* مقال افتتاحي في جريدة "فلسطين الثورة" بمناسبة عيدها الحادي عشر للمقاومة الفلسطينية بتاريخ 1 كانون ثانٍ 1976
مع ولادة العام الميلادي الجديد تبلغ الثورة الفلسطينية عامها الحادي عشر وهي تقوم على رفض اعتماد الكلمة الفارغة في ساحات الجِدّ والنضال في وقت ابتلت هذه الأمة بكثرة الكلام وبالمبالغة في التحليل حتى أصبحت الكلمة تغني عن العمل. لذلك، فإنني أجد انجذابًا إلى الاختصار في التعبير عما يخطر بالبال في هذه الذكرى التي تمتاز من بين الذكريات السابقة بمزيد من الانتصارات وبمزيد من الأخطار:
1- إن إسرائيل في الحقيقة هي الثمرة الطبيعية للحضارة المادية المعاصرة وحصيلة تفاعلاتها وتناقضاتها وأسسها وتوازناتها، حتى إنه يمكننا أن نعتبر وجود إسرائيل نتيجة المنطق المسيطر على العالم المعاصر والمصالح التي تتحكم فيه، والقناعات والمشاعر التي تسود العقول والقلوب.
إن أوروبا بعد أن تجاوزت القرون الوسطى، واعتبرت حضارتها الجديدة رسالتها العالمية، ثم تسلسل الأحداث بدءًا بالثورة الصناعية حتى مرحلة الصعود إلى القمر وما تضمنته هذه الفترة من الإنتاج الصناعي وزيادة الإنتاج، والبحث عن السوق، والاستعمار، والحروب، والتمييز العنصري، والاستثمار، والثورات العمالية، وتحرك الشعوب، وانقسام العالم إلى المعسكرات، وبدايات فاعلية العالم الثالث وغير ذلك. إن العالم خلال هذه الأحداث والتفاعلات كان في وضع حضاري معين أنجب إسرائيل وأبقاها وسهَّل لها الاعتداء بكل معاني الكلمة. لذلك، فإن إسرائيل هي مرآة تعكس العالم المعاصر بدقة. وعندما ترفض الثورة الفلسطينية هذا الوجود، فهي ترفض - على خلاف بقية الثورات - أسباب وجود إسرائيل وعناصرها، وهذا الرفض بالذات هو تمرد على العقلية السائدة في العالم والمدبرة لشؤونه، إنه رفض للمنطق السياسي المتحكم ولأبعاده الحضارية.
إذًا، فالثورة ميلاد لحضارة جديدة وإرهاص لعالم آخر لا ينجب في تفاعلاته مثل هذا الكيان. ميلاد حضارة القيم لا المنافع الذاتية، حضارة العدل لا القوة، حضارة الحقائق لا الإعلام المضلل.
2- وبالإضافة إلى هذا الرفض العام لواقع العالم المعاصر، فإن الثورة هي رفض لواقع العالم العربي الذي سبق ورافق وجود إسرائيل ولم يزلْ يرافق بقاءها واعتداءاتها.
إن الغياب والغفلة والتساهل والمصالح الذاتية والضعف ونوعًا من الخيانة، هذه العناصر كانت سائدة في عالمنا العربي وكانت الباعثة لوجود إسرائيل.
والثورة بتكوينها تحاول أن تضع مكان العناصر السائدة عنصر الحضور والانتباه والحزم والأمانة والقوة؛ ولذلك، فإنها ميلاد جديد لهذا العالم أيضًا.
3- أما الإسلام العظيم فقد جاء رحمة للعالمين واضعًا أساس الجهاد إلى جانب العدل والرحمة في قواعده معبِّرًا في هذه الآية الكريمة عن واقعه: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز﴾ [الحديد، 25].
ثم أُصيب فيما بعد، أيّ بعد قرنين وزيادة تقريبًا، بانتكاسة فانفصل عنه الجهاد وحاول أبناؤه أن يتجنبوا الموت فوقعوا في الموت الدائم، وطمع فيهم وفي بلادهم الأعداء، فاستدرجوهم وسيطروا عليهم، واستثمروا ثرواتهم، وصنّفوهم واحتقروهم وأخرجوهم من التاريخ.
وكانت الثورة الجزائرية في غرب البلاد وانتصرت، وكان لا بدّ من قيام ثورة في موطن الإسلام في الشرق، لكي تعيد الجهاد إلى جسم الإسلام وتصحح الصورة ويبقى الإسلام دين العزة والرأفة، دين الحق.
4- والمسيحية المجيدة التي انطلقت من شرقنا حاملة قيم السماء وإبعاد الشرق، عمقه وتسامحه وانفتاحه. ثم انتقلت إلى الغرب الوثني المادي فحاول الأخير تقمصها وكشف بقسوته وتعصبه وأنانيته عن وجه بشع هو أبعد ما يكون عن المسيحية، ثم اعتدى على الشرق محاولًا استعماره واستعمار أهله مسيحيين ومسلمين. فخلق تناقضات واستغلّ الفروق وتسلل من الثغرات وكان رغم غطائه بعيدًا عن الفقر والتواضع وعن التفاني والمحبة السامية الإنسانية، أيّ إنه بقي بعيدًا عن الصفات الأساسية للمسيحية.
ومن هنا جاءت المحنة، محنة التعايش. وقد حاولنا أن نجسّده في مجاملات ومظاهر وفشلنا. فسادت العقلية المادية الغربية القاسية واتهمت المسيحية كالإسلام.
أما الثورة فإنها تحاول بلورة التعايش بلقاء الأرواح وبامتزاج الدماء وبالعمل من أجل غد وبناء مستقبل مع تجاوز الماضي القريب. إنها تنظر إلى السماء وتتطلع إلى سموّها لا إلى الأرض وآلامها. إن الثورة يمكنها أن تكون للمسيحية ميلادًا وللتعايش واقعًا آخر ناجحًا.
5- وأمام الأفكار الاجتماعية الحديثة وأمام اليسار الفاعل بالذات، تقف الثورة الفلسطينية متحدية كالينبوع المتدفق وتُصنِّف ولا تُصنَّف، تتحرك وتتقدم وتحرر.
جاءت الثورة لكي تولد مع ولادتها المقاييس الجديدة التي تتجاوز التفكير والتحليل والتصنيف إلى وضع الحقائق والعطاء الفعلي في الساحة، تلك المقاييس التي تتخطى جميع الحركات التقدمية الأخرى لسببين:
الأول عطاء الثورة الدائمة المتجددة لاحتياج المعركة الدائم، حيث إن التوازنات والمعادلات المتجددة باستمرار على الصعيدين العربي والعالمي تعقد المواقف وتضع عراقيل في الطريق أو تحاول الاحتواء والتمييع والتشويه للحقائق.
والثاني اعتماد الفداء أساسًا للثورة وهذا يقلب كل المقاييس المعتمدة، لأن تلك المقاييس تأخذ بعين الاعتبار في المعركة كافة القوى الفردية والجماعية المادية والأدبية المتوفرة للإنسان الحيّ. بينما يضيف الفداء إلى هذه القوى، قوة الاستشهاد ونتائجه الخارقة التي تتجاوز المنطق المادي وتحول القوة المحدودة المتواضعة لدى المناضلين إلى القوة اللامحدودة.
إن الثورة من خلال هذه المنطلقات، ومع هذه المعطيات تتحول إلى معيار جديد للتقدمية والتحرر، وإلى دفع مستمر للإنسان نحو الأمام. ولذلك، فإنه لا يمكن تصنيفها يمينًا ويسارًا وتقدمية ورجعية ولا حتى محافظة ورافضة، لأنها الرفض في جوهره، والتقدم في اساسه، واليسار في مفهومه الأصيل أيّ السعي للتغيير.
إن التقدم في عالمنا العربي يقاس بمقدار العطاء للثورة وليس بمقدار ما يحمل كلّ منّا من افكار وتحليلات قد تكون متناقضة لحدث واحد أو لظاهرة واحدة. لذلك، فقد وقفت الثورة حتى الآن صامدة أمام التصنيف رغم المحاولات الحثيثة المحلية والعربية والعالمية ورغم الاتهامات، بل إن الأحزاب التقدمية تبنت فصائل عسكرية من المقاومة أو أسست فروعًا لها عسكرية تعمل ضمن الثورة الفلسطينية، ذلك لكي تنال بركة الثورة وتأخذ شهادة البراءة منها.
إن النقطة هذه تبقى مجال الدراسة والتعمق، حيث إن المحاولات على مختلف المستويات ومن الصديق قبل العدوّ، مستمرة لأجل تصنيف الثورة وإذا نجحت الثورة الفلسطينية في هذا المجال - وإنني متأكد من ذلك - فسوف نجد أنفسنا أمام ميلاد عالمي جديد، وأمام تاريخ جديد بكلّ ما للكلمة من معنى. والمعروف أن الإنسان في العالم كلّه بدأ يتحسس بهذا المخاض ويتطلع إلى الشرق وإلى الثورة الفلسطينية بالذات.
6– وأخيرًا، فإن هذه الأبعاد الخمسة للثورة والآمال التي ترافقها منذ ولادة الثورة عام 1965، كانت ترافق بداية السنة الميلادية والهجرية.
وهذه المقارنة تضفي على الثورة حلة جديدة وتجعل الأحاسيس الدافئة تملأ المشاعر فنحس بل نكاد نلمس ولادة جديدة للانفتاح والتعايش والقيم.