لا يمكن لأي باحث اذا أراد ان يدرس تاريخ لبنان الحديث والتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها منذ نحو ثلاثة عقود الى اليوم ان يتجاهل تجربة الإمام الصدر ودوره منذ وصوله الى لبنان في بداية الستينيات الى اخفائه في آب عام 1978، ولا يمكن لأي منصف، اذا أراد أن يدرس تاريخ الشيعة الحديث في لبنان وانتقالهم من المواقع الهامشية الاجتماعية والسياسية في الكيان اللبناني الى مواقع القدرة والمشاركة، والى خط الدفاع الأول عن هذا الكيان وسيادته ووحدته، من دون الاقرار بدور الإمام الصدر في التأسيس لذلك الانتقال الذي بدأ في منتصف السبعينيات على الرغم من انفجار الحرب الأهلية في وجه جميع اللبنانيين. ومن أراد أن يبحث عن عوامل نشوء المقاومة في جنوب لبنان ضد الاحتلال الاسرائيلي، وعن أسباب انتصار هذه المقاومة، فعليه العودة الى دعوات الإمام الصدر المبكرة منذ عام 1969 الى "الخدمة العسكرية الالزامية وتدريب ابناء الجنوب، وبناء الملاجئ للدفاع عن الجنوب".
عندما وصل الإمام الصدر الى لبنان في أواخر عام 1959، أدرك ان العقبات الثلاث التي تهدد استقرار هذا البلد ومستقبله وتقدمه هي على المستوى الداخلي الاستئثار بالسلطة وغياب العدل والتوازن، والتهميش والفقر والحرمان الذي يعيشه قسم كبير من اللبنانيين وفي مقدمتهم الشيعة، وهي على المستوى الخارجي التهديد الاسرائيلي واعتداءاته المتكررة من دون أي رادع ولا حسيب أو رقيب، ولم يكن تحديد هذه العقبات الثلاث معاً بالأمر اليسير الذي ندركه اليوم، فقبل أكثر من ثلاثين عاماً لم يكن الكثيرون في لبنان يرون في "اسرائيل" خطراً مباشراً، او يعتقدون أن عليهم اعداد العدة لمواجهة عدوانها المتكرر. ولم يكن الكثيرون يعتقدون بجدوى او بإمكانية انتقال الشيعة من مواقع التهميش والاستضعاف الى مواقع الثورة، وذلك أن قسماً كبيراً من رجال الدين الشيعة لم يكن يؤيد فكرة التدخل المباشر في القضايا السياسية، بل كان يؤثر العمل الدعوي والتربوي وتقديم الخدمات والمساعدات الانسانية من دون التصدي للأسباب التي دفعت الناس، والشيعة بشكل خاص، الى طلب تلك المساعدات. كما كان قسم كبير من السياسيين يعتبر ان تدخل "رجل الدين" (الإمام الصدر) في السياسة، يفسد الدين ويسيء الى السياسة، لأن هؤلاء السياسيين شعروا بأن ما يقوله الإمام الصدر وما يدعو اليه يكشف قعودهم المزمن عن حاجات الناس وتطلعاتها، وخاصة أننا نتذكر كيف كان ما يسمى بـ"الاقطاع السياسي" يحكم من دون اي مساءلة، ويورث الحكم الى أبنائه من دون أي مساءلة...
كان من الصعب بالنسبة الى رجل قادم من قم الى بلد متعدد الطوائف ومتعدد المشاكل والتهديدات أيضاً أن يحدد أولويات العمل التي سيضعها لنفسه، وخاصة ان قوة كثيرة سياسية وطائفية كانت قد وضعت اولوياتها لنفسها وللبنان منذ سنوات طويلة، فمن أين يمكن ان يبدأ الإمام الصدر؟ وكيف يمكن ان يؤسس لما يدعو اليه، اذا كانت الحرب الأهلية قد اندلعت في لبنان عام 1975 (في ذروة فاعلية الإمام الصدر) وكادت تطيح ليس فقط بما كان الإمام يدعو اليه ويعمل له، بل بلبنان كله؟ واذا كان واقع الشيعة الذين بدأ العمل بينهم هو واقع البؤس والشقاء والتخلف؟ وكيف سيمكن النهوض بهم، الى جانب شركائهم من الطوائف الأخرى في لبنان، وهم في أسفل السلّم الاجتماعي، والمناطق التي يعيشون فيها، لم يفارقها الاهمال والحرمان منذ الاستقلال؟
لم يكن يسيراً على الإمام الصدر ان يشق الطريق الذي يتطلع اليه في لبنان، فقد واجهه قسم من رجال الشيعة واعترضوا على ما كان يقوم به من مشاريع اجتماعية وانمائية ومهنية، وحتى على ما كان يقدمه من أطروحات سياسية حول حماية لبنان وتأسيس مقاومة لبنانية، كما شن آخرون من زعماء الاحزاب السياسية حملات شديدة وقاسية عليه ووزعوا الاتهامات ضده يمنة ويسرة. وبالاضافة الى ذلك كله لم يكن لدى الشيعة في لبنان اي اطار مؤسسي أو حزبي يمكن البدء من خلاله. فقد توزع الشيعة على الاحزاب اللبنانية كافة، وكانوا في عداد المقاومة الفلسطينية. وكانوا تحت رحمة هذا الزعيم أو ذاك ليحصل ابناؤهم على أبسط الوظائف وأدناها درجة... وربما لهذا السبب بدأ الإمام الصدر خطواته الاولى ببناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية التي ستكون الحجر الاساس لمشروع المقاومة الشاملة الذي تطلع اليه في لبنان، فقد أدرك ان المواجهة مع "اسرائيل" التي تحمّل الشيعة بسبب وجودهم في جنوب لبنان، القسط الأوفر منها، لا يمكن ان تتحقق من دون ازالة الغبن السياسي عن هذه الطائفة. ومن دون التنمية الذاتية لها على الصعد كافة. ومن دون الوحدة مع باقي المسلمين ومع سائر اللبنانيين. والى ذلك كله تأسيس مقاومة لبنانية لحماية لبنان، وحماية جنوبه، كما جاء في أول بيان له بعد انتخابه رئيساً للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى عام 1969.
عندما نقرأ اليوم تجربة الإمام الصدر بين 1960 و1978 سوف نكتشف مدى قدرة هذا الرجل على استشراق المستقبل ومدى ادراكه لخصوصية لبنان، ولأهمية العيش المشترك بين طوائفه، ولأهمية امتلاك لبنان القدرة والقوة لحماية نفسه من العدو الاسرائيلي. لقد شدد الإمام الصدر قبل نحو ثلاثين عاماً، على أهمية دعم المقاومة (الفلسطينية) وعلى ضرورة تأسيس مقاومة لبنانية الى جانبها. وهو الذي دعا الى الحفاظ على وحدة لبنان في ظل أكثر من مشروع داخلي وخارجي للتقسيم. والى الاستعداد لمعركة طويلة مع العدو، والى توسيع دائرة القتال ضد هذا العدو وتدريب جميع اللبنانيين... والى عدم اضعاف الجيش اللبناني ليمارس دوره في هذه المعركة، في الوقت الذي كان يتعرض فيه الجيش للاتهام والتشكيك... ولم يفت الإمام الصدر أهمية البعد العربي في دعم الجنوب والمقاومة، ولا مخاطر الاقتتال الداخلي الذي سيضعف اي مقاومة ضد "اسرائيل"..
ان التحولات الاساسية التي شهدها لبنان في السنوات الماضية هي ثمرة اساسية من ثمار الجهد الاستثنائي والرؤية الاستثنائية للإمام الصدر في لبنان. فقد تأسست المقاومة اللبنانية وحققت الانتصار على "اسرائيل"، وبات الجيش شريكاً في الدفاع عن الوطن وعن المقاومة... وانتقل الشيعة من موقع التهميش الى موقع الشريك في الوطن... وانصرفوا طيلة العقود الماضية الى بناء المؤسسات التي اتسعت وباتت تنافس مثيلاتها عند الآخرين..
ان فرادة الإمام الصدر أنه دعا الى ذلك كله، على مستوى لبنان وطوائفه، والمقاومة، وبناء المؤسسات والعيش المشترك قبل ثلاثين عاماً.. بهذا المعنى ان من يريد ان يكتب تاريخ لبنان الحديث عليه ان يعود الى تجربة الإمام الصدر حتى لا تكون كتابة هذا التاريخ مبتورة أو مجحفة..
