من لا يذكره؟ هو الثوري، الخطيب المفوَّه، الشجاع. له ذلك الصوت وتلك الحنجرة. قوة مقاومة بكلام وفعل. من طينة مباركة ولد، لم يفارق التعب والجهد. اختار العلم رفيقاً والعمل في آن معاً. فلم يهدأ أبداً، ترك في ساحات عدة أصداء خطبٍ حوّلت بؤس الواقع الى يُسر. في البقاع والجنوب وبيروت، وقرب الحدود مع الكيان الصهيوني أيضاً وقف خطيباً ليؤكد أن العدو زائل وأن النصر آتٍ.
رفيق مخلص للإمام موسى الصدر، خازن أسراره ومستشاره الخاص هو الشيخ محمد يعقوب.
يتحدر الشيخ محمد يعقوب من عائلة فقيرة، كان والده موظفاً في البلدية. انكب الشيخ على التحصيل العلمي، فوصل الى مراحل متقدمة ونال إجازتين جامعيتين: الأولى في الرياضيات والثانية في العلوم من الجامعة اللبنانية.
درس الفلسفة، ومن هنا حوّل مساره الى الدين، "نحن أتينا لنديِّن السياسة وليس لنسيِّس الدين". عُين قائداً عاماً في حركة المحرومين آنذاك، وكان المسؤول التنظيمي العام في الحركة. وفي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، عينه الإمام الصدر مستشاره الخاص، وأمين سره.
نهج في الحياة
الأولوية لديه هي العلم، فأعد رسالة الماجيستير في العلوم الفلسفية في جامعة السوربون الفرنسية بعد قراره الذهاب الى النجف ليتشرف بالدراسة على يد السيد محمد باقر الصدر (قده). يقول فيه نجله الدكتور علي يعقوب (مدير المركز اللبناني للإنتاج الأنظف في منظمة الأمم المتحدة): "عُرف والدي بذكائه الحاد وبسرعة بديهيته وبقوة حافظته. هذا الكم من العلم وتلك النوعية من الذكاء ساعداه للتواصل مع الإمام الصدر. عرفا بعضهما قبلاً في النجف الأشرف".
وأيضاً، نال الشيخ محمد يعقوب دكتوراه فخرية من جامعة القاهرة.
تميز الشيخ يعقوب بإطلالة على الملفات الإقليمية والدولية، كانت له شخصية فريدة، زاد من فرادتها ثورة الفكر التي خرجت منه.
ولذلك، يرى الدكتور يعقوب أنه "إذا كانت هناك مؤامرة لاختطاف الإمام، فلا بد من إخفاء الشيخ أيضاً، حتى لا يبقى من ينبه الناس الى المتآمرين".
أعطى الإمام والشيخ بعداً خاصاً لعملهما في الساحة اللبنانية، دخلا الحياة المتنوعة في لبنان، وتمسكا بالتعايش الإسلامي ـ المسيحي فهو، كما قال الإمام الصدر "ثروة يجب التمسك بها".
وألقيا خطباً في كنائس كثيرة، وأقاما حواراً مع مختلف الطوائف اللبنانية فاستطاعا تقريب وجهات النظر.
يصف الدكتور يعقوب والده: "كان ثورياً، شاعراً وخطيباً مفوهاً جداً، شجاعاً. كل أترابه يصفونه بذلك لأنه ما برح الشارع يلامس الخطوط الحمراء مطلقاً مسيرات وتظاهرات شعبية ساهمت في تحسين الواقع السياسي".
جبشيت.. حد الحياة والموقف
يروي الدكتور يعقوب حادثة حصلت في قرية جبشيت الجنوبية: توجه الشيخ الى هناك ليحضر تأبين شهيد في حركة المحرومين في أربعينه، وقف الشيخ على المنبر قائلاً: "نصحني بعض الإخوة ألا آتي، لأن حياتي ستكون مهددة. لكن الإمام الصدر والشيخ يعقوب يرفضان أن يكونا بعيدين عنكم، نحن في الخندق الواحد وصدورنا مكشوفة للعدو أمام صدوركم وبينما هو يخطب، بدأ القصف بقرب الحسينية. ارتبك الحاضرون لكن الشيخ يعقوب هدأ الاضطراب بصوته: ابقوا في أماكنكم، وتبسم قائلاً: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. ووجه خطاباً الى العدو الصهيوني: فليسمع من كانت له أذنان وليرَ من له عينان، فليسمع وليرَ موشي دايان أنني ربما أصبح كناساً وربما أصبح فراشاً، وربما أبحث عن عيشي في روث المواشي، لكن يا عدو الشمس لن أساوم (...)، سأقاوم (...) حتى آخر قطرة من دمي سأقاوم".
يتابع الدكتور يعقوب "هذه الشجاعة المميزة حققت انتصارات نوعية في فترة زمنية قصيرة".
الإمام والرفيق
الشيخ محمد يعقوب كان الممثل الدائم للإمام في المحافل كافة، حين لا يتمكن الإمام من حضور اجتماع أو مؤتمر. مثّله الشيخ في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في موسكو، ورأس الوفد الى المؤتمر الإسلامي في القاهرة أيضاً".
يفهم ما يريد الإمام بنظرة، والإمام يلمح السؤال وجوابه في عيني الشيخ. "من خلال الإشارات يعرفان ما يريد أحدهما من الآخر، وفي مواطن كثيرة طبقوا ذلك ونجحا في تحقيق مرادهما".
ويذكر الدكتور يعقوب إحدى الجلسات "توجد صورة يظهر فيها والدي والإمام جالسين على الدرج، الإمام ينتظر موعد لقائه الرئيس إلياس سركيس وقتذاك، والشيخ يعقوب وصل من دمشق بعد زيارته الرئيس الراحل حافظ الأسد وجلس بجانبه ليخبره عن أجواء الزيارة، في ذلك دلالة على صلتهما الوثيقة وعلى كيفية دراستهما للأمور".
العائلة والوالدان والرعاية
يتحدث نجله عن الأب الحنون، فهو يعطي كل ذي حقّ حقه، وإذا جالس طفله يشعره بأنه مميز، وبرغم الوقت القصير المتاح شعرنا أن واحدنا قريب جداً من الشيخ محمد. كان يعوّض بذلك ساعات غيابه عنا".
الدكتور يقول: "وبالنسبة الى الخدمات، كان أبي رجلاً "خدماتياً" بامتياز، لا يقبل بوجود مظلوم في سجن، أو أن أحداً لا يملك خبزاً، يأتي أحد الناس إليه في ساعة متأخرة من الليل لمسألة ملحة، فيخرج معه ليقضيها له، متواضع، يحترم الآخر الى حد كبير".
روت جدتي له حادثة، "كان جدي عاملاً بسيطاًَ في البداية، وكان والدي على موعد مع أحد السفراء في منطقة الحازمية. وصودف أن جدي كان يصلح الرصيف بجانب السفارة. والسفير ينتظر وصول والدي عند الباب، وصل الشيخ، وفوجئ بجدي في ذلك المكان. جلس بقرب أبيه وتحدثا لعشر دقائق، والسفير ينتظر!! لم يستحِ لكون أبيه عامل البلدية". ولعل قول السفير كان: "من هذا الرجل الكبير، يجلس وأباه على الرصيف..".
استعداد.. ثبات
لم يتغير شيء في تصرفات الإمام الصدر والشيخ يعقوب قبل السفر الى ليبيا: ليست المرة الأولى، "فأبي أشرف سابقاً على التنسيق مع الليبيين في مواضيع عدة"، ويضيف الدكتور علي يعقوب "كان لدى الاثنين قلق من لقاء القذافي بسبب غموض نتائج الزيارة، لكن تصرفاتهما بقيت على حالها".
وينقل الدكتور علي ما عاشه عمومته مع الشيخ، يخرج أبي عند الساعة السابعة صباحاً، ويعود عند الثانية ليلاً، إذا عاد...
وفي إحدى المرات بعد عودته مع عمومتي وأخي، كان الجميع متعب فطلب كتاباً ليقرأه. فقالوا له: "نم يا مولانا، غداً لنا موعد باكراً في بيروت". لكن الشيخ بقي مستيقظاً، منذ الثانية ليلاً الى الصباح، وجدوه على تلك الحال. لم يفوِّت أي فرصة للقراءة".
وصايا
عندما يحين وقت الراحة، النادر، يلجأ الى النارجيلة (الشيخ يعقوب)، ويسرح بأفكاره مفكراً. ينظر الى كفه ويقول: "أنا في الثلاثينات ستحصل لي محنة، وهذا الكف سيبقى أبيض مهما حصل". أوصانا أبي، ويكشف الدكتور يعقوب قائلاً: "ابقوا أكفكم بيضاء ولا تلطخوها بدم أو بفساد أو بخطأ لأن الإنسان لا يبقى له الى آخرته إلا الكف الأبيض".
هذا هو الشيخ محمد يعقوب وأما نجله الدكتور علي، ففي قلبه لوم كبير تجاه المسؤولين، "لم يجرِ الحفاظ على عائلتي الإمام والشيخ كما يجب، في خضم الفوضى، والمضايقات، سافرنا الى الدانمارك في أواخر 1989، وبفضل الله تبوأنا مراكز مهمة بعد نجاحنا في الدراسة".