مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الأولى)
تمهيد: قائد ووطن:
درجت المجتمعات على عادة إنتاج قيادات تحمل هواجس الأوطان، بيد أنها نادراً ما وحّدت بين حياة قائد ومصير وطن، ولا سيما بين قائد يصنع فرادته وسط حقول ألغام أحاطت بسيرته من كل حدب وصوب، ووطن لمّا يجد بعد إجماعاً حول هويته ودوره ومعنى وجوده بالذات. وعلى امتداد الأعوام الفاصلة بين نكسة العرب في 5 حزيران 1967 وإخفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا في 31 آب 1978، كان الوطن المهدّد من الجنوب قد ارتدى عباءة رجل وعمامته، وتمثّل في قضية بقدمين ولسان وإرادة وأحاسيس على قدر ما هي مصير دولة وشعب وأرزاق ومنازل وذاكرة ومستقبل.
إن قراءة موضوعية ومعمّقة ليوميات الإمام الصدر في الزمن الفاصل بين النكسة والإخفاء تكشف مفارقة التماهي بين قضية وطن وحياة قائد، مثلما تكشف وقائع الأحداث كيف تحوّل الجنوب إلى تفاصيل يومية في حياة رجل جعلته بصيرته الثاقبة قادراً على التقاط مفاصل الارتباط الوثيق بين مستقبل الوطن ومصير جنوبه.
ولأنه لم يدفن رأسه في الرمال، انفرد الإمام الصدر في ملاحظة مخاطر الاستراتيجية الإسرائيلية على لبنان. إذ أسهمت بصيرته الثاقبة في استشرافه المبكر لوسائل وأهداف هذه الاستراتيجية، وذلك بعد أقل من عقد على إقامته في مدينة صور، حيث اعتقد أن دوره فيها ومنها سوف يقتصر على تدبير أمور المسلمين الشيعة في عباداتهم ومعاملاتهم وتنظيم إرهاصات نهضتهم، وفي طموح مشروع، توحيد صفوفهم وجهودهم وتطلعاتهم وتحسين نظرتهم إلى ذواتهم والدولة التي تسوسهم على كثير من الإهمال وقليل من الحقوق والعدالة، وذلك على أمل تنمية موقعهم في الدولة واندماجهم في الوطن الذي ارتضاه نهائياً لهم ولجميع اللبنانيين على حدّ سواء. بيد أنه سرعان ما اكتشف أنه إنما حطّ رحاله في المنطقة التي يتوقف على تداعيات أحداثها مصير الوطن كله، من الناقورة إلى النهر الكبير ...
وفي هذا السياق تندرج مفارقة السياسة التي دأب على ممارستها والدعوة إليها انطلاقاً من رؤيته الشمولية للمشروع الإسرائيلي في لبنان. وهي مفارقة تفسّر مغامرة السير على حدّ فاصل وخطير بين أولوية النهوض بطائفة محرومة ومهمّشة، اجتمعت حوله ووضعت بين يديه مسؤولية إنصافها وقيادتها، وبين أولوية الدفاع عن وطن تنهشه منازعات طوائفه وأحزابه من الداخل، وبواسطتها تخترقه مصالح وسياسات خارجية وجدت فيه ساحة خصبة لإدارة الصراع في المنطقة، مثلما وجدت فيه إسرائيل وسيلتها لتحقيق مشروعها التوسعي والتقسيمي على حساب وحدته الوطنية والقضية الفلسطينية في آن معاً.
وقد اختزلت تجربة الإمام موسى الصدر مفارقة التكامل بين نهضة مجتمعية ومصير وطن، وهو التكامل الذي عاند على إنجازه في ظروف غير ملائمة بيد أنه لم يتأخر في انحيازه لأولوية المصير الوطني على كل مصلحة أخرى وإن كانت مشروعة.
ولذلك تميّز الإمام الصدر عن غيره من القيادات الروحية والسياسية برأي حاسم في وضوح مفرداته وطموحاته ودقة دلالاته وشموليتها، وهو الرأي الذي ردّده منذ تفاقم الخطر الإسرائيلي على لبنان برمته، حيث اعتبر أن طائفة بدون حقوق أفضل من طائفة بدون وطن. وهذا يعني أن نهضة طائفة بكاملها، وبلسان إمامها الذي انخرط فيها وأشرف عليها منذ بداية الستينات، قررّت تأجيل المطالبة بحقوقها على أمل المساهمة في بحث جماعي عن إرادة وطنية تحمي لبنان انطلاقا من جنوبه.
ولم يأت هذا القرار من فراغ أو ضعف، بقدر ما يرجع إلى وعيٍ أوليٍ ومعمّق بتداعيات الحرب الأهلية، بتفاصيلها الطائفية والإقليمية ونتائجها التي تنذر بتحويل لبنان إلى مساحة مستباحة ومكشوفة أمام المشروع الإسرائيلي· ويفسر هذا القرار مواقف الإمام الصدر من الحرب الأهلية ومشاريع التقسيم وإصراره على وقف الاقتتال الداخلي وتوجيه الأنظار والطاقات نحو الخطر المحدق بلبنان كله، انطلاقاً من قراءته لبدايات التدخل الإسرائيلي السياسي والعسكري في الأزمة اللبنانية، معطوفة على مقاربة دقيقة لأبعاد التموضع الإسرائيلي في الجنوب كما تجلّى في اعتداءات واختراقات وعلاقات حسن جوار وتأسيس نواة لبنانية متعاملة ينفذ بواسطتها المشروع الإسرائيلي إلى قلب النسيج اللبناني وما يستتبع ذلك من تهديد للأنموذج اللبناني في تعدديته الدينية ووحدته الوطنية وسيادته وهوّيته.
وفي اللحظة التي ظهر فيها الوطن مستباحاً ومعّلقاً في الهواء، دخل الإمام الصدر في سباق مع الأحداث، مؤّجلاً كل مصلحة فئوية، معانداً في سعي دؤوب لإظهار صوابية رؤيته للخطر الإسرائيلي، الذي ينذر بتحويل لبنان كله إلى هباء منثور.... وبهدف تطويق هذا الخطر، سار الإمام الصدر في حقول ألغام، وحمل قضية الجنوب في حلّه وترحاله، في خطابه ومواقفه وأحاسيسه، وقد أدرك أنه، في دفاعه عن لبنان، الوطن النهائي لجميع أبنائه، الواحد بأرضه وشعبه ومؤسساته، السيد الحر المستقل، العربي هوية ًوانتماءً ومصيراً، سوف يتعرض للمخاطر والحصار والتشكيك، وأنه سوف يدفع الثمن غالياً في رحلة من رحلات دفاعه عن مصير الوطن. وقد دفعه فعلاً، وفي سجن عربي، حيث ينزوي وحيداً، غريباً منذ 31 آب 1978 حتى اليوم، أي هذا اليوم بالذات، حيث تتكّشف سيرةُ حياةِ إمامٍ قائدٍ حرّك مصيرُهُ الغامضُ إرادةً مكبوتةً سرعان ما انفجرت مقاومةً أخرجت مصير الوطن من المشروع الإسرائيلي، واستعادت بانتصارها خطابه ورؤيته، مؤكدة بذلك صوابية الإرادة التي رهن صاحُبها مصيرَه بمصير الوطن، فأشرق بفضلها الوطنُ منتصراً على الاحتلال الإسرائيلي، بينما لا يزال الوطن ينتظر إشراقةَ قامته بعدَ غيبةٍ استطالت، ظلماً وغدراً، في سجنٍ عربي...
الرؤيةُ الإستراتيجيةُ والمجتمعُ المقاومُ:
أسهم الإمام موسى الصدر في بلورةِ رؤيةٍ معّمقةٍ وشموليةٍ لاستراتيجية إسرائيل في لبنان، كما شدّدَ على ضرورةِ بناءِ مجتمعٍ مقاومٍ يرتكزُ على استراتيجيةٍ وطنيةٍ مضادة للمشروعِ الإسرائيلي. مجتمعٌ مقاومٌ واستراتيجيةٌ وطنية شكّلا، في رؤيةِ الإمامِ الصدرِ، شرطاً تاريخياً لتأسيسِ مقاومةٍ لبنانيةٍ ضد بداياتِ التدخلِ الإسرائيلي في لبنانَ وتمهيداً لمقاومةِ الاجتياحاتِ المتكررةِ والاحتلالِ المتوقّع.
وفي حين تكشِفُ رؤيةُ الإمامِ الصدرِ شموليةَ ومراحلَ وأهدافَ المشروعِ الإسرائيلي في لبنان، فإنها تحددّ، أيضاً، وتقترح الخطوات المطلوبة لمواجهتهِ قبلَ استفحاله شرراً متطايراً على رؤوسِ الجميع. وفوق ذلك كله، تميزت رؤيتُهُ باستيعابٍ دقيقٍ للأحداثِ المتلاحقة، منذُ أواخرِ الستينات، والمتسارعة على إيقاعٍ لم يلحظ اللبنانيون خطورته، إذ رأى إليها البعضُ مجّردَ أحداثٍ عابرةٍ على تخومِ منطقةٍ هامشيةٍ ضعيفةٍ التأثيرِ والأثرِ على لبنان المركزي، واعتبرها البعض الآخر صراعاً إسرائيلياً - فلسطينياً، لا ناقة للبنان فيه ولا جمل. أمّا الإمامُ الصدر فكان أوّل من جاهر بخطابِ التلازم المصيري بين الجنوبِ وبقيةِ لبنان، وأوّل من حذّر من انسحابِ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على السلمِ الأهلي اللبناني. وبهذا المعنى، تكتسب رؤية ُالإمام الصدر صوابيتها باستشرافها المبكّر لمسارِ التدخلِ الإسرائيلي في لبنان، وتحديداً لجهةِ إيقاظِ الرؤوسِ اللبنانية المدفونةِ في الرمالِ أو اللامباليةِ أو المنهمكةِ بمصالحها الخاصة على حساب وطنٍ يقتربُ، شيئاً فشيئاً، من الانهيارِ الشاملِ.
وقد ارتكزت هذه الرؤيةُ على إبرازِ شموليةِ الاستراتيجيةِ الإسرائيليةِ في لبنان انطلاقاً من مسلّمتين: الأولى تشدّد على استحالة الفصل بين لبنان وجنوبه، والثانيةُ تميّز الخطر الإسرائيلي عن غيره من المخاطر التي يتعرض لها لبنان. ففي رسالة وجّهها الإمام الصدر إلى أعضاء المجلس النيابي، ونشرتها الصحف اللبنانية بتاريخ 4 كانون الأول 1969، يقول الإمام في خاتمتها:
" ..... إن لبنان دون منطقة الجنوب أسطورة، وإن لبنان مع جنوب ضعيف جسم مشلول، وإن لبنان دون قوة الجنوب مغامرةٌ تاريخية. إن الجنوب القوي سياج لبنان واللبنانيين، وسلاح العرب والحق، ومصلحة عاجلة وعميقة لكل إنسان في الشرق وفي كل مكان ..".
وبعد ذلك بعدة أيام، وتحديداً في رسالته بمناسبة عيد الفطر بتاريخ 9 كانون الأول 1969، حيث كرّر رؤيته استحالة الفصل بين أحداث الجنوب ومصير لبنان، مناشداً اللبنانيين وعي النتائج الخطيرة المترتبة على هذا الفصل الوهمي، فيقول في مستهل رسالته: "لا أجد صعوبة في توضيح الوضع المهدّد في لبنان، ولا أتصوّر أيّ غموض لأجل إدراك أبعاد الكارثة التي تتربّص بوحدة هذا البلد ومصيره وتهدّد حياة أبنائه وكرامتهم. إن الخطر الذي يستهدف لبنان الجنوبي هو الخطر الحقيقي على الأراضي اللبنانية بأجمعها، وانهيار الجنوب لا ينفصل حتماً عن سقوط المناطق الأخرى. إذا كنّا نجد في التاريخ أو في بعض الأفكار المتحفيّة، نجد لبنان الجبل أو لبنان المتصرفيات والأقاليم، وإذا رأينا أن في بعض الحوادث القديمة سقطت منطقة لبنانية وبقيت مناطق أخرى قائمة مدافعة أو مهاجمة، إذا رأينا ذلك، فإن القرون الوسطى قد انطوت ودفنت معها هذه النوادر والأحداث. ثم إن طبيعة العدو الصهيوني تختلف عن طبيعة أي عدو أو مستعمر. وبعض التأمل الواقعي يرسم لنا زيف هذه الافتراضات وعدم إمكانية تجدد تلك الأحداث في عصرنا الحاضر ..".
تستمّد مسلّمة القول باستحالة الفصل بين الجنوب وبقية لبنان أهم مبرّراتها من المسلّمة القائلة بشمولية الخطر الإسرائيلي· وكانت هذه المسلّمة النقطة الأولى التي أثارها الإمام الصدر في مؤتمر صحفي نشرت وقائعه الصحف اللبنانية بتاريخ 20 تشرين الثاني 1969، حيث قال: "إن إسرائيل بوجودها وبما لها من أهداف تشكل خطراً علينا محدقاً على جنوبنا وشمالنا، على أرضنا وشعبنا، على قيمنا وحضارتنا، على اقتصادنا وسياستنا. إنها تشكل الخطر الآن وفي المستقبل، في المنطقة وفي أبعاد لبنان التاريخية والجغرافية والبشرية. هذه المبادىء لا تحتاج إلى إثبات إلاّ لمن يجهل حقيقة إسرائيل أو يتجاهلها ..."
انطلاقاً من هذا الاستشراف المبكّر للخطر الإسرائيلي على لبنان، أظهر الإمام الصدر الضرورة القصوى والعاجلة لاستراتيجية وطنية تقوم على الأسس التالية:
1- تعيين الأخطار الإسرائيلية ووحدة الرأي والموقف منها، وتحديداً الأخطار الأكثر بروزاً، التي تمثلّت بتقسيم لبنان واحتلال الجنوب وتصفية القضية الفلسطينية.
2- تحديد دور الدولة بصفتها المسؤول الأول في الدفاع عن وحدة الوطن وسيادته وكرامة شعبه.
3- توحيد رؤية المجتمعين السياسي والأهلي للخطر الإسرائيلي الشامل.
4- بناء مجتمع مقاوم كشرط من شروط التصدي لهذا الخطر والصمود في مواجهته.
5- تأسيس مقاومة لبنانية ضد إسرائيل.
شكّلت مهمة بناء هذه الاستراتيجية الوطنية الهمّ الأكبر الذي حمله الإمام الصدر منذ بداية السبعينات، ومن أجلها بذل جهوداً استثنائية أحاطت بها الشكوك من كل جانب، دون أن تضعف إصراره أو توهن إرادته. وهو الذي أطلق التساؤل المقلق في ندائه إلى اللبنانين بتاريخ 29 كانون الثاني 1970، حيث قال:
"هل ننتظر الاعتداء والتشّرد والتفّرق أيدي سبأ، ثم نتحرك وننتشر في أقطار الأرض نستجدي المساعدات والمساعي لإعادة الوطن وكرامة أبنائه؟
هل ننتظر قتل إخواننا وأبنائنا والدمار والإحتلال حتى نتحرك؟ وقبل ذلك فلا شيء.. غريب أمرنا في هذه الفترة .."
ولكي لا يفقدَ اللبنانيون وطنهم ويفتشوا عنه في مقابر التاريخ، ولكي لا تتكّرر نكبة فلسطين في لبنان، باشر الإمام الصدر مهمة البحث عن إجابة مقنعة عن هذا التساؤل المقلق. لذلك لم يتأخر في دقّ ناقوس الخطر في آذان اللبنانيين كافة: دولة وطوائف وأحزاباً وهيئات المجتمع الأهلي على اختلاف مشاربها واهتماماتها. ففي خطابه تجاه الدولة، حذّر من سلبيات السياسة القائمة على شعار "قوة لبنان في ضعفه"، ومن الابتعاد عن المشاركة في الهمّ العربي الواحد والمصير المشترك. ولم يهمل، بطبيعة الحال الإشارة إلى ضرورة إقلاع الدولة عن دورها في حماية الامتيازات الطائفية الذي رأى إليه الإمام الصدر بما هو عامل تعميق للإنقسام المجتمعي وإضعاف لممانعة لبنان أمام التهديد الإسرائيلي. وبالتالي، فإن تحصين الجنوب وانتهاج سياسة دفاعية وتوسيع رقعة المشاركة في القرار السياسي وإدارة الدولة بطريقة عادلة ومتوازنة، هذه العوامل، مجتمعة، تشكّل برأيه أهم وسائل الدولة في حمايتها للوطن وفي تحصينه وإعداده لمواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية ...
وفي خطابه تجاه الطوائف والأحزاب، شدّد على شمولية الخطر الإسرائيلي الذي يشترط لمواجهته وحدة الرأي والموقف والإرادة والهدف. ولا سيما إن التركيز على المصالح الطائفية سوف يؤدي، لا محالة، إلى وضع حقوق الطوائف فوق مصير الوطن، بينما ينبغي أن يكون الوطن فوق حسابات الطوائف ومن أجلها كلها من دون استثناء. كما أن إدارة الظهر للمسألة الوطنية بحجّة التفّرغ للنضال الاجتماعي سوف تعّمق الانقسام الأهلي وتستنزف طاقات وبرامج الأحزاب، وتمهد الطريق للحرب الأهلية، ومعها يصبح لبنان كله مكشوفاً أمام إسرائيل، حيث لا تجدي مصالح الطوائف نفعاً، ومثلها برامج الأحزاب وجماهيرها الموعودة بانتصار داخلي مبتور عن أصله وتواصله في وطن مهدّد من جنوبه. أما هيئات المجتمع الأهلي، فقد حرص على توعيتها ولفت أنظارها إلى ضرورة الحذر من الشرَك الإسرائيلي المنصوب في عقر دار كل طائفة وحزب. وبالتالي، فإن مواجهة الخطر الإسرائيلي وشِراكه المنصوبة في حسابات ومصالح فئوية تفترض وحدة وطنية وسلماً أهلياً، وهما من أهم العوامل المانعة والحائلة دون نفاذ المشروع الإسرائيلي إلى داخل المجتمع اللبناني.
وفي حين ظهر هذا الخطاب وكأنه صرخة في فراغ، وفي حين كشفت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ النصف الأول من عام 1970، صحّة وأهمية مضامين هذا الخطاب، وصل الإمام الصدر إلى قناعة اللجوء إلى التحرك الجماهيري الضاغط· فكانت دعوته إلى الإضراب العام في 26 ايار 1970 بمثابة خطوة أولى تحذيرية أطلقها في يوم الإضراب قائلاً: "...إذا ابتلي الجنوب فستكون مشكلة تفجر لبنان كله... لا كرامة للبنان ولا سلامة له بدون الجنوب ...". وكان قبل عدة أيام على الإضراب، وانطلاقاً من رؤيته لضرورة توحيد الطاقات والمواقف، قد أعلن عن تأسيس "هيئة نصرة الجنوب" التي شارك في تأسيسها رؤساء الطوائف في الجنوب، والتي أعلنت في ندائها الأول وبلسان الإمام الصدر: "ان الجنوب لفي خطر ... وهو اليوم على المحك، ومنه يصدر حكم التاريخ قاطعاً لا يرحم، ولا يهادن ولا يتسكع· ولا يخاَلنّ خائل، إذا سقط الجنوب، أن سياجاً من السحر يسور لبنان، أو خيمة من الغيب تغطي عليه، أو يد قدرة تقيه الأحداث ... إن عضواً من وطنكم اليوم يمشي إليه البتر، إن جزءاً من تاريخكم، وهو الأعظم، يركض إلى القبر ...".
وفي سياق دعوته لمواجهة هذا المصير المشؤوم، انفرد الإمام الصدر في عناده وإصراره على ضرورة بناء مجتمع مقاوم قبل فوات الأوان. فالاستراتيجية الإسرائيلية تتطلب استراتيجية وطنية مضادة، من دونها لن يكون بمقدور لبنان كله الخلاص من الافتراس الإسرائيلي الذي لن يستثني أحداً، دولة أو طائفة أو حزباً أو منطقة....
ومما لا شك فيه، أن دعوة الإمام الصدر لبناء مجتمع مقاوم كانت تعبيراً مكثّفاً ودقيقاً عن المدى الذي وصلت إليه قناعته باقتراب الخطر الإسرائيلي الشامل. فقد لاحظ، وعن كثب، انشغال اللبنانيين بهموم فئوية وجزئية، وتغليبهم لها على هموم الوطن والمصير المشترك، بل حتى دولتهم وإعلامهم ومؤسساتهم الروحية ومناهجهم التربوية وطاقاتهم الاغترابية كانت جميعها شبه مشلولة، وكأنما أحداث الجنوب تجري في كوكب آخر، وكأن الخطر الإسرائيلي بعيد عنهم بُعد الأرض عن القمر. وقد سلكت هذه القناعة طريقين متكاملين، طريق بناء مجتمع مقاوم في كل لبنان، وطريق بناء مجتمع مقاوم في الجنوب وحده. وتمظهرت هذه القناعة في خطاب دائم، صريح وجريء، وفي مواقف وبيانات ورحلات إلى الخارج، في تحالفات وتجاوزات دائمة للأذى والتخوين· فكانت صرخاته وتحركاته من أجل وحدة لبنان ومصير الجنوب والقضية الفلسطينية خبزه اليومي منذ بداية العام 1970 وصولاً إلى يوم إخفائه، حيث اكتشف اللبنانيون، بعد فوات الأوان، فداحة خسارتهم لقائد نذر حياته في سبيل الوطن، ونتيجة عدم تجاوبهم مع صدقية خطابه وصوابية رؤيته أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه وما دفعوا ثمنه أضعافاً مضاعفة من أرواحهم وأرزاقهم ووحدتهم وتعايشهم ومستقبلهم ...
وقد ظهرت هذه القناعة بمرارة وألم، في نداء الإمام الصدر إلى اللبنانيين بتاريخ 29 كانون الثاني 1970، وهذا النداء - المناشدة الهادف إلى إيقاظ اللبنانيين من غفلتهم ولا مبالاتهم تجاه الخطر المصيري القادم من الجنوب:
"أيها الأعزاء،
إن وطنكم في خطر عظيم وداهم· هذا محض الحقيقة وصريح الواقع. أما الغريب الغامض، أمّا السر الخطير فهو: أن يكون الخطر قريباً منكم وكأنه لا يعنيكم، أن نتفرج باطمئنان وبلا مبالاة وبشيء من الحزن المترف على واقع لبنان الجنوبي ومصيره. هذه هي المأساة أيها الأخوة، استعراض للأحداث الأخيرة وللإعتداءات المتكررة على لبنان، على منطقة عزيزة من لبنان تشكل ركناً أساسياً في تاريخه وفي كيانه وفي استقلاله، واكتفائه الذاتي. استعراض سريع يؤكد أن هذا البلد يواجه خطراً مصيرياً.
وأمام هذه الحوادث ترتفع أصوات وتعلو صرخات وتظهر نشاطات، ولكن ويا للأسف المرير، جميعها من منطقة معينة ومن طائفة معينة. اللهم إلاّ بعض المواساة واللياقات من الآخرين. تتخذ تدابير وتقرر أمور بتثاقل وبطء تقليديين، ومع التحفظ والشروط الصعبة لأجل تنفيذها. أليس في هذه الظاهرة نعي للوطنية ونذير في الإحساس المواطني، وتشاؤم على مستقبل لبنان وكرامته.
هذه اللامبالاة العامة تملأ القلب ألماً وتميت الأمل، وهي التي فرضت عليّ مناشدتكم هذه الليلة أيها الإخوة...".
وفي سياق تحويل هذه اللامبالاة إلى إرادة وطنية ورؤية جامعة، طالب الإمام الصدر الدولة وفئات المجتمع الأهلي العمل على بناء "مجتمع جدّ، لا مجتمع رخاء وترف"، وأن تبني الدولة "جيشاً موحداً لاطائفياً مزوداً بكفايات وأسلحة متطورة في مستوى الأخطار التي تهدّد الوطن"، كما ذكر في بيانه الصادر بتاريخ 17نيسان 1976. وكان قد سبقه نداء آخر في 14 نيسان 1976 وردت فيه نفس القناعات والمضامين. إذ طالما "أن لبنان، دولة مواجهة، فلا يمكن إلاّ أن يكون منيعاً يدافع عن شعبه وأرضه، بعد أن عرف الجميع مطامع العدو في الجنوب. ولا يمكن لمجتمعه إلاّ أن يكون مجتمع جدّ وحرب لا مجتمع رخاء واستهلاك. إن لبنان دولة تحدّ،ٍ لأنه أمام إسرائيل، ونتيجة لموقعه الجغرافي، ولا بدّ أن نعيد إلى اللبناني أفقه الواسع لكي ينتج ويساهم في صناعة تاريخه ...".
داهمت الحرب الأهلية دعوة الإمام الصدر لبناء مجتمع مقاوم واستراتيجية مضادة لاستراتيجية إسرائيل، ولم يبق أمامه سوى سلوك الطريق الثاني، طريق العمل على بناء مجتمع مقاوم في الجنوب حيث تصبح ممانعته وصموده أمام الاعتداءات الإسرائيلية أكثر قدرة على توليد مقاومة تحول دون احتلاله وقضمه وتدمير الأنموذج اللبناني على رؤوس الجميع. وإذا كانت الحرب الأهلية قد شّرعت اللامبالاة تجاه المأساة المتعاظمة في الجنوب، ودفعت اللبنانيين في أتون اصطفاف طائفي لم يترك للوطن معنى ولا للمستقبل أفقاً، فإن الإمام الصدر قررّ المراهنة على أبناء الجنوب، وعلى وعيهم ووحدتهم وصمودهم يتوقّف مصير الوطن المهدّد من إسرائيل والممزّق على أيدي المصالح الطائفية والأولويات السياسية الخاطئة.
فإذا كانت "إسرائيل ليست الآن في وضع سياسي يمكّنها من احتلال الجنوب ولكن تحاول أن تفجر المجتمع اللبناني من الداخل وتمهدّ للاحتلال"، كما ورد في تقرير الإمام الصدر أمام الهيئتين التنفيذية والشرعية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 13 أيلول 1975، وإذا كان "الاعتداء على لبنان، وبخاصة على جنوبه، سيقابل بمعركة تبدأ ولا تنتهي مهما كان تفاوت القوى واختلاف الموازين"، كما ورد في نداء الإمام الصدر إلى العقل اللبناني بتاريخ 7 كانون الأول 1976، فإن طبيعة المعركة الراهنة والقادمة مع إسرائيل تتطلب بناء مجتمع قادر على خوضها والانتصار فيها، وذلك لأنها، كما يقول الإمام الصدر معركة ذات وجوه كثيرة، "فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل، معركة المصير. وهذا يعني أن المطلوب منا الاستعداد ليس لأجل الأيام والأسابيع القادمة فقط، ولكنه للسنوات ولعشرات السنين، وعلى جميع الجبهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات ..." ولأنها معركة متعددة الوجوه والابعاد والمراحل، وبما أن "منطقة الجنوب بوضعها الحالي تشّكل نقطة ضعف كبيرة في الجبهة، حيث إنها بطبيعتها الاستراتيجية النادرة وغناها الطبيعي تؤثر في وضع المعركة عند تعّرض العدوّ لها وتغيّر معالم الحرب والتوازن بين القوى. وهذا يعني التهاب أطماع العدو على المنطقة التي ليست مع الأسف مستعدة إطلاقاً للدخول في المعركة دفاعياً واجتماعياً ونفسياً، ويعني هذا الكارثة، كارثة لبنان حتى قبل الشروع في المعركة"، وبما أن "منطقة الجنوب هذه لا يمكنها وحدها القيام بأعباء الدفاع ولا تحضير معركة من معاركه، ولكنها كانت، ولا تزال، جزءاً مخلصاً ومؤثراً في مصير هذا البلد وهذه الأمة"، وبما أنها تنذر بوقوع خطر شامل على مناطق لبنان كافة، فإنها تتطلب "مشاركة جميع اللبنانيين، بل العرب أجمع، في تحسين أوضاع الجنوب دفاعياً واقتصادياً ونفسياً وجعله مستعداً للصمود ولخلق السدّ الأول في وجه العدو...".
وفي حين يكرّر الإمام الصدر مطالبته بتحمّل بعض الأعباء عن أهل الجنوب ومشاركتهم في محنتهم لكي يشعروا بوضوح "أنهم مواطنون في الساعات الحرجة على الأقل"، وفي حين يؤكد "رغبة منطقة الجنوب وعزمها على الصمود وعلى تحمل المحنة حتى الفناء (ولا فناء)"، فإنه يجدّد صرخته ودعوته لبناء مجتمع جنوبي مقاوم: "... عليكم أن توفروا للجنوبيين وسائل الصمود وإمكانية الصمود وإعطاء فعالية لصمودهم ... أنجزوا المشاريع المدروسة والمقررة والموعود بها عشرات المرات ... ساهموا في رفع معنويات أبناء الجنوب، زوروهم، أكتبوا عنهم، وعن بلادهم مقالات وريبورتاجات، أقيموا مواسم وأعياداً وطنية ومهرجانات مهذبة بينهم، وأكثروا من التنقّل في قراهم النائية وبصورة خاصة القرى المجاورة للحدود.
دربوهم على السلاح، سلّحوهم، وحافظوا على ولائهم الوطني، وعلى ولائهم لكم. وبهذه الوسيلة تكونون قد ساعدتم جيش الوطن، وحافظتم على المقاومة الفلسطينية، وكونتم نواة للمقاومة الوطنية لليوم العصيب...".
بهذه العبارات خاطب الإمام الصدر اللبنانيين، دولة وطوائف وأحزاباً في مؤتمره الصحفي الذي عقده في 19 تشرين الثاني 1969، أي قبل استفحال الخطر الإسرائيلي، وقبل اندلاع الحرب الأهلية بعدة سنوات. وهي عبارات لم تجد آذاناً صاغية منذ ذلك الحين، وظلّت كذلك. فلم يبق سوى الرهان على الجنوب وحده، ولم يبق سوى خيار المقاومة الذاتية، مهما كانت قليلة الحيلة، عدّة وعدداً، فهي الملاذ الأخير والرجاء الباقي. "ولأننا لم نفقد أرضنا بعد، يقول الإمام الصدر، لذلك أدعو المواطنين، شباباً وشيوخاً، تجاراً وفلاحين إلى التدرب على السلاح والمرابطة في الجنوب، فإذا التقيتم العدو اقتلوه حتى لو قتلتم بدوركم، فإن قدرنا هو شرفنا واستشهادنا، وليس قدرنا الذل وتحمّل الاعتداءات"، كما ذكرت عنه جريدة النهار بتاريخ 25 شباط 1975.
كما أن مجتمعاً مقاوماً وصامداً في الجنوب يتطلب أيضاً وحدة أهله على اختلاف طوائفهم وأحزابهم ومصالحهم، ولا سيما أن المشروع الإسرائيلي لا يميّز بينهم سوى في مجال التكتيك، بينما يوحّدهم في صورة ضحية باستراتيجيته التوسعية. وبهذا المعنى جاء نداء الوحدة الذي نشرته الصحف بتاريخ 14 حزيران 1976، حيث يخاطب الإمام الصدر أهل الجنوب قائلاً: "يا أبناء الجنوب، يا أيها الذين تحمّلتهم الآلام قبل الآخرين، إن الخطر الأكبر الذي لا علاج له، إذا وقع، عليكم وعلى منطقتكم بالذات، وحّدوا الصفوف، ابتعدوا عن الحساسيات الحزبية والسياسية. إنكم جميعاً، في أي حزب أو اتجاه، إخوان وشركاء المصير، وسوف لا يفرّق بينكم العدو. اجتمعوا في خندق واحد، بعضكم مع بعض، وقد كنتم وستبقون إخواناً، ومع المقاومة في وجه إسرائيل عدوكم الوحيد ...".
وفي اللحظة التي بدأت فيها إسرائيل سياسة "الجدار الطيب"، استدرك الإمام الصدر خطورة هذا التبدل الهادف ليس فقط إلى تورية الاعتداءات العسكرية وتوزيع الأسلحة على العملاء، وإنما إلى تقويض أسس الوحدة التي من دونها سوف ينهار الجنوب ويتحول من مجتمع صمود وممانعة إلى مجتمع مفكّك وضعيف يعيش في يأس واستسلام منتظراً القدر الإسرائيلي. وبالتالي، وأمام احتمال التراجع في إرادة الوحدة والصمود والممانعة، قررّ الإمام الصدر، وانطلاقاً من موقعه الشرعي والسياسي، توجيه نداء من القلب محذراً أهل الجنوب من مخاطر التعامل مع إسرائيل، في أية صورة وتحت أيّ عنوان أو ذريعة. وقد نشرت الصحف اللبنانية هذا النداء بتاريخ 22 تشرين الأول 1976، ومما جاء فيه: "إن هذا التبدل المفاجىء جعل الموقف هو الجزء الآخر من المؤامرة الكبرى التي صممتها وهيأتها ونفذتها إسرائيل ضد شعبنا ووطننا وأمتنا، والواجب المنطقي والمسؤولية الوطنية والإنسانية يدعوانا إلى الحذر والانتباه والتصدي له بكامل قدراتنا.
علينا أن نعلم أن كل قطرة من أدوية إسرائيل هي سّم زعاف يسمّم أجسامنا وأجسام أولادنا، وأن كل من يذهب إلى مستوصفاتها إنما يذهب إلى وكر الافاعي والحيات. علينا أن ندرك أن كل خدمة تقدمها لنا إسرائيل وكل بضاعة نشتريها، وكل رحلة توفرها لنا هي ضربة قاضية على وطننا وتاريخنا وكرامتنا. وعلينا أن نعرف أن كل سلاح تستعمله إسرائيل باسم حماية أحدنا إنما هو طعنة تركّزها في قلب وطننا وأجيالنا الصاعدة ...
.... أناشدكم باسم الله والإنسانية، باسم لبنان، باسم المسيح والإسلام أن تتجنبوا هذا المنزلق الكبير، وأن لا تتورطوا نتيجة للتشنّج في الهاوية.
إن التعامل مع إسرائيل والاستعانة بها بأي صورة وبأي حجم حرام وغدر وخيانة. وإن الصبر على الأذى والمرض والحرمان على رغم إغراءات إسرائيل، جهاد في سبيل الله وإنقاذ للوطن...".
وفي حين كانت هذا النداءات المتلاحقة بمثابة تحذير من نتائج الاستراتيجية الإسرائيلية ومناشدة متواصلة لمواجهتها باستراتيجية وطنية ومجتمع مقاوم، فإن الإمام الصدر كان يدرك، ومن خلال بصيرته الثاقبة نفسها، أن التوعية الإعلامية، وحدها، لا تكفي، وأن مسار الأحداث الداخلية لا يساعد في تحويل خطابه المسؤول إلى ترجمة عملية على الأرض تحصّن لبنان، وجنوبه بالتحديد، ضد الخطر الذي دأب على التحذير منه والكشف عنه في كل كلمة ولقاء ومناسبة منذ نهاية الستينات· وبالتالي، فإن البحث عن وسيلة أخرى تتجاوز النداء والمناشدة والتحذير، شكّل هاجساً لم يغب عن بال الإمام الصدر في لحظة أو يوم منذ قادته بصيرته الثاقبة إلى تلمّس الدلالة التاريخية الخطيرة للمشروع الإسرائيلي في لبنان. وعليه، فإن تأسيس مقاومة لبنانية ضد هذا المشروع أصبح مهمة عاجلة وحاسمة يمتزج فيها الواجب الشرعي بواجب الدفاع عن الوطن، حتى وإن اقتضى الأمر اقتصارها على القلة التي آمنت برؤيته وقيادته.
ثوابت المقاومة اللبنانية:
تستمد المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي أهم مقومات وجودها من الجهد الهائل الذي بذله الإمام موسى الصدر، ليس فقط من خلال دعوته المتواصلة للتدريب على السلاح واقتنائه واستعماله في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية تمهيداً لتحويل هذه الدعوى إلى عمل منظم تتوفر فيه شروط الاستمرارية والانتصار، وإنما أيضاً من خلال الثوابت - الأهداف الكامنة في خطابه حول المقاومة ضد إسرائيل. كما أن فكرة المقاومة نفسها لم تقتصر على الأعمال العسكرية بقدر ما تضمنت دعوة إلى تأسيس مقاومة مدنية شاملة ميادين الممانعة كافة، فقد كانت اختزالاً لقناعة عميقة باستحالة تأسيس مقاومة مسلحة من دون بناء مجتمع مقاوم، تخرج من رحمه، ويرفدها بقدرة التواصل والمثابرة وتحمّل التضحيات. وحده المجتمع المقاوم ينتج مقاومة. لذلك، فإن إصرار الإمام الصدر على ضرورة قيام مجتمع مقاوم وصامد وصابر ورافض لكل أشكال التعامل أو اليأس أو الاستسلام للقدر، كان الوجه الآخر غير المعلن، لإصراره على تأسيس مقاومة مسلحة ضد إسرائيل في جنوب لبنان.
بيد أن فكرة المقاومة نفسها كانت قد اختمرت في ذهن الإمام بعد أن عاين عن كثب وعانى مرارة اللامبالاة التي أعقبت مناشداته المتكررة من أجل اتفاق اللبنانيين حول استراتيجية وطنية قادرة على تمكين لبنان من التصدي للخطر الإسرائيلي. وبالتالي فإن مواصلته مسيرة التوعية والمناشدة والتحذير، مع ضحالة التجاوب معها، لم تدفعه إلى اليأس بقدر ما عمّقت لديه الحاجة إلى عمل ذاتي فرضته عليه المسؤولية الملقاة على عاتقه، دينياً ووطنياً، حتى وإن أنتج هذا العمل مقاومة متواضعة. فقد توفّر لديه قناعة بأن مقاومة تبدأ متواضعة في عدّتها وعديدها، قوية بأهدافها وثوابتها الوطنية العامة، سوف تكون قادرة على تحويل الضعف إلى قوة واليأس إلى عزم والتضحية إلى بطولة، وسوف تشق طريقها رغم الصعاب واختلال موازين القوى انطلاقاً من مشروعية وجودها بالذات وعدالة قضيتها ووطنية غاياتها. والأهم من ذلك كله، انطلاقاً من كونها الخيار الوحيد الذي من دونه سيجد اللبنانيون أنفسهم يبحثون عن وطنهم في مقابر التاريخ، كما حذر الإمام الصدر، مراراً وتكراراً.
عندما بدأ الإمام الصدر مصارحة المقربين منه بضرورة البدء بتأسيس مقاومة مسلّحة ضد إسرائيل وذلك منذ العام 1973، كان الأمر أشبه بمغامرة أو سوء تقدير للعواقب، ولا سيما أنها مقاومة ضد عدوّ كإسرائيل، غنيّ عن التعريف بقوته وبطشه· ومع ذلك سلكت المصارحة طريقها إلى التنفيذ وسط العمل المتواصل لتأسيس حركة سياسية تعبر عن الأهداف التي أعلنها الإمام الصدر وتمكّنه، بواسطتها، من الضغط لتحقيقها، بعد فشل محاولات الإقناع والمطالبة والحوار والاحتجاج... كما تواصلت جهوده التعبوية الخاصة والإعلامية العامة في تعبيرها عن ضرورة قيام مقاومة ضد إسرائيل.
وفي حين كان الإعداد لمقاومة كهذه يتم بشكل سرّي، فإن الخطاب العلني كان واضحاً في تحوله إلى خطاب مقاومة. وقد ظهر ذلك جلياً منذ بداية 1974، وقبل أن يعلن عن وجود مقاومة لبنانية في 6 تموز 1975.
وهذا يعني، أن الإمام الصدر كان يتوّسل الخطاب العلني لتعبئة الرأي العام وتوحيده حول أهداف وثوابت للمقاومة التي باشر تأسيسها بصمت وإصرار.
عندما أطلق الإمام موسى الصدر، من صيدا وبمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف عام 1974 عبارته المشهورة: "السلاح زينة الرجال"، كان قد باشر التمهيد العلني لإعلان قيام مقاومة لبنانية في الجنوب. وهذه العبارة التي سعت بعض وسائل الاعلام إلى إدراجها في سياق طائفي داخلي، لم يتردّد الإمام في توضيح أبعادها، في مقابلة صحفية مع مجلة الحوادث في عددها الصادر بتاريخ 24/12/76، حيث قال شارحاً معنى السلاح زينة الرجال: "... نحن نشاهد أن العدو الإسرائيلي يسرح ويمرح في الجنوب ويدخل إلى القرى... دون أن يكون في هذه القرى فدائي واحد. وكان هذا العدو يقتل ويفجّر ويأسر في القرى ولا من يردّ عليه ... طالبنا طيلة سنوات بضرورة الدفاع عن الجنوب، وقمنا بالإضراب الشهير في أيار 1970، مطالبين بعدم إهمال الجنوب وضرورة الدفاع عنه وعن سكانه. وعندما تخلت السلطة اللبنانية عن واجباتها في مجال الدفاع عن الجنوب قلنا: لماذا ننتظر حتى يحتل العدو الإسرائيلي أرضنا ثم نشكل فرق المقاومة لاستعادة الأرض المحتلة في جنوب لبنان؟ فالأفضل أن نستعد منذ الآن ونحمل السلاح ونتصدى للعدو الإسرائيلي قبل تفاقم الخطر. وهكذا كان قصدنا عندما قلنا ان السلاح زينة الرجال ...".
وبعد أن أعلن بمناسبة ذكرى عاشوراء في 2 شباط 1974 في بلدة ياطر الحدودية، أننا "نحن حفظة لبنان" وأنه هو :"الشيخ المريض مستعد أن أحمل البندقية وأقف معكم على الحدود". انتظر عاشوراء العام 1975 لكي يطلق دعوته لتشكيل مقاومة لبنانية. ففي 20 كانون الثاني 1975 وفي خطابه بمناسبة ذكرى عاشوراء في الكلية العاملية في بيروت أعلن الإمام السيد موسى الصدر فكرته بوضوح قائلاً: "... هل الخوف من اعتداءات إسرائيل لا يتطلب منا الاستعداد للمعركة وحمل السلاح؟ هل يحتاج الدفاع عن النفس إلى الاستشارات والتفلسفات والتجريدات؟ إذا لم تدافع السلطة عن الناس فلتتركهم يدافعون عن أنفسهم بسلاحهم، كما فعل عدد من الأبطال في الطيّبة فأعطوا بريق أمل ورؤيا جديدة. ... إسرائيل تدبّر لنا المؤامرات ونحن نحزن الحزن المترف. واجب الإنسان، كل إنسان، أرادت السلطة أم لم ترد، أن يتدرب ويتسلح كعليّ بن أبي طالب والحسين بن علي، وإذا لم يُجد استعمال السلاح فذلك انحراف عن خط علي والحسين. واجب كل مواطن -وأقولها بلسان الحسين - أن يقاتل، واجبنا أن نكوّن مقاومة لبنانية قبل أن نشرّد في أراضينا ... على كل شاب أن يتدرب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقّن العدو درساً، وإذا مات منا عشرة ومنهم واحد فهذا عظيم.. الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها، وإذا تخاذلت السلطة فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع... حركة الحسين لا تربي أذلاء بل تربي أبطالاً يرفضون السكوت على الظالم. نحن لا نقبل أن تبقى أرضنا بلا دفاع، وعلى الحكومة أن تعلن موقفها، إما أن تدافع أو لا تدافع. والمسؤول الذي لا يعمل على حفظ لبنان ليجلس في بيته. هذه مطالبنا، ولسنا مستعدين لدفع ثمن المعادلات السياسية. ولن ننتظر أميركا أو الاتحاد السوفياتي أو الدول العربية لتدافع عنّا. إنهم سيدافعون عنا فقط عندما نبدأ القتال. أول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات الداخلية والخارجية· فلنقف على أرجلنا ونتسلح ونشكّل مقاومة لبنانية ...".
لا تكتفي مضامين هذا الخطاب بإظهارها عزم الإمام على تشكيل مقاومة لبنانية، وإنما تحدد أيضا الثوابت الكامنة فيها. فالثابت الوطني تدل عليه "لبنانيتها" ومبرر قيامها في الدفاع عن الوطن. فهي لبنانية خالصة تحميها غايتها الوطنية من منازعات الطوائف على قدر ما تشجعهم على الوحدة من أجل الوطن بعد وضوح التلازم المصيري بين لبنان وجنوبه. والثابت الديني جاء واضحاً ببعده التعبوي كما بوجوبه الشرعي. ولم يكن التمّثل بالحسين تخصيصاً للشيعة عن سواهم بقدر ما جاء وضعاً للإيمان في سياقه الصحيح، سياق مواجهة الظالم وليس سياق التعّبد المعزول عن مفاعيله في الجهاد ضد عدو للدين والوطن معاً.
وقد أعاد الإمام الصدر التذكير بهذه الثوابت خلال إعلانه ولادة أفواج المقاومة اللبنانية التي باشر تأسيسها السري منذ 1973 قبل انكشافها إثر انفجار لغم أثناء التدريب في عين البنية في 4 تموز 1975، ذهب ضحيته 26 شهيداً و43 جريحاً كانوا في عداد إحدى مجموعات التدريب السرّي لهذه المقاومة.
ففي مؤتمر صحفي عقده في 6 تموز 1975، أعلن الإمام موسى الصدر ولادة المقاومة اللبنانية بثوابتها وأهدافها: "... هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبوا نداء الوطن الجريح الذي تستمر إسرائيل في الاعتداء عليه من كل جانب وبكل وسيلة. إنهم استجابوا لله وللرسول عندما دعاهم لما يحييهم ولما يحمي الوطن ويصون كرامة الأمة ... إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحاً ومكاسب، ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته ومجال رسالته، يجب حمايته بالأرواح والدماء حتى مع عدم التكافؤ في القوى، ويجب التهيؤ لذلك بسرعة. إنهم اتخذوا من موقف الحسين سلوكاً والتحقوا بقافلته ووضعوا أنفسهم قرباناً للحق والعدل. انهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها، فشقوا بجهادهم الصامت، من دون إعلام طريق التضحيات الوطنية ووضعوا الأمور في نصابها الصحيح ... ، وأناشد الشباب اللبنانيين من كل منطقة وفي كل طائفة، ولا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعاً أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية...
وأؤكد للبنانيين جميعاً أن الآلام الدامية التي تنتاب جسم وطننا العزيز، إنما هي نتيجة الانحراف عن السلوك الصحيح وأثر غياب الدفاع الرسمي والشعبي عن الجنوب، وإن العلاج لها إنما هو بالانتقال إلى الحدود، وبإشعار المواطن أنه يؤدي واجبه الوطني في مكانه الطبيعي..."
وقد جاء هذا الإعلان بمثابة برنامج عمل للمقاومة وهي في طور ولادتها، ويتضمن رؤية استراتيجية لما يجب على اللبنانيين عمله بعيداً عن الحرب الأهلية والصراعات الطائفية، طالما أنها، هكذا، توصل الوطن إلى الحضن الإسرائيلي بأبخس الأثمان. ولم يكن تكرار الثوابت من دون معنى، حيث يؤكد الإمام الصدر أن المقاومة تستطيع الانتصار إذا تمسكت بثوابتها، بكونها وطنية غير ملتبسة في ولائها للوطن وفي وضعه فوق الطوائف وفوق كل اعتبار من أي نوع. وبكونها مؤمنة تنهل من الدين إرادة التضحية بالذات من أجل الكرامة ومستقبل الوطن، حيث لا يتحوّل التعدّد في الدين إلى تعدّد في الولاء والمصلحة الفئوية بقدر ما يكون عامل توحيد على نصاب جامع في وطن غير منقوص في سيادته واستقلاله ووحدة أرضه وشعبه.
وقد لازمت هذه الثوابت تاريخ المقاومة ضد إسرائيل منذ لحظة إعلان ولادتها إلى يوم انتصارها في 24 أيار عام 2000 وهي الثوابت التي رأى اليها الإمام الصدر بما هي شروط للاستمرارية والانتصار، بحيث يكون الانحراف عنها إلى حسابات وسياسات فئوية عائقاً لها واستنزافاً للمقاومة واستدراجاً لها في متاهات تُبقي إسرائيل على احتلالها وتُبقي لبنان في مهبّ الريح.
وفي مقابل هذه الثوابت التأسيسية والاستراتيجية وتعبيرها عن هوية المقاومة، منذ إعلان ولادتها عام 1975 وتحقّق انتصارها عام 2000، فإن الانتصار نفسه وهوية صانعيه وأثرهما العاجل والآجل، في الداخل والخارج، كانت من العوامل التي أثارت هواجس ثقافية كانت كامنة في مواقف الجماعات الأهلية والسياسية في لبنان من المقاومة في بعديها الأهلي والأيديولوجي.
وفي حين يعبّر السجال عن اهتمام بالبعد الثقافي للمقاومة، فإن هاجس المتساجلين لم يتمكن من تورية قلق مقيم من تداعيات الانتصار وانسحابه على موازين قوى أهلية وسياسية وثوابت موصولة بعصبيات حزبية وطائفية وايديولوجية ... وفي هذا السياق تندرج وجهات نظر منفلتة من عقالها، واحدة تروّج لإمساك حزب الله بالقرار الشيعي، وثانية تهوّل من شيعية الانتصار ومفاعيله على التوازن الطائفي، وثالثة تبحث عن كفن ملائم لايديولوجيات علمانية ويسارية، أمعنت "إسلامية" المقاومة في كشف عزلتها والعورات ....
وباستثناء مقالات ذات صلة عضوية بالمقاومة نفسها، فإن أصحاب وجهات النظر هذه، على تعدد مشاربهم والغايات، اجتمعوا على حاجتهم إلى عزل الانتصار عن جذوره الفكرية وعن ثوابت البعد الوطني الغالب في عوامل تأسيس وجهاد وانتصار المقاومة وبالتالي، فإن وقف المقاومة على جماعة أهلية وإدراجها في التنافس الطائفي والتوازنات الإقليمية، ينذر بالنكوص إلى نفس اللغة التهويلية والتشكيكية التي رافقت خطاب المقاومة ومؤسسّها كنقيض لخطاب الحرب الأهلية. وهو نكوص يهدد بتجريد الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي من أهم أبعاده، لا سيما البعد المتصل بالوطن بما هو انتماء إلى هوية وطنية جامعة أقوى من الطوائف، وضرورة لها وللدولة التي تديرها، والبعد المتمثل في الانتماء إلى هوية عربية تعيد الدور المميز للبنان في محيطه العربي بعد استئصال اللغم الإسرائيلي الذي طالما أمعن في تعميق انقساماته الأهلية وتعطيل دورة حياته وأنموذجية رسالته التعددية في المنطقة والعالم، إضافة إلى البعد الإسلامي بما هو انتماء مشروع إلى هوية دينية وجدت في ثوابتها الفكرية والمعتقدية تجسيداً وتعميقاً لحاجة اللبنانيين إلى وطن جامع ودولة واحدة وعادلة في تدبيرها أمور المجتمع الطوائفي، بحيث يكون البعد الديني تعبيراً عن انتماء وطني غير ملتبس أو منقوص أو منعزل في عصبية طائفية أو مناطقية، تماماً مثلما هو تجسيد للإيمان في إرادة قادرة على تحويل الضعف إلى قوة، حيث تظهر الهوية الدينية، تحديداً، في إقبال المؤمنين على الشهادة التي بواسطتها تتوازن القوى غير المتكافئة أصلاً، وتفسّر وحدها سّر انتصار الدم على السيف...
هذه الأبعاد ذات الصلة بالهوّية والثوابت كانت حاضرة وحاسمة في خطاب الإمام الصدر حول المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل ولم يعدل فيها التموضع الشيعي لتأسيسها إذ إنه، أي التموضع الشيعي، لم يكن مرغوباً بذاته بقدر ما أفرزته الطبيعة التكوينية للبنان حيث يظل خطاب الشخص موقوفاً على جماعته الاهلية، رغم أنه يسعى إلى أهداف تتعلق بمصير الجماعات الأهلية كلها بما هي شعب في وطن.
ولم يترك الإمام الصدر مناسبة إلاّ وشدّد فيها على مخاطر توصيف خطابه بالطائفي والفئوي، حيث أنهكه تكرار الثوابت التي أرادها معنى للمقاومة وغاية وحيدة لها. وفي حين أنه، وفي قرارة نفسه، كان يدرك "شيعية" التجاوب، فإن طموحه ظلّ قائماً على أمل الوصول إلى تجاوب "لبناني" بحجم المقاومة ومبررّ وجودها. وقد تمثّل هذا الطموح في خطاب متواصل تجتمع فيه ثوابت الوطنية والقومية والدين بصورة تكاملية وعضوية، حيث تجمع المقاومة ما تفّرقه الطائفية وما في معناها ...
وبهذا المعنى، أراد الإمام الصدر أن تكون هوّية المقاومة التي يدعو إلى تأسيسها قائمة على هذه الثوابت، حتى وإن اقتضى الأمر تأسيسها على نصاب شيعي. فالثوابت وحدها كفيلة بأن ترقى بها من "شيعية" التأسيس إلى "لبنانية" الاستمرار والانتصار. وقد تحدث الإمام الصدر عن هذه الثوابت في خطابه في ذكرى المولد النبوي الشريف بتاريخ 4 نيسان 1974 في مدينة صيدا، عندما تحدث عن الجنوب كما يريده أن يكون: "نحن نريد الجنوب، ونحن في قلب الجنوب في صيدا، نريده أن يكون منطقة منيعة، صخرة تتحطم عليها أحلام إسرائيل وتكون نواة تحرير فلسطين وطليعة المحاربين ضد إسرائيل. الجنوب رأس حربة ضد إسرائيل وقاعدة لتحرير الأراضي المقدسة· لا نريد جنوباً هزيلاً مثل اليوم أو في شكل دويلات· نريد جنوباً متمسكاً بلبنان، مرتبطاً بهذه الامة، موحداً مع العرب، رأس حربة لهم، لا جنوباً هزيلاً مفصولاً، بل نريده جنوباً مانعاً ... سنحاول أن نتبع سيرة رسول الله في الجنوب ...".
وفي توضيح أكثر لهذه الثوابت، حيث تتوارى "شيعية" صاحب الخطاب وتتقدم الدلالات الاخرى لغايات القتال الذي يدعو إليه الإمام الصدر، كتب مقالة في مجلة صوت المحرومين في عددها الصادر بتاريخ 28 تموز 1976، كرّر فيها الأهداف التي تقاتل من أجلها حركة المحرومين وأفواج المقاومة اللبنانية، وهي أهداف وطنية وقومية تلتقي على إرادة العمل في سبيل الله:
" ... الوطن، وهو الإنسان الجماعة، نقاتل لحمايته من الاعتداء.
الوطن وهو الجنوب الحق الذي يتعرض لتجاوزات إسرائيل، وهي الباطل بعينه. من أجل الوطن ودفاعاً عنه وعن إنسانه نقاتل ...
ومن أجل وحدة لبنان، من أجل منع قيام إسرائيل أخرى، أو إسرائيلات تدعم إسرائيل الأم، نقاتل. ولكي نمنع تصنيف الإنسان وتحقيره وتشويهه تحت كابوس الفكر الإسرائيلي العنصري، الذي يتكون هنا وهناك في حالة التقسيم، نقاتل.
ولأجل الحفاظ على الشعلة الإنسانية الحقة والعادلة، لأجل المقاومة الفلسطينية ضد الشر المطلق، إسرائيل، نقاتل ...
إننا في لبنان، وفي هذه المرحلة، نقاتل لهذه الأهداف المثلثة. لأنها تمثّل الإنسان، ولأنها حق لا سبيل اليه إلاّ السلاح، ولأن القتال في سبيل تحقيقها بذل للحياة في سبيل الله وصيانة لما هو أشرف من الحياة وأبقى ...".
وفي هذا السياق أيضاً، وضع الإمام الصدر الوطن والبعد الوطني في مقدمة الثوابت والأهداف التي ينبغي أن تتأسس عليها المقاومة وتسعى إلى تحقيقها. ذلك "أن الوطن يجب أن يبقى، ولا يحلّ محل الوطن شيء، وأن الإنسان لا معنى لوجوده في هذا العصر دون وطن"، كما أن "الالتزام المطلق بالوطن هو إكمال للانتماءات القومية والدينية والأممية ولا يتناقض معها إطلاقاً ..."، كما كتب الإمام في مقالة أخرى منشورة في مجلة صوت المحرومين الصادرة بتاريخ كانون الأول 1976.
وتأتي عروبة لبنان امتداداً للثابت الوطني وتحصيناً له، ولا سيما أن "محنة لبنان هي في محاولات عزله المستمرة عن العالم العربي، وهو امتداده الحقيقي القومي"، أما علاج هذه المحنة، برأي الإمام الصدر، فإنه يتطلب "إعادة دوره القومي إليه في مواجهة إسرائيل، وفي المشاركة الفعالة في المجال العربي"، كما قال في مهرجان يوم الشهيد في الأونيسكو بتاريخ 23 أيار 1976. وكان في بيانه المنشور في الصحف بتاريخ 17 نيسان 1976، قد أوضح ما يرمي إليه في خطابه عن البعد العروبي للبنان: "نريد لبناناً عربياً، لا جسماً غربياً في المنطقة يأخذ ولا يعطي، أو يعطي ولا يأخذ، بلداً متفاعلاً مع أشقائه، يتحمل معهم مسؤولياته العربية ويشارك في المصير العربي ويتمتع بكامل مزاياه. نريد الخروج من النفاق السياسي والتقزم الوطني بحجة عدم التمحور. نريد التخلص من السلوك وراء شعارات ذات معان متعددة. نريد لبنان العربي الحرّ المستقل ..".
أماّ الثابت الديني فقد انفرد الإمام الصدر في تبيان أهميته المتعددة الأبعاد، في مواجهة الطائفية وفي مقاومة إسرائيل على حدّ سواء، وبين هذه وتلك، يعمل الثابت الديني على بناء شخصية المؤمن المؤهل للخروج من أسوار الطائفية إلى رحاب الوطن من خلال استعداده للموت في سبيل الوطن المهدد من جنوبه، ومن خلال بناء ثقته بنفسه قبل مباشرة مقاومته لعدّو يتفّوق عليه بالسلاح والقدرة التقنية والمادية والإعلامية ... وبالتالي، فالثابت الديني يبقى من دون معنى إذا لم ينزع من قلب المؤمن أولوية الطائفة ويستبدلها بأولوية الوطن. ويكون أيضاً من دون جدوى إذا لم يسلّح المؤمن بإرادة المقاومة والشهادة كخيار وحيد في مواجهة القوة الإسرائيلية· لذلك، وفي سياق ردّه على مواقف اتهامية بالطائفية والمذهبية، يقول الإمام الصدر، مستنكراً الحملات التشكيكية، ان "الدين وجد لخدمة الإنسان ... والدين لا يتناقض مع حب الوطن والدفاع عنه ... أية طائفية هذه ولمن التحرك الطائفي ونحن نتحرك لله وللوطن ... إن أولئك الذين يقولون إننا نحمي طائفتنا ونحمي حقوقنا هم الذين يعملون لخلق الفتن ولتمزيق أوصال الوطن، وهم بعيدون عن خدمة الوطن... إن الدفاع عن الوطن وعن حرية الإنسان والموت من أجلهما هو دفاع عن الله، وسبيل الله مفتوح لا غموض فيه ولا أوصياء عليه ..."، بهذه العبارات اختزل الإمام معنى الثابت الديني في مقولة الدفاع عن الوطن دفاع عن الله، التي أطلقها في ذكرى استشهاد القافلة الأولى من المقاومة اللبنانية بتاريخ12 تموز 1976.
لم يهمل الإمام الصدر، من موقعه الشرعي، الدور التعبوي للدين حيث لا ينبغي أن يبقى الإيمان قاصراً على توليد إرادة ممانعة ومقاومة، مهما كانت الصعاب والتضحيات. ومن مخزون الذاكرة الشيعية نهل الإمام الصدر خطاب التعبئة والإعداد القائم على معادلة أسس ركائزها الإمام الحسين (ع) في كربلاء. ففي ظل موازين القوى غير المتكافئة، وفي ظل الضرورة الوجودية لمواجهة المشروع الإسرائيلي، لم يكن أمام الإمام الصدر سوى سلاح التجربة الحسينية بما هي تجسيد تاريخي لقدرة الشهادة في الحق الانتصار على الباطل. فإذا كانت "الطريق الوحيدة أن نقوى ونستعد ونتدرب على السلاح لأن ذلك واجب مثل الصلاة، واقتناء السلاح واجب كاقتناء القرآن". كما جاء في خطابه بذكرى المولد النبوي الشريف بتاريخ 25 آذار 1975، فإن الالتحاق بقافلة الحسين يأخذ دلالاته الإيمانية بالجهاد ضد إسرائيل. وكما جاء في خطاب الإمام الصدر في بلدة كونين بتاريخ 26 كانون الثاني 1975: "لم يكن الحسين مسجوناً في السنة 61 من الهجرة منقطعاً عن المستقبل، بل كان حلقة مميزة من الصراع المرير بين الحق والباطل، وستستمر هذه الحلقة إلى الأبد كلما وجد الحق والباطل ... لو كان الحسين موجوداً اليوم في هذه الامة، فما تراه يكون موقفه تجاه ما يجري في الداخل والخارج، تجاه الاعتداءات الإسرائيلية والتخاذل؟ الجواب أن الحسين يعيش في قلوبنا، وقد التزمنا بـ "ليتنا كنا معك لنفوز فوزاً عظيماً" ... لو كان الحسين هنا لحمل سيفه وتحرك ... سلوكنا الحسيني يفرض علينا الدفاع عن أرضنا... كونوا فدائيين إذا التقيتم العدو الإسرائيلي. استعملوا أظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً ... هل فصل الاسلام بين نهج البلاغة والسيف؟ يقولون إذا دافعنا عن أرضنا ستحتلها إسرائيل. أرضنا محتلة مادام العدو يدخلها ساعة يشاء ... العالم الخارجي يقول إن جنوب لبنان أرض سائبة ... أما لماذا هي سائبة؟ فأقول: إن بقية اللبنانيين يريدوننا أن نكون متراساً لهم ليعيشوا ترفهم وملذاتهم. لا يتصور الشرفاء أن العدو يدخل ويخرج بمثل هذه البساطة المتناهية ... لا بدّ أن يكون بينكم من هم أمثال شهداء الطيبة الذين قاتلوا العدو الإسرائيلي في بيوتهم، عندئذٍ نقول: "السلام عليكم يا ورثة الحسين".
وفي اللحظة التي بات الجنوب فيها على موعد مع القدر الإسرائيلي، واندفع اللبنانيون في أتون الحرب الأهلية التي أعمت أبصارهم عن أحداث الجنوب وأغلقت آذانهم عن سماع خطاب الإمام الصدر حول ضرورة توجيه السلاح والطاقات باتجاه العدو الإسرائيلي المشترك. لم يبق أمام الفقيه، إمام الطائفة وقائدها السياسي، سوى إخراج آخر طلقة في جعبته، وكان يعلم أنها كذلك لولا متطلبات إلقاء الحجّة على الشركاء في الوطن والمصير: الاعتماد على النفس مهما بلغت التضحيات، وإن اقتصرت فقط على أتباعه من المسلمين الشيعة الذين وضع في أعناقهم مسؤولية الاستجابة لنداء الوطن الجريح قبل فوات الأوان. ففي خطابه في نادي الإمام الصادق في مدينة صور بتاريخ 21 كانون الأول 1975، وبعد أن ذكّر بمواقفه منذ بداية الأزمة اللبنانية وبالأخطار التي تهدد لبنان والقضية الفلسطينية، وبعد أن بيّن أثر هذه الأخطار على اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، وعلى العرب، خاطب الذين ارتضوه لهم إماماً وقائداً شارحاً لهم معنى الولاية "... وهنا يأتي معنى الولاية، وباعتباري شيعياً، فيجب أن أكون في الصف الأول، أنا تابع لعلي، لا أفكر أن أكتسب المكاسب لنفسي، أو أن أدافع عن الأشياء لأجلي. لا، معنى الولاية أن أكون في طليعة هذه الأمة، أكافح وأناضل حتى آخر الشوط. نقلع الشوك بأيدينا ... هذا معنى الولاية". وبالتالي، فالترجمة العملية لخطاب الاعتماد على الذات تبدأ بالالتحاق بقافلة الحسين وتنتهي إلى ما انتهت إليه: الانتصار بالشهادة. والالتحاق يجسد الالتزام بالخطوات الممهّدة له من ذوبان في الحق وتهيئة النفس للشهادة دونه، مثلما يكون الالتحاق وضعاً للوطن في مرتبة الحق المهّدد بالضياع وتعبيراً عن إرادة الدفاع عنه حتى الموت. لذلك، يتابع الإمام الصدر خطابه قائلاً: "والتدريب واجب، وحمل السلاح واجب، يا أبناء علي، إنكم أمام ظروف استثنائية، أمام معركة جديدة، أمام فترة حاسمة من تاريخكم، ما واجهها آباؤكم ولا أجدادكم ... شاء الله أن تعيشوا هذه الفترة فتكونوا عند حسن ظن إمامكم ونبيكم وربكم. وتحملوا الأمانة بكل إخلاص وصدق. تهيأوا وتجهزوا، رحمكم الله، فقد نودي فيكم بالرحيل. يقول ذلك الإمام عليه السلام. استعدوا ولا تقولوا أعطونا السلاح. إذا ملكنا شيئاً فهو لكم، ولكن دون انتظار ذلك منا ومن الآخرين، ودون انتظار المساعدات من هنا وهناك اعتمدوا على أنفسكم في البداية. تهيأوا، تدربوا، تسلحوا. بكل صراحة، لا يبقى شيء خافياً على أحد، بلادنا في خطر، وطننا في خطر، كرامتنا في خطر، فكل شيء في خطر. والأساس بقاء الوطن، بقاء الأمة. الأساس وحدة لبنان، لا تنخدعوا بالشعارات وكونوا يداً واحدة وقلباً واحداً ...".
وفي هذا السياق، تندرج مفردات الذاكرة الشيعية في خطاب الإمام الصدر بما هي دلالة مضاعفة على أثر الثابت الديني في مبرّر وجود المقاومة وفي وسائل استمرارها. ففي حين يجعلها الثابت الديني بمنأى عن التقوقع الطائفي أو المذهبي بحيث يجسّد الايمان واجب الدفاع عن الوطن، وجوباً شرعياً تنصّ عليه الأديان كافة، فإن توّسل الذاكرة الشيعية يغذّي الثابت الديني بمقّومات إضافية أكثر مما يعّبر عن هوّية الجماعة التي يخاطبها الإمام الصدر ويدعوها لتأسيس مقاومة لبنانية ضد الخطر الإسرائيلي الشامل.
وبهذا المعنى، لم يكن اختيار المناسبات الدينية، وتحديداً ذكرى عاشوراء، اختياراً اعتباطياً وعاطفياً بقدر ما جاء تعبيراً عن قناعة معّمقة بمفاعيل عاشوراء وقدرتها على استنهاض اللبنانيين عامة، والشيعة بشكل خاص، وتوحيدهم حول خيار المقاومة. ففي مواجهة الاختلال الكبير في موازين القوى القائمة بين لبنان وإسرائيل، استرجع الإمام الصدر جدلية الصراع بين الحق، مع قلّة أهله، والباطل مع قوة أهله، وموقع الشهادة كسلاح فاعل وقادر على إقامة التوازن وصنع الانتصار اللاحق. ووحدها الشهادة المتدفّقة من موقف الحسين في كربلاء تؤسس لإرادة المقاومة والتضحية وسط موازين غير متكافئة. يقول الإمام الصدر، في مناسبة عاشوراء في نداء نشرته جريدة السفير بتاريخ 21 كانون الثاني 1976، "إن المعادلات التي تدرس في موازين القوة العسكرية وفي حسابات الربح والخسارة تختل جميعاً عندما يدخل عنصر الشهادة في الميدان، إن الشهادة تحوّل الفرد إلى سلاح لا يقهر وتجعل الشهيد ينبوعاً متدّفقاً يهز الجميع ويحرك الإنسان وضميره وطاقاته في كل مكان...". وبالتالي، فالشهادة لا تكتفي بقدرتها على تمكين المقاومة من تجاوز عقدة الاختلال في موازين القوى، وإنما تعطي مشروعية لذاتها بتعبيرها عن إرادة الدفاع عن الحق - الوطن، ضد الباطل – إسرائيل. وفي هاتين القدرة والمشروعية ينزف الدم في موقعه الصحيح وينتصر، في نهاية المطاف، على السيف.
عندما أسسّ الإمام الصدر مقاومة على خطاب ينهل من أنموذجية الشهادة الحسينية كان يدرك تماماً دقّة هذا الخطاب، وتحديداً لجهة استحضاره لأهداف التي سعى إليها الحسين (ع) بواسطة الشهادة بوصفها الخيار الحاسم والقادر على نسف مرتكزات الباطل وجبروت جيشه. وبالتالي، فالخطاب يرجع إلى دروس الحدث الكربلائي أكثر مما يؤشر إلى تخصيص سامعيه بطائفة أو مذهب، إذ يدفع الخطاب اللبنانيين دفعاً حثيثاً نحو الخيار الذي ظهر وحيداً في تعبيره عن الوسيلة الكفيلة بإنقاذ الوطن كله من مخاطر المشروع الإسرائيلي. وكونه كذلك، أي خياراً وحيداً، قرّر الإمام الصدر نفسه الإقدام عليه، وشجّع مؤيديه على الالتحاق بقافلة الحسين (ع) من خلال انخراطهم في المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل.
فإذا كانت نواة هذه المقاومة أكثر تجاوباً مع خطاب الإمام، لأسباب دينية ووطنية ومجتمعية، فإن رهان الإمام الصدر على تجاوز "شيعيتها" كان كبيراً، ليس فقط لأنه كان رافعة دخول "الشيعة" إلى الوطن، وليس فقط لأنه وضع مصير الوطن فوق حقوق الطائفة وسعى جاهداً لإبعادها عن مسالك الحرب الأهلية، وإنما أيضاً لأنه أعطى المقاومة ثوابت واهدافاً أكثر صدقية في تمثيلها للمصلحة الوطنية العليا وأكثر قدرة على توحيد اللبنانيين حول مصيرهم المشترك.
ولم يذهب رهانه سدىً. فقد استرجع اللبنانيون مضامين خطابه المتواصل منذ أواخر الستينات، واكتشفوا صحّة رؤيته للمشروع الإسرائيلي، فالتأموا في مقاومة وطنية ضد الاحتلال الذي أعقب اجتياح العام 1982، وبدأوا مسيرة الرهان على المقاومة بعد أن اثبتت أنها خيار لبنان كله وقوته وسرّ انتصاره اللاحق على الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا السياق فقط، تندرج انموذجية الالتحاق بقافلة الحسين التي جعلت لبنان كله قادراً على الصمود، والمقاومة قادرةً على التضحية، وصولاً إلى الانتصار. لذلك كله، لم يكن عبثاً توصيف شهادة الدفعة الأولى من المقاومة في صورة التحاق بقافلة الحسين، ولم تكن من دون دلالة أو جدوى عبارة "كونوا مؤمنين حسينيين" التي كتبها الشهداء الأوائل بدمائهم، بقدر ما أرادت تأسيس الطريق الذي ينبغي على اللبنانيين سلوكه في مقاومتهم ضد إسرائيل. وهو الطريق الذي قرّر الإمام موسى الصدر سلوكه وجعله معنى لحياته وغاية لخطابه وترجمة عملية لمسؤوليته تجاه الوطن، تماماً مثلما أراد من ثوابت خطابه أن تكون هويّة للمقاومة والوطن في آن معاً.
وإذا كانت المقاومة قد انتصرت، بهوّيتها وأهدافها والثوابت، في 24 أيار عام 2000، فإنها كانت عملياً، قد باشرت مسيرتها نحو الانتصار الحتمي منذ اللحظة التي سمع فيها الإمام الصدر صرخة الوطن الباحث عن ناصر ينصره، وقرّر الاستجابة لنداء الوطن فالتحق بقافلة الحسين، وتمثّل به خياراً وغاية وسلوكاً ومصيراً. وها هو مؤسس المقاومة وملهم انتصارها يصرخ من ظلمات سجنه عن ناصر ينصره، صرخة لم تتوّقف منذ اثنين وعشرين عاماً، ولمّا تصل بعد إلى الآذان ؟؟ ...