مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الثانية)
أولاً: التسوية في ضوء الإمام الصدر
إن الإمام الصدر، رده الله إلينا وإلى أمته، لم يكن ضد السلام الحقيقي بين الشعوب والأمم بمفهومه الصحيح، وبمعانيه ومقوماته وأهدافه المنشودة، وإنما كان ضد السلام الذي يفتقر إلى العدل والمساواة والاستقرار والشمول والإقرار بالحق والحرية والاستقلال عندما اتخذ من المقاومة وقوة السلاح استراتيجية أساسية لمقاومة إسرائيل، أو أي ظلم يحيق بأي شعب أو أمة.
من هنا لم ير سماحته في السلام الذي لاحت بوادره في زيارة السادات إلى إسرائيل عام 1977 سوى بداية لسيطرة إسرائيل على جميع شؤون الأمة العربية ومدخل إلى الوطن العربي، يمهد لها للوصول إلى كل ذلك، فقد قال في مقابلة صحافية له: "أن إسرائيل تسبق الزمن وتخطط لما سيحمله الزمن من أحداث. ما سمح لي في هذه الليلة من ليالي رمضان أن أصارح من يقرأ هذا الحديث، أننا في لبنان لم نعد نملك شيئاً نخسره، فليفكر الأشقاء بما عندهم من ثروات وأرض وقوة، وبما لديهم من تراث ودين وحضارة وقيم، أقول لهم إن كل شيء لديكم مهدد، أليس كذلك؟"
ثم قال عن الخطة الإسرائيلية القادمة بخصوص حماية الأقليات: "قد نجد أنفسنا غداً لنرى إسرائيل قوة سياسية تتفاعل مع المعارضة في كل بلد عربي، هذا إذا لم يتم الانفتاح الذي كادت مبادرة الرئيس السادات أن تهيىء له، وإلا عندما يتم الانفتاح العربي على إسرائيل، لا سمح الله، فسوف نجد إسرائيل حاضرة ومسيطرة في جميع الشؤون الإنمائية والاقتصادية والتربوية والثقافية وغيرها.
(أنظر المقابلة التي تحمل عنوان "أحداث لبنان تعبّر عن خلفيات كبيرة وخطيرة" والمنشورة في كتاب الإمام السيد موسى الصدر.)
على أن موقف الإمام الصدر من التسوية بين العرب وإسرائيل، التي بدأت إرهاصاتها بالظهور في أعقاب حرب حزيران 1967، ونظرته إليها لم يأتيا من فراغ، ومن تصوّر ضرب بعيداً في آفاق الخيال والرومنسية السياسية، بل جاءا مما يتحلى به من وعي سياسي وفهم عميقين لمجريات الشؤون الدولية وما يتعلق منها بنوع خاص بمنطقة الشرق الأوسط، ومن حسابات دقيقة لموازين القوى في عالم اليوم مبنية على تحليل حقائق العصر الذي نعيشه.
صحيح أن حرب حزيران 1967 قد غيرت الواقع العربي أمام قوة إسرائيل وجبروتها وأخلّت بموازين القوة بينها وبين العرب إخلالا فادحا، لكن ذلك ما كان ينبغي، في عقيدة الإمام، أن يسمح بالرضوخ إلى هذا الواقع والرضى بما يمليه على الأمة العربية من قبول لوجود إسرائيل في المنطقة وإدماجها فيها والاعتراف بها، وإقامة حدود آمنة معها، فذلك في مفهومه أعظم شراً من حالة استمرار الحرب معها.
إذاً، إن السلم مع إسرائيل في نظر الإمام الصدر ليس سوى استمرار لاحتلال الأرض واغتصاب الحقوق وإلغاء السيادة وإذلال لمن يضع يده في يدها. وها هي الأحداث التي تعاقبت على طريق التسوية تشهد على صحة ما ذهب إليه، وحسبنا من ذلك أن نشير إلى سلم "أوسلو" الذي انعقد بين إسرائيل والفلسطينيين. في ظل اتفاقية واشنطن الموقعة في 13 أيلول 1993، وما تداعى عن هذه الاتفاقية من مواقف وتطورات أظهرت استهتار إسرائيل بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني من حقه في أرضه وفي تقرير مصيره وفي سيادته واستقلاله واحترام عزته وكرامته.
وما كان ليقع ذلك كله، في أكبر الظن، لو أن المفاوض الفلسطيني الذي ذهب إلى مدريد في 30 تشرين الأول 1991 ثم أوسلو قد وعى، بعمق ودقة، الأسس والقوانين التي تحكم علاقات القوة في المجال الدولي، وتصرّف، في ما قبل أو رفض، في ضوء حقائق هذه الأسس والقوانين، وأولها هذا الذي نبه إليه الإمام الصدر بشأن تفاوت القوة والقوى بين العرب وعدوّتهم الصهيونية المجسَّدة بإسرائيل، وضرورة إصلاح هذا الخلل الرهيب في علاقات القوة مع إسرائيل، استعداداً لمواجهتها سواء أكانت هذه المواجهة حرباً أو سلماً ، مصداقاً للآية الكريمة {واعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} صدق الله العظيم [الأنفال، الآية 59].
بدل أن يحسب الفلسطينيون حساب ما تمليه هذه الحقائق وواقعها في ما أقدموا عليه ومضوا في سبيله في مدريد وأوسلو وواشنطن وغير ذلك من محطات، في القاهرة وطابا وشرم الشيخ، راحوا يقبلون بأشياء مهلهلة ومؤقتة في الأرض وفي السلطة وفي السيادة وفي الاستقلال والمصير، بأمل ووعود للتفاوض على القضايا الأساسية كالدولة والحدود والقدس وعودة اللاجئين والاستيطان اليهودي في أراضيهم· الأمر الذي تأباه قواعد التفاوض الدولي، فالمرء لا يقبل الشيء ثم يذهب ليفاوض على هذا الشيء ومداه وما له من حقوق فيه، وما أدى إلى كل هذا التعثر والنكسات والنكبات في أرض فلسطين ولشعبها الأبي.
ومن هنا، يتبين كم كان صحيحاً ما تنبأ به الإمام الكبير من تداعيات للسلام الذي يمكن أن يتم على يد إسرائيل، فها هم الفلسطينيون وبعد سبع سنوات من التفاوض يعيشون في المعازل وتحت الاحتلال، بحيث لا يمكن أن يعبروا من مكان إلى مكان إلا بإذن من إسرائيل والمرور في حدودهم ومطاراتهم محكوم بالرضى والسماح الإسرائيلي، وتشريعاتهم وقوانينهم تصدر بموافقة من إسرائيل، وقوتُهم وأرزاقهم تجري على يدها.
يجري كل هذا والأرضُ الموعودون بها لا تعدو خمس فلسطين في أحسن الأحوال، وكلما هموا بالوصول إلى ما يسمى بالمرحلة النهائية من المفاوضات واجهوا الرفض لأبسط ما ينبغي أن يكون لهم من حقوق في الحرية والاستقلال والسيادة، وعودة اللاجئين، والوجود في القدس الشريف كعاصمة لدولتهم، وإنهاء الاستيطان، وتثبيت الحدود ليؤمّنوا على هذا الخمس الذي تجود به إسرائيل عليهم من فلسطين.
هكذا يتبين كيف أن الفلسطينيين قد بدأوا المفاوضات على نزر يسير من أرضهم في حين كان عليهم أن يطالبوا بكل الأرض كما كان يدعو إلى ذلك الإمام الصدر، وكيف أنهم يتعرضون اليوم لضياع هويتهم بعد أن أبدوا الانفتاح على إسرائيل من دون تحفظ، تحت شعار التطبيع، غير آبهين بالتحذير الذي ارتفع به نداء الإمام منذ أول الطريق إلى السلم الإسرائيلي. فسماحة الإمام كان واضحاً في ما يجب أن يؤخذ من إسرائيل وما يجب أن يعطى لها، عندما كان يحض ويدعو بكل قوة إلى أن يستعيد كل طرف عربي ما يخصه من أرض مقابل الالتزام بما يسمى بنظام الهدنة الذي يقوم على إيقاف النار بين المتحاربين وإقامة خطوط إيقاف القتال بدل الحدود الآمنة، فلا إنهاء لحالة الحرب ولا اعتراف بالسيادة ولا تطبيع في العلاقات، بل مجرد إنهاء اعتداء كل طرف على الآخر ووقف إسرائيل عن التمادي في عدوانها، كما نجح في تكريس ذلك في القرار 425عندما شارك في صنعه رجل هذا القرار الأستاذ غسان تويني مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة يوم أن طلع على العالم هذا القرار.
(أنظر جريدة النهار، تاريخ 31/8/1994).
ولعل من أكبر ميزات هذا التصور مع إسرائيل، الذي يتجلى في أدبيات الإمام الصدر حول القضية الفلسطينية، اتساقه مع موقف القانون الدولي من هذا السلام، الأمر الذي يسجّل عمق فهمه للشرعية الدولية ودقة معرفته بالقوانين التي تجسدها.
ثانياً: التسوية في ضوء القانون الدولي
لقد استهل القرار 242 الصادر في 22 تشرين الثاني 1967الصادر عن مجلس الأمن ليكون مرجعا لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي بقوله:
"إن مجلس الأمن،
إذ يعبّر عن قلقه المستمر للموقف الخطير في الشرق الأوسط،
إذ يؤكد عدم قبول الاستيلاء على الأقاليم عن طريق الحرب، والحاجة إلى سلام عادل دائم تستطيع أن تعيش فيه كل دولة بالمنطقة في أمن،
وإذ يؤكد أيضاً أن جميع الأعضاء عندما قبلت ميثاق الأمم المتحدة، قد التزمت بالتصرف وفقا للمادة الثانية من الميثاق،
1- يؤكد أن تطبيق مبادىء الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل دائم في الشرق الأوسط وهذا يقتضي المبدأين التاليين:
أ- انسحاب القوات الإسرائيلية المسلّحة من أقاليم محتلة في النزاع الأخير.
ب- إنهاء كل ادعاءات أو حالات الحرب واحترام وإقرار السيادة والوحدة الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة وحقها في أن تعيش في سلام ضمن حدود آمنة معترف بها ، متحررة من التهديد أو أعمال القوة"·
بناء على ما تقدم يتبين كيف أن القرار 242 قد تولى اعتماد مبادىء الأمم المتحدة واحداً بعد الآخر، والواردة في المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على وجه الخصوص، عندما أراد أن يدعو الأطراف المخاطبين به إلى إقامة السلام العادل والمنشود فيما بينها، فتحدث عن إدانة استعمال القوة للاستيلاء على الأراضي، وهو المبدأ الوارد في المادة الثانية فقرة (1) من الميثاق الأممي، ثم تحدث بعد ذلك عن مبدأ المساواة في السيادة، وهو المبدأ الوارد في الفقرة (1) من هذه المادة، ثم تحدث عن وجوب حل المنازعات بين الجانبين بالوسائل السلمية، وهو المبدأ الوارد في الفقرة (3) من المادة المذكورة، داعياً إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران إنفاداً لمبادىء الأمم المتحدة المتقدمة الذكر، ومؤكداً ضرورة أن يتصرف كل طرف من الأطراف المخاطبة بهذا القرار على مقتضى هذه المبادىء والمادة التي اشتملت عليها من الميثاق الأممي.
كل هذا واجب وحسن وجميل، لأن ميثاق الأمم المتحدة قد أدان، منذ ديباجته وفصله الأول الخاص بالمقاصد والمبادىء، عدوان الدول على بعضها البعض واحتلال أراضي الدول الأخرى بنوع خاص، وقرر وجوب احترام السيادة وسلامة الأراضي والحدود بين الدول، كما قرر وجوب قيام السلام والأمن بينهما على قاعدة وصل هذا السلام بالعدل وربطه به كما ورد في المادة (1) فقرة (1) من الميثاق.
وياليت القرار قد توقف عند هذا الحد، وطلب من إسرائيل الانسحاب الكامل والناجز من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران ظلما وعدواناً، ثم دعا الأطراف إلى أن تلتزم بوقف النار وعدم اعتداء كل منها على الآخر بالغزو والاحتلال ومختلف وجوه استعمال القوة، كل منها ضد الآخر، ولو كان قد فعل ذلك لكان بهذا قد استجاب حقاً إلى مقتضيات مبادىء ميثاق الأمم المتحدة التي لا تلزم الأطراف المتحاربة والداخلة في الصراع العسكري أكثر من إنهاء احتلال أراضي الغير، ثم إيقاف النار واستعمال القوة تحت ما يسمى بنظام الهدنة الذي هو شيء آخر غير اتفاقات الصلح (PEACE AGREEMENTS).
إلا أن القرار، مع الأسف الشديد، لم يكتف بذلك، ويتوقف عند هذا القدر من المطالب، كما كان عليه فعل ذلك، بموجب ميثاق الامم المتحدة والشرعية الدولية حيث راح يطلب من كل طرف العمل على تحقيق السلام مع الطرف الآخر، وذلك بإنهاء حالة الحرب والاعتراف به، وإقامة الحدود الآمنة معه، والإقرار له بكل الحقوق التي لسائر الدول، ما لا يجري عادة إلا في معاهدات الصلح بين الأطراف التي لا تفرض فرضاً، ولا تقوم بالقرارات الفوقية.
فصلاحية مجلس الأمن لا تتجاوز إنهاء العدوان الدولي وإيقاف النار والحرب بين الأطراف الدولية لأن إنهاء حالة الحرب والتقدم نحو الصلح بما هو اعتراف بالمتصالحين وبحقوق كل منهم وبإسقاط الادعاءات والتنازل عن الأسباب التي أدت إلى الحرب وإقامة السلام الدائم أمور كلها من الأعمال الداخلة في سيادة كل دولة من الدول ومتصلة بمصالحها الحيوية، فهي التي تقدّر متى عليها أن تحقق السلام الدائم مع غيرها من الدول وهي التي تملك الاعتراف بها، وهي التي تقيم الحدود وترسمها مع غيرها من الدول، أما أن يأتي ذلك كله بصورة طلبات ترد من قرار فوقي، كالقرار الصادر من مجلس الأمن، فذلك أمر لا يقره الميثاق الأممي ولا ينسجم مع ما لهيئاته من صلاحيات وسلطات واختصاصات.
على أن القرار 242 لم يكتف بما تقدم عندما جعل الأراضي العربية التي وقعت في قبضة إسرائيل بفعل حرب حزيران ورقة تساوم بها على تحقيق مطالبها من العرب، وكأن إسرائيل يجب أن تكافأ على ما قامت به من عدوان، فلا تردّ بوصة من هذه الأراضي إلى أصحابها إلا مقابل ما تحصل عليه من تحقيق هذه المطالب. وهكذا خالف القرار 242 مبدأ عدم مكافأة المعتدي على عدوانه الذي غدا مبدأ القانون الدولي المعاصر، والذي أقره عهد عصبة الأمم في المادة (10) قبل أن يقره ميثاق الأمم المتحدة في مبادئه المعروفة.
ومن هنا غدت الأراضي العربية المحتلة في حرب حزيران رهناً بيد إسرائيل بحيث لا ترفع يدها عن هذه الأراضي أو عن جزء منها إلا إذا رضخ أصحابها إلى ما تريده إسرائيل من إنهاء لحالة الحرب معها والاعتراف بها، وإقامة الحدود الآمنة معها والإقرار لها بحقوق سائر الدول، ثم تطبيع العلاقات معها.
وهكذا نرى القرار 242 قد انتهك ميثاق الأمم المتحدة انتهاكاً آخر عندما أقام الربط بين الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب حزيران، وبين إنهاء حالة الحرب مع دول هذه الأراضي والاعتراف بها واحترام سيادتها واستقلالها وإقامة الحدود معها، وغير ذلك من المطالب المشار إليها أعلاه، ما يؤكد أن القرار المنوَّه به لم يأت ليعيد الشرعية الدولية إلى نصابها بقدر ما جاء لكي يكافىء إسرائيل على عدوانها ويقرر لها المكاسب التي تتحقق عادة للدول التي تنتصر في الحرب وتفتح البلدان، وبذلك يعيد هذا القرار إلى الأذهان ما أسقطه القانون الدولي المعاصر ألا وهو حق الفتح LA CONQUETE.
ولكي يتأكد القارىء من هذا الربط بين انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران وبين وجوب تحقيق المطالب التي تريدها إسرائيل من الدول العربية، يكفي أن نلاحظ كيف أن القرار 242 قد أقام تلازماً بين أجزائه وتعاصراً في تنفيذ هذه الأجزاء بحيث لا يمكن أن يقبل جزء منه وترفض أجزاء أو ينفذ جزء دون الأجزاء الأخرى. وبحيث يؤلف وحدة متكاملة، فلا يفهم جزء منه، أو يفسر، أو يطبق، بمعزل عن الأجزاء الأخرى، بل يجري ذلك كله في ضوء ما ينتظم القرار من وحدة بين مختلف أجزائه تحقيقاً للتوازن والتكامل اللذين بني عليهما القرار، إذ إن إهمال أي جزء منه يؤدي من غير شك إلى الإخلال بالتوازن المنشود بين حقوق ومراكز ومطالب الأطراف المعنية فيه، الأمر الذي دعا إلى أن يكون تنفيذ حقوق والتزامات هذه الأطراف طبقاً للقرار، تبادلياً reciprocal بمعنى ألا يكون مقتصراً على طرف واحد، بل شاملاً لكل الأطراف. والذي دعا كذلك إلى أن يكون هذا التنفيذ متعاصراً أي في وقت واحد.
ولقد ثبتت كل هذه الحقائق في الربط المنوه به وتأكدت في صياغته:
أولاً: من الترتيب الذي اعتمده لمبادئه وأحكامه إذ جاء في الفقرة (1):
يؤكد أن تطبيق مبادىء الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل دائم في الشرق الأوسط، وهذا يقتضي تطبيق المبدأين التاليين:
أ- انسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من أرض احتلت في النزاع الأخير،
ب- إنهاء كل ادعاءات أو حالات الحرب، واحترام سيادة كل دولة في المنطقة ...
فهذا الترتيب يضع مبدأ الانسحاب ومبدأ إنهاء حالة الحرب وما يتفرع عنه بالمنزلة نفسها من الأهمية وقوة القانون. كما ثبتت هذه الحقائق في القرار وتأكدت ثانية في فقرته الثالثة التي تضمنت الأحكام الإجرائية. إذ جاء في هذه الفقرة بعد النص على طلب مجلس الأمن، مع الأمين العام للأمم المتحدة أن يعين ويرسل ممثلاً خاصاً إلى الشرق الأوسط. إن مهمة هذا الممثل ستكون "إقامة اتصالات مع الدول المعنية للوصول إلى اتفاق، ومساعدة الجهود لتحقيق تسوية مقبولة طبقاً لنصوص ومبادىء هذا القرار".
فعبارة "طبقاً لنصوص ومبادىء هذا القرار" تملي على القائمين بتنفيذه ضرورة التقيد بجميع ما ورد فيه من نصوص ومبادىء، الأمر الذي يسبغ على كيفية فهمه وتفسيره وتطبيقه ما يلزم من صفات الوحدة والتبادل والتعاصر.
ولعل مذكرة السفير "يارنغ" (ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الخاص في الشرق الأوسط في حينه) المرسلة إلى مصر وإسرائيل في 8 شباط 1971فيها الدليل على صحة ما قلناه· فقد جاء في هذه المذكرة في الصياغة المقترحة لتعهدات الأطراف الناشئة عن القرار 242 "أن تكون هذه التعهدات متلازمة زمنيا Simultaneous ومتبادلة Reciprocal وخاضعة للتحديد المقبول للجوانب الأخرى في التسوية السلمية بما في ذلك بصورة خاصة تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
هكذا يثبت دون أدنى شك كيف أن مجلس الأمن في قراره 242 وقراره 338 الذي جاء بالتطبيق للقرار 242 قد سمح لإسرائيل أن تضع الأراضي العربية التي احتلتها في حرب حزيران في حيازتها وتقبض عليها بصورة تجعل من هذه الأراضي مرتهنة لديها بحيث لا تنسحب منها أو من جزء من أجزائها إلا مقابل قبول دول هذه الأراضي بما تطالب إسرائيل به من إنهاء حالة الحرب معها والتصالح والاعتراف بها وبحدودها وغير ذلك من المطالب التي تؤول إلى عقد سلام كامل ومفتوح بينها وبين العرب بحيث تغدو جزءا من المنطقة ومن الوطن العربي.
وبذلك يسقط العرب ما كان لهم من حقوق في رفضها واعتبارها كيانا عدوانيا ودخيلا على المنطقة العربية وبحيث يعتبر كل رفض العرب لهذا الكيان ومقاومتهم له إنكارا لوجوده، وصراعهم مع هذا الوجود ضرب من ضروب العبث، وهزيمة لهم في كل حروبهم معها، وفي كل ضروب مقاومتهم لها ما يجعلهم يأسفون على عدم قبول قرار التقسيم 181 الصادر في 29تشرين الثاني 1974، الذي كان يعطي الدولة العربية التي نص على إقامتها في فلسطين نصف هذه البلاد، بحيث تقف على قدم المساواة مع الدول اليهودية التي نص على إقامتها فيها، في حين أن القرار 242 لا يعطي الفلسطينيين، وفي أحسن الأحوال، وعلى فرض قبول إسرائيل بما ينص عليه، أكثر من خمس أرض هذه البلاد. فضلا عما تحاول إسرائيل فرضه عليهم من المعازل والمعابر المحاصرة والسيادة المجتزأة والاستقلال الصوري بحيث لا يمكن أن توجد هذه الدولة إلا في كنف إسرائيل وتحت هيمنتها بحيث لا تستطيع أن تتحرك في أي شأن من شؤونها إلا بأمرها وإرادتها، وبحيث لا تستطيع أن تتعامل مع أي طرف وفي أي شأن إلا بموافقتها وإذنها، وما ذلك في حقيقة الأمر وواقعة إلا لأن المفاوضات مع إسرائيل قد تمّت منذ كامب دايفيد الأولى 1978 تحت الاحتلال لأراضي العرب.
وليس بدعاً القول في هذه الأيام، وفي ظل القانون الدولي المعاصر، إن الاحتلال ما هو إلا حالة من حالات الإكراه المبطل لكل مفاوضة تجري مع الطرف القائم به من قبل الطرف الواقع تحت نيره، وان كل ما يترتب على هذا التفاوض من أوضاع ومن معاهدات واتفاقات وترتيبات تعقد، هو باطل من أساسه لما يفرضه على المحتل من تكبيل لإرادته وتقييد لها وتحكّم بها، لا يمكن إلا أن تكون بين خيارين أحلاهما مر، إما القبول باستمرار الاحتلال، وإما قبول ما تفرضه الدولة القائمة به من مطالب وأوضاع نظير زواله كلّه أو بعضه.
ومن هنا عُدَّت إرادة الدولة المحتلة إرادة مكرهة على ما تقوم به، وفاقدة لحريتها في تصرفها وحركتها، ما يفسر كيف أن قانون المعاهدات الدولي المعاصر قد نص في المادة 53 من اتفاقية فيينا لهذا القانون المنعقدة في 1969، إن الاحتلال لأراضي الغير هو من أهم صور الإكراه في القانون الدولي الحديث، وأنه لما تقدم يعتبر سبباً مبطلاً للإرادة الدولية، وبذلك حدث التحول الذي كان مرتقباً في مفهوم الإكراه الدولي، بعد أن كان هذا الإكراه قاصراً تحققه على الصورة التي يلجأ فيها المفاوض تحت الإكراه المسلط على شخصه في القانون الدولي القديم، أصبح هذا المفهوم يتسع لكل ما يعتبر في الحقيقة إكراهاً لإرادة الدولة وفي طليعته الاحتلال لأراضيها كما تقدم.
وبناء على ذلك، يتبين كيف أن القرار 242 قد حرم الدول العربية من حريتها في التصرف في علاقاتها مع إسرائيل، وكيف أنه قد حال بينها وبين أن تستعمل حقوقها قِبَل هذا الكيان طبقاً للقانون الدولي المعاصر، وعلى رأسه ميثاق الأمم المتحدة، بحيث لا تلزم إلا باتفاقيات الهدنة وإيقاف النار بعد زوال الاحتلال عن أراضيها، وذلك بمقتضى هذا الميثاق، ويبقى لها بعد ذلك كل الصلاحيات في أن لا تصالح إسرائيل ولا تعترف بها، ولا تقيم الحدود، أياً كانت طبيعتها، مع هذا الوجود الصهيوني.
إن كل هذه الصلاحيات هي حقوق واختصاصات سيادية في القانون الدولي بمعنى أن كل دولة تتصرف بها حسب مصالحها وبمقتضى ما لها من سيادة وكيف تشاء وتريد، بحيث لها أن تعترف بها أو لا تعترف، وبحيث تعقد الصلح أو لا تعقده، وبحيث تتحرك في قبولها للصلح والسلام كيفما تشاء وبقدر ما يتفق ذلك مع مصالحها وحقوقها.
وفي ضوء ما تقدم يتبين أنه ليس من مصلحة الدول العربية، التي لم تحتل أراضيها في حرب حزيران، أن تقبل بالقرار 242 وتتعامل معه، لأن القبول بهذا القرار والتعامل معه يؤدي إلى كل هذه التنازلات لمصلحة إسرائيل، وينال من حرية الدول العربية في تقرير المواقف التي تنسجم مع حقوقها ومصالحها.
من هنا يتضح أن القرار 425 يختلف عن القرار 242 كل الاختلاف، فهو عندما نص على وجوب أن يكون انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية التي احتلتها في اجتياح عام 1978 انسحابا ًكاملاً وناجزا وغير مشروط، الأمر الذي يجعل من هذا القرار قراراً متفقاً مع مبادىء وأحكام القانون الدولي التي تقضي بأن يكون الانسحاب من كل أرض محتلة من قبل الغير انسحاباً كاملاً وناجزاً، وإلا كان مخالفا لهذا القانون.