بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة تظل كلمات الإمام الصدر وقفةً ملهمة في وقت يواجه فيه الإعلاميون تحديات جسيمة، تتراوح بين القمع والتهديد المباشر وصولًا إلى الاغتيال ما يهدد مستقبل الحريات الإعلامية. هذه الانتهاكات ليست جديدة، فقد عانى الصحافيون لعقود من التضييق، وفي هذا السياق، وقف الإمام في 30 أيار 1966، بعد أسبوع من اغتيال الصحافي كامل مروة، مدافعًا عن حرية الصحافة بوصفها حجر الأساس في بناء المجتمع الحر. نص الإمام كاملًا بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة:
رحمك الله يا أبا جميل، لقد كنت فذًّا عبقريًّا في موتك، بعد ما كنت فذًّا عبقريًّا في حياتك.
متَّ وأنت في الساح، سقطت في ساحة الصحافة، ووقعت صريعًا في محرابها.
فالصحافة أيها الإخوان محراب لعبادة الله ولخدمة الإنسان، والصحافة أيضًا إذا ما قامت بواجبها فهي مخدع للشيطان.
الصحافة من أهم ميادين الجهاد وأدقها، فالصحافة تكوِّن الرأي العام، وتساعد في خلق الثقافة العامة، فهي بدورها تحاول أن تهيئ غذاءً للروح، تنميها وتخلق مرحلة جديدة من الروح، تناسب مستوى ثقافة المجتمع. فالروح أيها الإخوان، وإن قلنا إنها ليست جسمانية الحدوث، فلا شك أنها تنفعل انفعالًا كليًّا بالثقافة العامة، وتعطي الثقافة العامة صورة جديدة للروح تختلف عن سائر صورها. فالصحافة بدورها، في تكوين الثقافة العامة وتوجيه العاطفة للجماهير، تعطي صورة جديدة للروح، بل قُل تكوِّن مرحلة جديدة من النفس الإنسانية.
ومن ناحية ثانية، فالصحافة بمراقبتها وتوجيهها للمجتمع وأعمدة المجتمع، بتوجيهها للدولة وللحكومة وللمؤسسات، بمساهمتها لتنظيم الاقتصاد والسياسة، تلعب الصحافة بهذا دورًا كبيرًا في تنظيم مجتمع الإنسان، بيئة الإنسان، خادم جسد الإنسان. فالصحافة تكوِّن المرحلة الجديدة من الروح من ناحية، وتساعد في خدمة بدن الإنسان من ناحية أخرى. فبإمكاننا أن نقول إن الصحافة هي إحدى دعائم تكوين الإنسان المدني.
لا أريد أن أمدح الثقافة أمام رجالها وفي بلدها وأمام جماهير قرائها، ولكنني أريد أن أستخلص من هذا البيان نقطة، أذكر نفسي وإخواني بحساسية مقام الصحافة. فالصحفي بإمكانه أن يخلق المجتمع الصالح؛ وهو حينما يكتب كلمة أو ينشر صورة أو يبرز عنوانًا أو يفسر ويكتب تفسيرًا للأحداث، يعرف حينما يعمل هذا أنه يكوِّن الإنسان في المرحلة الجديدة، فبإمكانه أن يكون أبًا مرشدًا مخلصًا صديقًا، وبإمكانه أن يكون خائنًا محرفًا للكلم عن مواضعه.
فالصحافة من أهم ميادين الجهاد، ومن أسبق أعمدة تكوين الإنسان المدني. هذا المقام للصحافة يفرض على الصحفي واجبًا تجاه المجتمع، ويعطيه حقًّا على المجتمع. حقه على المجتمع هو واجب المجتمع أمامه، وواجبه للمجتمع هو حق المجتمع عليه. حقه على المجتمع أن يعطي المجتمع له الحرية. نعم، الحرية ويصونه عن أسباب الفساد والانحراف.
أما الحرية، أيها الإخوة كما تعلمون، هي أفضل وسيلة لتجنيد طاقات الإنسان كلها، فخدمة الفرد أي فرد في مجتمع لا تسوده الحرية، خدمة هذا الفرد جزء من طاقاته لا جميع طاقاته. ولا يمكن للإنسان أن يجند جميع طاقاته، وينمي جميع مواهبه إلا إذا أطلقت له الحرية. فالحرية أفضل وسيلة لاستثمار طاقات الفرد ولاستخدام جميع طاقات الفرد في خدمة مجتمعه. والحرية أيضًا اعتراف بواقع الإنسان، بكرامة الإنسان، حسن الظن بالإنسان؛ بينما عدم الحرية إساءة للظن بالإنسان، وتقليل لكرامة الإنسان وشك دائم في صلاحية الإنسان. لا يقوم بتحديد حريات الفرد إلا من كفر بفطرة الإنسان، ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ [الروم، 30]، الفطرة التي هي النبي الباطن للإنسان.
فالحرية خدمة للصحفي، حق للصحفي على المجتمع ولكن الحرية خدمة للمجتمع بدوره. ولا صيانة للحرية إلا بالحرية، فالحرية بعكس ما يقال لا تُحد أبدًا، وحدود الحرية إلى اللانهاية. فالحرية لا تُحد حتى عند حد حرية الآخرين على حد التعبير الشائع. بل الحقيقة إن الحرية الكاملة هي الحق، هي من الله، لا حد لها.
ولكن الحرية الحقيقية هي الحرية من أسباب الضغط الخارجي ومن أسباب الضغط الداخلي. فعلى حد تعبير الإمام: من ترك الشهوات كان حرًّا. فإذا نريد أن نبين ونحدد الحرية، نفسرها بأن الحرية تحرر من الغير وتحرر من النفس. وإذا فسرنا الحرية بهذه الطريقة بإمكاننا أن لا نعتقد بوجود حد للحرية، لأن الحرية التي تصطدم بحرية الآخرين عبودية للنفس، ومتابعة للشهوات. فالحرية التي تحصل من الجهاد تحصل على حد تعبير النبي الكريم بالجهاد الأصغر، وهو الجهاد مع الأجنبي المستغل المسيطر، ومع الجهاد مع النفس الجهاد الأكبر، التحرر من الشهوات. ولعل أفضل طريقة لتكريس التحرر من النفس أسلوب النقد الذاتي مع مشاركة المصلحين في الرأي.
فحق الصحفي على المجتمع تأمين الحرية له، وفي هذا الحق خدمة للمجتمع أيضًا. ومن حق الصحفي أيضًا أن المجتمع يصونه ويمنعه من بواعث الضغط المالي والمغريات والضغط الروحي، وبهذا فقد خدم المجتمع نفسه وأدى دوره واغتنم جميع طاقات خادمه ومجاهده. فالحرية، هذه الطريقة المثلى لتجنيد طاقات الصحيفة ولطاقات كل خادم، هي الطريقة المثلى لأداء هذا الحق.
فالصحفي لا يُهان، والصحفي لا يُحارب بالضغط. والصحفي لا يُحارب بالفقر والصحفي لا يُغتال.
أما الاغتيال فهو من أسوأ الأساليب وأفشلها وأجبنها في خدمة الهدف، أي هدف كان. ثم إن الاغتيال ظاهرة اجتماعية خطرة أيضًا، لأن المحاكمة والحكم والتنفيذ بيد شخص واحد. فإذا انفتح هذا الباب فلا يمكن للمجتمع أن تسوده العدالة، لأن من يجب أن يحكم بالعدل، يبتعد عن الأجواء التي يحاكم المجرم فيها المُغتال ويحكم عليه بالإعدام، ويؤكد وينفذ ما حكمه في هذا. ولهذا، الواجب على حماة المجتمع، الواجب على المجتمع، وعلى حماة المجتمع لو كان للمجتمع حماة أن يعالجوا ظاهرة الاغتيال علاجًا قطعيًّا جذريًّا.
رحمك الله أبا جميل،
لقد متَّ، ولكن الموت أبدًا ليس فناء، ولا انعدامًا. الموت عند المؤمن تحول من الأرض إلى السماء، ومن المحدودية إلى اللامحدودية. الموت توسع، الموت تحطيم للقيود. ألسنا نؤمن بالقرآن الكريم الذي يقول: ﴿الذي خلق الموت والحياة﴾ [الملك، 2]! فالموت خلقٌ لا انعدام، الموت خُلِق، وخُلِق قبل الحياة فلا حياة إلا بعد الموت.
فظاهرة الموت ثم الحياة حقيقة التحول والتطور والتكامل. فلا تحول إلا مع الموت عن المرحلة الحاضرة، ولا تكامل إلا مع ترك الإنسان للمرحلة التي يعيش فيها. فالبذرة الجامدة إذا ما ماتت لا يمكن أن تتحول إلى نبات، والنبات إذا ما مات عن نباتيته، لا يتحول إلى حيوان ثم إلى إنسان. والإنسان، حتى الإنسان الحي حينما يفكر تموت خلايا جسمه وتتفجر خلايا جسمه لكي تتحول إلى الفكرة. فتحول الخلايا الجسدية في الإنسان إلى الفكرة، لا يمكن أن يكون إلا بعد الموت من الحالة الحاضرة. فالموت سبيل الكمال، والموت مقدمة للتحول، والموت خلود، والموت سبيل لانكشاف الحقيقة.
رحمك الله أبا جميل، وبعث لأهلك وذويك وزملائك ومحبيك ومواطنيك ووطنك، الصبر الجميل، وألهمهم أن يخلقوا من موتك حياة فضلى.
والسلام عليكم.
_________________________
* كلمة للإمام الصدر في تأبين الصحفي كامل مروه في الزرارية بتاريخ 30 أيار 1966، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات.
