لو... أداة شرط تستعمل في حال امتناع جواب الشرط بسبب امتناع فعله.. إذن فهي أداة استحالة، وكل فرضية تترتب عليها هي محال.. إذن فلماذا نستعملها؟ يجيز لنا أهل اللغة متفقين مع اهل المنطق ان نفترض المحال، ويقولون: فرض المحال ليس محالا.. إذن وفي الذروة من الشعور بالخيبة المترتبة على حدث ما، يمكن لنا ويحلو ان نفرح بمجال نفترضه، حتى نخفف شعورنا بالخسارة، غير انه في نهاية الكلام يتضاعف هذا الشعور، وبرغم ذلك لا نستطيع الخلاص من ميلنا اليومي، المتولد من الخيبات المتراكمة، الا ان نلجأ الى هذه ال<<لو>> لعلها تسلينا.
فماذا لو ان الامام الصدر لم يُغيّب هذه المدة المتطاولة، او نصفها على اساس ان الاعمار بيد الله، وعلى أساس أننا كنا وما زلنا بحاجة الى الامام، غاية الأمر أننا كنا بحاجة إليه بشكل اشد إلحاحا، من سنة غيابه او تغييب الى اوائل التسعينيات، اي من نجاح الثورة الاسلامية في إيران، الى الاحتلال الاسرائيلي للبنان، الى المقاومة، الى حرب المخيمات، الى الحروب الداخلية المتنقلة في لبنان بعد ذلك، خصوصا حرب حركة امل، حركة الإمام الصدر، مع المقاومة الفلسطينية والأحزاب (الشيوعي والتقدمي الاشتراكي وحزب الله) الى الطائف مرورا بالحرب العراقية الايرانية انتهاءً بحرب الخليج الثانية.. وهنا منطقيا لا استطرادا نكتشف ان حاجتنا اللبنانية ترتفع درجة اهميتها بالنسبة إلينا والى الامام الصدر لتعم فترة الأربع وعشرين سنة من غيابه، واذا ما انتبهنا الى ان عمره الآن قد قارب الخامسة والسبعين، ازدادت لوعتنا وشوقنا إليه ويقيننا أننا الآن.. بعد الحادي عشر من ايلول، أشد حاجة إليه وأكثر اطمئنانا الى حكمته وصواب رأيه وتوازنه واتزانه وأصالته وعصريته المؤتلفتين على التوحيد والوحدة وكشف واكتشاف المشترك بين المختلفين واكتشاف وكشف الاختلاف بين المتفقين، وعلاج الخلاف في الحالين بواقعية وعقلانية وإيمانية ترى الكل في الواحد وترى الواحد في الكل.
هل هذا إعلان إفلاس، اي التوسل بالغائب الفرد في مقابل الحاضر الجماعة؟ أبدا... قد لا يكون... بل ولن يكون الامام الصدر في حال كونه بيننا ومعنا الآن مخترعا لمعجزات... لكن سوء حالنا قد بلغ درجة الاعجاز السلبي، وكان بإمكان الامام الصدر ان يكون مخففا او ملطفا لهذا الواقع الجارح، ومضمدا لبعض الجراح، وواقيا اخلاقيا وفكريا من حدوث كثير من الجراح.
كانت الثورة الاسلامية في ايران، لو كان الامام الصدر موجودا عام 1979 قد وجدت قناتها الواسعة والمستقيمة الى الواقع العربي واللبناني، الذي كان الامام الصدر يعرف تقاطيعه وتفاصيله وظواهره وبواطنه، ولكنا تجنبنا كثيرا من الحركات التجريبية التي ترتبت عليها خسائر كبيرة، يعوضها جزئيا فقط، العودة الى الاعتدال بعدما كاد التطرف يأكل كل شيء.
وربما، بل من الأكيد، ان الامام الصدر، باعتداله وتوسطه المنهجي بين الإمام الخميني والحركة الوطنية الإيرانية (بازركان وحركة تحرير إيران خصوصا)، كان بإمكانه ان يمنع الانفجار الذي لم يكن الامام الخميني يريده ولا بازركان وعقلاء الحركة يريدونه.. وكان هناك وهنا من يريده فحقق ما يريده.
وخسرنا وما زلنا نخسر، بحيث علقنا الآمال على السيد خاتمي ورعيله، لكن بعدما تفاقمت الامور، وارتفع الاختلاف في غياب الراعي الاول، الامام الخميني، الى مستوى التناقض، الذي يقض مضجع المرشد السيد علي خامنئي، لكن اسبابه العميقة تحول دون الإنجاز المشترك بين السيد خامنئي والسيد خاتمي، والذي يحفظ للطبقة السياسية في إيران تعددها واختلافها وشراكتها في إنجاز المشروع الايراني في وجه تحديات الداخل والخارج.
وكان يمكن لحرب المخيمات ان لا تكون... لأن الامام الصدر كان سوف يجد نفسه مسؤولا عن الشعب الفلسطيني بعد الاجتياح، كما هو مسؤول عن حركة امل التي تشكلت على طريق فلسطين.
وقد جربنا الامام الصدر عام 1976 عندما بلغ الاحراج له من قبل اليسار الفلسطيني ذروته، فتعالى فوق الجراح معطيا الأولوية للقضية المشتركة والقيم المشتركة والمخاطر المشتركة... وكان يمكن للإمام الصدر ان يستقبل الاجتياح الاسرائيلي بحساب وطني لبناني وعربي سوري خصوصا وإيراني دقيق. اي كان بإمكانه ان يواصل مسيرته مع حركة أمل على طريق المقاومة من دون الوقوع في تعددية شيعية على طريق المقاومة، يرتفع فيها الخلاف في لحظة حرجة، الى مستوى التناقض والتناحر، فيحدث الشرخ العميق بين المقاومين، الذي عولج لاحقا ولكن لم يسد تماما، وما زال يفاجئنا او لا يفاجئنا بين لحظة وأخرى بتوترات وانفجارات جزئية متنقلة من مكان الى مكان ومن مناسبة الى مناسبة، من دون ان يقوى التحالف السياسي الموسمي على رأب الصدع تماما.. كانت الأطروحة الوطنية اللبنانية العربية الاسلامية التوحيدية لدى الإمام الصدر بإمكانها ان تجنبنا المبالغة بالسياسة الى حد الأدلجة الشمولية، وكان بإمكانها ان تضع المشروع الوطني في المقاومة والسياسة اللبنانية، في مكان آمن من مفاصل الرؤية الاسلامية العامة والخصوصية الشيعية اللبنانية الموصولة بأعماقها وآفاقها العربية والايرانية.
وكان بإمكان الشعب الفلسطيني ان يجد في عباءة الامام الصدر خيمة يستظلها ريثما تأتي الانتفاضة الاولى والثانية والثالثة وتتصل اوتاد الخيمة بالحلم الفلسطيني او البيت الفلسطيني.
وكان بإمكان الامام الصدر ان يستوعب فشل اليسار اللبناني الذي تسارع من خلال تعقيدات الحرب اللبنانية وسقوط التجربة الشيوعية وآثارها على حركة التحرر العربي، وأن يستوعب وصول اليمين اللبناني الى ازمته وخيبة أمله من المراهنات على الآخرين من دون انتباه للأولويات والثوابت... ليتحول الامام الصدر، بما عهد فيه من وسطية مكنته من رؤية جميع من حوله وما حوله، وميله الشديد الى التفهم والتفاهم الى الحوار والتجاوز والاستيعاب.. كان بإمكانه ان يبني على ما أسسه في الحوار المسيحي الاسلامي، وفي الحوار العربي العربي واللبناني اللبناني واللبناني العربي، وفي الحوار بين الأجيال والثقافات والحساسيات المختلفة.. ان يرفع مشروعه ونهجه الحواري الى مشروع سياسي وطني تعددي، يحتل من خلاله موقعه الطبيعي في اتفاق الطائف، ومن موقع ميثاقي سبق له ان رسخه حينما أعلن تمسكه بمارونية رئاسة الجمهورية في لحظة حامية، كان بإمكانه ان يحمل أمانة المادة الأجمل والأعمق والأهم في دستور الطائف.. العيش المشترك.
باختصار شديد.. كان بإمكاننا مع الإمام الصدر، على المستوى الوطني والاسلامي عموما والشيعي خصوصا، ان نكون أقل استعدادا للاصطفاف الطائفي من دون اضطرار الى الحلم المستحيل بتدمير طوائفنا التي لا تلبث، بسبب الجهل والعصبية، ان تتماسك على السلب لتتحول من مشكلة صعبة الى مشكلة اصعب.
وباختصار شديد ايضا، كان يمكن للإمام الصدر ان يغتنم استحقاق الحادي عشر من ايلول ليخطو خطوة نوعية على طريق إنجاز المثال اللبناني، الذي يكثر الكلام عنه الآن، ويزداد العمل على إحباطه ومنع تحققه وإنجازه. لو.. ولو.. ولو.. انها فرضية موضوعية، لكن الجواب هو مجموعة أخيلة وتمنيات وأحلام يزيدها الاحباط تضخما.. ولكنها في كل حال شهادة للإمام الصدر بأن مكانه فارغ، ينتظره، او ينتظر مثله.
من دون أن ننسى ان مثل الامام الصدر.. الآن مستحيل.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.