بعد ان شوهت قيم لبنان وصورته الحضارية امام العالم. وبدا ان الرسالة التي حملها لبنان خلال الاعوام والقرون الماضية معرضة بشكل كبير لتهديدات خطيرة،مع استشراء العصبيات المذهبية والطائفية والعائلية والحزبية، مترافقة مع حملات اعلامية حاقدة لضرب صيغة التعايش بين المسلمين والمسيحيين. لقد كان المقصود البرهنة على فشل الاطروحة اللبنانية واثبات صحة النظرية الصهيونية القائمة على التمييز العنصري والديني والقومي، والتأكيد على استحالة التعايش بين الاديان، وخصوصا في الشرق.
في المقابل، كان الامام الذي جهد لاطفاء نيران الحرب لا يزال على موقفه وايمانه من صيغة التعايش، وان القتال بين المسلمين والمسيحيين لم يكن سببه الاختلاف في الرأي والانتماء، او بلوغ هذه التجربة حائطا مسدودا، وانما كانت العوامل الخارجية والاسرائىلية تحديدا وراء دوامة العنف. لقد كانت اسرائيل ترى في لبنان بتعايش ابنائه سندا قاطعا نقيضا لفلسفة وجودها العنصري، وهي لهذا السبب كانت ترغب بتدمير هذه الصيغة وافشالها بشتى الوسائل، على ان الامام ورغم الكثير من المطالبات التي ارادت منه التصرف وفق معطيات وظروف الحرب، وعلى اساس مرحلة جديدة، الا انه بقي متمسكا بقوة بالتعايش الذي اعتبره جزءا من تكوين اللبناني الذي لا ينفك عنه وامانة الله والانسان بيد اللبنانيين. والملاحظ انه لم يكتف باطلاق الدعوات الى اللبنانيين لازالة تراكمات الحرب ورواسبها واعادة التلاحم رحمة بهم وبالعالم، وانما وجه انظار العالم الى ما يحصل في لبنان، والى اهمية المساعدة في انقاذ هذه التجربة من التشويه والعبث، لأن "صيانة هذا الكيان هي امانة للحضارة العالمية بأسرها".
* مدير حوزة الإمام الصادق (ع) للشريعة الاسلامية، صيدا.