في مثل هذه الأيام عام 1979 كنت في ليماسول، وكانت قبرص أقصر الطرق التي توصل الهاربين من جحيم الحرب في لبنان إلى مكان آمن. كانت برفقتي العائلة وامي. وقبرص كانت تحتشد باللبنانيين، كما كل المناطق القريبة، لأننا تعودنا اثر الحرب ان نغرق في متاهة السفر والهرب شبه اليومي.
حتى سيارة الرينو الصغيرة هربت معنا بحراً، وكانت المعاناة في قيادتها، وعجلة القيادة تعاكس شروط السير في تلك الجزيرة.
كنت اقتطع من هروبي الفرص لأعود إلى بيروت أمارس عملي الصحافي ثم أعاود الهروب من جديد. كان جاري هناك الصحافي والمحلل السياسي سليم نصار وكنا في غياب المادة الاخبارية التي تحمل الينا اخبار لبنان نتشارك التحليل، ونلتقط الخبريات من مسافر وصل للتو، أو رسالة تصلنا متأخرة. في 31 آب ضجّت الدنيا بغياب الإمام الصدر. وصلنا الخبر سريعاً. ولولت امي. وكلنا متنا رعباً. وقامت الدنيا ولم تقعد لغيابه.
الإمام الصدر كان جاري الكبير في الحازمية جار الصياد وجار البيت الذي اقطنه. كان متحدراً من الاصالة والعراقة، رجل فكر وتقوى وحاضر ومستقبل، لا رجل يشبهه في زمنه، ولا حتى في زمننا الحالي.
ذلك الساحر الجذاب استطاع ان يجمع حوله حتى مناهضيه. حين ينظر اليك بعينيه يدخل إلى اغوارك ويسكن القلب والشرايين. كل من سمعوا به أحبوه واحترموه. فكيف وأنا جالسته مرتين وعلى مدى ساعات، مرة في لقاء لصحيفة "الانوار" وأخرى لشأن خاص. حين استشرته بالزواج من رجل ليس من طائفتي، فباركني بعدما كفرني الجميع.
وكان من الطبيعي أن ابكي غيابه يومها. وكنت كالكثيرين أعيش أمل عودته، فلم نكن معتادين على خطف وغياب وتغييب. ومع ذلك صار غيابه اساسيا في قاموس الامل لدى الكثيرين من الشعب اللبناني.
لم يطل غيابي في قبرص كثيراً، كما كل اللبنانيين، لحظة اعلان وقف اطلاق للنار، ولو مؤقت، تراهم يحملون حقائبهم ويعودون، وعدت وفي حقيبتي فكرة برنامج "صدى السنين" التي طرحتها على تلفزيون لبنان ونلت الموافقة عليها.
تلك الفكرة جاءتني بفضل انتظاري عودته، وانني سألتقيه في حوار على الهواء، والتقيت رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات سابقين كثيرين، ولم يزل الصدر يسجل الغياب.
في ذكرى غيابه الأولى، صبيحة اختطافه، فاجأتني ابنتي الصغرى إلهام بحضورها إلى الحياة. وكيف أنسى ذاك النهار العسير. اقطن في الحازمية. والطبيب الذي سيولدني في الجامعة الاميركية. الدكتور فايز سويدان. طرقات مقطوعة ودواليب مشتعلة وتظاهرات وصراخ وغضب. وانا في داخلي وجع وخوف. ولم يشفع لي كل حبي للإمام الصدر في ان اقطع الطريق بين الاشرفية والغربية. فولدت في المنتصف على يد صديقي الدكتور انطوان صابر. في مستشفى الحياة. كمنطقة وسط بين عالمين، بين مدينتين في مدينة واحدة.
إلهام ابصرت النور صبيحة غيابه الأولى، كنت وحدي. كل اهلي في الغربية، والطرق مقطوعة حتى اشعار آخر. ولا معين لي سوى الاطباء والممرضات.
لماذا أتذكر الامر بعد كل هذه السنوات؟
ربما لأني اكتب رسالة لابنتي في عيدها، وربما لعودة اعضاء المجلس الشيعي الأعلى لافتتاح المقر الذي كان يسكنه الصدر في الحازمية. وربما لأننا نعيش في ازدحام الانهيار الكبير.
أظن ان لحظة اختطافه كانت فاتحة للانهيار العام والكامل في لبنان.
كان رجلاً للحميع، إمام ليس للمحرومين فقط، بل لكل اللبنانيين، لهذا أحبوه دون استثناء.
غياب الكبار دائما يشكل الفاجعة، ينذر بالكوارث والانفجارات الكبرى.
هذه الايام ذكرى اختفائه، الاستاذ نبيه بري في هذه المناسبة سيخاطب اللبنانيين، عساه يقدم اليهم كلمة تحمل الامل. عساه بمباركة من الإمام الغائب يزرع فينا بعض الضوء، اتعبتنا العتمة والضياع.
ترى هل يكون عيد ميلاد ابنتي خيراً؟ هل تكون الذكرى ونحن في جمرة الازمة بداية انفراج؟ ما أحوجنا إلى الصدر في حضوره, وما أحوجنا اليه حتى في الغياب.