* كاتب سعودي
تقول العرب "رماه الله بثالثة الأثافي" أي أنزل الله به مصيبة عظيمة، فالأثافي جمع أثفية وهي الحجر الذي يوضع تحت القدر ومن عادة العرب أن تضع اثنتين أما الثالثة فتكون عادة الجبل حتى يقي النار من الريح أن تطفئها. وقد رزئت الأمة العربية بإسرائيل الأثفية الأولى التي أشغلت العرب عن بناء بلادهم وتنمية صناعاتهم واستغلال مواردهم بما يعود بالفائدة والخير بدلاً من شراء السلاح وإهدار الموارد المادية والبشرية في الصراع من أجل البقاء ونصرة الحق الفلسطيني ودفع شرور إسرائيل وأطماعها.
وكانت الأثفية الثانية "صدام حسين" الذي صدَّع التآلف العربي - الإسلامي بشن الحرب على إيران ثم لم يلبث أن أجهز على ما تبقى من تماسك العرب وثقتهم ببعضهم بعضاً بغزوه المشؤوم للكويت التي وقفت معه وقفة الأخ والجار. واليوم طلع علينا العقيد القذافي بثالثة الأثافي ألا وهي تحول زعماء العرب إلى العمل الإجرامي المحض الذي يتصرف فيه الزعيم السياسي مثل زعماء عصابات المافيا بالتخطيط لاغتيال من يعدُّهم خصومه بخسة وجبن من خلال اللجوء إلى القتلة المأجورين والساقطين من عبدة الدرهم والدينار. وكأنه لم يعتبر حتى الآن بما جنته يداه وما جلبه لبلده من مصائب وابتلاء استمر الشعب الليبي المسكين في دفع ثمنه من حريته ورفاهيته وفرص الحياة المتاحة له لو كان يعيش في ظل قيادة سياسية حكيمة.
ليس غريباً أن يتورط القذافي (الذي كان الرئيس المصري السادات يلقبه بـ"الولد المجنون بتاع ليبيا") في جريمة التخطيط لاغتيال زعيم عربي بل هي النتيجة الطبيعية لعدم تعرضه للمساءلة والعقاب على جرائمه السابقة في اغتيال معارضيه الليبيين الذين كان يسميهم "الكلاب الضالة"، أو جرائمه في قتل أو إخفاء أثر ضيوفه مثل الإمام "موسى الصدر" الذي اختفت آثاره وآثار مرافقيه أثناء زيارتهم للعقيد القذافي بدعوة شخصية منه. ولكن العقيد الفذ صاحب النظرية الثالثة ومؤلف الكتاب الأخضر" لم يرف له جفن وهو يصدر أوامره بتغييب الإمام لأنه اختلف معه في الرأي ورفض التحول إلى أداة ليبية على الساحة السياسية اللبنانية. ولم يخجل من أن يخفر ذمام نفسه بالإساءة إلى ضيفه وهو أمر يرفضه أصغر وأبسط عربي يعرف حق الضيف وأي مسلم يتمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
وقد كنت أستغرب وأتساءل: لماذا غيرت ليبيا وجهتها السياسية فجأة وبدأت بتقديم التنازلات المهينة للولايات المتحدة ولماذا غدرت بالعالم الباكستاني "عبدالقدير خان" وقدمت رأسه على صحن من ذهب إلى المخابرات الأمريكية وعرَّضت دولتين إسلاميتين لحرج شديد هما "باكستان وإيران" وجعلت جزاء العالم الباكستاني "جزاء سنِّمار"؟. والآن فقط بدأت الأمور تتضح والأسرار تكشف فالقذافي "المغرم بنفسه" لا تهمه سلامة حلفائه ومبادئه القومية والوطنية وشعاراته التي خدعت الملايين بقدر ما تهمه سلامته الشخصية فقدم للأمريكيين ما جعلهم يؤمنون أن وجوده له فائدة في الحصول على المعلومات التي عجزوا عن اكتشافها قبل تطوعه بتقديمها لهم تكفيراً عن جريمته الجنائية التي بدأت خيوطها تنكشف لهم بعد اعتقال المنسق الليبي في المملكة، والمأجور المتأسلم في الولايات المتحدة وتقديمها الأدلة الكافية لبناء قضية جنائية ضد "العقل المدبر" أو رئيس العصابة "الفاقد العقل" وأبشع ما في هذه الجريمة القذرة بكل المستويات قبول المشاركين في التآمر لتنفيذها بأن يكون مسرحها البلد الحرام "مكة المكرمة" في ظلال الكعبة المشرفة وعلى مشهد من أبواب بيت الله العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً. وأن يكون هدفها شخصية من الشخصيات المشهود لها بصدق الانتماء العروبي والسعي الدؤوب لخدمة الإسلام والمسلمين والبعد عن دروب الشر وخبث السياسة ألا وهو سمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي سعى بكل ما أوتي من نفوذ وجاه وقوة واستطاعة لتخفيف الحصار على شعب ليبيا وإنقاذ الرئيس الليبي من الورطة التي وضع نفسه فيها عندما اكتشف أمر دوره في تفجير الطائرة الأمريكية وقبل ذلك الطائرة الفرنسية. وليس غريباً أن يقابل القذافي ذلك بالجحود لكن الغريب والذي يخرج من حدود الغرابة إلى وقع الصدمة المؤلم هو أن يجد من أبناء هذه البلاد من يستجيب لدعوة المشاركة في مثل هذا العمل الموجه في المقام الأول ضد حرمة وقدسية بيت الله الحرام وأمن واستقرار المملكة وسلامة وطمأنينة المعتمرين ضيوف الرحمن الذين هم محل احترام وتكريم الجميع في هذه البلاد من أصغر مواطن إلى أكبر مسؤول قبل أن يكون موجهاً إلى شخص سموه. ولكن إرادة الله تشاء أن تنكشف خيوط هذا التدبير الإجرامي "ليس من قبل سلطات الأمن أو الاستخبارات" بل على يد مواطن يقظ حريص على أداء واجبه بإخلاص وضمير حي ووطنية صادقة هو المصرفي الذي تنبه للغموض الذي يحيط بسحب مبلغ المليون دولار دون مبررات مقنعة... الأمر الذي يؤكد لنا جميعاً أن أمن الوطن لن يستتب إلا بتكاتف وتعاضد جهود أبنائه ويقظتهم وتعاونهم مع السلطات المختصة. وفي أعقاب اكتشاف الجريمة نشط القذافي في إثبات فائدته للقوى العالمية الفاعلة ووعدها بفتح خزائن ليبيا لمشروعاتها فوعد بريطانيا ببرامج إعادة تسليح الجيش الليبي ووعد إيطاليا بمشروعات الإعمار ووعد أمريكا بأن يكون بوابتها المحلية لاختراق شمال إفريقيا ومحاربة النفوذ الفرنسي على مستوى القارة بكاملها وأن مصالحهم تتسوجب غض النظر عن فعلته والإبقاء عليه.
لقد حاول الليبيون أن يوهمونا عبثاً بأن تحولهم كان نتيجة يأسهم من العالم العربي ووصولهم إلى قناعة راسخة بأن العرب خذلوهم خلال تعرضهم للحصار وأن ليبيا دفعت ثمناً باهظاً لتبني قضايا الآخرين وأن جميع العرب تخلوا عن مبادئهم وشرعوا في مغازلة أمريكا منذ زمن طويل.
والحقيقة هي أن ما عاناه الشعب الليبي من حصار وتجويع وإذلال لم يكن سوى الحصاد الطبيعي لبذور الشر التي زرعها القذافي في كل مكان من لبنان إلى ألمانيا إلى نيكاراجوا وأيرلندا ودول الجوار العربي. ولقد كان القاسم المشترك الأعظم في سياسات الزعيم الليبي المتقلبة هو "جنون العظمة" والبحث عن دور عالمي بقوة المال الليبي وعبقرية مصممي الأزياء الذين يتفننون في عكس خبايا نفسه الطاووسية ونرجسيته السياسية في أزياء شديد الغرابة حتى لتخاله في زياراته الخارجية متوجهاً إلى حضور حفل تنكري.
لكن المضحك المبكي هو أن أجهزة الإعلام الليبية هي الوحيدة الباقية التي لا ترى في اضطرار ليبيا إلى دفع التعويضات لضحايا الإجرام القذافي في طائرة لوكيربي (عن يد وهي صاغرة بعد تقديم "مواطنين ليبيين" إلى المحاكمة وجعلهما كبش فداء للمجرمين الأصليين) هزيمة نكراء لسياسات الزعيم الملهم وخسارة فادحة للشعب الليبي المسكين الذي شاءت الأقدار أن يبتلى بقيادة على شاكلة العقيد القذافي الذي أهدر ثروات ليبيا وبعثرها يمينا وشمالا على شراء ذمم الصحافة المأجورة وتأليف الكتب السخيفة وتنفيذ المشروعات المشكوك في جدواها. والحقيقة هي أن سياسات العقيد الليبي لا تستهدف مصلحة ليبيا بل هي تقليد أعمى للزعامات العالمية فبعد أن فشل القذافي في أن يقلد عبدالناصر حاول أن يقلد ماوتسي تونج وكتابه الأحمر بتأليف الكتاب الأخضر الذي ليس فيه من الخضار سوى غلافه أما محتواه فهو "أسود كالح" وقراءته ليست أكثر من مضيعة للوقت وتلويث للفكر فعاد محاولا محاكاة عبدالناصر في بناء السد العالي (الذي تتفيأ مصر اليوم خيرات مائه وكهربائه) بمشروع النهر العظيم الذي يهدد بجفاف الآبار الجوفية الليبية والذي يقول بعض الخبراء العالميين إنه كارثة مائية قيد الإعداد والنضوج قد تطال آثارها بعض الدول المجاورة لليبيا. وبعد أن أدرك أنه فشل في ذلك أيضاً لم يبق للعقيد سوى التميز بأقدميته فهو أقدم زعيم عربي الآن فحاول أن يرسخ ذلك من خلال وضع الجلوس الاستعلائي الذي يمارسه عندما يحضر القمم العربية ولهجة التعالي العنجهية التي وضع لها حداً الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ففقد القذافي ما بقي له من صواب قليل وأقدم على جريمته التي لا يخامرني أدنى شك في أنه سيدفع ثمنها غاليا. مهما حاول إظهار الثقة المصطنعة وتعمد التقليل من احترامه للزعماء الآخرين والتلاعب بـ"سيجارته" في المؤتمرات. فذلك ليس من الثقة في شيء بل هو دليل آخر على خلل جسيم في المقدرة على تقييم المواقف والتصرف بالكياسة التي تفرضها هيبة ومسؤوليات رؤساء الدول.
