مالك بن نبي في ذكرى الإمام موسى الصدر

calendar icon 03 تشرين الثاني 2002 الكاتب:عمر مسقاوي

*المؤتمر الثالث للحركة الثقافية في النبي شيت (الجلسة السادسة)

لي من الإمام موسى الصدر ما كان لي من الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، كلاهما استجابا لقلق في ناشئة الشباب.

اما الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي فقد كنا عشية يوم من ايام الدراسة في القاهرة عام 1956 نجلس على شرفة منزلنا وقد ضم جمعا من رفاق السكن والطريق معا. واذ بي اتوقف عند كلمات في مجلة روز اليوسف نقلها الصحافي الدكتور مصطفى محمود في لقاء له مع مفكر جزائري قدم حديثا إلى القاهرة يتحدث عن "القابلية للاستعمار".

واذا استحوذ شباب الخمسينات شغف بالتحرر من الاستعمار في اعقاب هزيمة فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، واهتمام بالفكر المتأمل في خطى المستقبل وطموحاته، فقد بدى العنوان صدمة تستشرف الادراك.

وهكذا عقدت بيني وبين فكره آصرة المنهج في بكور التأمل.

اما السيد موسى الصدر، فذلك ما كان من نبئه في بداية الستينات حين طرح حضوره في زحمة قلق جديد انه قلق الستينات.

كان محيطنا اللبناني جماع المشكلات كلها في عالمنا العربي المحيط بنا اذ بدى المشهد يرهص بمنقلب تقلبت به احداث العقود الباقية من مسيرة القرن.

وهكذا تفرد حضور السيد موسى الصدر في اسلوبه الخاص بألق لافت وبدى لمستشرف المستقبل في طروحاته عودة إلى تأسيس الشخصية الاجتماعية في منظور تربوي واجتماعي يمتد بسبب إلى مختلف الخصوصيات الطائفية المذهبية لتحزمها بخصائص الوحدة الاجتماعية هكذا بدأ خطابه التبشيري يخفض الجناح لمختلف المنابر ويحدثهم بأصول المنهج وحقائق الطبيعة ليدلف من خلال ذلك إلى تأسيس منطق جامع يتألف ظاهرة الدين كحقيقة حضارية جامعة يخاطب بها المؤمنين وغير المؤمنين على سواء بينهم وكان له من كل منهم إعجاب مستزيد.

هكذا بدأ موسى الصدر يحتل منا على غير استئذان صدر المساحة الفكرية التي اوسع لها مالك بن نبي النطاق والرؤية ولذا بدا لي منه قربي توثقت في احدى محاضراته في مدينة طرابلس حين فاجأني يستشهد في حديثه عن مفاهيم عالم الغيب والشهادة بكتاب مالك بن نبي الظاهرة القرآنية الذي كتبه باللغة الفرنسية وقد ترجم إلى العربية.

تقدمت اليه معرفا وكان ذلك عام 1966 ولم يكن في ذلك الوقت قد عرف مالك بنى نبي شخصيا.

ولود هو نسيج طبعه استدرجتني إلى لقائه المناسبات وكان الحديث يستأثر بالمفكر حين فاجأني بقراءة كتبه جميعها.

واذ كانت الندوة اللبنانية بقيادة ميشال اسمر حفيه بالمفكرين الاسلاميين كالإمام موسى الصدر والدكتور صبحي الصالح والمطران جورج خضر والمطران حداد والدكتور حسن صعب فقد شكل هؤلاء بسيط الستينات فكرا متداولا في صعيد الوحدة والتنوع.

وبدت عبر الندوة اللبنانية توسطية رنيه حبشي تستعيد صداها مع ميشال شيحا لتجعل من الصعيد اللبناني بذور غرس يؤهل لما توارد من صيغ التسعينات والسلام المرتقب حول حوض المتوسط عبر عنها اخيرا الدبلوماسي الشاعر صلاح ستيتة بالنقطة الزرقاء في صفحة العالم في رؤيته لحوض المتوسط وقد وردته الاصول اليونانية والرومانية والاصول اللابراهيمية فكانت منطلق عولمة الحضارة.

لذا كان من المفيد في مرحلة الستينات ان يسهم الفكر الإسلامي في ذلك المحيط القائم على المقارنة بين المسيحية والاسلام.

هكذا بدأت الندوة اللبنانية سلسلة ندوات عامي 1965 و1966 حول الكلمة السواء كما عبر عن ذلك مفتي الجمهورية اللبنانية المغفور له الشيخ محمد علايا ذلك الزمن في رسالته إلى تلك الندوة مستشهداً بالآية الكريمة.

واذا كان موضوع "العدالة الاجتماعية" لغة الستينات في بسيط النظم الاشتراكية فقد عقدت ندوة حول العدالة الاجتماعية في الاسلام والمسيحية بإشراف السيد موسى الصدر والدكتور صبحي الصالح والمطران جورج خضر والدكتور حسن صعب. كان لي فيها حظ المشاركة.

وفي احدى زيارات مالك بن نبي إلى لبنان في نهاية الستينات او بداية السبعينات اتيح لمالك ان يلتقي موسى الصدر وان يحدثني مالك عن ذلك اللقاء الذي لم اكن طرفا فيه:

ولقد كان من شعاب ذلك اللقاء ان اسر إليه (لظروف ذلك الزمن) بدعوة سوف تأتيه لزيارة ايران ولقاء الحوزات العلمية فيها.

بيد ان بن نبي حمل الي من آفاق موسى الصدر ورؤيته لمسيرة الحضارة الاسلامية وافر التلاقي وهكذا اخذ فكر بن نبي يتخذ له منحى في جلسات الشباب في الحوزات العلمية وكلما التقيت بأحد العلماء خريجي تلك الحوزات وجدتني في ذاكرته عبر كتب الاستاذ مالك بن نبي التي اشرفت على اخراجها جميعا باللغة العربية – لكن اكبر ما يمنحنا تواصلا بين الإمام موسى الصدر وفكر مالك بن نبي هو الاحتفال التأبيني الذي اقامه المجلس الاعلى الاسلامي الشيعي برئاسة سماحة الإمام الصدر عام 1973، في قصر الاونيسكو وتحدث فيه المغفور له سماحة الإمام والمغفور له محمد شمس الدين والمغفور له الدكتور عمر فروخ بالاضافة الي، ثم كان الشاعر نجيب جمال الدين المعرف بين الخطباء يمنح الفواصل بينهم اتصالا فيه من جذوة الإمام دفء انتماء.

واذا كنا اليوم نجتمع لنتحدث عن مالك بن نبي المفكر الجزائري في ذكرى الإمام الصدر فذلك نسيح تألفته القضية وهو في عمقه معنى من معاني ذلك الامل الذي لمع يوما في وميض نظرات الإمام. الامل الذي تفجر من مرارة كربلاء وحرارة المقاومة.

بيد ان كربلاء ليست سوى النموذج والتعبير عن مأساة الحاضر وهو في هذا يرافق الفيلسوف مالك بن نبي ذلك المهندس الذي انجبته مرارة الاستعمار في الجزائر فحفزته إلى امل الخروج من قيودها فقد آثر كلاهما دعوة إلى امل المدى الاوسع المدى الذي يخرج من اسوار ما مضى إلى انوار الآفاق البعيدة.

فالقابلية للاستعمار لم تكن في فكرة بن نبي "مناحة جلد الذات" بل مساحة رؤية تستحث الخطى خطى الانتصار على الماضي والذاكرة.

ومن هنا بدأت رؤية بن نبي في احتواء المشكلات واكتناه اسوارها وانها مشكلات الحضارة حضارة افتقدت خطاها في اديم محيطها فسلكته اقدام العابرين.

وهكذا غدا الفكر الإسلامي في ذلك المحيط يعيش ازمته في عالم استحوذ على دقائق رؤيته لمصيره وعلينا في نهاية القرن ان نرى ميزانية هذا الفكر الذي ساح بين متهم للحضارة الغربية او متهم منها كما يقول بن نبي.

لقد كانت مرارة ابن المستعمرات في فكر بن نبي دعوة إلى منهجية سبقت الفكر المبهور والمقهور معا وهكذا ومنذ الثلاثينات وضعنا بن نبي نحن جيل التفاؤل بالمستقبل امام شروط النهضة مستخدما الفكر الغربي وسيلة ادراك لاحقيقة انطلاق فهو يقول بأن الطالب المسلم يذهب إلى اوروبا ومنذ الاتصال الأول وهو يحمل في اعماقه مجموعة من الافكار الميتة التي كانت لزمن افكارا قاتلة في جسم الحضارة الاسلامية وقد فتت وحدة المجتمع واخرجته من دوره الفاعل في شبكة العلاقات الاجتماعية ويتساءل بن نبي لماذا يركن المسلم دون سواه من الشعوب كالصيني والياباني مثلا إلى هذه العناصر القاتلة في الحضارة العربية.

ويجيب لان موقفنا من مشكلة الثقافة ليس صحيحا لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الاجتماعية.

ويضرب بن نبي نموذجين من العالم الاسلامي يمتصان افكار الحضارة الغربية القاتلة. نموذج السائح المهتم بالجانب التافه من الحياة الغربية اي من مكان تتحلل فيه الحضارة وتنتهي إلى مخلفاتها القاتلة إلى "مزبلة".

ومن ناحية اخرى فانك تجد الطالب المجد منغمسا في الجانب التجريدي والنظري من الحضارة الغربية منكبا على كتاب اي في كل مكان تتقطر فيه الحضارة الغربية إلى خلاصتها العلمية مع عناصرها القاتلة احياناً والمقتولة اي إلى مقبرة.

فكلاهما اي السائح والطالب المجتهد بمقتضى بل وراثته الاجتماعية لا يذهبان إلى المهد الذي تولد فيه الحضارة ولا إلى المصنع الذي تصنع فيه كلاهما يذهبان احدهما إلى المكان التي تتعفن فيه والآخر الاماكن التي تتقطر فيها أي كلاهما يذهبان إلى حيث تكون الحضارة فاقدة الحياة.

من هنا يطرح بن نبي المشكلة من زاوية الفاعلية التي تبدو في التكوين التربوي لإبن المستعمرات في اقتباسه من الحضارة الغربية.

فهناك فرق بين الاقتباس من الحضارة الغربية لحساب تلك الحضارة والاقتباس منها لحساب ابن المستعمرات ليرتفع إلى مستوى الحضارة فمالك بن نبي يدعو إلى بناء رسالة يرتفع فيها ابن المستعمرات إلى مستوى الحضارة وابن الحضارة القائمة إلى مستوى الانسانية رسالة تتلازم فيها المهمات تلازما عضويا.

فالصراع الفكري الذي انطلق مع مسيرة القرن وضع ابن المستعمرات في آلية عولمة الحضارة الغربية القائمة على نفي الآخر. ويتساءل بن نبي في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" فيقول الصراع الفكري!! فهل لهذه الكلمة معنى في البلاد المستعمرة!! وهذه البلاد تجهل على العموم قيمة الفكرة في مصير المجتمعات كما تجهل الخطوط التي ترسم من اجل التحكم في مصير الشعوب المتخلفة عن طريق افكارها؟".

فالثقافة في رأي الاستاذ مالك بن نبي ترسم الحدود الجغرافية والانسانية لكن التاريخ يفرض تداعياتها دائما على حدودها وليس في داخلها.

فعلى حدود ثقافتين متحاورتين تحدد الثقافة اسلوبها بين ان تكون ثقافة سيطرة أو ثقافة انفتاح.

فهناك مؤرخون كما يقول بن نبي يرون ان نهضة اوروبا القرن السادس عشر تعتبر تركيبا حققه الزمن والاحداث على حدود الثقافة الاسلامية والعالم المسيحي والحروب الصليبية لكنه نوع من التركيب الذي احدث وضعا معكوسا وهو عنوان ازمة العصر الحديث.

ومن هنا يطرح بن نبي مفهوم الثقافة كمنهج ينطلق من واقع التراث.

فالثقافة لها دار أمنها واقامتها ومواطن حضارتها لكن الاحداث التي تنتج عنها لها ميدانها دائما على حدودها اي في المنطقة الحرام فالعناصر الاشعاعية فيها تنطلق تلقائيا بفعل الطبيعة وبغير قصد مع مسيرة التاريخ.

لكن مع قيام دراسات علم النفس وعلم الاجناس في اوروبا القرن التاسع عشر بدأ الوعي النهضوي يسيطر على هذا التداخل الطبيعي ذلك الوعي الذي اسس لمفهوم الثقافة على صورة اوروبا وحدها فأضحى التعامل مع الشعوب الاخرى يخضع لرقابة مسيطرة في اطار القوة والفكر معا وهكذا تعطلت حركة التاريخ.

فمالك بن نبي يرى ان الحضارة الحديثة اوجدت في البلاد المستعمرة ما يسميه "الصراع الفكري" اي ذلك الصراع الذي يهدف من خلال المركزية والخداع الفكري الى تعطيل التناضج الثقافي بين الامم.

فالدراسات الحديثة عير هننكتون او برنارد لويس او سواهم من الفكرين الامريكان اصبحت جزءاً من ترسانة الحرب لذا يضعون المشكلة تحت عنوان صراع الحضارات او الثقافات كيما يفرضوا مصيرا على الشعوب يعطل حركة التاريخ وتداول الايام.

من هنا كان انفتاح السيد موسى الصدر على كل صعيد يستطيب له فكر بن نبي اذا تجاوز اسوار الانعزال ثم بدا يطرح حضوره بصورة قوية فيما بعد مع المغفور له الشيخ محمد شمس الدين وهو اليوم يجد صداه في ادراك واع في حركة المقاومة وحزب الله فضلا عن قيادة حركة امل.

فمؤتمر الفرنكوفونية في لبنان لا شك قد حمل معه افقا جديدا في التعاطي السياسي مع الثقافية الفرنسية كان السيد حسن نصرالله عنوانه البارز؟ وهكذا اتخذ مفهوم الفرنكفونية منحى جديدا في خطاب الرئيس شيراك.

لقد كان بن نبي في كتابه الفكرة الافريقية الآسيوية الذي كتب عاما 1956 في اعقاب مؤتمر باندوغ يطرح قضية الثقافة في مداها المؤثر في مسيرة العصر.

لذا دعا بن نبي في مقال نشره عام 1965 إلى قيام علم اجتماع خاص هو علم اجتماع ما بعد الاستقلال السياسي في العالم الثالث.

وفي هذا يقول:

"ان الانضباط النفسي الذي يتحلى به اولئك الذين سيتناولون بعد الكفاح المسلح المحراث او المطرقة او القلم ان هذه الاجيال المستمرة في اتجاه مرسوم هي التي تصنع الدولة على الصورة المتلائمة عضويا مع طبيعة الدأب المستمر واهدافه.

ينبغي ان ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال ليكون بين ايدي من يشرف على اجهزة الدولة اداة رقابة لا ينفصل عن جهاز التخطيط".

فالاقتصاد في حقيقته كما يرى بن نبي ليس سوى اسقاط البعد السياسي على نشاط انساني معين فيقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ اخلاقية معينة يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها. فالترابط بين الجهد والفكر يؤسس البناء سياسة اقتصادية هي مرتكز النهضة والحضارة.

لذا يؤكد في كتابه ميلاد مجتمع.

من الواجب ان نفكر مليا في هذه المصطلحات لا من طريق الاستعانة بقاموس تمسك به اليد بل من طريق الاستعانة برأس مستقر بين البلدين فليس الامر اذن ان نقول ان الثقافة تحتوي بصفة عامة عددا من الفصول ... ولكن الامر يقتضينا ان نتساءل: كيف ينبغي ان تدركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الانسان الذي لم يتحضر بعد في ظروف نفسية زمنية معينة.

وهو في هذا يعتمد على منهجية في التحليل اكثر منه طريقة في التوصيف.

تلك رؤية من بن نبي لامست افكار السيد موسى الصدر، انه ومالك بنى نبي ينظران إلى المشكلة من زاوية كفاءة المسلم في اطار المعاصرة وليس فحسب مجرد الايمان بكفاءة الاسلام.

ففي ندوة عقدت في جامعة بيروت العربية عام 1966 حضرها السيد موسى الصدر تحت عنوان الاسلام والتطور اتيح لي ان اطرح مقاربة حول عنوان الندوة واراها نظرا لما لاقت من ترحيب وتأييد من سماحة الإمام ذلك الزمن تختصر رؤية الرجلين:

"ان ازمتنا حيال الحضارة الحديثة ليست بالاسلام بل الاصح ان نقول ان الاسلام في عصرنا الحديث في ازمة بالمسلم هذا المسلم الذي لا يزال يحمل بذور الانطواء والسلبية والضعف امام ضرورات التطور والحياة فبقدر ما تستطيع النهضة التي تبني الانسان بناء قادرا على مواجهة التحدي بسائر اشكاله فكريا كان ام اقتصاديا ام سياسيا او علميا بقدر ما نستطيع ان نجعل الاسلام قادرا على الحركة حيث يتوفر له علماء يستوعبون العصر الحاضر ويحضرون ايامه ويشهدون مواقعه".

الحركة الثقافية في النبي شيت