مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الأولى)
بسم الله الرحمن الرحيم
معالي الوزير رئيس الجلسة، أيها الإخوة المؤتمرون،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سيكون تعقيبي وستكون مداخلتي فيها شيء من الموضوعية ممتزجة مع العاطفة وشيء من الوجدانيات، وذلك لأنني قد يصعب علي التحرر من حب أخبرته للسيد بالذات تأكيداً وسيراً على سنة رسول الله (ص)، القائل "إذا أحب أحدكم أحداً من الناس فليخبره أنه يحبه" وقد أخبرت السيد بهذه العاطفة، وها أنا ذا أخبركم بها. بهذا قد تجدون كلمتي بشيء من الوجدان والعاطفة لعلها تريحكم بعض الشيء من الكلام العلمي والموضوعي والجامعي الذي سمعناه طيلة الساعات الماضية.
إنني أرى الامام السيد موسى الصدر معكم الآن وهو يمسك بأهداب الكعبة الشريفة يذرف الدمع غزيراً ونتابع الطواف حول الكعبة وكان معنا السيد حسين الحسيني والشيخ سامي الخطيب وسائر الوفد، فالشوط الاول والشوط الثاني والشوط الثالث وكدنا نفرغ من الأشواط السبعة، والامام السيد لا يزال متعلقاً ملتزماً عند باب الكعبة الشريفة، يتعلق بأستارها ويذرف الدمع غزيراً. هذا الايمان الكبير لم يكن محصوراً في الناحية الوجدانية والعاطفية وانما ترجم بالعمل الصالح، الايمان الذي ترجم أفعالاً وأعمالاً في السياسة والاجتماع والتربية الى أن انتهى بالعمل المقاوم للعدو الاسرائيلي.
كان هذا المشهد الاول. المشهد الثاني الذي ينطلق حقيقة وموضوعياً من هذا الايمان العميق ومن العقيدة الراسخة والقيم الاخلاقية والانسانية الاسلامية، كان حين دخلنا على فخامة الرئيس شارل حلو برئاسة الامام موسى الصدر، وكان إلى جانبه الكاردينال والبطرك خريش أيام كان مطراناً لصيدا، والمطران يوسف الخوري، والمطران جورج حداد، والمطران اثناسيوس شاعر، والمطران بولس الخوري (أرثوذكس) والقسيس وديع انطون عن البروتستانت والشيخ نجيب قيس قاضي المذهب في حاصبيا، بالإضافة إلى الشيخ عبد الامير قبلان. دخلنا على فخامة الرئيس شارل حلو وكان رئيساً للجمهورية يومذاك، فاستقبلنا بهذه التحية: أرحب بكم وأعتز وأفتخر بكم وأحب أن أطل على العالم من خلالكم لما تحملون من معنى حضاري، إذ قلَّ أن تجد في أي بلد من بلاد العالم هذا النموذج وهذه الثلة من رؤساء الطوائف ورجال الدين يلتقون بهذه البساطة وبهذه السهولة على الخير وعلى مساعدة الآخرين وعلى العمل الصالح.
هذا المشهد الحضاري الذي ننظر إليه نظرة سطحية، يحمل في جوهره المعنى الانساني والمعنى الحضاري الذي نتوق إلى تحقيقه في لبنان وفي غير لبنان حينما نسمع النداء بعد النداء للوحدة الوطنية والوفاق ... وإلى آخره. إن السيد موسى الصدر حقق هذا اللقاء وهذا الوفاق وهذه الوحدة عملياً من خلال لقاءاته المستمرة وتعاونه مع الجميع دون استثناء. من خلال هيئة نصرة الجنوب كنموذج، ومن خلال اتصالاته التي لم تنقطع طيلة عمله السياسي والجهادي، فكان بالفعل جهاداً، وكان عملاً حضارياً سبق الكثيرين ممن يتوقون للوصول إلى هذه الغاية في تلك الأيام التي كنا إلى جانبه فيها.
المشهد الثالث: عندما قصفت إسرائيل قرية على الحدود قرب المجيدية، اسمها عين عرب تضم عدداً من بيوت البدو العرب، مما شرد أهلها في سهل الخيام وسهل مرجعيون نساءً وأطفالاً وشيوخاً تحت شجر الزيتون. فما كان مني بعد ان علمت بهذا الخبر المريع إلا أن تركت حاصبيا متوجهاً إلى الحازمية، إلى المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى. التقيت في الساعة الرابعة بالسيد موسى الصدر وكان إلى جانبي الشيخ ابراهيم اللقيس من كفرشوبا. يا سماحة الإمام، الوضع كذا كذا في عين عرب، اسرائيل دمرت البيوت والأهل مشردون، فما كان من الامام إلا أن أعلن بصوت عال فليسمع اللبنانيون ولتسمع الطوائف ولتسمع الاحزاب، لا أرضى ان يبيت انسان ليلة واحدة في العراء، انزل يا شيخ ابراهيم وأحضر سيارة أو سيارتين شاحنتين لتحميل الخيم والفراش والغطاء لأهل عين عرب. وأهل عين عرب من السُّنة، ولم يكونوا من الشيعة، لتأكيد المعنى الوحدوي والإسلامي والوطني.
المشهد الرابع: حينما أتت من ألمانيا بعض المساعدات من فراش وثياب... إلى آخره، وُضعت في كنيسة الأرثوذكس في مرجعيون لا لتوزع على الشيعة، ولا ليأخذها المواطنون السنة، ولكن ليأخذها كل لبناني إلى اي مذهب انتمى، من دون تفرقة بين مسلم ومسيحي، بين سني وشيعي أو درزي. هذا هو الإمام الذي أحببنا، وهذا هو القائد الذي سرنا إلى جانبه، وهذا هو لبنان الذي نتوق ونأمل به في المستقبل.
المشهد الخامس والأخير: إسرائيل شر مطلق، قالها الإمام قبل أن ينطق بها الآخرون حينما تقدم الزعماء وأخذوا يتحدثون عن السلام وعن الصلح وعن الجلوس للمفاوضات مع العدو الاسرائيلي، أعلن السيد موسى الصدر أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، واسرائيل شر مطلق، لا صلح ولا عيش ولا تفاوض أبداً مع اسرائيل، لا لأن اليهود قد يحملون بعض الإشارات، أو إلى آخر ما هنالك، أو يتصفون ببعض الصفات أبداً، بل لأنه يؤمن ويعرف حق المعرفة، ويوقن تمام اليقين، بأن اسرائيل ليست بقنابلها الذرية وليست بجيش تعدى مئات الآلاف، وليست بالطائرات الأميركية، وليست بالسلاح، وليست بالعدوان، وليست بالتوسع، اسرائيل دولة عنصرية مختلفة، دولة قائمة على العنصرية، وهي غير حضارية ولا يمكن ان تلتقي مع الطروحات اللبنانية المتحضرة. لهذا، فاسرائيل ولبنان دولتان متناقضتان لا يمكن أن تلتقيا في الحاضر ولا في المستقبل. فنحن دولة في التقاء الطوائف والتقاء العقائد نطرح معنى حضارياً وإنسانياً متقدماً، وإسرائيل في طرحها شعب الله المختار وفي طرحها للعنصرية اليهودية المقيتة، هي دولة متخلفة وغير حضارية لهذا لا يمكن ان نلتقي معها. أضف إلى هذا اطماعها العدوانية التوسعية، إلى آخر ما هنالك من قيم لاإنسانية.
لهذا علينا أن ندرك ان ما تقوم به الانتفاضة الآن من عمل جهادي كبير سبقها إليه المقاومون اللبنانيون والإسلاميون في جنوب لبنان وألحقوا بإسرائيل الاندحار والهزيمة. ما تقوم به الانتفاضة الآن إنما تحكم على هذه الدولة وعلى المشروع الصهيوني بالفشل تأكيداً وتحقيقاً وإثباتاً لما قاله الإمام الصدر قبل أكثر من عقدين من الزمن. فالانتفاضة الآن، على لسان السياسيين الاسرائيليين، وعلى لسان الصحافة الاسرائيلية، انما تضرب في الصميم المشروع الصهيوني وتعلن فشله أمام العالم، ونحن في هذه المناسبة، وبهذا المؤتمر الكريم، نؤكد جميعاً أننا نلتقي على الطروحات الحضارية والوطنية والعربية التي طرحها الإمام الصدر، والتي تمتد بجذورها إلى عقيدته الإسلامية، ونسبه الشريف لأهل بيت النبوة ولأسرته الكريمة ولإنسانيته السامية.
قلائل هم الرجال الذين يمتلكون حضوراً تاريخياً مميزاً يخوّلهم البقاء والرسوخ في الوجدان الوطني العام لعشرات من السنين إن لم يكن أكثر. والإمام السيد موسى الصدر هو واحد من هؤلاء الرجال الذين سطعوا في سماء لبنان والمنطقة العربية والإسلامية من خلال أدوارهم المميزة والمتميزة في أكثر من مجال وميدان. فكانوا من خلال دأبهم الكبير عنواناً متحركاً لمختلف قضايا الوطن والأمة بفرادة ووجدانية وانطلاقة أحدث ثورة حقيقية في الواقع المتشعب، وترك آثاراً راسخة ما زالت قيد البحث والدراسة والتعمق في أبعادها المختلفة.
فهو الرجل القائد العالم العامل الثائر المبدع المسكون بهموم الوطن والامة، والحامل في داخله مخزوناً فكرياً استراتيجياً مكّنه من اختراق المساحة اللبنانية بكل تعقيداتها بسرعة متناهية. وهو السياسي الذي حظي على اعجاب النخبة السياسية القيادية قبل أن يمتلك القواعد الجماهيرية الواسعة التي أسرها وسحرها بتعبيره عن الآمها وآمالها. فكيف لنا في هذه العجالة أن نسبر غور تلك الشخصية الفذة، التي يحتاج الباحث في بعض صفاتها أن يتحرك بجميع الاتجاهات الأفقية والعامودية لعله يحيط ببعض روافدها الوافِدة من عمق التراث الإسلامي المنفتح على مختلف الآفاق والمتحرر من كل رواسب التخلف والعصبية والانكماش.
بداية أتوقف عند السيد موسى الصدر العالم الذي نشأ في الحوزة العلمية الإسلامية ناهلاً من معين القرآن الكريم والسنة النبوية وأخلاق العترة النبوية المطهرة، وحاملاً من إرثه العائلي جميع الصفات العلمية الدافعة نحو السعي والبحث والاجتهاد، مع ما يحمل ذلك من كدّ وتعب وعناء ودأب مطلوب لبلوغ هذه الغايات السامية، وكان من خلال علمه محصناً بكل أدوات وموازين الشرع الحنيف الذي يمكّنه من المواءمة والملاءمة بين طبيعة الهدف والوسيلة وخاصة في مواجهة التحديات المتفاوتة، التي يتقدمها التعدد الديني والطائفي والسياسي في الساحة التي يعمل فيها، والتباين الواسع بين ما هو شرعي ومبدئي وعقيدي وبين الواقع السياسي الذي ينأى عن كل هذه الاعتبارات.
عالم هو في فهمه للتاريخ، وفي استيعابه لأعقد المسائل المتصلة بهذا الفهم مما مكنه من فهم الآخر، كلّ الآخر... من داخل الدائرة الاسلامية ومن خارجها، وهذه معضلة كبيرة في حد ذاتها قد تعترض العظام من علمائنا المسلمين الذين لا يستطيعون ان يكونوا جاهزين ومهيئين لممارسة هذا الفهم والتصرف في ضوئه. فكان الإمام السيد موسى الصدر نموذجاً في تعيين القواسم المشتركة التي تساعد الناس على الالتقاء والتعاون والتلاحم. لا بل كان قادراً على صناعة وصياغة هذه القواسم المشتركة ببراعة وكفاءة منقطعتي النظير .. فلا وجود مع الإمام لأي إثارة لتشتيت الجماعة أو العمل على تشرذمها، بل هو في جهوزية كاملة للانخراط في ورشة التحاور والتفاهم والاتفاق. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل كل فهم عميق لكل نقاط الخلاف وأسس الاتفاق مع الآخر، وهذه مهمة علمية بالدرجة الأولى تكشف عن حجم تواصل الرجل مع الثقافات المختلفة والمناهل العلمية المتعددة في كل مواقفها داخل الدائرة الاسلامية وخارجها ايضاً.
وهنا لا بد من الوقوف عند ظاهرة مهمة، وكانت من إنجازات الإمام السيد موسى الصدر المضيئة إسلامياً، وذلك عندما حوَّل مناسبة عاشوراء، المناسبة المركزية في الحياة الشيعية إلى دعوة توحيدية لجميع المسلمين يلتقون فيها حول الإمام الحسين عليه السلام في معركته التاريخية الكبرى ضد المغتصبين للسلطة والمثيرين للعصبيات العائلية والقبلية. وقد استطاع السيد، بثقافته وإدراكه السليم للأمور، ان يعطي قضية كربلاء بعدها الاسلامي العام داعياً إلى نبذ حالات الانقسام والتناحر التي كانت تحيط ببعض مضامين ومظاهر هذه المناسبة الاسلامية، واستطاع ان يشيع من خلالها الاجواء العقائدية والجهادية كما ارادها سبط رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكما فهمها بعمق وشمولية السيد موسى الصدر، فكان الجميع يشعرون مع طروحاته لهذه المسألة بالمنطق السليم والصدق في القول لأي مذهب أو طائفة كان انتماؤهم.
وبناء عليه، فإن المسلمين كانوا يشعرون بالسعادة والاطمئنان وهم يراقبون تحرك الإمام الصدر وانتقاله من بيروت إلى القاهرة حيث يزور الازهر الشريف، ومن القاهرة إلى دمشق ومنها إلى عمّان وجدة وإلى سائر البلاد العربية والاسلامية التي فتحت ذراعيها له لترى ما يحمل من الحق والنور والمعرفة، وكان لبنان أكثر البلاد سيادة وإعجابا بشخصية الإمام وعلمه وبذله وجهاده.
لقد استطاع الإمام الصدر أن يجمع بين العلوم الشرعية والصفات القيادية، وان يلعب دوره ويقوم بمهماته العلمية والقيادية على الرغم من المعوقات التي كانت تضعها في وجهه الجهات النافذة الإقليمية والمحلية والدولية، فكان بحق القائد والعالم النموذجي، مما جعل اللبنانيين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ينشدّون اليه وهو يطرح الاسلام بمفاهيمه الإنسانية والعقلانية. وكان السيد موسى من العلماء الذين استطاعوا ان يقاربوا بين العلوم الشرعية والمفاهيم العصرية، وكثيراً ما كان يخضع هذه العلوم للأسس التي وردت في الشرع الحنيف ويزيل كثيراً من الالتباسات التي كانت عالقة في أذهان الكثيرين عن الثقافة الإسلامية. وممن تتلمذ على يديه السيد الشهيد عباس الموسوي الذي تعلم من أستاذه الدرس النموذجي وفهم منه أن الاسلام دين الجهاد والبذل والعطاء.
لقد تكوكب حول السيد جمع من العلماء الذين رأوا فيه قطباً يشدّ الجميع نحو مسيرة العلم والفضيلة والعمل الوطني النبيل، ولم يقتصر ذلك على علماء الشيعة بل تعداهم إلى سائر العلماء من المسلمين وغير المسلمين، وتشكلت على اثر ذلك هيئة نصرة الجنوب التي ضمت رؤساء الطوائف في الجنوب، ومنهم الكاردينال خريش أيام كان مطراناً، ومفتي صيدا الشيخ انيس حمود، وقاضي المذهب الدرزي في حاصبيا الشيخ نجيب قيس، ومفتي الخيام الشيخ حسين العبدالله، والمطران جورج حداد، والمطران يوسف الخوري، والمطران بولس الخوري، والقسيس وديع انطون، والمطران اثناسيوس شاعر، والمفتي عبد الأمير قبلان والشيخ أحمد الزين.
واستطاعت هيئة نصرة الجنوب هذه أن تثبت إمكانية اللقاء بين رجال الدين من سائر الطوائف في لبنان من أجل مساعدة الناس، وليكونوا النموذج الطيب للآخرين في التعاون على الخير والوحدة الوطنية ومواجهة الاخطار المحدقة بالوطن والمجتمع.
ولقد كان الإمام السيد موسى الصدر يتمتع بفكر متسلح بالعلم والمنطق مما جعله قادراً على الارتجال في الخطابة واتخاذ المواقف الجريئة التي كانت تحرك الجماهير وتدفعهم للعمل والثورة والتغيير، وكان بذلك العالم الرسالي الذي يغوص في اعماق طروحاته الثقافية والاسلامية، والمنفتح في آن واحد على كثير من الآفاق الاخرى والمختلفة، وكان يقدم بذلك النموذج للعالم الرسالي والعامل المتفاعل مع الاحداث دون تفريط أو ميوعة أو ضبابية في المواقف، ومن هذه الزاوية نرى التزامه وتمسكه بقانون الاحوال الشخصية المستند الى الشرع الحنيف لدى المسلمين اللبنانيين، مع أنه كان الاكثر انفتاحاً بين العلماء على الآخرين وطروحاتهم.
ولقد عمل الإمام الصدر بكل ما أوتي من قوة لأداء واجبه الشرعي المنطلق نحو الإنسان والمجتمع والوطن والأمة والحياة بأكملها، فكان رجل المؤسسات الاجتماعية والإنسانية الشاملة، وكان السيد موسى رجل الموقف السياسي والوطني المدافع عن الوطن في مواجهة الأخطار، سواء كانت داخليه أو خارجية، بكل حرارة وامتياز.
ولقد استطاع القضاء على ظاهرة التسول في صور داعياً إلى التضامن والتكافل الاجتماعي باذلاً كل جهد من أجل مساعدة العائلات الفقيرة، وسد حاجات الكثير من البائسين. وساعد الأيتام بالعمل على انشاء المياتم، واستطاع ان يقدم في العمل الاجتماعي والصحي والتربوي نماذج رائدة في لبنان، لا تزال بارزة لجميع الناس، وتقوم شقيقته السيدة الفاضلة رباب الصدر بمتابعة الرسالة وحمل الأمانة. والسيد الصدر في نشاطه الثقافي والاجتماعي، كما شاهدنا، تعدى الدائرة الشيعية والمناطقية في صور والجنوب ليشمل كل لبنان، فكانت دعوته لرفع الظلم والعمل على نشر العدالة بين الجميع تشمل كل لبنان بجميع طوائفه· وقاده ذلك إلى التصدي للقضايا السياسية الكبرى في داخل المجتمع اللبناني اولاً، ومن ثم لمواجهة الخطر الإسرائيلي القابع على الحدود اللبنانية. وكان السيد بحق العالم المجاهد والثائر بوجه الظلم على المستويين الداخلي والخارجي.
ولقد عاين السيد الصدر صنفين من الظلم في وطننا لبنان، أولهما: الظلم الاجتماعي الذي يطال كل أبناء الشعب اللبناني، على مختلف طوائفه ومناطقه، والآخر: الظلم الطائفي البغيض الذي يشبه في كثير من أحواله الظلم القبلي، الذي يرفع شعار: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. وهذا الاخير أشد خطورة على كيان الوطن - وما يسمى بالسلم الاهلي - من الظلم الاجتماعي. وأمام هذين الخطرين المحدقين بالوطن لبنان شاهدنا السيد موسى الصدر العالِم والوطني الثائر، الداعي إلى الثورة على الظلم بكل أشكاله، وإلى التغيير الذي يؤمّن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين وإن اختلفت أديانهم وتباينت طوائفهم. وقد استخدم الإمام في دعوته لرفع الظلم الوسائل السلمية والحضارية التي تميزت بمخاطبة العقول والبعد عن كل ما هو عشوائي ومخرب، كما تميز أسلوبه بالرصانة والتدرج الواعي والمرحلية المدروسة، وبخاصة حين طرح مشكلة المحرومين أمام أولي الامر من القيادات السياسية والفكرية، من دون الوقوف أمام الانتماءات الطائفية، ومن ثم على الجماهير الشعبية، مستخدماً اسلوب الاعتصام والاضراب تعبيراً عن رفض الواقع والدعوة إلى التغيير واستثارة الضمائر والعقول لإنقاذ الإنسان والوطن. وأشار الى الحاجة الملحّة إلى حمل السلاح. هتف بأن السلاح زينة الرجال، وما كان ذلك ليحصل إلا لحماية الوطن من المؤامرة التي تدبر بالخفاء من أجل القضاء عليه، وإلا من أجل الدفاع عن كرامة الإنسان، وذلك بنشر العدالة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين. ولأنه كان يرى بأم عينه المخاطر التي كانت تهدد وجود لبنان من خلال الخطر الإسرائيلي الطامع بالتوسع والهيمنة على المنطقة برمّتها. ولذلك دعا إلى تحرير القدس على أيدي المؤمنين، وإلى تحريم الصلح والتعامل مع إسرائيل.
وأنشأ أفواج المقاومة اللبنانية لتشكل النموذج الاول للتصدي للعدوان الاسرائيلي على لبنان، والعمل الدائب والجهاد من أجل التحرر. وكانت المقاومة الاسلامية وحركة أمل من السرايا التي شارك فيها الشباب اللبناني من سائر الطوائف امتداداً لما بدأ به الإمام الصدر في التصدي ومواجهة العدو الإسرائيلي. ولا بد أن نسجل للسيد موسى الصدر موقفه في الحرص على وحدة الشعب اللبناني، وكان ذلك الحرص حتى في أحلك الظروف وأشدها مرارة. نرى ذلك عندما أخذ يلوّح بالعصيان المدني في مواجهة الظلم والحرمان، ودعوته إلى تطبيق العدالة والمساواة بين الجميع. وحين رأى أن الحرب الاهلية تلوح في الأفق سعى لتهدئة الاوضاع بكل الوسائل، وحصر مهمة السلاح بأن لا يستخدم إلا في مواجهة العدو الإسرائيلي، وأعطى لحركته عنوان المقاومة اللبنانية رافضا ًالانخراط في الحرب الاهلية الداخلية، ولو كان ذلك دفاعاً عن النفس، مما جعل البعض يكيل له التهم الباطلة دون أن يدري ان المؤامرة إنما استهدفت لبنان الوطن، خدمة للعدو الصهيوني.
وكم كان لافتا ومدوياً ذلك الاعتصام السلمي الذي نفذه السيد في جامع العاملية مع بداية الحرب الاهلية عام 1975، في محاولة يائسة منه لإيقاف الصراع العسكري القائم، وإفساحاً في المجال لاستئناف الاشكال الاخرى من الصراع السياسي والسلمي. وقد كان هذا الاعتصام لنجدةِ قرية مسيحية في أقاصي البقاع، تعرضت لحرب طائفية بغيضة. وكان ذلك من السيد عملاً لنزع الأسباب الداعية لفتنة طائفية تعمّ كل لبنان. وقد شكل هذا الموقف من السيد موسى الصدر وغيره من المواقف الوطنية إضاءات ساطعة في فكره الحضاري المبرأ من الدعوة الطائفية، التي من نتائجها الحرب الأهلية التي جرت في لبنان ودامت ست عشرة سنة. وقد تبرأ من دنس هذه الحرب وأدواتها، وكان العالم المسلم والوطني والعامل الثائر من أجل العدالة، وكان القائد السياسي الملتزم بالوحدة الوطنية والثورية الداعية إلى التغيير والتقدم.
ولسنا هنا في صدد التوقف عند كل الابعاد التي تحملها شخصية الإمام السيد موسى الصدر ولكننا في هذا اللقاء وتحت عنوان كلمة سواء ندعو إلى استرجاع ما كان يحمل هذا العالم الثائر من مواصفات تفيدنا في تكوين المواطن اللبناني الصالح وبناء الوطن، الذي يجب ان تسوده العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ولنتابع بصدق حماية وطننا مما يتهدده من العدو الإسرائيلي، مبتدئين ومراعين حمايته وتحصينه من الداخل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.