سيدي وإمامي, حاولت كثيرا منذ غيابكم أن أتجنب بذكرى الكتابة 31 آب/أغسطس, تجنبت ذلك رغم أنك بقيت نبراسي ومحط أحلامي وملهم قلمي في كتاباتي المتعددة, بل بقيت مصدر ثقافتي الفكرية والأخلاقية.
لقد علمتنا أيها القائد المتواضع, المحاور والصادق, دروسا ليتني نسيت بعضها لكانت خيبات الأمل أقل عددا وجدة .. ولكنك علمتنا "أن الساكت عن الحق شيطان أخرس" علمتنا "قول الحقيقة دون الخوف من لومة لائم" وأخيرا لا آخر علمتنا "ان نفي بالوعد والا ننقض الميثاق".
جلست وحيدا وطويلا واردت ان اجعل للحنين إلى الماضي (نوستلجيا) معنى اخر وهو مقارنة الحاضر والزمن الرديء بأيام وتجارب مررنا بها لا لأجل الهيام بالمجهول, بل لمحاسبة الذات.. عندها قفزت أمامي تذكارات الماضي التي جعلتني اتجاوز السرد إلى التعليق على الاحداث وابداء الرأي والبوح بالخواطر دون ان انزلق إلى التجني وتغليب الاجحاف على الانصاف, ويبقى علي ان أرتل "ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا". لقد اردت فعلا الا تبقى بعض هذه الوقائع حصرا علي, بل ان اشارك الاخوة الرفاق.. دعني مولاي اروي لكم قصة قبل ان أبدأ برواية ذكرياتنا معكم.
كنا مدعوين من قبل طيران الشرق الأوسط, لزيارة إيران, وذلك مع قيادين من الحركة وحزب الله, يومها بالذات نشرت احدى الصحف المعروفة مطالعة لي تتعلق بنشوء المقاومة ذلك تصحيحا لاجحاف وحماية للحقيقة, وتكلمت عن دوركم ودور الحركة في تاريخ المقاومة… باختصار وزعت المضيفة الصحيفة مع لفت نظر الاخوة إلى المقال. ز ولكنني فوجئت بأن لا أحد قرأ المقال .. وعلمت أن الاخوة تلامذتك سيان كانوا في الحركة أو في الحزب ليسوا بحاجة للقراءة.. لعن الله القلم كيف يشرد..
سأعود لجلستنا: في أول جلسة للمكتب السياسي وقبل اداء القسم أبديت ملاحظة وسألتك لماذا وقع اختياركم علينا وليس على غيرنا؟؟ وسألت ما سبب اللون الواحد وهل نحن تنظيم مذهبي, وأجبتم ببساطة السهل الممتنع "كنتم أول من بدر إلى ذهني من النخبة" وسألتك ماذا تقصد بالنخبة فقلت اسمع قول علي بن أبي طالب "أنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده", أما بالنسبة للون الواحد فان الظروف والايام ستتغير ونجتاز الخطوة المرحلية وننتقل إلى أرجاء الوطن اللبناني بكل أشكاله ومعتقداته وانتماءاته.
"كانت الاديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد, خدمة الإنسان ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها, كانت واحدة لأنها تهدف إلى حرب على آلهة الأرض والطغاة… كانت الاديان واحدة لأن البدء هو الله واحد لإنسان واحد, وعندما نسينا الله أصبحنا فرقا وشيعا.. وغدا إذا انتصرنا بعونه تعالى وانتصر معنا المستضعفون سنرى الطغاة يغيرون اللبوس ويسبقون الجميع ويحكموننا باسم الاديان ويحملون سيفها".
الحرية وكرامة الإنسان كانتا محور تحرك الإمام, حيث فهم كيف أن الايمان بالله هو الايمان بمفهومه الحقيقي لا بمفهومه التجريدي الذي ينعكس على المجتمع تخلفا وانحطاطا, هذا النوع من الايمان الذي يحصر العبادة في ممارسات فارغة مغلقا بابه على ممارسته التعبدية, حاملا بين طياته التعصب الطائفي الذي يشكل خطرا حقيقيا ويكون مطية للمحتكرين والمستغلين.
وفي أحدى الجلسات المصغرة والتي خصصت للنقد الذاتي, ونقد بعضنا بمحبة وتسامح, سألت سماحته: الناس تتساءل عن نجاحكم واكتساحكم ساحة الجنوب خاصة, ولبنان عامة.. الناس تتساءل من وراء هذا النجاح, هل هناك قوى غير مرئية!!
نظرت فرأيت بعض التعجب وربما الاستنكار على وجوه بعض الاخوة, والابتسامة تعلو محيا الإمام.. نظر إلى الاخوة وقال "لو عرفتم أن عداد سيارة فولسفاكن تجاوز المائة الف كلم في السنة الأولى والمائة والخمسين في السنة الثانية الخ… لعلمتم ماذا عملت". لقد قرعت الابواب المغلقة في ارجاء الوطن, زرت الجوامع والكنائس, خاطبت العقل والقلب بكل صدق,و حاورت البعيد والقريب الكبير والصغير وفتحت قلبي ومجلسي وعقلي لكل لبنان, اخبرتهم أن الدين يجب أن يجمع لا أن يفرق, أخبرتهم أننا كلنا أبناء الله "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" أخبرتهم أنني أخاف على الوطن من العقلية السائدة, أننا إذا بقينا هكذا فلن يبقى لبنان وإذا استمرينا بالتعامل مع الخطر الإسرائيلي بهذه اللامبالاة.. لن يبقى لا الجنوب ولا لبنان, وأن حزام البؤس والوضع الاقتصادي والانساني حول بيروت قد يتحول إلى حزام نار يحرق لبنان.. لا سمح الله.
وفي لقاء آخر موسع ضم اثرياء ومثقفي الطائفة, كان معدا لجمع التبرعات للمساعدة في ارسال اساتذة لتعليم الدين إلى مناطق الجنوب والبقاع.. ورفضت التبرع لهذه الغاية, وكثرت الهمسات و"الوشوشات", وقطعا للافتراء, قلت نحن نمشي وراءك يا سيدنا لا لتعلمنا أصول الدين والصلاة والذي تعلمته من أجدادي جدا عن جد.. أنني أريدك ثائرا تقلب الاصنام, أصنام السياسية ومعربدي الوطنية وأبطال الاقطاع!! ونشأ جو غير ودي بين الاخوة فقام الإمام وقال "ما قيمة الإنسان دون حرية, وما قيمة الفكر بدون تنوع وما قيمة د. علي دون صراحته وغضبه البريء الذي أحب.. الحرية في القول والتعبير كانت أهم أقانيم فكر الإمام القائد, لقد مارسها في كل اجتماعاتنا ولم يسمح لشخصيته أن تطغى, ولكنه ما أغلق بابا ولا حمل حقدا.. أنه أكبر من الحقد!!
بالأمس تذكرت هذه القصة أعلاه وأنا أمشي جنازة الدكتور مالك رحمات الله على روحه الطاهرة فقد كان إيمانه بالسيد يفوق كل إيمان, كان حساسا شفافا صريحا مع أحبائه مخلصا لاصدقائه.. كذلك في جنازته تذكرت قول الإمام علي "لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: نكبته وعيشه ووفاته.." أتعلم يا سيدي ومع الاعتذار من الاخوة الرفقاء في مرحلة جهادنا أنه لم يكن أحد ممن ذكرت في الجنازة, عفوا لقد كان المسؤول التنظيمي ممثلا الرئيس بري!! شكرا.. أنا أعلم أنك تعذرهم كلهم من مسؤولين وأخوة, فمالك بدرالدين الذي رفع اسم الطب في مسيرته لم يكن وزيرا ولا نائبا ولا رئيس بلدية حتى يستحق وجودهم في جنازته.. ولكن كان مجاهدا إلى جانبكم في أحلك الساعات والخطر..
نحن نعذرهم فلقد علمتنا أن تستهوينا الكبرياء لا التكبر.. حتى مدينة النبطية لم تكن على مستوى رفيق الإمام الصدر.. النبطية المدينة التي أنطلقت منها شرارة المقاومة الأولى حيث هاجم ابناؤك الدبابات الإسرائيلية بالاجساد العارية وبالحجارة.. كان ذلك في يوم ذكرى عاشوراء 1983 هذه الذكرى التي كانت توحي اليكم الكثير الكثير.. انطلقت جماهيركم تهتف بالروح بالدم نفديك يا إمام.
نعم قبل أن تحتل إسرائيل أرضنا في الجنوب والبقاع الغربي قلت "أن معركتنا مع إسرائيل معركة حضارية طويلة الامد لأن وجودها يشكل خطرا محققا على أرضنا وشعبنا لأن إسرائيل شر مطلق".
وبتاريخ 1976 وفي ذكرى عاشوراء, أطلقت رصاصتك الأولى عندما أطلقت فكرة ومعنى العمليات الاستشهادية حيث قلت "أن المعادلات التي تدرس في موازين القوة العسكرية تختل جميعها عندما يدخل عنصر الشهادة في الميدان, إن الشهادة تحول الفرد إلى سلاح لا يقهر وتجعل الشهيد ينبوعا متدفقا يهز الجميع ويحرك الإنسان وضميره, نعم لقد أطلقت فلسفة وروح وواجب العمليات الاستشهادية التي هي الآن تشغل العالم بأكمله وتشل تحرك إسرائيل وتعطي المثل بعد الجنوب في ثورة المسجد الأقصى في فلسطين, لقد أطلقت كل ذلك قبل أن تكون أرضنا محتلة.. لقد أطلقت شعار "السلاح زينة الرجال" حيث ظن البعض عن جهل والبعض الآخر عن حقد, بأنك تقصد بالسلاح القتال بين الاخوة في الوطن, في الحرب الاهلية التي حاربتها وجاهدت في إخماد ذروتها وكانت مؤتمرات القاهرة والرياض نتاج جهدكم الذي أوصلنا إلى الهدنة مع نشر القوات العربية.. ولكن المؤامرة كانت أقوى.
لقد قلت للجمع: لنقف على أرجلنا ونتسلح ونشكل مقاومة لبنانية للدفاع عن الوطن في وجه اسرائيل, أول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات. كنتم مدعوين عند أحد الشخصيات في المنطقة الشرقية ووصل أحد الاخوة من المكتب السياسي متأخرا ولم يجد مكانا سوى في الغرفة الثانية, وقفت سماحتك وذهبت وأحضرت كرسيا وضعتها بجانبك في صدر الغرفة ليجلس عليها الاخ المذكور.. سألك لماذا فعلت ذلك فهمست في أذنه: ليعرف جميع من في الحفل من أنت وما معنى اختياري لكم كرفاق.. أنا أريد أن أفرض احترام الناس لكم بمقدار احترامهم لي.. والباقي عليكم!
في كل كلامك كنت تترفع عن "الانا" القاتلة, كنت تريد أن يشعر الجميع أننا نشاركك أخذ القرار وأننا نمثلك في كل ما نقول.. لا انسى كيف تكلمت للصحافيين يومها عن آفة الغرور والكبرياء حيث يشعر الحاكم بالاكتفاء فيمتنع عن ملاقاة الناس فيرى نفسه قيصرا "اياكم ومساءلة الله في عظمته والتشبه به في جبروته" واستطردت بالكلام: كيف أن الدين حارب الكذب والنفاق كما حارب الغرور والكبرياء الكاذبة.
ولنعود مرة جديدة إلى الذاكرة وما تختزنه مما قيل ويقال ومما لا يقال وخاصة عندما يطال بعض المقامات!! أخيرا كان لقاؤنا الأخير في منزل اللواء زين مكي للتعزية بشقيقه.. وكان ذلك في 25 آب/اغسطس حيث أتصل بي الاخ عبد الله موسى ليبلغني رغبتك بلقائي الساعة الرابعة, ووصلت متأخرا بسبب الاوضاع الامنية, فلم أجدكم وأخبرت أنك في انتظاري عند اللواء مكي..
.. وبعد خروجنا اخبرتني على درج المنزل بالدعوة الليبية لمرافقتك مع الشيخ محمد يعقوب, وأخبرتني يومها أن الرئيس بومدين نصحك بالزيارة وبما أنني من مسؤولي العلاقات اليسارية والفلسطينية يجب أن أكون معكم وأن أعطي جواز سفري صباح الغد.. رفضت فورا وبدون اعتذار فابتسمت وقلت لي “هذا أمر حركي” عندها ابتسمت أنا وقلت لم تعودنا الخضوع لأي أمر إلا بعد الشورى والنقاش والاقتناع.. وقلت رغم ذلك أني أرفض مبدأ زيارة ليبيا لموقفها المعادي لنا وما قد يقال عنا .. ماذا تريد من الزيارة, وثانيا لأنني مرتبط بمحاضرة في مؤتمر طبي في مدينة برلين بتاريخ الثلاثين من أب/ اغسطس.. فقلت عال, سنترك ليبيا في 29 الجاري لتجنب حضور احتفالات الفاتح من أيلول/ سبتمبر, ونذهب معا إلى المانيا وسيسعدك أن يكون بين الحاضرين معمم في مؤتمر طبي يستمع لكم..واصررت على الرفض وسألتني من أقترح فاقترحت الدكتور مالك لأنه سبق وقال أن أمنيته أن يمضي معكم أياما في أي رحلة ليمتع القلب والعقل والعين بتمضية هذه الايام من نصيب الأخ عباس بدرالدين لاصابة الدكتور مالك بالديسك.. ثم قلت لي أنا لم أعرفك عنيدا وأحيانا ديماغوجيا وعذرك قبلته ولكن على مضض!! وأردفت قائلا ليعم البعيد والقريب أننا لا نستجدي القذافي ولا غيره وأن سبب الرحلة هي ادخال الحركة في المعترك العربي.. ودع الناس تفكر ما تشاء..
ويوم سفركم إلى ليبيا, سافرت إلى المانيا, وخلال ذلك الاسبوع بدأت الصحف الالمانية تتحدث عن الوضع الايراني والتظاهرات الشعبية وتتنبأ بانهيار نظام الشاه إيران, وأن زعيم الثورة الإمام الخميني سيكلف الإمام موسى الصدر برئاسة الجمهورية الإسلامية الأولى.. ووصفوا السيد بما يلي "رجل طويل القامة أخضر العينين عنده جاذبية شعبية, (كاريزما) وقالت عنه صحيفة أخرى أنه كان الوجه الآخر المتحرك الذي أوصل نجاح الثورة في تحضير الاجواء والاطارات, والمسلحين لذلك اليوم.. عندها فقط تذكرت يا سيدنا حادثة أخرى يوم ذهبت اليكم لاسألكم عن الدافع لرعاية محاضرة الدكتور علي شريعتي في الجمعية العاملية رغم أن شريعتي منظر يساري للثورة, اليس من الافضل تجنب إثارة البعض من الاخوة, ثم اليس من الافضل تجنب التعقيدات مع الحكم الفاشي في إيران.
سكت الإمام طويلا ثم تكلم وكأنه لا يود البوح بسر عميق وقال: نعم سحبوا مني جواز سفري ولكننا سنسحب كرسي العرش من تحت رجلي شاه إيران الظالم!! قلت وهل سنعيش هذا اليوم, ضحك وقال بل قريبا جدا.
سأختم وكان بودي أن أستمر أكتب وأكتب وبالله أقسم أنها الحقيقة والحقيقة فقط, ولكنني سامحت نفسي وأنت ستسامحني يا سيدي لأنني أريد أن أروي غليلي "ومعليش" أن "افش خلقي" نم هانئا أينما كنت في هذه الدنيا أم جنات النعيم فنحن على خطاك سائرون ولخطك حافظون وأن كره الكارهون.. مرددين معك قول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط" صدق الله العظيم.
تتمة المقالة منشورة بتاريخ 10/9/2001
