حركة "أمل" بين مبادئ التأسيس وواقع الإشباع

calendar icon 08 أيلول 2004 الكاتب:وجيه قانصو

ربما يوحي وصول قيادة حركة "أمل" الى أعلى موقع سياسي ممكن في الدولة، ومشاركتها الفعلية في القرار السياسي الرسمي، ان حركة "أمل" قد وصلت الى الذروة، وأنها قد حققت مقاصدها التأسيسية في المجال الايديولوجي والاجتماعي والسياسي، وان النضال تحول من تحقيق مكاسب وتقدم في مواقع القوة، الى الاستفادة القصوى من المواقع المكتسبة، والى النضال للحفاظ على الوضعية السياسية والترتيب الميداني الذي حقق هذه الانجازات.

كانت انطلاقة حركة "امل" على يد الامام موسى الصدر في بداية السبعينيات، شكْلَ احتجاج اجتماعي ودعوةً لتغيير الواقع السياسي في لبنان، وقد تشجعت حينها قطاعات شعبية واسعة في المجتمع الشيعي على الانتساب الى حركة "أمل"، رغبة منها في تحقيق وضعية تتوازن فيها الحقوق والصلاحيات السياسية، وفي رفع الحرمان ومظاهر البؤس، وفي اعادة ترتيب الواقع الدستوري والسياسي العام في لبنان حتى تتحقق المشاركة الفعلية من الجميع في تسيير الواقع وفي تقرير وجهته المستقبلية.

كان أفق الإمام الصدر هو النضال تحت سقف سياسي مشروع والتحرك على ارضية اجتماعية مشتركة بين جميع اللبنانيين، اي لبننة المشروع السياسي بالكامل والرهان على تغيير داخلي نابع من تحالفات محلية قادرة على تحقيق لبنان متوازن في وضعيته السياسية وعادل في تكوينه الاجتماعي والإنمائي. لذلك حرص الامام الصدر على التحرك داخل مجال سياسي مشترك بين اللبنانيين، تقوم في داخله شتى النشاطات السياسية او التحالفات الاجتماعية والتضامنات المدنية، وهو المجال الذي يجمع قوى المعارضة وقوى الموالاة، قوى التغيير او قوى المحافظة. بل هو المجال السياسي المشترك الذي يجمع السلطة ومن هم خارجها.

لذلك لم يكن مشروع الإمام الصدر مجرد مشروع تغيير للنظام نحو الافضل، بل كان ايضا مشروع اندماج وصهر للشيعة في مشروع الدولة والوطن، خاصة ان الحرمان المتفاقم في المناطق الشيعية ولد غربة وعزلة بين القطاعات المحرومة وبين الدولة، وخلق دوافع انفصال وقطيعة عن التكوين العام، قابلة لأن تتحول الى اشكال هياج مدمر، او توظف في مشاريع ثورات مغامرة تعرف كيف تبدأ النار ولكنها لا تعرف كيف تطفئها او تنهيها، وتهدد بتدمير كل شيء من دون ان تملك قواها القدرة على اعادة بناء ما تدمر. لذلك كانت المعارضة السياسية عند الإمام الصدر والنضال المشروع من الداخل، مدخلا للإطلالة على الواقع السياسي ووسيلة تفاعل واتصال مع نسيج القوى والفعاليات المحلية.

أراد الامام الصدر ان يحول شعور الاغتراب عند الكثير من الشيعة، الى مظهر احتجاج داخلي وحركة تغيير هادفة، لا تكتفي بتغيير معادلة الواقع وتعديل نظام توزيع القوة، بل تهدف ايضا الى الارتقاء بالواقع من مستوى اداء سياسي ضيق الى مجال سياسي يطل على المختلف في الوطن كله، ومن قوى تمثيل تقليدية ومتعالية الى قوى جديدة اكثر تعبيرا عن تنوع المجتمع، والأهم من ذلك كله، بتوسيع دائرة الانتماء عند افراد الوطن المحرومين ونزع دوافع الاغتراب والشعور بالاستلاب، من خلال عقلنة أحاسيس الحرمان وامتصاص مشاعر القهر، وتحويلها الى حركة مطالب وتوظيفها في مشروع تغيير داخلي يحفظ الهيكل ولكن بشرط تعديل الترتيب الداخلي فيه.

من هنا يمكن اعتبار مشروع "أمل" في رؤية الامام الصدر، مشروع دولة، لا بمعنى التبعية للسلطة السياسية الحاكمة او الولاء لها، بل تحويل الشعور بالحرمان وأحاسيس الاغتراب الى خطاب مطلبي وقوة انتظام سياسي وشكل تعبير احتجاجي، اي تحويل أحاسيس السلب والاستلاب الى وضعية ايجابية منتجة، تبني بدلا من ان تدمر، وتحرز تقدما في المواقع بدلا من التوغل في الغربة والانفصال عن الواقع، وتخلق واقعا سياسيا جديدا يوسع مدى الواقع القائم من مجرد سلطة سياسية حاكمة او مجموعة إقطاع ونخب تهاونت بمشاعر ومصالح الناس، الى حقل تمثيل واسع وقوى تعبير متعددة وصور تضامنات متنوعة، قادرة بمجموعها على نقل المشهد الاجتماعي والتفاعلات الشعبية العامة الى مراكز القرار وأجهزة التخطيط والملاحقة.

ولعل هذه هي الميزة الفريدة لمشروع الامام الصدر، حيث انه صنع من الاحتقان والغضب، طاقة انتاج سياسي تساهم في بناء دولة تتوزع مواردها واهتماماتها ورعايتها على جميع اللبنانيين بالتساوي، فأنشأ وعيا لدى المواطن بالمطالبة والاحتجاج، اي الوعي بمصالحه وبحقوقه وبطرائق التعبير المشروعة، وأنشأ بالمقابل شعورا عند الفرد المغترب والمستلب بقداسة الانتماء السياسي والثقافي لكيان جامع اسمه الوطن وبمبادئ علاقات والتزامات متبادلة اسمها الدولة، وهو ما يمكن تسميته بالمواطنية. فالمواطنية ليست مجرد انتماء لأرض او لشعب او لذاكرة او ثقافة، بل هي وضعية تفاعلية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي والسياسي، ونظامٌ علائقي يمنح الفرد حقوقا مدنية وفاعلية سياسية ويفرض عليه التزامات عامة. انها انتقال الفرد من مجرد عضو في جماعة الى عنصر مشارك ومسؤول في المجال العام.

من هنا نفسر تركيز الامام الصدر على العمق الاجتماعي وعلى معطيات الواقع في تركيب مشروعه السياسي، وإحجامه عن أدلجة تحركه السياسي. اي انطلق من الظل الاجتماعي والمعيشي والبنيوي في تشكيل كتلة تضامنية ذات مبادئ مطلبية محددة، ولم يرتكز على كليات عقائدية او على نزعة شمولية لا تكتفي بتغيير سلمي للواقع السياسي بل تنزع الى ازاحته وزعزعته وقلبه ثم اعادة بنائه على تأويلات تناسب طائفة دون طائفة اخرى، وشريحة او طبقة اجتماعية دون اخرى. وبذلك نفسر ايضا، رؤية الامام الصدر في اعتماد الاسلام كمرجع فكري ومصدر تربوي وضابط اخلاقي في التكوين التنظيمي، مع تجنب طرحه كبديل عقائدي او اطار حصري لتفسير او تأسيس النظام السياسي العام في لبنان.

طبعا، لم تكن قضية المقاومة الفلسطينية لتغيب عن اهتمامات الامام الصدر، الا انه أراد للمواجهة مع اسرائيل ان تبقى ضمن مشروع مواجهة شاملة، ووفق رؤية متوازنة، تحقق فعالية ميدانية لعملية التحرير وتخرج المقاومة من دائرة المزايدة بين الفصائل والقوى، وتحفظ للداخل اللبناني تماسكه وللدولة سيادتها الكاملة. اي مشروع يرفع الصدام والتعارض بين ضرورات المواجهة مع العدو الاسرائيلي وبين ضرورات الاستقرار الداخلي. من هنا كانت فكرة افواج المقاومة اللبنانية شكلا تعبيريا عن التضامن مع القضية الفلسطينية من جهة، ومبادرة لسد الفراغات الميدانية والعسكرية التي سببتها الدولة اللبنانية في رد العدوان الاسرائيلي على لبنان من جهة اخرى، من دون ان تخلق حالة امنية او عسكرية موازية او مزاحمة للقوى الرسمية. اي أراد الامام الصدر مشروع مقاومة يعوض عجز الدولة عن رد العدوان الاسرائيلي، مع قابلية هذا المشروع لأن يصبح مشروع الدولة نفسها في المستقبل.

أحدثت الحرب اللبنانية ارباكا لأي مشروع تغيير داخلي، اذ تداخلت فيها المعطيات الاقليمية والدولية مع المعطيات الداخلية، وتحول الخلل الداخلي الى مادة توظيف خصبة للتيارات الايديولوجية والقوى الاقليمية والدولية، فلم يعد بالامكان تحديد الموقف بحرية او تعيين الموقع بناء على المعطيات الموضوعية، بل تحول من خيار نضال وتغيير الى خيار وجود وصراع على البقاء.

ثم كان اتفاق الطائف نقطة تحول في الوضع اللبناني، فقد أنهى الحرب اللبنانية من جهة، وأحدث توازنا نسبيا في معادلة القوة بين الطوائف اللبنانية من جهة ثانية، ووضع منطلقات لإلغاء الطائفية السياسية وآلية ترتيب للوجود السوري في لبنان. كانت الانتخابات النيابية الثمرة الاولى لاتفاق الطائف، حيث تم استبدال اكثر النواب القدامى بنواب جدد، كتجسيد لمتغيرات القوى الداخلية، واستطاعت حركة "أمل" ان تشكل كتلة نيابية واسعة وان تحرز قيادتها الممثلة بالرئيس نبيه بري رئاسة المجلس النيابي.

الوضعية الجديدة، نقلت حركة "أمل" من حركة مطالب وظاهرة احتجاج، لتصبح جزءا من النظام السياسي، وشريكا رئيسيا في صنع القرار الحكومي، وأصبح لها اليد الطولى في تعيين المراكز والمواقع الرسمية المتقدمة في الدولة. اي تحولت من قوة معارضة وخطاب تغيير الى قوة سلطة وخطاب محافظة وصراع داخل السلطة على موارد الدولة، فدخلت في حالة الاشباع. كان دخول حركة "أمل" في السلطة عبارة عن امتصاص كامل لتطلعاتها التأسيسية الاولى ولطموحاتها التغييرية التي أسس لها الامام الصدر. اذ خفت قدراتها على التعبئة والتحشيد وتقلصت قواعدها الشعبية بشكل لافت، وتقلص برنامجها السياسي الى مجرد الحفاظ على المكتسبات، خصوصا مع بروز "حزب الله" كقوة مزاحمة في حقل الاستقطاب الشعبي وككتلة منافسة في المجال التمثيلي، سواء في البرلمان اللبناني او في المجالس البلدية، حيث تصاعدت حمى التنافس بين القوتين كوسيلة اثبات وصمود معا لكل طرف امام الآخر.

ربما كانت الشراكة في السلطة، مدخلا لرفع الغبن عن الطائفة الشيعية، ووسيلة لتأكيد الذات وإثبات الحضور داخل الكيان العام، الا ان ذلك بالمقابل لا يرفع الغبن عن الوطن الذي ما يزال يعاني من هشاشة في واقعه السياسي ومن ضعف في مؤسساته ومن استنفاد مؤلم لموارده وطاقاته. الاقتصار على التعبير عن المخاوف والهواجس الطائفية عند القوى السياسية، حوّل الساحة السياسية العامة الى ساحة صراع على المصالح الجزئية وتعارض في الانتماءات الطائفية، وتحولت الدولة من اطار جامع ووحدة دمج للقوى وصهر للإثنيات والميول المتعددة الى حقل استثمار واكتساب، والى كيان مهمش تتحكم فيه الولاءات الضيقة والرهانات الايديولوجية.

لذلك لم يعد الرهان السياسي الحالي في رفع غبن طائفة او في انصاف شريحة او طبقة اجتماعية، بل اصبح في خلق حياة سياسية صحية وفي خلق مرتكزات هوية داخلية تدمج بداخلها الانتماءات الطائفية والحزبية والجزئية، والأهم من ذلك كله في تحويل الدولة من مجموعة حصص موزعة الى وحدة شاملة وحاضنة لكل التطلعات والمطالب والمشاريع، اي تحويلها من موضوع وغرض للنضال الى ان تكون واجهة ومنطلقا للنضال، ومن حالة التجزؤ والهشاشة الى حالة الشمول والفعالية والحضور.

خلق دخول حركة "أمل" في السلطة وتسلمها الكثير من مرافق الدولة، شعورا وهميا عند الكثيرين فيها بالوصول الى ذروة النجاح، وولدا رؤية مضللة بضرورة الحفاظ على والاستفادة من الترتيبات السياسية التي حققت هذه المكتسبات. وهذا ما ادى الى إضعاف الافق السياسي الحقيقي الذي رسمه الامام الصدر، والذي يتمثل في تحول حركة "أمل" وسائر القوى السياسية من قوى تعبير طائفي او ايديولوجي خاص الى قوى تمثيل وتعبير واستقطاب عام، اي في خلق واقع سياسي عام يدمج التطلعات الخاصة والجزئية، وفي تعديل وجهة النضال السياسي من نضال مطالبة وتحصيل مكاسب من الدولة الى نضال للارتقاء بالدولة نفسها الى مستوى التمثيل العادل والتماسك الداخلي والحياة السياسية الحيوية والشفافة والحرة.

من هنا، تبرز الحاجة في حركة "أمل" الى مراجعة جدية وتقييم نقدي وشفاف لأداء السنوات السابقة، سواء كان على مستوى توثيق مصداقية الأداء الرسمي الذي يضمن عدم تكرار الفضائح المالية التي ارتكبها بعض المسؤولين، ام على مستوى تطوير الهيكلية التنظيمية وطرح قواعد تضامن جديدة والتشديد على الانضباط الداخلي، ام على مستوى توسعة القاعدة الشعبية وتجديد خطاب التعبئة والاستقطاب، ام على مستوى البرنامج السياسي بحيث لا يدور في حلقة اثبات الذات مقابل الآخر ولا يقتصر على المطالبة بحقوق الطائفة ولا ينحصر بالدفاع عن المكتسبات التنظيمية، بل ينتقل الى مستوى صناعة الواقع الوطني العام، وخلق شروط حياة سياسية، تجعل الحرمان والطائفية السياسية والفساد الاداري والتخلف الانمائي في ذمة التاريخ.

source