يولد القائد الكاريزمي من رحم ظروف تاريخية ونفسية، في أوقات الأزمات الحادة التي من مظاهرها التفكك والعجز والخضوع، والتي تترك شعوباً موغلة في الحضارة تسلم زمام مصيرها الى "فرد".. وقد يحمل هذا الفرد صفات الصلاح والخير والإنقاذ، مثل المهاماتا غاندي والإمام الخميني ونيلسون مانديلا.. وقد يتمتع هذا "الفرد" بمواصفات أخرى نراها في هتلر وموسوليني وستالين.
"هل تاريخ العالم إلا سيرة الرجال العظماء"؟ يسأل توماس كارلايل.. والإجابة طبعاً كلا، لأن التاريخ ينجب عظماء يصهرون مواصفاتهم الشخصية مع القوة الكامنة داخل الشعوب، ليعاد تشكيل المشهد وتوزيع الأدوار وتصويب حركة التاريخ لتصب في بحر العدالة والمساواة.
العدالة الاجتماعية
انطلق الإمام موسى الصدر في حركته من هذا العنوان: "العدالة الاجتماعية"، بعد أن لمس حجم الهوّة بين طبقة وأخرى وطائفة وأخرى. أيضاً التقط الإمام مكامن الخلل في تثمير الطاقات وتشتيت القوى، لكن العلاج يحتاج الى أكثر من طبيب مختص أحسن التشخيص. الوضع كان يحتاج الى قائد ينتهج الاستثناء في كل ما فيه، وهو ما امتلكه الإمام السيد موسى الصدر.
عنه يقول المطران بولس الخوري: "قامة طويلة، طلعة بهية، عينان ساحرتان، شخصية جذابة، ثقافة عالية، لغات كثيرة، دائرة معارف، جمال جسدي تلاقى مع جمال روحي، واكتمل الجمالان بفضيلة التواضع.. ولكن عظمة الإمام موسى الصدر ليست في كل هذه الشخصية، بل عظمته في أنه وضع شخصيته العظيمة ومواهبه المتعددة وكل طاقاته في خدمة الشعب".
وعنه أيضاً يقول السيد موسى الزنجاني: "أما من ناحية صفاء الفهم النابع من الفطرة وروح البحث عن الحقيقة المستندة الى الفهم الزلال النقي، فلا أستطيع أن أقدم عليه أحداً من الناس.. لا أحد".
انتزاع الحقوق
هو السيد موسى بن السيد صدر الدين بن السيد إسماعيل بن السيد صدر الدين بن السيد صالح شرف الدين، ينتهي نسبه الى الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام.
من الولادة في قم الى الدراستين الحوزوية والجامعية الى لحظة الوصول الى لبنان أواخر العام 1959، وصولاً الى تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحركة المحرومين، ولا نقول انتهاءً بالاختطاف، عبر كل هذه المراحل كانت المحطات كثيرة، وكذلك المواقف والصعاب وانتزاع الحقوق، ضمن منهج إحصائي علمي وميداني تتشعب منابره وسجالاته بين ما هو علمي وما هو سياسي وما هو اجتماعي أو ديني. فحين أراد تطوير استثمار الأرض وزيادة الإنتاج أرسل عيّنات من التربة الى مختبرات في ايران لدراسة مدى مواءمتها مع نبتة الشاي التي كان يطمح لتكون ضمن الزراعات في لبنان.
العلم والعمل
اذاً حضر الفكر العلمي والعملي عند الإمام الصدر، وأخذت حركته منحاً تجريبياً الى حدٍ ما، حيث ان المجتمع اللبناني يمتلك من فرادة التركيب ما ليس مألوفاً في مجتمعات أخرى. وقد احتاجت هذه الفرادة الى فرادة مثلها عند قائد كموسى الصدر.. من هنا نكتشف ان كل كاريزما خصوصية، وتكمن خصوصية كاريزمة الإمام الصدر في هذه المعادلة.
ان تشريح الخريطة النفسية لصاحب الكاريزما يميط اللثام عن أسرار ترتبط بسلوكه القيادي والسياسي، وهذا لا يلغي عوامل الثقافة السياسية التي تتدخل إيجاباً أو حتى سلباً في تشكيل شخصية القائد، غير ان الأسلوب الذي تجري فيه عملية تلقيه هذه الثقافة، يظل محكوماً بـ"موروثات" ثقافية اجتماعية تتدخل بدورها أثناء تلقيه المعرفة والحقيقة. وهنا نلمس الخصوصية عند الإمام الصدر الذي نشأ وترعرع في مكان (ايران) وعاش القيادة في مكان آخر (لبنان)، وللأمر إيجابيات كثيرة أبرزها الإطلالة على المشهد الآخر (اللبناني) من نافذة محايدة نسبياً، حيث لا آراء مسبقة ولا أصدقاء مسبقين ولا أعداء مسبقين أيضاً، بل هناك مشهد عام. لاحتواء كامل صورته عليك ان تبتعد ـ نفسياً وجغرافياً ـ ثم تنظر ثم تكتشف عبر الدخول في المشهد والتعمق في تفاصيل تفاصيله وعيش لحظاته المرة والحلوة، مع ما في الأمر من آلام مخاض وفرح ولادة.
ان سحر الإمام السيد موسى الصدر كضفيرة ينجدل فيها المضمون بالشكل بالأسلوب وبالتعب.. تعب كثير..