قلة نادرة من علماء الدين من استحوذ على الاهتمام، بالدرجة التي نالها الامام موسى الصدر، في مجيئه الى لبنان وبروزه على ساح العمل الديني والسياسي والاجتماعي، واختفائه المفاجئ قبل 24 عاماً، إبان رحلة ذات هدف سياسي الى الجماهيرية الليبية.
هذا الفارع الطول، البهي الطلعة، صاحب اللكنة الاعجمية المحببة، المحدث البارع، والانساني المرهف، «حارت فيه البرية» حتى كادت حياته ومسيرته واختفاؤه تكون سراً من الاسرار او لغزاً من الالغاز.
لم تكن شخصيته المميزة عنصر فرادته فقط، ومبعث هالة الاعجاب المتكونة حوله، فحضوره الطاغي، وجهاده السياسي والاجتماعي، ونهجه المميز في عمل رجال الدين، وانفتاحه على كل الافكار والمذاهب والاديان، جعلته يرسي اسس مدرسة مختلفة من الفعل والحضور، لم يبلغها من قبل عالم دين في لبنان على كثرة هؤلاء وتجذرهم.
هو اصلاً سليل عائلة عريقة في ميدان المرجعية الدينية في ايران والعراق ولبنان، تضرب جذورها الى اكثر من ثمانية قرون, والصدر من الفرع اللبناني لهذه العائلة التي يرقى نسبها الى الامام الثامن عند الشيعة ، موسى الكاظم، صعوداً الى الامام علي.
في شجرة العائلة، جده الرابع السيد صالح، الذي ترجع اليه عائلات الصدر، صدر عاملي، صدر زادة، خادمي، مستجابي، وفصولي، هو من بلدة شحور القريبة من مدينة صور في الجنوب اللبناني وقد هاجر منها الى النجف قبل نحو 180 عاماً، هرباً من الظلم العثماني، ومن هناك تفرعت العائلة الى نواح شتى.
هذا الجذر اللبناني البعيد نسبياً كان من جملة العوامل التي دفعته للعودة الى لبنان، وتحديداً الى مدينة صور عام 1960 ليخلف قريبه المرجع الشيعي المعروف السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، صاحب كتاب «المراجعات»، في ادارة شؤون الطائفة الشيعية في الجنوب خصوصاً وفي لبنان وسورية عموماً, ولم يكن مجيء الامام الصدر الى صور للاستقرار نهائياً فيها، مصادفة، ففي رواية عائلة شرف الدين ان الصدر سبق له ان حضر مرتين الى المدينة عامي 1955 و 1957 فتعرف الى انسبائه واقربائه في صور وشحور ومعركة، وحل ضيفاً في دار الامام شرف الدين المتوفي في 2121957 , وقد تعرف الامام شرف الدين على مواهب الامام الصدر الذي كان في اواخر العقد الثاني (من مواليد 5 يونيو1928) ومزاياه، ونوه كثيراً بكفاءاته العلمية وشخصيته الاجتماعية.
وبعد وفاة السيد شرف الدين، كتب ابنه السيد جعفر، رسالة الى الامام الصدر في قم يدعوه فيها للمجيء الى لبنان، وكان مرجع الطائفة الاكبر آنذاك السيد البروجردي، فاشار على الامام الصدر بضرورة تلبية الدعوة, فاستجاب واتى الى لبنان في اواخر 1959، للاطلاع والتعرف، ثم جاء للاستقرار نهائياً عام 1960 , واقام في صور في منزل الامام الراحل السيد شرف الدين، ليبدأ رحلة جهاد وعطاء وفعل، كانت قصيرة نسبياً (نحو 18 عاماً)، لكنها كانت عريضة ومميزة بالتأثير والحضور الطاغي، وبما خلّفته واصّلته من تراث فكري وسياسي واجتماعي ساهم في تغيير الوضع السياسي في لبنان، وخصوصاً في موقع الطائفة الشيعية ودورها وفي مجال الدفاع عن الجنوب في وجه موجة الاعتداءات الاسرائيلية عليه منذ اواخر عقد الستينات، وتحديداً منذ ان تحول الجنوب قاعدة للمقاومة الفلسطينية تنطلق منه في اتجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة فاتحة لعصر جديد في الصراع العربي - الاسرائيلي.
كان الوافد الجديد الى لبنان، مزوداً بطبيعة الحال بالثقافة والمعرفة الدينية التي كان يتزود بها اي عالم دين، اذ كان قد تلقى العلم الديني في حوزة قم المعروفة، على يد مجموعة من كبار فقهاء هذه الحوزة العلمية الشيعية، وفي مقدمهم والده السيد صدر الدين الصدر، احد مراجع الحوزة آنذاك، وعلى يد آية الله السيد محمد كاظم شريعتمداري الذي توسم فيه فطنة وذكاء غير عاديين، فاختاره واحداً من عشرة دارسين للعلم الديني، ليتم اعدادهم ليكون لهم دور غير مألوف في مجال التبليغ والتعليم والعمل الديني والفقهي عموماً, ومن بين هؤلاء الشهيد الدكتور محمد بهشتي ابرز شخصية في قيادة الثورة الاسلامية الايرانية، والشيخ ناصر مكارم شيرازي الفيلسوف ومرجع التقليد لاحقاً، والسيد عبد الكريم موسوي اردبيلي رئيس مجلس القضاء الاعلى للثورة الاسلامية في ايران، والسيد مهدي روحاني عضو مجلس الخبراء ومن مدرسي حوزة قم البارزين، والشيخ احمد آذري قمي الفقيه والسياسي الايراني المعروف في اعوام الثورة الايرانية الاولى.
كان هؤلاء اتراب الامام الصدر، وزملاء دراسته، والطليعة التي ادت لاحقاً ادواراً فقهية واجتماعية وسياسية مهمة.
في حوزة قم نهل الامام الصدر على مدى 16 عاماً، ولانه سليل العائلة التي لم تغادر يوماً مجال العمل الديني، كان مبرزاً في علومه، ويعد نفسه لدور اكبر من دور مرجع التقليد او المجتهد المدرس الذي يخرج اجيالاً من العلماء.
ومن هذه المنطلقات، اكمل الامام الصدر دراسته الثانوية والتحق وهو في طور طلب العلم الديني بجامعة طهران، فنال اجازة في الحقوق ـ قسم الاقتصاد, ثم عاد الى قم ليبدأ مرحلة من العمل السياسي والاجتماعي، فأسس ومجموعة من زملائه مجلة «مكتب اسلام»، التي نشرت على مدى اعوام دراسات مميزة في مجال الفقه والفلسفة والدراسات الاقتصادية من منظور اسلامي.
وفي الوقت عينه بدأ التدريس الديني، فالتحق بدرسه عشرات الطلاب، وصنع من نفسه شخصية علمية الى ان بلغ درجة الاجتهاد وملكة الاستنباط والتشريع, واولى الامام الصدر السياسة اهتماماً، اذ بدأ يتابع حركة مصدق ومراحله السياسية منذ اعلن قراره بتأميم النفط الايراني عام 1951 , كذلك نسج علاقة مع الجو السياسي الذي بدأه المفكر الايراني المعروف نواب صفوي مؤسس تنظيم «فدائيان اسلام»، ومع الامام الخميني الذي كان اسمه قد بدأ يبرز في حوزة قم في اواسط الخمسينات، فيما ساهم في الرد على الافكار الشيوعية التي بدأت تغزو الاوساط الايرانية.
في النجف
وفي خريف 1956 يمم وجهه شطر النجف في العراق حيث حاضرة الشيعة العلمية التاريخية منذ القرن الثالث الهجري, لم يكن الامام الصدر من الناحية العلمية، في حاجة الى مزيد من تلقي العلم الديني، فقد بلغ الدرجة العلمية الكبرى في حوزة قم، ولكن ولان العرف الديني الشيعي كان يرى ان اي عالم شيعي لا يبلغ درجة الكمال الا اذا انهى تخرجه في حوزة النجف، فقد اختار الهجرة الى هذه الحاضرة، ولكن ليس فقط بقصد تلقي المزيد من العلم, فهناك التقى فرع العائلة التي كان ابرز رموزها آنذاك ابن عمه وصهره السيد محمد باقر الصدر، وعاش من كثب جو حوزة النجف وتفاعلاتها خلال عامين امضاهما في ظل مرجعية السيد محسن الحكيم ومرجعية السيد ابو القاسم الخوئي, وفي هذه الحاضرة ايضاً تعرف على مناخات الوضع اللبناني عبر اتصاله وتواصله مع مجموعة العلماء اللبنانيين الذين كانوا آنذاك في مرحلة الطلب في هذه الحوزة وفي مقدمهم الامام محمد مهدي شمس الدين والشيخ عبد الامير قبلان والعلامة السيد محمد حسين فضل الله وعشرات سواهم.
كان في امكان الامام الصدر ان يستقر في احدى الحوزتين قم والنجف، ويمارس فيهما ما يمكن ان يصل به الى مرحلة المرجعية، بيد انه اختار خلاف ذلك، ولبى الدعوة الى لبنان، لانه اختار مجالاً آخر وميداناً مختلفاً يخرجه من دائرة التدريس والبحث العلمي، الى مضمار العمل الاجتماعي والسياسي أملاً في التغيير.
وهكذا، اتى الصدر الى موطن اجداده لبنان، وزاده الكبير علم وافر، اخذه من مصدري العلم الاساسيين لدى الشيعة، واكتسبه اصلاً من بيت ابيه وعائلته، وانفتاح على العصر وتعقيداته، دفعه الى درس الحقوق ونيل اجازتها بالفرنسية التي اجادها، في جامعة طهران والى هذا وذاك رغبة عارمة في الانطلاق في رحاب عالم مفتوح بعيد من «جمود» الحوزات العلمية.
وفي معنى آخر اراد الامام الصدر لعالم الدين مرجعية غير تلك المعروفة بشروطها واسسها التاريخية , كان يريد ان يبقي المرجعية في وسطها البشري، ثم يخلق تواصلاً مع الناشئة التي تتلقى علومها من دون الربط بثقافتها الاصلية, ويجمع الكثير من العلماء والدارسين، ان الامام الصدر هو جزء من جو مختلف بدأ يتكون تدريجاً في النجف وقم، جوهره النزول مباشرة الى قضايا الناس الاجتماعية والسياسية، بعيداً من جدران النخب العلمية الخاصة، التي ادمنت العيش بعيداً وفي اجواء خاصة.
ولم يكن الطريق ممهداً امام الصدر في لبنان، للوصول الى هذه الغايات المأمولة والمرجوة، لذا عانى صعوبات بالغة، حتى نجح الى حد معين, فلحظة حل في الجنوب اللبناني، ليبدأ رحلته الجهادية الطويلة والمضنية كانت الخريطة السياسية والاجتماعية للطائفة الشيعية في لبنان على النحو الاتي: - القسم الاكبر من شباب الطائفة ومتعلميها كانوا قد انجذبوا الى التيارات القومية واليسارية على اختلاف تلاوينها ومشاربها، فالمعلوم ان ابناء هذه الطائفة هم وقود احزاب ومادتها كحركة القوميين العرب الناصرية التوجه وحزب البعث، والحزب الشيوعي ومنظمات اليسار المتطرفة، وبدا ان جو هذه الطائفة كان يسارياً جامحاً نحو التطرف والتغيير، خصوصاً ان ابناء هذه الطائفة ومناطقها كانوا يصنفون في خانة المحرومين والطبقات الكادحة.
- على المستوى الرسمي كانت زعامات الطائفة الشيعية هي تلك الاقطاعية التقليدية التي توارثت الزعامة منذ مئات الاعوام، ولا ترضى بان ينافسها احد، ولا تقبل اي وافد جديد اليها من داخل الطائفة او من خارجها.
- على المستوى الديني كانت الطائفة مستقرة على مجموعة علماء محدودين جلهم من بيوت علمية تاريخية، ارتضوا اداء دور الفتيا وتيسير امور الزواج والطلاق، وممارسة دور الامامة في الصلاة والمراسيم الدينية، وعموماً لم يكن لرجل الدين الشيعي اي دور آخر على المستوى السياسي.
- على المستوى الاداري التنظيمي، كانت الطائفة الشيعية هي الوحيدة التي لا مجلس ملياً يرعى شؤونها ويكون مؤسستها الدينية الناطقة باسمها، رغم انها كانت الطائفة الثانية عدداً وانتشاراً، اذ كان اعلى مركز ديني شيعي هو رئاسة المحاكم الشرعية الجعفرية ودار الافتاء الجعفري.
- وفوق هذا كله، وجد الامام الصدر لحظة حلوله في لبنان، نظاماًَ طائفياً ومذهبياً ضيق الافق، يقاوم بشدة اي محاولات لتطويره، في اتجاه توسيع دائرة الحاكمين والفاعلين والمؤثرين, وفي اختصار قوبل الامام الصدر ساعة مجيئه الى لبنان بتركة متوارثة من التخلف على مستوى الطائفة وبنظام سياسي محافظ يعتبر المناطق حيث ابناء هذه الطائفة، مناطق ملحقات، لا تأخذ نصيبها من التطوير والتحديث والانماء, لذا كانت المهمة شاقة ومتشعبة امام هذا الوافد، لكي يؤدي دوراً مميزاً ومؤثراً يجعله مختلفاً عن ادوار سواه من علماء الدين المجتهدين.
من صور كانت الانطلاقة، وصور بالاسم مدينة ولكنها اقرب ما تكون الى البلدة ومع ذلك بدأ رحلة التحدي والصمود, والبداية كانت من ابسط الاشياء، من محاربة ظاهرة «التسول» التي شاعت يومها, فاعاد لملمة اشلاء جمعية صغيرة كانت موجودة آنذاك تدعى «جمعية البر والاحسان» وخصص مبالغ للمتسولين والمعوزين حقيقة، تقيهم ذل السؤال, ثم راح يجوب القرى الجنوبية قرية قرية، يخطب في المناسبات ويواسي في المآتم ويطلع من كثب على الاحوال، وينسج خيوط العلاقة مع الناس, وزاده في رحلته، خطاب مختلف وجديد قياس بالخطابات التقليدية لرجال الدين، يقترب اكثر من هموم الفئات الشعبية ومطالبها بالانماء والترقي، وينطلق نحو آفاق فكرية اوسع بالدعوة الى نبذ الطائفية، والمشاعر العنصرية، والى تفاعل الحضارات الانسانية ومكافحة الآفات الاجتماعية والفساد والالحاد.
ولم يطلق فحسب نظريات وخطباً، بل اتجه صوب العمل الرعائي والاجتماعي المثمر، فشارك في عشرات المشاريع الاجتماعية، والعديد من الجمعيات الخيرية الثقافية، وانشأ باموال المغتربين الجنوبيين الذين وثقوا به مؤسسة مهنية هي الاولى من نوعها في منطقة صور، غايتها ايواء الايتام وذوي الحال الاجتماعية الصعبة، لتخريج عمال فنيين مهرة، وانشاء مشاغل لتعليم حرفة صناعة السجاد، وطرح مشروع زراعات بديلة من الزراعات التقليدية السائدة، مثل فكرة زرع الشاي, وفي الوقت عينه التفت صوب وضع المرأة فانشأ مؤسسة لترقية مستواها لاجتماعي وبدأ النشاط بمدرسة لمحو الامية ومدرسة للاشغال اليدوية والخياطة ومدرسة فنية عالية, وعلى المستوى الديني انشأ معاهد متخصصة للتعليم الديني، اشترط للانتساب اليها عناصر علمية معينة ومقدرات عقلية محددة، وسهل لطلابها لاحقاً مهمة الانتقال الى الحوزة العلمية في النجف وقم.
الحلم الاكبر
تلك هي حصيلة الاعوام السبعة الاولى من حلوله في مدينة صور، والجنوب عموماً، ولكن كل هذا النشاط، على اهميته وبلاغته، لم يكن سوى جزء من حلم اكبر ومشروع اوسع وضعه الامام الصدر نصب عينيه.
لذا سرعان ما بدأ يغادر صور، صوب العاصمة حيث المنابر الاعلامية والثقافية، وحيث الحركة السياسية الناشطة، وهناك بدأ نجمه يلمع، وراحت الانظار تتركز عليه، وسرعان ما طرح مشروع انشاء مجلس ملي للطائفة الشيعية يرعى شؤونها، اسوة بالطوائف الاخرى, ورغم ان هذه الدعوة لقيت اولاً معارضة من زعماء سياسيين من الطائفة ومن بعض القوى الاخرى، الا ان حملته التي استمرت اعواماً، وتوجها في مؤتمر صحافي عقده في 1581966، وعرض فيه آلام الطائفة ومظاهر حرمانها، في شكل علمي مدروس ومبني على احصاءات، اتت ثمارها، فاقر مجلس النواب اللبناني في جلسة عقدها في اواخر العام 1967 انشاء المجلس, وعايش الاخير منذ ولادته الصعوبات من الداخل والاتهامات من الخارج، الا ان الصدر استمر في الجهد والبناء والاحصاء والتجوال، ونجح اخيراً في تنسيق جزئي للطاقات وتنظيم علاقات الطائفة مع الطوائف اللبنانية الاخرى, وفي 2351969 انتخب الصدر اول رئيس للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، الذي كان جسر عبوره نحو تكريس نفسه في المعادلة السياسية اللبنانية الصعبة والمعقدة.
وفي اول بيان اصدره الصدر بعد توليه هذا المنصب اعلن برنامجاً طموحاً تضمن الخطوط الرئيسية الاتية:
«- تنظيم شؤون الطائفة وتحسين اوضاعها.
- عدم التفرقة بين المسلمين والسعي الى التوحيد الكامل والانفتاح على الطوائف الاخرى.
- ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة اراضيه.
- محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الخلقي.
- دعم المقاومة الفلسطينية، والمشاركة الفعلية مع الدول العربية لتحرير الاراضي المغتصبة».
ولئن كان الامام الصدر قد نجح في تلك الفترة في تحقيق حلمه بانشاء اطار تنظيمي يرعى شؤون الطائفة ويجسد كياناً سياسياً لها، فانه كان مضطراً الى ان يواجه هجمة من جهة «اليسار» ومن جهة «اليمين» في وقت واحد, لكنه استطاع خلال نحو ثلاثة اعوام، ان يصمد ويغير الصورة المكونة عنه، فزار الرئيس جمال عبد الناصر، واضعاً حداً لهجوم الناصريين عليه، ودخل عمق الحياة السياسية اللبنانية عبر المنابر الموجودة يومها والتي كان ابرزها منبر «الندوة اللبنانية» التي انشأها المفكر اللبناني الراحل ميشال اسمر، كما دخل الجو المسيحي عبر خطب ومحاضرات القاها في الكنائس والاديرة وكبريات الجامعات والمعاهد، وقد ركز في هاتيك الفترة على مسألة العيش المشترك، وحوار الاديان والحضارات, ويحكي ابناء صور حتى الآن عن الامام الصدر، الذي دخل في تجربة عملية بسيطة تدل على تمسكه بالعيش المشترك، فقد قصد فجأة محلاً لبيع البوظة يملكه مسيحي في صور، وطلب طبقاً واكله على مرأى من الجميع، فانهى بذلك مقاطعة غير معلنة ضربها ابناء المدينة والمنطقة المسلمون على الرجل لاسباب دينية، ووضع اسس التغيير لسلوكيات وعلاقات اجتماعية, والقصة لا يزال صداها حتى اليوم عند المسلمين والمسيحيين في آن واحد.
ولكن رياح الامور في لبنان، لم تسر لاحقاً كما يشتهي الامام, فقد تعقدت الاوضاع بعد دخول المقاومة الفلسطينية الى الجنوب اللبناني وتحول الجنوب ومناطق لبنانية اخرى اهدافاً عدوانية اسرائيلية، فيما بدأ اليمين اللبناني استعداداته السياسية والعسكرية للرد على ما سماه «الاحتلال الفلسطيني» للساحة اللبنانية, اما اليسار بكل تلاوينه فكان يستعد ايضاً للمواجهة انطلاقاً من الدفاع عن هذه «المقاومة المشروعة».
الحرب
وسط نذر الحرب الاهلية، صار الوضع اللبناني صعباً، وبدأت عملية فرز عمودية وافقية في كل الوضع اللبناني, يومها وتحديداً منذ العام 1970 حتى العام 1973، حاول الامام الصدر مع قادة ومراجع دينية ممارسة دور الطرف الثالث، عبر اطلاق الدعوات الى التهدئة، ونبذ العنف واللجوء الى سلاح الحوار حرصاً على وحدة البلاد وسيادتها, فشكل هيئة للدفاع عن الجنوب الذي كان يتعرض يومياً لهجمات اسرائيلية ظاهرها الرد على عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من الجنوب اللبناني, ودعا الدولة الى حماية الجنوب والدفاع عنه، فاضطرت تحت الضغط الى انشاء مجلس الجنوب, كما دعا الى اضراب وطني سلمي شامل لمدة يوم واحد من اجل الجنوب تجاوب معه كل لبنان، فنُفذ اضراب شامل في 2651970 واعتبر حدثاً وطنياً, وانطلق الامام الصدر من واقع الجنوب الذي يعيش تحت النيران الاسرائيلية ليطرح مسألة تنمية المناطق المحرومة، والغاء التمييز الطائفي وانصاف الطائفة الشيعية في المناصب والوظائف وموازنات المشاريع الانمائية.
ونتيجة هذه الحملة على النظام التي كان الامام الصدر يشنها، في وقت تعاظمت فيه تحركات اليسار والتحركات الشعبية المطلبية، والتي ادت احياناً الى مقتل عمال ومزارعين برصاص الشرطة، والى فصل معلمين مضربين عن وظائفهم، ظهر الخلاف بين الحكم والامام، وتجلى في تجاهل الدولة لمطالب الصدر وتحركاته, وعلى الاثر صعد الامام من معارضته وبدا ينحو مناحي تصعيدية في مواجهة المسؤولين، فدعا الى مهرجانات شعبية كان اضخمها مهرجانا بعلبك في 1731974 وصور في 551974 , في تلك المدينتين جمع الامام الصدر نحو مئتي الف رجل، وطرح يومها شعاره الشهير «السلاح زينة الرجال»، وبدأ يتحدث صراحة عن انشاء «حركة المحرومين» التي هي الجذر الاساسي لحركة «امل» التي هي اختصار لمصطلح «افواج المقاومة اللبنانية», في تلك الحقبة، حاول النظام اللبناني احداث تغيير في ادائه وسلوكه يتجاوب في شكل نسبي مع التحركات المعارضة، فأبدلت الحكومة بحكومة ترأسها الرئيس رشيد الصلح القريب من الجو الوطني والاسلامي عموماً، وبدأت الدولة واجهزتها بتحركات في الجنوب ظاهرها حماية المنطقة وانماؤها والدفاع عن اهلها.
لكن الامام الصدر وسّع حركته ونجح في جمع نحو 190 شخصية لبنانية مهمة من كل الطوائف في مقر المجلس الشيعي، ونجم عن ذلك اقرار وثيقة وقعها الحاضرون تتبنى مطالب الامام كلها.
تغيير جذري
لكن العام التالي (1975) حمل معه تغييراً جذرياً لمسار الامور، اذ اندلعت في الشهر الرابع اولى جولات الحرب الاهلية اللبنانية بعد اغتيال النائب الناصري معروف سعد في صيدا والهجوم على حافلة كانت تقل فلسطينيين في منطقة عين الرمانة, واستقال الرئيس رشيد الصلح مع حكومته معلناً «ان الامتيازات الطائفية التي تشكل اساس النظام السياسي اللبناني، تحولت عائقاً يمنع اي تقدم، ويحول دون المساواة الحقيقية بين المواطنين بما يقضي على الحرمان، ويرفع مستوى المناطق المحرومة».
في هاتيك الفترة طغت لغة السلاح والحرب على كل التحركات السياسية، ومع ذلك حاول الامام الصدر ألا يغيب، فدعا نخبة من المفكرين اجتمع منهم 77 شخصاً في مركز المجلس الشيعي وشكلوا لجنة دعيت «لجنة التهدئة الوطنية».ومع استمرار القتال واستقالة الحكومة وظهور صعوبات في وجه قيام حكومة جديدة، الامر الذي هدد بخطر انقسام الوطن، نفذ الصدر اعتصامه الشهير ضد الحرب في «مسجد الصفاء» في قلب بيروت واعلن صياماً عن الطعام «لنفرض على المواطنين الاعتصام عن السلاح الذي يستعمل ضد اللبنانيين والاخوان (,,,) لان السلاح لا يحل الازمة بل يزيد من تمزيق الوطن», وكانت خطوة جريئة وجدت اصداءها، وتقاطر الناس من كل الطوائف لدعم الصدر في حركته المميزة, وقد انتهى هذا الاعتصام بعد خمسة ايام اثر تشكيل حكومة جديدة برئاسة رشيد كرامي, ولكن ذلك كله على بلاغته لم يضع حداً لتدهور الامور، او لما سمي «حرب السنتين», وفي تلك الفترة بدا الى العلن ان الامام الصدر يعد لانشاء تنظيم عسكري، اذ انفجرت عبوة كبيرة بمجموعة من المقاتلين في اثناء تلقيهم التدريب في منطقة عين البنية الجردية بالقرب من بعلبك، وظهر لاحقاً انهم ينتمون الى «حركة المحرومين» وانهم نواة لتنظيم عسكري لهذا التنظيم السياسي الذي جاهر الامام مراراً برغبته في انشائه, ورغم ان الصدر اعلن لاحقاً ان هذا التنظيم وجد للدفاع عن الجنوب الا ان الحدث بملابساته نال من النظرة العامة للامام الصدر، وخصوصاً بعدما ظهر ان الذين يشرفون على التدريب ينتمون الى حركة «فتح».
ولاحقاً شارك الامام في كل الانشطة واللقاءات والمبادرات التي جرت لوضع حد لجولات الحرب الاهلية التي كانت قد بلغت ذروتها، ومنها لقاءات عرمون في منزل مفتي الجمهورية آنذاك الشيخ حسن خالد.
وعندما برز الخلاف بين الاحزاب اليسارية وفصائل المقاومة الفلسطينية من جهة وسورية من جهة اخرى، اختار الامام الصدر التحالف مع دمشق، واضطر الى مغادرة بيروت والسكن في البقاع حيث السيطرة السورية, وعاد الى العاصمة بعدما دخلت قوات الردع العربية الى بيروت اثر قرارات القمة العربية عام 1976 ليستأنف مسيرته السياسية حتى اختفائه في 31 يوليو 1978 , وقد اتسمت تلك الفترة ببروز نوع من التناقض والتباين بينه وبين الفصائل الفلسطينية والاحزاب اليسارية، وخصوصاً بعدما بدأ الصدر يجاهر بالاعتراض على اداء الفصائل الفلسطينية العسكري والسياسي وخصوصاً في الجنوب، وبعد مناداته بفصل الازمة اللبنانية عن ازمة الشرق الاوسط وبوضع اتفاق بديل من اتفاق القاهرة الذي وضع عام 1969 لتنظيم العلاقات بين الدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية.
ومع اشتداد محنة الجنوب اللبناني، الذي صار مسرحاً لاحداث خطيرة تهدد مصيره، تابع الصدر مساعيه مع المسؤولين ومع رؤساء دول عربية محذراً من كارثة, وتعاظم هذا التحرك مع حصول الاجتياح الاسرائيلي لقسم من الجنوب في 1431978، واستقرار الجيش الاسرائيلي في ما سمي لاحقاً منطقة «الشريط الحدودي», اذ قام بجولة جديدة على الدول العربية، عرض خلالها على الملوك والرؤساء العرب واقع الاوضاع في المنطقة مطالباً بابعاد لبنان من ساحة الخلاف العربي، وبعقد مؤتمر قمة عربي محدود، يعالج قضية الجنوب ويعمل لانقاذه, وبعدما زار لهذه الغاية سورية والاردن والمملكة العربية السعودية والجزائر، انتقل الى ليبيا في 25 81978 ، مع احد مساعديه الشيخ محمد يعقوب ومع الصحافي عباس بدر الدين, وبعد خمسة ايام من وصوله انقطع اتصاله بلبنان وبالعالم، فاعلن المجلس الشيعي اختفاءه، وبدأت ملابسات القضية المستمرة حتى اليوم مع اعلان السلطات الليبية انه غادر اراضيها الى روما، ومع نفي السلطات الايطالية وصوله اليها, وطبعاً حصلت اتصالات رسمية على اعلى المستويات وانشئت لجان تحقيق رسمية، حملت ليبيا المسؤولية من دون ان يصار الى حل هذه القضية.
وبدل ان يكون حدث الاختفاء عاملاً في اضعاف حركة «امل» التي اسسها، كان هناك رد فعل عارم نجمت عنه اشكالات لم تنته حتى الان, فرغم مرور نحو ربع قرن على حادث الاختفاء، تبدو قضية الصدر حية وتظهر الى العلن في شكل اكبر في كل مرة يطرح اسم ليبيا، او تثار قضية تطوير العلاقات اللبنانية ـ الليبية, ومهما يكن من امر، فقد نجحت حركة «امل» بعد غياب مؤسسها في ان تصير القوة الاكبر في الطائفة الشيعية, ونجح رئيسها الرئيس نبيه بري، الذي خلف اول رئيس لها هو حسين الحسيني، في ان يصل الى اكبر منصب شيعي رسمي اي رئاسة مجلس النواب مما ساهم الى حد بعيد في ابقاء قضية الصدر حية رغم تقادم الزمن.
تلك هي في اختصار سيرة الامام الذي ساهم سواء بحضوره او بغيابه، في تغيير قسم كبير من المعادلة السياسية اللبنانية، وصار التنظيم الذي اسسه في ظروف معقدة، القوة الاكبر في الطائفة الشيعية.
واذا كانت هذه اضواء على محطات من مسيرته الداخلية ونشاطه اللبناني، فقد كان للرجل نشاط في المجال الاسلامي والعربي الارحب، اذ استطاع ان ينسج علاقات مع المراجع المسيحية في لبنان والخارج، وان يكون له تأثير ودور في الثورة الاسلامية الايرانية.
فالثابت ان الامام الصدر كان على علاقة وطيدة مع الكوادر الناشطة في هذه الثورة، اذ عاش في المراكز والمؤسسات التي انشأها عشرات من هؤلاء، وابرزهم اول وزير للدفاع الايراني بعد الثورة مصطفى شمران ، الذي بقي في لبنان حتى انتصار الثورة, وطوال السبعينات كان مقر المجلس الشيعي ملاذاً للمعارضين الايرانيين، وصلة الوصل بينهم وبين وسائل الاعلام المحلية والعربية والاجنبية, كما كان على علاقة وثيقة بالمعارضة العراقية ولا سيما الاسلامية وخصوصاً في مرحلة انطلاقتها الاولى مطلع السبعينات.
وفي كل الاحوال فان الامام الصدر سيبقى علامة فارقة في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومنعطفاً في دور رجال الدين الفكري والسياسي والاجتماعي والاستشرافي.