كان ذلك سنة .1976 أي بعد أسبوعين من نهاية الحرب، وكنت في ذلك الوقت طبيباً (Interne des hopitaux) في مستشفيات مرسيليا. رنّ التلفون في غرفتي وإذا بأخي يقول لي بأن شيخاً جليلاً موجود حالياً في دكار وسيتوجه إلى مرسيليا للقائي، فالرجاء الاهتمام به وتقديم كل المساعدة اللازمة لقضية طبية تطال نجله الأكبر صدري.
بعد إتمام الإجراءات الطبية اللازمة ولقاء الطبيب الجراح الدكتور (Pierre) وإدخال صدري إلى المستشفى، وبعد إجراء العملية بنجاح توطدت أواصر الصداقة بيني وبين السيد الجليل.
الكثير كَتَب عن مواقف السيد موسى حيال هذه المواضيع ولاسيما انفتاحه على الطوائف الأخرى في لبنان وكيف استطاع أن يخترق بذكاء كل الحواجز التي تحاصر كل طائفة في موقعها وتمنعها من التواصل مع الأخرى. سوف أتوقف فقط عند موضوع الطائفة الشيعية وشخصيتها المميزة عبر التاريخ والتي جعلتها موضوع اضطهاد.
توقفت معه عند نقطة أساسية وهي موقف الطائفة الشيعية من مأساة كربلاء، وحضورها المستمر اختراقاً للأجيال.
كنت في ذلك الوقت لا أزال في بداية دراستي للطب النفسي ولا عهد لي بقراءة الأحداث من الزاوية النفسية. لذلك اقتصر نقاشي مع الإمام موسى الصدر على إثارة بعض التناقضات في ذكرى كربلاء وكيف يتعامل الشيعة معها، بحيث أضحت مع مر الزمن تُمارس بشكل عفوي من دون الالتفات إلى مضمونها النفسي. بل نراها تطال في تأثيرها مسلك الشيعي الاجتماعي وطريقة تعامله مع الحياة. فمنها ما هو ايجابي ومنها ما هو سلبي.
قال الإمام: إنه بعدما اطلع على أوضاع الشيعة في لبنان أصبح هدفه الأساسي النهضة بهذه الطائفة لكي تنتقل من طبقة المحرومين إلى طبقة المتساوين بالحقوق والواجبات مع كل الطوائف الأخرى، فالعيش المشترك لا يتم ولا يستقر إلاّ إذا تساوت الطوائف فيما بينها. وهذا يتطلب نهضة تطال كل شرائح المجتمع الشيعي من فقراء إلى أغنياء، من مزارعين إلى ملاكين وبصورة خاصة لملمة أطراف الطبقة المثقفة لأنها قيادية تُمثل الوجه الحضاري للطائفة. هنا بدا تباين بيني وبين الإمام، فإذا كنا متفقين على الأهداف الرئيسية في الوصول إلى مستوى التقدم لكي تأخذ الطائفة الشيعية مكانتها في النسيج الوطني، فإن التباين كان حول دور رجل الدين في المجتمع المدني. وقد تناولت في نقاش معه دوره كرجل دين في وسعه أن يُحدث ثورة اجتماعية ويُحرر الطائفة الشيعية من كثير من الحواجز النفسية بسبب النسيج المُتخيل والخرافات الأشبه بالأسطورية والتي تكونت على مر السنين، مما جعل الطائفة الشيعية عبر التاريخ عرضة للاضطهاد والفرز من قبل الطوائف الأخرى، وبما أن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، فبإمكانك كرجل دين نظراً لثقافتك الواسعة وانفتاحك الحضاري أن تقوم بعمل شبه ثوري في أوساط الطائفة تحررها في آن واحد من الإقطاع السياسي ومن الموروث الأسطوري الذي يقيد انطلاقه من الفكر المبدع.
أجابني: هذا ما أفكر به. وعندما ذهبت إلى صور وتناولت البوظة من صنع أياد مسيحية. كان ذلك فعلاً رمزياً مدلوله كسرِ الطوق المتخيل لدى الطائفة الشيعية بأن مشاركة الملح والخبز مع النصارى لا يقلل من إيمان المسلم ولا يعرّضه للنجاسة. فالخبز والملح هما عنوان كبير للعيش المشترك وهما بداية للانفتاح على الطوائف الأخرى وكسر العزلة الشيعية. هذا ما سأبدا العمل عليه عند عودتي إلى لبنان وستتبعه خطوات أخرى. فإذا لم نكسر الحواجز النفسية المعتمدة على اعتقاد ديني خاطئ، لا نستطيع أن نبدد الخوف الموروث بين الطوائف. فلبنان تجربة فريدة في المنطقة لكي تظهر للكون أن التعايش بين طوائف مختلفة شيء يمكن تحقيقه، فقد وجدت في وطن واحد لتتعايش بسلام مع احترام كل واحدة للأخرى.
هنا لفتُّ نظرَه إلى المخاطر التي يمكن أن تعترضه، فالساحة اللبنانية مليئة بالإغراءات النرجسية وخاصة لدى الطائفة الشيعية، التي بحكم معتقدها الديني في انتظار دائم للمخلص الأكبر أي المهدي المنتظر وقد تقبل الذل والهوان صبراً، بانتظار عودته حتى تحل العدالة الكاملة. لذلك تتلهف لقائد يقودها، تسير وراءه، وتتغاضى عن كل أخطائه كبديل زمني لعودة المُخلّص الأكبر. وإذا ما تماهى هذا القائد بجماهيره، تُحوله إلى رجل سياسي عادي، ثمّ تحطمه كما هي حال الطفل عندما يحصل على لعبته المفضلة فيملُّ منها ثمّ يحطّمها قطعاً. فأخاف عليك أن تدخل في اللعبة السياسية فتفقد هالتك الدينية وترفعك عن مغريات الحياة، حينئذٍ ينفضّ الناس عنك ويعاملونك كأي رجل سياسي له مصالح يريد أن يحافظ عليها.
هنا أجابني بأن أمنيته هي البحث العلمي الديني في ضوء معطيات الحداثة ليصبح الدين حضارياً يحاكي الحضارة القائمة. والعقيدة الشيعية قادرة على ذلك نظراً إلى وجود ميزة الاجتهاد، التي تفتح الباب واسعاً أمام المسلمين لكي يتعاطوا مع شؤون الحياة من دون أن يقلل ذلك من إيمانهم أو ابتعادهم عن الدين الصحيح. وزاد أن أمنيته أن يصبح مثل صديقه بهشتي الذي يدير منذ سنوات حوزة في مسجد هامبرغ في ألمانيا، فعندما يذهب لزيارته يشعر براحة عميقة أمام مكتبته العامرة بالكتب والموسوعات العلمية والدينية. هو يُشكل نموذجاً مثالياً لما يتمنى أن يكون عليه.
المشهد الكربلائي
في إحدى النزهات خارج مدينة مرسيليا، وكانت سيارتي سبور مكشوفة، خلع عمامته وجلس إلى جانبي وذهبنا إلى شاطئ بحيرة كنت أعرف أن فيه مطعماً غنيّاً بالأسماك الطازجة. هنا طرحت مسألة تراودني منذ فترة طويلة؛ فسألته عن عاشوراء وأهميتها بالنسبة للمذهب الشيعي. أجابني: بأنها ذكرى الاستشهاد الأول في سبيل نشر الإسلام، عندما كان المسلمون يقاومون الكفار في الغزوات ضد عُبّاد الأوثان وفي الحروب ضد الأديان الأخرى. إنها عملية استشهادية داخلية لتصحيح مسار الإسلام بعد أن تعرض للاغتصاب من قبل جماعة معاوية ويزيد وكاد ذلك ان يؤدي إلى تشويهه والقضاء عليه. فاستشهاد الحسن والحسين وآله كان بمثابة النموذج الاستشهادي والتضحية الكبرى لترسيخ قواعد الحق والعدالة التي يُبشّر بها الإسلام منذ تبليغ الرسول الرسالة الأولى والدعوة إلى الدخول في الدين الحنيف. فذكرى عاشوراء تتكرر كل سنة كي تبقى حاضرة في ذاكرة الزمن تتناقلها الأجيال عبر التاريخ من جيل إلى جيل، حتى لا يتآكلها الزمن.
وقلت له أن ما نراه قد حاد عن هذا الهدف فأصبحت مشهداً دراماتيكياً استعراضياً يُباح فيه كل ما له علاقة بتأنيب الذات والانقضاض على الجسد ابتداءً بالبكاء والضرب بالسلاسل وحتى السيوف حتى يسيل الدم البريء بغزارة من دون أن نجد مبرراً أو منطقاً رابطاً بين الحدث المسبب للمأساة وبين الممارسات.
لماذا أنتقم من ذاتي وأُعذبها علماً أن أهل البيت قد ضحّوا بأنفسهم كي أُحيي مبادئهم؟ وهنا اذن سماحة الإمام اسمح لي بأن أطرح سؤالاً من باب علم النفس:
لماذا هذا الشعور بالذنب عند الشيعة تجاه استشهاد لم يكونوا هم سببه؟ بل نراهم يتماهون بالظالم والمظلوم في آن واحد؟
ودعني أزيد: عندما يرددون الشعار المشهور <يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما> ألا يعني ذلك أن هنالك طرفاً غائباً. أي لو كان أباؤنا في مثل الوعي الذي نحظى به الآن ودافعوا عن الحسين وآله لما حصلت المأساة. أي لو كنا محل أجدادنا لتصرفنا غير ما تصرفوا ولكان النصر حليفنا. أستنتج من ذلك بحسب ثقافتي المحدودة في هذا المجال بأن هنالك في الأفق شعوراً بالذنب تاريخياً لا يزال راسخاً في اللاوعي الجماعي.
والمعروف تاريخياً أن القبائل التي كتبت إلى الإمام الحسين تبايعه وتدعمه ضد المغتصبين قد خذلته وتخلت عنه عند وصوله إلى كربلاء ولم يبقَ معه سوى سبعين رجلاً من أهله وأصحابه. وقد استشهدوا جميعاً أمام مرأى من عينيه حتى أولاده، إلى أن أتى دوره وكان المستشهد الأخير.
ونحن نعرف أن هذا الحدث الكبير والتاريخي قد دوى كالصاعقة في كل أرجاء الجزيرة العربية، وقامت بعده ثورات وانتفاضات عديدة استشهد بها الكثير، ولم تعرف الدولة الأموية راحتها طيلة حكمها حتى الثورة العباسية التي جمعت الجيوش باسم الانتقام لأهل البيت.
ألا يتبين أن الشيعة الأوائل قد استشهدوا جميعاً وأن من قام وحمل تراث ومبادئ الحسين هم من أبناء هؤلاء القوم الذين نكثوا بعهدهم وتخلوا عن الحسين وكانوا سبباً في استشهاده والحؤول دون نصره. من هنا أستنتج أن الأحفاد شعروا بالذنب تجاه أجدادهم وتمنوا لو انهم كانوا مكانهم ليتصرفوا بغير ما حصل.
أجابني الإمام: هذا صحيح وتأويلك النفسي يأخذ طريقاً منطقياً في ضوء ما نرى من تعذيب للنفس خلال إقامة شعائر عاشوراء، ولكن التاريخ لا يتراجع والقدر قد قال كلمته ومشى. وكل دين بحاجة إلى فداء، إلى استشهاد وأنظر الدين المسيحي: فالمسيح في المعتقد المسيحي قد افتدى بنفسه في سبيل الجميع وأخذ خطيئتهم على عاتقه وخلّصهم منها بأقواله ودفعهم إلى نبذها، مما جعل المحبة تأخذ طريقها بدعوة شاملة. والحسين قد ضحى بنفسه وبعائلته في سبيل إحياء الإسلام وترسيخ القواعد التي بشّر جده الرسول بها. فهذا هو منطق التاريخ. أما الاستعراضات المبالغ بها، فهي تعبير عن الأسى والحزن على المصيبة التي حلّت بأهل البيت وهي تتنوع حسب طبيعة البشر. ومما لا شك فيه أنني أشاركك أن المبالغة وصلت إلى حد إيذاء الذات، وهذا ليس مطلب أهل البيت ولا حتى الشرع.
أجبت: لا أعرف إذا كنت توافقني الرأي، فنظراً إلى مكانتك وموقعك القيادي والديني لماذا لا تحوّل ذكرى الاستشهاد هذه إلى نموذج تاريخي تظهر به البطولات ونكران الذات والشجاعة والقوة والانتصار على الموت وتعميم الدعوة لكي تصبح الشهادة نموذجاً يشارك به كل المسلمين. ما أخشاه أن يؤدي هذا الكم من العداء والدواعي للانتقام لأهل البيت إلى خلق عدو وهمي مُتخيل تسقط عليه المسؤولية، ويصبح الآخر المسلم في خانة المتهم أو في وضع حذر وخائف، وقد تظهر ردات فعل مناقضة كما حصل في العهد البويهي في أواسط القرن العاشر. ويقال أن شعائر عاشوراء ظهرت لأول مرة في شكل علني لأن السلطة كانت شيعية. فردة الفعل أن السنة عندما شعروا بأصابع الاتهام موجهة إليهم ابتدعوا ما يسمى بعاشوراء معاكسة: بإحياء ذكرى مقتل طلحة والزبير في معركة الجمل مقابل الحسن والحسين.
باعتقادي لا يوجد مسلم يؤمن بإسلامه ويُخلص بحبه للرسول الأعظم إلا ويشعر بالأسى والحزن ويستنكر الظلم الذي أصاب أهل الرسول. فلماذا إذاً هذا الاستقطاب الشيعي؟ وإذا كان هنالك سبب يبرره من قبل السلطات الحاكمة فليس إلاّ لأسباب سياسية وخوف على السلطة. فالآن كل هذه الأسباب قد تبددت. فلتظهر الحقيقة كما هي ويُحرر الشيعة الحَدث التاريخي من استقطابه لكي يترك لكل ضمير مسلم أن يحدد موقفه من أهل البيت إذا كان يُخلص لحب الرسول.
أجابني الإمام: كل ما تقوله منطقي، ولكن الدين يتعدّى المنطق ليدخل في التفاعلات النفسية حيث إن كل فرد يُشارك انطلاقاً من دواعيه الذاتية، من أحزانه، من بكائه، من إحباطه في الحياة، من آلامه لفقدان عزيز أو حتى من علاقته وبهذه الحياة التي تبدو آنية. فلكل هذه الأسباب الإيمان بقضية أهل البيت وحبه لهم يجعل كل من يسمع مأساتهم يعيشها في وجدانه فيتألم ويحزن كما لو كانوا على مرأى منه. فإعادة المشهد الكربلائي لا يقتصر على الذاكرة والذكرى إنما هو استحضار للماضي لكي يبقى حياً في وجدان كل مؤمن.
فاسترسلتُ في السياق نفسه وقلت له: بما أنك تناولت الحالة النفسية وعلاقتها بكربلاء اسمح لي بأن أعطي قراءة في ضوء معرفتي بعلم النفس المتواضعة.
ثقافتان
أولاً: هنالك نفسية المشارك، فعندما تنتابه مشاعر الحزن والأسى وينصرف إلى البكاء يكون قد تماهى بالضحية الشهيد وفي نفس الوقت تصحب هذا التماهي مأساته الشخصية، فيبكي على فقيد عزيز، على معاناته في الحياة، عن كل مصائبه في آن واحد. فهنالك صلة ما بين الخاص وما بين العام في مصيبة أهل البيت. وهنا تصبح كربلاء بالنسبة للجميع السقف الذي تتوقف عنده كل المآسي والأشجان مهما كبُرت، فمصيبة أهل البيت دائماً أعظم.
ثانياً: بالإضافة إلى النموذج الاستشهادي الذي ذكرناه سابقاً، هنالك عملية نفسية تطال الشيعي بعلاقته بالحياة، فخوفه وقلقه من المجهول يُفقد عامل الصدمة قوته، لأن مشهد كربلاء يلعب دائماً دور الوسيط بينه وبين الموت مهما كبر. فمصيبة أهل البيت تضع حداً أقصى لمأساته، لا يمكن اختراقها، فتهون مصيبته ويتعزّى بأن هنالك من تألّم وتعذّب أكثر منه أي أن العزاء بالمصاب يتحجّم ويتجسّم في الفضاء النفسي، مما يمكّنه من استيعابه والسيطرة عليه ابتداءً من عملية الحداد. فبدلاً من أن تأخذ منحى اللانهاية تصطدم بسقف كربلاء لكي تتحجم وتتضاءل. وهكذا يكون الحِداد قد أتمّ وظيفته النفسية بفضل الوسيط الديني.
ثالثاً: وهذا ما أخاف عليه ومن عواقبه النفسية وهو الاستشهاد عندما يصبح نموذجاً للموت الأمثل. وهنا نجد أنفسنا أمام مفترق طريق:
إمّا أن نتجه إلى ثقافة الحياة وإمّا أن نتجه إلى ثقافة الاستشهاد.
في الحالة الأولى العلاقة بالحياة. ننطلق من تأويل وقراءة عامة لاستشهاد الحسين. فإمّا أن نعتبره بأنه ضحى في سبيل القضية الإسلامية واستمرارها، معنى ذلك أن استشهاده فتح باباً واسعاً للأحياء كي يتمتعوا بمعطيات الحياة ومكاسبها من علوم وفنون وكسب أي دعوة إلى الاستمتاع بالحياة ضمن الأصول الدينية. وإمّا أن استشهاده كان في سبيل إحياء الآخر لكي يحمل القضية. وهنا نجد الشبه ما بين شخصيته وشخصية المسيح في المعتقد المسيحي. وكلاهما طلبا الاستشهاد في سبيل أن يحيا الآخر.
وهنا يجب أن نُفرق في الموت ما بين الاستشهاد والانتحار، كلاهما يؤديان إلى الموت ولكن التأويل يختلف: في الاستشهاد كي يحيا الآخر وهو قمة التفاني، وفي الثانية (أي الانتحار) الموت هو عمل أناني، إن لم يكن مرضيّاً، للانتقام من الآخرين وإنكار الحياة.
فالإمام الحسين كان يعرف المخاطر وكان عنده سبل للنجاة، حسب ما طالعت عند الطبري ولا سيما بعدما أتاه خبر مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل. فالمضي في مواجهة المخاطر والمجازفة بحياته ورفضه للمغريات التي قدمت له، دلّت على تصميمه وإيمانه بقضيته على كونها أغلى من الحياة. فالكارثة الكربلائية تُجسد هذه الأهداف وهذا الواقع النفسي وإلاّ لما تفاعلت في الجزيرة العربية وأدت إلى قلب الأوضاع.
فإحياء الآخر انطلاقاً من كربلاء تربط الشيعي بدين يعقده على غير علم منه. هذا الدين يلزمه بالذكرى والحداد طيلة العشرة أيام وبعدها تنفتح أبواب الحياة لكي يعيشها بقوة وبحب وبكامل أحاسيسه. هنا يتبين لنا وجه عاشوراء ووظيفتها التنظيمية للقوى النفسية المتأججة، فتطبع علاقتها مع الآخر وتُهوّن عليه المصاعب وتجعله يُقبل على الحياة بكل مباهجها والإبداع في كل فنونها وتعابيرها، هذه ثقافة الحياة التي استنتجتها من مأساة كربلاء.
أمّا ثقافة الموت فهي بمثابة منحى يكمن وراء ثقافة الحياة ويهدد باستمرار، بأن يتغلب ويوجه القوى النفسية في اتجاه الموت النموذجي. وهذا المنحى خلافاً للأول تؤججه وتغذيه عقدة الذنب التي بدأت بذورها منذ أن تخلفت قبائل العراق عن مؤازرة الإمام الحسين والوفاء بوعدها.
هنالك حسرة وألم عند كل شيعي حيال مشهد كربلاء، الذي أضحى، ليس فقط، نموذجاً للشهادة إنما أيضاً نموذج للخيانة والظلم وانتصار الباطل على الحق.
هذا الشعور بالذنب قد يتحول إلى عقدة تتحكّم بمزاجِ الشّيعي، فيتقلب ما بين الشهادة على غرار النموذج الأمثل وما بين الانتقام من الذات وتحقيرها أو قبول الذل لها وإثارة العداء لكي يحصل الاضطهاد والتهميش.
وبمثل هذه الحالة وتحت تأثير عقدة الذنب، نخاف من أن يتحول الاستشهاد إلى انتحار كطلب لا واعٍ يكمن في اللاوعي الاجتماعي.
وقد لا تتطور إلى هذا الحد، ولكن نرى أن هذه العقدة تكمن في الخفاء لكي تجعل من الحداد حالة لا نهاية لها تؤثر في كل معطيات الحياة سواء بلبس السواد ولاسيما عند النساء وإطلاق اللحى والعمامة السوداء إشارة إلى أن الحداد مستمر، أم بمنع كل مظاهر البهجة من احتفالات وغناء وموسيقى حتى في أيام الأفراح. ويلاحظ أنه كلما زادت الاستعراضات العاشورية بإسالة الدماء، وكلما ازداد المنحى النفسي مخاطرا، تثار مشاعر الظلم التي لحقت بأهالي كربلاء وهذه تستدعي مشاعر الثورة والانتقام والتفتيش عن عدو غير منظور، بديلاً من الأصيل تصُب الجماهير غضبها عليه والثأر منه. وينسحب ذلك حتى على العمل السياسي، فالشيعي يرى نفسه في موقع الحق وإذا ما عاداه فريق ما يقع حتماً في خانة الكربلاء أي العداء.
والمخيف في عقدة الذنب هذه، انها لا تطال فقط مباهج الحياة إنما قد تصل بحكم ميكانيكية الحدث الصدمة إلى التكرار، وقد تصبح مطلباً جماهيرياً لإعادة كربلاء في سيناريو نكبة جديدة تيمناً بأهل البيت.
وأخشى أن يفسر هذا المشهد الدراماتيكي من قبل الغير، الطوائف الأخرى، استعداءً لهم، أي يخال لهم انهم في قفص الاتهام نظراً لعدم مشاركتهم فتتعمق هوة العداء لأسباب لاواعية رغم أن الكل مسلمون، مما يجر نكبات أخرى وحروب أهلية.
كان الإمام موسى الصدر يستمع إلي بإنصات عميق، وهو يحتسي الشاي بعد أن أكملنا الغداء. فسكت برهة ثم قال لي: لقد أدهشتني بهذا الكلام وبهذه القراءة الجديدة لمشهد كربلاء التي لم اسمعها من قبل. فسياق التاريخ وتأثيره يجعلنا نتوارث عادات وتقاليد لم نفكر بأسبابها وبدواعيها النفسية ولا نستطيع أن نطالها بالنقد لأن كل ما هو موروث يصبح بخانة المقدس.
هنالك أشياء أوافقك عليها وسآخذها بعين الاعتبار، وهنالك تأويلات لا أراها إلاّ من صنع التحليل النفسي، فالخطاب الديني يختلف، والموروث من الفقهاء يدخل في حساباتنا نحن رجال الدين وليس لنا دائماً حرية التغيير إلاّ في حالة انقلاب، وهذا مما يؤدي إلى شقاق وخلاف وفتنة، ولكن هذا لا يمنع أن نحافظ على الجوهر ونجتهد في تصويب التقليد إلى أهدافه الحقيقية لكن الجمهور لا يتبع بأجمعه لأنه كما تعرف، في الشيعة عدة مرجعيات وهذه هي بمثابة ميزة ديموقراطية. فلا يختلف شيعيان إلاّ إذا كان لهما مرجعيتان مختلفتان.
سأعطي لنفسي الوقت الكافي للتفكير بقراءتك، فعلم النفس غير مستحب عند الشيعة لأن نكبة أهل البيت تعبئ كل فراغ تفسيري ولا توجد فسحة لتأويل للعلاقة بين الحدث النكبوي والآخر الشيعي بالمطلق.
قاطعتُه وقلتُ له: هذا لا يمنع من أن تعرف، فأنت رائد في المجتمع الشيعي ولك دور قيادي، فبإمكانك أن تركّز على دور البطولات في كربلاء وتحدي الظلم والطغيان والانتفاضة على أهل السوء والباطل ووضع الشهادة كواجهة تحد في سبيل إعلاء كلمة الحق بدل البكاء واللطم وإسالة الدماء.
فنظر إليّ وقال: المنطق والعقلانية غير كافيين لتغيير مسار التقاليد، رغم أنّي مقتنع وسأحاول تصويب خطابي ولكن أشك في نجاحي لأن الوجدان العاطفي في مثل هذه الحالة أقوى من الكلمة وهذا يتطلب أجيالاً عدّة لكي يتغير.
ننتهت إقامته في مرسيليا فودّعته بعد 71 يوماً على أمل اللقاء به في لبنان.
حصلت فيما بعد عدة لقاءات، وتأصّلت فيما بيننا أواصرُ الصداقة. وحين عُقِد قِراني أصرّ على إهدائي <المقدم>: وهو نسخة من القرآن الكريم أحضرها معه من إيران محفوظة في علبة من الخشب ومرصعة بأحجار كريمة. وتباركت بأن يكون وكيلي في عقد القران.
?مضت الأيام وعدت إلى بيروت في حوالى سنة 2791 وذهبت إلى زيارته كما هي العادة. فوجئت بتغيير معالم وجهه الشاحب، فقد بدا عليه الإرهاق والتعب وحلّ محل الهدوء والوداعة، نوع من التشنج والعصبية.
فقلت له: سماحة الإمام أراك تغيّرت ولا بد أن يكون ذلك على علاقة بانغماسك بالعمل السياسي وهذا على ما أتصور مُرهق. وأعجب أنني فهمت من حديثك في مرسيليا بأنك ستكرّس وقتك للأبحاث والاجتهادات وتصويب الخطاب الديني نحو جوهره. فما الذي حصل حتى غيرت اتجاهك وبدأت تغرق في الرمال اللبنانية؟
هنا تنهّد وقال: همّي الأساسي هو استعادة حقوق الشيعة حتى تأخذ مكانها وموقعها بين الطوائف الأخرى وهي الآن مهددة، فلبنان لا يتحقق إلاّ بتكامل الحقوق والواجبات بين كل الطوائف.
لكن تبيّن لي أن النزاعات عنيفة وأن الطائفة الشيعية تملك إمكانات هائلة من المفكرين المثقفين وأصحاب الاختصاص في كل المجالات، كذلك هناك نخبة من الأثرياء لها ثقل اقتصادي. وهمّي الكبير هو جمع كل هذه الطاقات في قوة موحدة تستطيع أن تلعب دوراً وتحقق التكافؤ بين الطوائف. ولكن كما تعرف رجال السياسة الحاضرون مستفيدون من هذا الوضع المشرذم بل يبنون نفوذهم على الزعامات الموروثة، وشبابنا المثقف موزع على كل الأحزاب اليسارية. لذلك أرى صعوبة في تنفيذ مشروعي بسبب النفوذ السلطوي لرجال السياسة للدفاع عن الجنوب وأهل الجنوب. الشيعة في خطر وأهل الجنوب في خطر والفوضى تعم الشعب اللبناني، ولا أحد يدافع عن الجنوب إذا ما هاجمته إسرائيل. هذا هو هاجسي.
وفي خلال عودتي إلى باريس كتبت له رسالة مطولة وأنهيتها بالكلمات التالية: <إن الشيعة بحاجة إليك وينظرون إليك كقائد أعلى ورائد لسياستهم؛ ودورك تاريخي أن استطعت أن تحررهم من عقدة الذنب تجاه الحسين. فإن نجحت تكون حققت إنجازاً تاريخياً تحفظه لك الأجيال وأن أخفقت يُحزنني أن استنتج: أن الشيعة بدلاً من أن يبكوا على حُسين واحد سيبكون على حُسينين.