كلما تقدم بنا الزمان، ولم نتقدم، تزداد حاجتنا إلى مراجعة قائمة مخزوناتنا، فإذا الذي عطلناه أو لم نحسن استثماره من هذا المخزون يعود فيطالعنا في نسيج حاضر وآفاق غدنا، ويبدو الماضي، بعضه على الأقل، وكأنه الغد الذي نستقبله، إلى جدارة بعض الماضي والماضين من رجالنا، يضاف التراجع في مستوى أهليتنا، مما يعطي لهذا البعض قيمة إضافية ويعطينا سبباً إضافياً للاستحضار والاستدعاء والأهلية عندما تتراجع في مستوى لا تقتصر عليه وحده بل تعم، أو تكون بالأصل عامة لأنها تترتب على خلل في البنية يطال العقل والروح والجسد والبصر والبصيرة والوطن والمواطن والفكر والفن والسياسة.. وتطال الدين في بعده البشري والسلوكي، لا في ثوابته، بل في تمثلاتها.
هذه المقدمة القاسية مناسبة ذكرى تغييب الإمام الصدر، الذي كان يمكن لنا أن نستعيد ذكرى حضوره الكثيف وتغييبه القاسي عليه وعلينا، كما تستعاد الذكريات الأليمة الكثيرة في حياتنا ولكن الملاحظ أنه مع كل سنة تمر على غياب الإمام يزداد شوقنا إليه وحاجتنا إلى مثاله وأمثاله، ونعوض هذا الشوق وهذه الحاجة بإدعاء أنه حاضر فينا أبداً.. أن ازدياد درجة حضوره المدعى لها دلالات كثيرة، ومن هذه الدلالات ولعلها أهمها هو أن الفراغ يزداد سعة وعمقاً في رؤيتنا وحركتنا.
من لبنان إلى إيران وظل لبنان الذي تكونت عليه أصول الأسرة حاضراً في الوعي والذاكرة وكان سبباً من أسباب التميز. لقد تميز العلماء الذين قدمتهم الأسرة إلى العالم الإسلامي بعد هجرتها الأولى. سواء في إيران أو العراق من السيد محمد الصدر البارز جداً في تاريخ العراق السياسي، إلى السيد حسن الصدر عم الإمام والمميز جداً في علمه وتقواه وانفتاحه ومرونته إلى السيد صدر الدين الصدر والد الإمام المثال المشهور في الفكر والأدب والعفة وسلامة الذات إلى السيد رضا الصدر شقيق الإمام الذي كان يذكر عارفيه بالأوائل من أهل الإيمان والسلام ويشيع طمأنينة معرفية وقلبية في نفوس زملائه وتلاميذه وأصدقائه، إلى السيد محمد باقر الصدر الذي بدأ مبكراً في رسم منعطف منهجي عظيم في تاريخ الفقه والفكر الإسلامي إلى السيد موسى إلى الفرع الذي حمل مورثات الأصل العربية واللبنانية واكتسب من نشأته الحياتية والعلمية ومن تميزه ذكاء وفطنة وحداثة على الأصول الإسلامية، اكتسب أهلية موضوعية في النظر إلى القضايا والأمور وشفافية وواقعية في تعاطيه مع شؤون الاجتماع والفكر والسياسة، ما أتاح له أن يرى لبنان الواسع بالمعنى الحضاري بعين واسعة أتاحت له أن يرى المكونات الأصلية جميعها ويحاول أن يسلك سلوكاً يوائم بينها ويحيل التناقض الظاهر إلى نصابه في الاختلاف الطبيعي ... من هنا قدم لنا لبنان الأطروحة والأمثولة مجسداً في شخصه، إنساناً إسلامياً عربياً لبنانياً فلسطينياً، شيعياً تتلون شيعته المنفتحة مرة بلون بقاعي ومرة بلون جنوبي، لتغدو الألوان في وجهه وعينيه وجبته وعباءته ومواقفه قوساً قزحياً تتعاضد فيه الألوان وتتلاءم على نصاب توحيدي وحدوي لا يطغى فيه لون على لون إلا بقدر ما يكون الرائي مفتوح العينين والقلب أو مغلقاً.
ولم يكن في رؤيته يصدر عن جوامد أيديولوجية، كان أقرب إلى التجريب، من دون أن يفتقد الثوابت المنهجية المرنة في تفكيره وعمله قبل غيابه أو تغييبه وقبل اتساع صدرنا لرؤية الأمور كما هي وبمنهجية وقبل اتساع صدرنا لرؤية الأمور كما هي وبمنهجية معتدلة كنا في مواقفنا فيه نراوح بين الحيرة والغضب، لا لغموض فيه بل لاضطراب أدوات تحليلنا واختلاطها بالوافد عليها من خارج سياقها. إلى أن غاب واكتشفناه واكتشفنا أنفسنا وحالنا وقضايانا وطناً ومواطنين مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة ودروزاً إلخ يساراً ويميناً عمالاً وأرباب عمل مدنيين ودينيين، منفتحين أكثر من اللزوم ومنغلقين إلى حد الموت والفراغ والمراوحة حول مساحة أقدامنا، ماضويين لا نتوقع وحداثيين لا نذكر تاريخ مولدنا وآلام الولادة.
إلى هذا وأخيراً.. اكتشفنا أنه بكر في اكتشاف ما نعيد اكتشافه بعد فوات الأوان أو بعد ترام المساحات الفارغة في دورنا ووظيفتنا الوطنية.. كان يرى أن لبنان يكون إذا كان عنقوداً من المؤسسات، تبدأ من الأهلي وتمر بالمدني وتصل إلى الدولة، وكان يرى أن التقصير الإسلامي، لأسباب تاريخية، كبير، وقد آن الأوان لوضع حد له، وأخذ يؤسس، عندما أسس للشيعة كان يريد أن يحررهم من شعوبهم بالاستثناء، كان يريد ان يدخلهم في الدولة على معطياتها الحديثة سلماً، وعاجلت الحرب لبنان، فانصب همه على منعها أو ردعها أو التخفيف من آثارها لأنه رأى السلم الأهلي شرطاً لنهوض الجميع والفتنة الأهلية وأداً لروح الجميع وأحلام الجميع وتراثات الجميع وإيمان الجميع ورغيف الجميع.
كان يريد للحرب أن لا تهزم نظام القيم. وإذا ما سلمت القيم اللبنانية العربية فإن الأفكار يسهل تصحيحها، أما إذا اهتزت القيم فلا ضمانة بعد، وبالتالي كان يريد للمسلمين عموماً والمسلمين الشيعة خصوصاً أن ينهوا عهد التساؤلات الصغيرة حول لبنانيتهم وكان يريد للمسيحيين أن ينهوا التشويش حول عروبتهم. وعلى قاعدة لبنان العربي يبدأ الحوار المسيحي الإسلامي ليسهم في حفظ لبنان والعروبة في لبنان، ولبنان عند العرب، يعود لبنان رسالة، لا قطراً وحسب، أطروحة وطنية لا إشكالية وطنية، درساً في السلام والنهوض والحوار والحيوية التي تفيض عن أهلها حجماً وقيمة وتشع حولها مثالاً يحتذى.
في شيعيته كانت تتكثف إسلاميته، وفي إسلاميته كانت تشرف لبنانيته، وفي لبنانيته كانت تتجلى مسيحيته، وفي عباءته كانت العروبة ترتاح إلى ظهيرها الحضاري في إيران والعالم الإسلامي، رغم أن السلطة الإيرانية المعادية للعرب والعروبة وفلسطين لم تكن بعد قد سقطت، ولكنه كان يرى الشاهنشاهية آيلة إلى السقوط، لأنه كان يعرف وقد حدد خياراته منذ البداية بوضوح كامل.. وإلا فلماذا اختار لبنان موقعاً لعمله؟ لماذا عاد إليه؟ وله من تاريخ أسرته ومن شخصيته ومن اتساع الفرص في إيران ما كان يكفل له مجداً شخصياً عظيماً!!! اختار لبنان لأن ذاكرته وعلمه ووعيه ورسالته جعلته يكتشف أن لبنان يمكن أن يكون مدخلاً حضارياً إلى العالم.. وهو، لبنان، ما زال كذلك وما زالت أفكار الإمام الصدر صائبة في رؤيته للبنان ودوره وموقعه..
لسنا مطالبين بالانقلاب على مكوناتنا الدينية أو الطائفية أو المذهبية بل نحن مطالبون بالوفاء لهذه المكونات، ولكننا لن نكون أوفياء لها إن لم نضعها في سياقها الوطني الذي يحفظها وتحفظه، هكذا كان موسى الصدر يطمح، وهذا ما يجعله حاضراً يزداد حضوراً كلما ازددنا خطأ وبعداً عن فهم لبنان.
في الذكرى العشرين لتغييبه، يفتقد لبنان كتفاً من الأكتاف التي حملت أعباءه وصدراً كان حاشداً بالهم اللبناني، ولا يعوض هذا الغياب وما حرمنا من خلاله من رؤية صائبة إلا أن يعود اللبنانيون إلى وعيهم وإيمانهم بلبنان الواحد الموحد.