لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (3 من 3)

calendar icon 28 كانون الثاني 2008 الكاتب:هاني فحص

في خضم أجواء المقاومة والشعور بالحرمان والتطلع إلى نظم أمر الشيعة في لبنان، أعاد الإمام الصدر عام 1969 إلى التداول وبزخم ملحوظ فكرة تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، التي كان قد أطلقها سنة 1965 من غير أن تكون من مختصاته، إذ كانت الفكرة متداولة في الوسط السياسي الشيعي التقليدي، ولكن في سياق سياسي قائم على السلب تجاه القوى القومية واليسارية حصراً، لأنَّ أطرافاً عدة في الطبقة السياسية اللبنانية في الحكم وخارجه كانت على قلق شديد من النمو المتزايد لتيار الاعتراض في الوسط الشيعي فشجعت قوى شيعية حليفة لها على قطع الطريق أو إعاقة هذا الاتجاه بإدخال الشيعة في إطار تنظيمي على أساس طائفي وتحت لافتة مساواة الشيعة بغيرهم، وبالمسلمين السنَّة خصوصاً في نعمة التنظيم تحت ظلِّ الدولة وفي إطارها، لتشكل المرجعية الرسمية معادلاً لدار الفتوى في ضمان الانضباط الشيعي على مقتضى متطلبات السلطة والحكم. ومن هنا سارعت الدولة ممثلة في الرئيس شارل حلو ومستويات أخرى من الطبقة السياسية ذات الصلة التاريخية بالنهج الشهابي إلى مساندة الإمام الصدر في تطلعاته إلى تأسيس المجلس في جوٍّ من ترحيب قوى سياسية مسيحية ذات طابع يميني (الكتائب والأحرار) الذين عادوا فجاهروا بندمهم على ذلك بعدما انكشفت لهم أعماق الإمام لاحقاً، فتمكن الإمام الصدر من اجتياز مخاضة التأسيس على معارضة شديدة من القوى الشيعية التقليدية ومن اليسار اللبناني معاً.
ولم يكن الإمام الصدر يخفي دوافعه في هذا المجال، وقد أكد أكثر من مرَّة على أنه بادر إلى تأسيس المجلس بعدما أصبح أمر الانتظام في مؤسَّسات أهلية ومدنية ضرورة وجود وحيوية ولم تعد المؤسسة بعد التطورات الاجتماعية والعلمية والديموغرافية شأناً من شؤون السلطة وحدها، خصوصاً وأن مفهوم الدولة وعلاقتها بالاجتماع العام قد تبدل لجهة الحوار والتكامل الذي لا يلغي التعارض، ولكنَّه يوظفه في اتجاه المشاركة، وإلا فإن الفوضى سوف تكون بمثابة البوابة المفتوحة على الجسم الشيعي يدب إليها منها ما يتنافى من الأفكار والأطر مع عمومياته ومسلماته الوطنية.
وجاهر الإمام بأن غايته من التأسيس هي جعل المجلس قناة تنظيمية للشيعة (أسوة بالطوائف الأخرى) إلى الدخول السلس والمتدرج والهادف في الدولة بالحجم الذي يناسب عديديهم وفعاليتهم ودورهم في بناء الوطن واستقلاله وفي حماية حدوده ضد إسرائيل، وترسيخ سيادته وأداء دوره المميز مع تركيزه الدائم والذي لم ينقطع قبل الحرب وأثناءها على مساوئ الطائفية مع الالتفات إلى الفرق بين الطائفية والطوائف كمتحدات اجتماعية وإيمانية من شأنها لو تركت لمنطلقاتها العقيدية وإيمانها ونظام قيمها وأفكارها أن تكون ضامنة لسلامة الوطن والدولة على قاعدة العيش المشترك المحكوم بمعنى لبنان ودوره والداخل في الوظيفة الوطنية والدينية معاً.
* * *
على إيقاع المجلس كواقعة مشهودة وإيقاع حركة الإمام الثقافية والسياسية تبلور في الوسط الشيعي محوران استقطبا الخطاب اليومي، محور الإمام الصدر الديني على مستلزمات الحداثة والتجديد الموصول بالأصول وبالآخر اللبناني والعربي والإنساني، ومحور الزعامة التقليدية بواجهتها التاريخية (كامل الأسعد)، مدعومة بعدد من علماء الشيعة، أكثرهم منخرطون في وظائف الدولة ومن ذوي النزعة المحافظة الذين سبق لهم أن نموا على أفكار الأربعينات والخمسينات التي انكفأ أثناءها الطموح والنشاط الديني إلى الاختصاص الفقهي التكراري والحركة اليومية في تفاصيل حياة القاعدة الشخصية والعبادية، ما جعل المعظم من رجال الدين الشيعة يتحولون إلى حالات تبعية للقوى السياسية النافذة بسبب الانكفاء وغلبة مشروع التحديث في شكلياته من دون المضامين ما أدى إلى انحصار اهتمام أكثرهم في شؤون معاشهم فتكونت في أوساطهم أنظمة مصالح تحت مظلة السياسيين النافذين.
وعندما أطل الإمام الصدر على الساحة اللبنانية كان الكبار من العلماء والذين عايشوا المتحول من الدولة العثمانية إلى دولة الانتداب إلى دولة الاستقلال وعاندوا ومانعوا، قد رحلوا إلى بارئهم، بعدما اضطرتهم ظروف الغلبة إلى سحب اعتراضهم يأساً، والتمترس في محاريبهم لحفظ قيم القاعدة واستمرارية مرجعيتها الشرعية من خلال الإنتاج العلمي الذي توفروا عليه والعقلانية والواقعية السياسية التي آثروها بسبب الظروف الحرجة (السيِّد محسن الأمين، والسيِّد عبد الحسين شرف الدين) ثُم ما عتمت أطروحة الحداثة في صيغتها اليمينية واليسارية معاً، أن آذنت بانكشاف وارتجاج أفسح مجالاً لأطروحات تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتسعى إلى حداثة مميزة، وكان الإمام الصدر أحد النماذج المميزة التي قرأت اللوحة ودخلت في المشهد، من خلال الخطاب المميز والحراك الواسع والمفتوح والحواري، الذي تجنب الإطلاق والتعميم واعتمد التجريب أسلوباً لا نهجاً.
* * *
عندما اشتدت قوة المحور المعارض للإمام الصدر بما استحدثه من عودة السيد كامل الأسعد إلى تشكيل الثلاثي الحاكم مع الرئيس سليمان فرنجية والرئيس صائب سلام، عقب التحالف الذي تم بينهم تحت عنوان الوسط، أي بين النهج الشهابي والحلف (كتائب، أحرار، كتلة وطنية) أصبح المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تحت خطر التهميش.
وما لبثت حركة مزارعي التبغ أواخر عام 1972 أن أشارت إلى احتمال خطورة إضافية على المستوى الوطني والجنوبي والشيعي معاً، إذا استطاعت قوى اليسار، رغم أنَّ معظمها كان معارضاً أو مستهزئاً بهذه الحركة، أن تعود فتلتف عليها وتصادرها لتوجهها في اتجاه سلبي تجاه الحكومة خصوصاً والدولة عموماً، بعدما كان الوهن والضعف قد بدا حيال العملية العسكرية الإسرائيلية التي أدَّت إلى اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في قلب العاصمة. وفي الوقت نفسه حملت الحركة علامات على تجاوز شعبي مستثمر يسارياً للمجلس الشيعي وقيادته الصدرية، وزاد الطين بلة أن عدداً من رجال الدين الشيعة، كانوا في واجهة حركة المزارعين من بدايتها وعلى أساس محض مطلبي (الكاتب شخصياً) ما أعطى لليسار ورقة إضافية، وإن كان اليساريون ومن خلال النقابة التي أشرفوا على تشكيلها، قد تجاوزوا هؤلاء المبادرين إلى التحرك من رجال الدين وغيبوهم نهائياً.
حركة مزارعي التبغ بملابساتها السياسية ضايقت الإمام الصدر قليلاً، لكنها عجلت بالمباشرة بحركة مطالبة بحقوق الجنوب والبقاع والشيعة عموماً منظمة ومتدرجة تصاعدياً وذات قدرة كبيرة على الاستقطاب الشعبي في لحظة تداخل بين المطلبي والسياسي جراء قصور الدولة وتقصيرها من جهة ودخول بعض أركانها الرئيس الجمهورية سليمان فرنجية لاحقاً وموقتاً في مسار تحالفي مع حزبي «الكتائب» و«الأحرار» انتهى لاحقاً إلى تشكيل الجبهة اللبنانية لمواجهة التحالف الفلسطيني اليساري المشوب بإسلامية ما أو التحالف الإسلامي الفلسطيني المشوب بيسارية ما، ما كان تهيئة للبنان للدخول في الحرب الطويلة.
وبقي الإمام الصدر يصمد متذرعاً بما انكشف له من فراغات كبيرة في إدارة الدولة للشأن الاجتماعي والتنموي في مناطق الكثافة الشيعية في الجنوب وضواحي العاصمة والبقاع... ونظَّم عام 1974 مهرجانين كبيرين جداً في البقاع والجنوب، جعلا أجهزة الدولة الأمنية تدقِّق في حساباتها وتقرِّر منع تحقيق أي من مطالب الإمام، لأنَّ ذلك يعني تأسيساً لزعامة مطلقة ودائمة للإمام الصدر شيعياً مع كثير من المدلولات الوطنية والقومية... وهذا يعني أيضاً أن الإمام الصدر سوف يضع الطبقة السياسية الشيعية وراءه والطبقة السياسية اللبنانية في مجال نفوذه.
في 24/2/1974 خطب في جمهور واسع في قرية جبشيت فقال: رزقكم الوحيد التبغ، وأنتم تعرفون قضية التخمين وطريقة معاملة شركة الريجي للمزارع، وذكر بأنَّ حصة الجنوب والبقاع من المشاريع التي حققتها الدولة في أعوام (1970و 1971و 1972) كانت الأقل، وأن الجنوبيين قدَّموا لوزارة التربية عقارات لتبني عليها المدارس مجموعها 86 عقاراً، ولكن الدولة لم تبن إلا نصف مدرسة في القليعة. وتناول مشروع الليطاني والمصلحة التي تأسَّست من أجله عام 1954 وكلفت نحو 400 مليون ليرة مصاريف إدارية من دون نتيجة، وأعلن أنَّ مسؤولاً في دولة عربية تقدمية أبلغه استعداد حكومته لتحقيق مشاريع حيوية في الجنوب... وأضاف: عيبٌ علينا أن تذهب مياهنا إلى البحر، وإسرائيل تديننا في العالم قائلة إن لبنان لا يعرف الاستفادة من مياهه.
وتناول موضوع ري البقاع من السدود وضرورة إنشاء الأوتوسترادات وتحسين منطقة الكرنتينا وتساءل: لماذا يهملون مطالب الشعب؟ وأضاف: أحد السياسيين الكبار قال: إذا أعطينا الشيعة حقوقهم فلن يبقوا شيعة، يجب أن يبقوا محرومين ليكملوا سمفونية الحزن!
- والسياسي المعني من سياسيي الشيعة وتحدث الإمام عن حرمان الشيعة من المراكز الإدارية. وقال: الا تهمنا الوظائف على أنها مناصب، بل لأنها مفاتيح لتحقيق المشاريع. إنَّ الموظفين لا يجب حسبانهم بالأعداد بل النوعية، لأنه لا يكفي تعيين مدير عام من دون صلاحيات يكون أهلاً لها، والذين يصلون إلاَّ لأنهم مستزلمون، وبذلك نقضي على الكفاءات والاختصاص. وكانت الدولة قد أسَّست مجلس الجنوب في حركة التفافية، ولكن الإدارة التي اختارتها لهذه المؤسسة المفترض فيها أن تحصِّن القرى الحدودية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وتحقق المشاريع التي تعزز الصمود، تلك الإدارة لم يراع في اختيارها الاختصاص والكفاءة بقدر ما روعي مزاج الزعامة الشيعية التقليدية النافذة من موقعها في تركيبة الطاقم الحاكم. ما حوَّل مجلس الجنوب وقتها إلى مؤسَّسة قليلة الجدوى. وختم الإمام خطابه في جبشيت قائلاً: نحن نريد خدمة البلد وليس تفشيله، إن البلد مقبل على الدمار ونحن سنمنع تدميره.
* * *
هذه الفترة التي تبلورت فيها توجهات وخيارات الإمام الصدر منذ انتخاب الرئيس سليمان فرنجية للرئاسة شهدت تعاوناً ملحوظاً بين بعض القيادات الدينية الشيعية، وبعض من هذا البعض كان معدوداً في فريق عمل الإمام، ولكنه انفصل عنه لأسباب نفعية أو لوقوعه تحت نفوذ جهات سياسية مخالفة للإمام وتوجهاته، وبين الزعامة الشيعية التقليدية من جهة، وبين الدولة الإيرانية مباشرة، أو عبر سفارتها في لبنان وسفيرها المتحدر من جهاز المخابرات (السافاك) منصور قدر الذي تعرض إلى محاولة اغتيال اتهم فيها بعض الناشطين الإيرانيين من المعارضة في لبنان وأودع سجن رومية بعد محاكمة شكلية أحد المعممين الإيرانيين. تركز النشاط الشيعي اللبناني والإيراني الرسمي المشترك على الإمام الصدر بلحاظ أنه ينفذ سياسة لا تلائم النهج الشاهنشاهي مع وضوح في علاقته الحميمة بالمعارضة الإيرانية الوطنية والإسلامية، واستقباله المتكرِّر للشخصيات المعارضة الناشطة داخل إيران وفي المنافي العربية والغربية. واحتلال الدكتور مصطفى شمران المعارض موقعاً متقدماً في ورشة الإمام الصدر ومؤسساته التربوية والاجتماعية، وقد تفاقم الأمر عندما بذل الإمام جهداً فاعلاً في منع تسليم الدولة اللبنانية للشخصية الإيرانية المعارضة تيمور بختيار الذي كان يرأس جهاز المخابرات الإيرانية، قبل طلاق قريبته (الشاهبانو ثريا البختيارية) من الشاه وتحول بختيار إلى المعارضة، وكان ذلك قد حدث مبكراً وعندما كان السيد صبري حمادة الزعيم الشيعي البقاعي رئيساً لمجلس النواب قبل عودة الرئيس كامل الأسعد إلى هذا المنصب، ما أسرته الدولة الإيرانية في نفسها وانتظرت الفرصة للمحاسبة عليه. وهكذا تَمَّ التركيز على الإمام الصدر وسحبت السفارة منه جواز سفره الإيراني.
* * *
في 13 أبريل كان حادث الحافلة الفلسطينية في عين الرمانة، بمثابة تهشيم لغلاف الرمانة اللبنانية الحاشدة بإرادات العنف المتبادل، وكان الحادث، وكأنه احتفال بتدشين الحرب الأهلية الشاملة، التي كان الجميع مندفعين نحوها وينتظرون أسباباً مباشرة للانخراط فيها، فانخرطوا من دون تدقيق في ظروف الحادث. وهنا التفت ريمون إده، عميد «الكتلة الوطنية»، والذي قام ومات على حذره من الدخول في الحرب، ودفع راضياً ثمن ذلك، خوفاً ونجاة من الاغتيال وهجرة لم تنته إلاَّ في القبر. وأكَّد منذ البداية (كما ذكرنا سابقاً) وبناءً على معلومات دقيقة توافرت له أن حادثة عين الرمانة لم ترتكبها ميليشيا «الكتائب»، وأن ذلك كان معلوماً لدى حزب «الكتائب» وأجهزة الدولة واليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية، ولكن المتهم قبل التهمة لأنه يريد الحرب والمعتدى عليه قبل إلصاق التهمة بالمتهم البريء لأنه يعرف نواياه فضلاً عن نواياه الذاتية. والتقت النوايا من هنا وهناك وهنالك على إدخال لبنان في حرب تدميرية ستبقى آثارها قائمة في المشهد والوجدان. وهنا قرَّر الإمام الصدر أن يبقى على تمايزه وانحيازه للسلم الأهلي وحرصه على كشف محاولة كل الأطراف إضفاء طابع أو مسوغات دينية على الحرب المنوي توسيعها وإطالة أمدها، مؤمناً بأن السلم الأهلي، مهما يكلِّف من تنازلات وأوجاع ومضايقات واتهامات باطلة، هو الأنسب للشيعة ولكلِّ الطوائف بما هي جماعات دينية وطنية، لا بما هي مختزلة في أحزاب تصادرها، وهو، أي السلم الأهلي المدخل الأمثل إلى حريم الدولة والعامل الأفضل لترسيخ الوجود في الوطن على أساس التكافؤ والتشارك والتنافس في المواطنية.
ومن هنا، بقي الإمام طوال فترة الحرب وحتى تغييبه من أجل إدامتها، مصراً على إيقافها، ما جعله يدفع أثماناً باهظة، نتيجة اتفاق اليمين واليسار والوسط المتذبذب، على استمرار الحرب والعداء المشترك والكيد الدائم، لكلّ الذين سعوا إلى إيقافها.
وعلى مدى ما سمي حرب السنتين من محطات الحرب في لبنان (1975 - 1976) لم يتخل الإمام عن قناعاته. وبعدهما، أي عام 1977 إلى تغييبه عام 1978 كانت رغبة مبهمة لهج بها المتابعون عن كثب، في إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، ما يفسِّر اندفاع المقاومة من قبل اليسار اللبناني والفلسطيني إلى ممارسات خاطئة، خصوصاً في الجنوب، كان الهدف من زجها فيها هو إدخالها في مواجهة يومية واسعة مع القوى الشعبية عموماً والقوى الشيعية في الجنوب خصوصاً، حتى يتم إخراجها على أساس الفتنة، وبناءً على استحالة تعايشها مع الجو الجنوبي والشيعي المؤثر، ولكنَّ الصبر والحذر الذي أبداه الإمام الصدر تجاه هذه المسألة، جعل جميع الراغبين أو المتورطين جهلاً في هذا المسار المشبوه، يحسون بأنَّه عقبة... وهو مصر على التحمُّل حتى لا يتحول صمود الشيعة وأهل الجنوب ونضالهم الطويل إلى ما يشبه الخيانة القومية، فعوقب وعوقب الشيعة واللبنانيون عموماً على موقفه باختطافه وتغييبه.
* * *
كان الإمام الصدر، عندما فاجأته الحرب اللبنانية، والتحاق الأجيال الشابة من الشيعة وأهل الجنوب، بالأطراف المشاركة فيها سياسياً وعسكرياً، قد أدرك خطورة الاندفاعات الشيعية والجنوبية نحو الأحزاب والميليشيات اليسارية والقومية، فأسس حركة المحرومين، على مرأى ومسمع من القوة الفلسطينية الأكثر ميلاً إلى الاعتدال، كإطار سياسي شيعي مفتوح على الطوائف الأخرى، مستفيداً من أدبيات المعارضة الإسلامية في إيران تعبير الحرمان الذي يجمع السياسي والاجتماعي والثقافي إلى المطلبي والتنموي والمعيشي، تجنباً للمصطلح اليساري الطبقي أو الطبقوي الاختزالي. ووراء حركة المحرومين وعلى جذعها أخذ يعدُّ العدَّة ميدانياً لتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) كجناح عسكري يماثل السائد في الفضاء اللبناني ويمتاز عنه بأولوياته ومرجعيته الفكرية الإيمانية.
وفي رأس الأولويات التصدي للعدو الصهيوني أولاً وحصراً، وضعاً للبندقية الوطنية في الاتجاه الصحيح، وإبعاداً لها عن المشاركة في الحرب الأهلية.
وهنا حصل نوع من التفاهم والتعاون، بين الطلائع الأولى لشباب أمل والجناح العسكري لبعض الفصائل الفلسطينية ذات الطيف الاعتدالي الذي كان يلتبس قليلاً وأحياناً بيسارية أو مادية أحدثت داخله وحوله جدلاً طويلاً أعني الكتيبة الطلابية في حركة فتح، ما جعل اليسار اللبناني والفلسطيني يزيد عداءً للإمام وحركته وتشكيكاً بخطه واعتداءً متعدِّد الوجوه على حركة «أمل»، إلى حد اضطر معه الإمام إلى مغادرة بيروت والاعتصام في البقاع. وكان قد سبق له أن اعتصم خلال حرب السنتين اعتصامه المشهور في الكلية العاملية من أجل إيقاف الحرب، ولم تقف الحرب، بل تطورت إلى مذابح طائفية في البقاع وفي عددٍ من قرى الفقراء المسيحيين، فبادر الإمام إلى فك اعتصامه وانتقاله إلى المواقع التي تمكنه من منع تفاقم الوضع في البقاع، فكان هذا السلوك منه علامة أخرى على وطنيته الخالية من الدغل الطائفي.
* * *
وفي لحظة سبقت سفره إلى ليبيا، عبر الإمام الصدر عن خوفه من أن إغراءات الحرب، قد تجر حركة «أمل» ببعدها العسكري إلى استغراق حركة الإمام بكل معانيها، وهو مصر على تحقيق مطالب الشيعة سلماً لا حرباً، وأخذ يتحدث عن إيثاره العودة إلى تغليب الأصل على الفرع، أي حركة المحرومين على حركة «أمل» ووجود الدولة واستمرارها على المطالب، ولكن تغييبه أعاق الذهاب في هذا المنحى، خصوصاً وأن الظروف أدخلته في مسألة تنشيط المستوى العسكري في التنظيم في سياق الضرورة الوطنية، من اجتياح الجنوب عام 1978 ودخول الجنوب في حالة متقدمة من الخطورة على وضعه الأمني، إضافة إلى ذلك فإن تغييب الإمام كان مؤشراً على أن الحرب الأهلية مستمرة بما يعني من شطب أو تهميش الفاعليات التي تتمسك بضرورة إنهائها، وعندما كشف عدوان 1978 قصور الميليشيات اللبنانية وتقصيرها عن مواجهة العدو وإعطائها الأولوية للصراعات الداخلية، كان مقاتلو حركة «أمل» قد أقاموا قواعدهم المتداخلة مع قواعد كتائب مميزة بنضاليتها واعتدالها، من المقاتلين الفلسطينيين في حركة «فتح»، في الشريط الحدودي بدءاً من المواقع المتقدمة في منطقة بنت جبيل إلى الطيبة إلى كفرشوبا. بعدما كان الإمام الصدر قد بكر فاتحاً الطريق أمام هذا التوجه بتشكيل الهيئة الوطنية لنصرة الجنوب وانتقل معها ومع مجموعات من مقاتلي حركة «أمل» إلى كفرشوبا أثناء العدوان عليها وتدميرها شتاءً عام 1975، حيث صلّى الجمعة أمام أنقاض مسجدها تحت السنديانة العتيقة المكلخة بالقذائف الإسرائيلية والتي كانت مقيلاً لأهل الضيعة والمواظبين على الصلاة في مسجدها، ووقف الإمام الصدر على أنقاض المدرسة المهدمة ليضع حجر الأساس لبنائها المنوي إعادته، رافعاً رأسه إلى السماء الصاحية الصافية شديدة الزرقة ظهر يوم شباطي دافئ، وقال: يا سماءنا إننا الآن وفي هذا المكان نشعر أننا أقرب إليك من أي مكان أو زمان آخر.
وثارت ثائرة اليسار اللبناني عليّ شخصياً لما علموه من دوري في حركة الإمام الصدر في العرقوب وإعلان المقاومة اللبنانية من هناك، فأوغر البعض صدر بعض أهل المحاور اليسارية في المقاومة الفلسطينية على الحركة وعليَّ شخصياً، ولكن شاء اللَّه أن ينكشف ذلك بطريقة درامية وعلى مرأى مني شخصياً ومسمع.
* * *
قبل تغييب الإمام الصدر بأشهر، وفي نهاية عام 1977 ومنذ استشهاد السيِّد مصطفى الخميني نجل الإمام (رحمه الله) بدأت علامات فارقة تظهر وتؤشر على مرحلة نوعية جديدة في تاريخ الثورة في إيران. وكان جميع المعنيين من أجهزة المخابرات الدولية التي تختلف وتتفق، يعرفون أن الثورة إلى نجاح وأن نظام الشاه زائل، وأن موقع الإمام الصدر المحتمل بقوة في إيران بعد الشاه سيمكنه من الوصول إلى أعلى المناصب ويجعله القناة الحصرية للعلاقات الإيرانية العربية مزوداً بمعرفة تفصيلية وخبرة مكثفة. والفارق في حسابات الأجهزة في ما يتعلق بالقوى المرشحة لأن تكون الوريث الحقيقي في إيران، يأتي لصالح الإمام، فقد كانت الأجهزة تعتبر، وأن الأمور سوف تستقر في أيدي الجبهة الوطنية، وفي طليعتها حركة تحرير إيران (نهضت آزادي إيران) التي يحتل الإمام الصدر موقعاً متقدماً في مجلسها العام يؤهله لأن يكون في قرارها. وربما كانت هذه الأجهزة قد قدرت ما قدمناه مع كثيرين داخل إيران من أن موقع الإمام الصدر في الحركة الإسلامية الإيرانية، وفي إطار قيادة الإمام الخميني وفي التيارات الوطنية الليبرالية، كان يؤهله لأن يلعب دور الوسيط فيمنع الافتراق أو يخفف من حدة الصراعات ومن تداعيات انفجارها.
وكان لا بد للحرب اللبنانية أن تستمر وللاشكاليات الوطنية اللبنانية الفلسطينية، وفي الجنوب خصوصاً، أن تتراكم ليتحول الاختلاف إلى تناقض حاد يشكل غطاءً لأي عملية إسرائيلية كبيرة في لبنان، كما كاد أن يحصل لدى اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 لولا أن الثورة الإسلامية في إيران كانت قد حدثت ونجحت وشكلت حاضناً لمقاومة كان من شأنها أن تصحح الأفكار وتعيد رسم الأولويات الجنوبية والشيعية على مقتضى القيم والدور المنشود والمعهود تاريخياً...
على فرضيات تتصل بهذه المعطيات تم تغييب الإمام الصدر الذي استطاع أن يمسك بزمام طائفة تميزت بالقلق التاريخي، وأضافت إليها النكسة وتداعياتها الفلسطينية والقومية وظيفة معقدة، ثم توافر لها من قيادته مصدر يمكن أن يحيل قلقها إلى استقرار نسبي ويسهم في جلاء هويتها بشكلٍ نهائي، مما يحيلها إلى رافعة حقيقية من روافع الوطن والكيان اللبناني على نصاب متوازن.
ليس صدفة أن يبدأ الإمام الصدر بمطالبة الدولة من أجل توسيع وتثبيت مصداقيتها وجامعيتها لكل مكونات اجتماعها الإسلامية والمسيحية، وأن يصرف نظره عن مطالب الشيعة الوطنية قبل تغييبه مع التركيز على الدولة وجيشها ومؤسَّساتها التي رآها في خطر.
وليس صدفة أن يغيب الإمام موسى الصدر بعد مقتل كمال جنبلاط والغياب شبه الطوعي، ولكنه قهري بامتياز وحتى الموت في المنفى لريمون إده، والغياب ثم العودة على شيخوخة ومرض لصائب سلام، ثم مقتل رشيد كرامي غداة توجهه نحو التسوية وعشية حركته للاتفاق عليها، ثم مقتل الشيخ حسن خالد وصولاً إلى رفيق الحريري، لأن الاعتدال هو الذي يحول لبنان ثانية إلى رسالة لأوطان التعدُّد المحكومة بالوحدة الجامعة لا التوحيد الإلغائي، فكان لا بُدَّ من قتل كتاب الرسالة وحامليها لمنع نهوض لبنان حتى لا يكون نداً هنا وعبئاً هناك، وتستمر الحرب ويتجدَّد التطرُّف في مواجهة الاعتدال ليوضع لبنان والكيان تحت السؤال والريبة.

- 26/1/2008: لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (الجزء الأول)
- 27/1/2008: لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (الجزء الثاني)

source