أُلقيت في "الندوة اللبنانية"، بتاريخ: 6/4/1964، ونُشرت في "منبر ومحراب" في 31/8/1981.
لدى إذاعة نبأ عزم السيد محسن الحكيم، المرجع الأول للشيعة في النجف بالعراق، على الحج إلى مكة وزيارة المدينة هذه السنة، رغبت الندوة إلى عالم مختص بالشؤون العامة للطائفة الشيعية أن يحاضر على منبرها فيلقي الأضواء حول هذا الحدث، ويوضح جوانبه وأبعاده للبنانيين عموماً. ولقد فعلنا ذلك مشاركة من الندوة في ايضاح أمور يجدر بجميع اللبنانيين أن يعرفوها سعياً إلى انفتاح العائلات الروحية في هذا الوطن بعضها على بعض. ولقد لاقت رغبتنا صدى مستحباً عند السيد موسى الصدر، وها هو الليلة بيننا في عقله وقلبه.
أجل! سيتحدث إلينا سماحته بفيض من العلم، غير أنه سيضفي على علمه العميق نبل الانفتاح فيخلص من الاضواء إلى التأمل بما يقرب الإنسان من أخيه الإنسان حيث يكمن الله، ثم بما يشد بالمخلوقات جميعاً إلى الإله المتسامي، عز وتعالى.
"محاضرات الندوة اللبنانية بذور للمعرفة نغرسها في مزرعة الزمن، فإذا أثمرت وآتت أكلها، تحققت غايتنا، وأدركنا أمانينا، ولا فرق أن يكون هذا في أيامنا أو في العصور القادمة".
بهذه الجملة افتتح الأستاذ ميشال أسمر حديثه معي، وكفى بهذا الهدف المقدّس بدءاً وختاماً! وسأكون سعيداً جداً، إذا وُفّقت بمحاضرتي الليلة لتكون بذرة في هذه الأرض الطيبة، حتى إذا استقامت، أدت واجبها للحياة وشاركت في بناء الفكر الحضاري، وحسبي هذا وفاء للأرض المتعهدة بالنماء، الزاهرة بالعطاء.
الإنسانية تعيش بوجود واحد يتفاعل بمختلف أجزائه بعضه مع بعض، وكلما ارتقت ثقافة الإنسان وازدادت معرفته، تجلّت هذه الحقيقة وازدادت وضوحاً.
وتجزئة هذا الوجود خلاف للناموس الإلهي، إذ خلقه موحداً. وهي خلاف لطبيعة الإنسان وفطرته التي تنـزع الى هذه الوحدة، كما أنها خلاف لمصلحته العليا القائمة على التعارف والتعاون والتفاعل بين أبناء الأسرة البشرية.
فمحاولة التجزئة تحمل خطورتها بين طيّاتـها كيفما انتسبت وبأية صورة ظهرت، ولو أُلصقت بأقدس مقدّساتنا كالدين والوطن، فكيف بها إذا انحرفت مع الأهواء فبرزت باسم العنصرية والطائفية واختلاف المستوى الحضاري بين الشعوب؟
نحن نعترف بحقيقة الفرق بين أفراد البشر، ولكننا نقرّ ونؤكد أنّ هذا التفاوت يجب أن يكون سبباً للحركة والتعارف، وموجباً للتعاون والتبادل والتكامل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" [الحجرات: 13].
نعم! إنّ هناك ميزات وتراثاً خاصاً، وتجارب لكل شعب، لكل عصر، لكل طائفة، ولكل منطقة. فوجب أن تبرز وتتضح لبقية الأفراد حتى يأخذوا من صالحها: النصيحة، ويفهموا من معناها: الفكرة، ويستفيدوا من نجاحها: الطريقة. وبهذا تتمكن الإنسانية أن تستمر في سيرها الطبيعي نحو الكمال والرفاه والسعادة.
والطريق الطبيعي للوصول الى هذه الغاية النبيلة إنما هو التعريف عن حقيقة تجربة فئة لها دورها الفكري ولها أسسها في توضيح العقيدة، ولها خصائصها العلمية. وإخفاء هذه الحقائق والميزات يوجد شيئاً من التخوف والحذر، تشوبهما غالباً عناصر أخرى، فتمنع التفاعل وتتحول الى روح العداوة وعدم الثقة.
في هذه المحاضرة المتواضعة تشعرون، أيها السادة، بمحاولة لتعريف جامع عن الشيعة، الاجتهاد، المرجع، المرجع الأول، الحج والكعبة، ولعلنا نساعد بعض الشيء ندوتنا في هدفها النبيل، فنقدّم للمستمعين الى محاضرتنا هذه، هدية تعادل سعيهم للحضور، وشكراً عملياً مع شكرنا المعنوي.
وأنا واثق من أنّ المزرعة النموذجية التي هيأها الله سبحانه لنا، أعني لبنان، سوف تساعد أرضها الخصبة، من جهات متعددة، على أن تقوم بهذه المهمة، وسوف نرى أكثر من قبل أنّ أماني الندوة تتحقق، وأنّ الأستاذ ميشال وزملاءه يجنون ثمار أعمالهم ومساعيهم الخيّرة كل حين.
كما أني آمل أن يستمر هذا النوع من البحث، وتشمل المحاضرات مواضيع تلقي الأضواء على حقيقة ما لدى جميع الفئات والشعوب والأقوام: أعضاء هذا الجسم.. جسم الإنسانية.
إنّ موضوع محاضرتنا هو "مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة"، فلندخل في صميم موضوعنا، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الشيعــة:
الشيعة فِرقة من المسلمين ينتمون الى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ويعتبرونه نموذجاً كاملاً للمسلم ومرآة تامة لنبي الإسلام محمد (صلوات الله عليه وآله).
أصل الكلمة مأخوذ عن حديث نبوي شريف جاء في كتب الحديث، كـ"الصواعق المحرقة" لابن حجر، و"النهاية" لابن الأثير، و"الدر المنثور" للسيوطي، إذ قال النبي: "يا علي إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين".
ولقد كان في طليعتهم جمع من كبار صحابة الرسول، كفاطمة بنت رسول الله، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار، وبنو هاشم، حسب نقل الطبري وابن قتيبة والمفيد والطبرسي وغيرهم.
وفي إمكاننا أن نلخّص ما تختص به الشيعة من بين سائر الفرق الإسلامية في أمرين:
الأمر الأول: موضوع الخلافة.
الأمر الثاني: الموضوع الماثل بين أيدينا اليوم، أي موضوع الفقه الذي يشمل جميع أعمالنا، من عبادات ومعاملات.
الخلافــة:
إنّ الإسلام، بما أوتي من المحتوى في مجالات العقيدة والأعمال والأخلاق، له في الحياة والكون نظرة خاصة، وله بالنسبة الى الخير والشر، ميزان معيّن. وله مفاهيم جديدة تختلف كل الاختلاف عن النظرات والموازين والمفاهيم التي كانت سائدة قبل الإسلام، عند العرب وغيرهم.
يتضح هذا الفرق بالتسمية التي أطلقها الإسلام على العصر المقارب لظهور النبي، أي اسم "الجاهلية". فإنّ هذه التسمية تبيّن لنا بوضوح رأي الإسلام في العصر الجاهلي.
ولقد كان على النبي، لكي يغيّر نظرة العرب العامة في الكون والحياة، ويقلب موازينهم ومفاهيمهم، ويصهرهم في بوتقة الإسلام، كان على النبي، بالإضافة الى التعليم وبيان الأحكام، أن يخلق مجتمعاً كاملاً فيتسلّم مقاليد السلطة الزمنية فيه، مستخدماً عامل الزمن والوقت.
السلطة الزمنية: لخلق مجتمع سليم، تسلّم الرسول هذه السلطة بولايته الموكلة إليه من الله سبحانه بحسب ما ورد في الآية الكريمة، "النبي أَولى بالمؤمنين من أنفسهم" [الأحزاب: 6]، والى هذا يشير الحديث الشريف: "بُني الإسلام على خمس: الصـلاة، الزكـاة، الحج، الصـوم، الولاية. وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية". ولا يخفى تأثير الحكم الصالح في تكوين المجتمع الصالح، وتأثير المجتمع في تربية الأفراد.
عامل الزمان والوقت: إنّ تربية الناس، وصهرهم في بوتقة الإسلام، بحاجة الى فترة من الوقت غير قصيرة لتتحول الأفكار والآراء وتُجتث العادات وتُستأصل الرواسب، ولا بد لذلك من الوقت الكافي. فنـزلت الأحكام تدريجياً، خلال ثلاث وعشرين سنة، وحرّم الخمر والميسر، مثلاً، تحريماً قطعياً في أربع مراحل، بعد السنة الرابعة للهجرة.
وإذا لاحظنا قصر مدة حكم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي عشر سنوات، ونظرنا في عِظَم المهمة وصعوبتها، نعرف السبب لاعتقاد الشيعة لزوم تعيين خليفة بنص من الله يحكم باسمه ولو الى فترة انتهاء هذه المهمة.
فالشيعة تعتقد أنّ خلافة علي، أي ولايته، ثابتة حسب النص، وأنّ سبب اختياره كونه شخصية إسلامية محضة، وتلميذاً دخل في مدرسة محمد مذ كان في السادسة من عمره، وبقي فيها طوال حياة المعلّم، حتى قال معلّمه في حقه: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وقال: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه أينما دار".
فقه الشيعة:
إنّ مصادر التشريع عند المسلمين عامة تبدأ بالقرآن الكريم، كتاب الله، ثم تليه السيرة النبوية الشريفة، من قول النبي وفعله وتقريره، أي إمضائه ومواقفه، ويختص النبي بآيات من القرآن الكريم تجعل سيرته حجة لا مجال للشك والتردد فيها.
الى هنا يجتمع المسلمون كلهم، كما أنّ الجميع تقريباً يعترفون باعتبار إجماع الأمة، وبدليل العقل الذي يعبّر عنه بعضهم بالنبي الباطن، كما يعبّرون عن النبي بعقل الكون والعقل الظاهر.
ولكن الواقع أنّ بعض تفاصيل الأحكام الشرعية غير صريحة في القرآن الكريم، وغير واردة في السنّة الشريفة التي وصلت الى المسلمين. وقد نقل إلينا تاريخ الفقه عشرات الموضوعات التي وقعت بعد وفاة رسول الله، دون أن يكون هنالك حكم منقول عن الرسول. هنا اعتمد كثير من المسلمين على آراء الصحابة الكبار وفتاواهم، إذ أنهم عاشوا مع الرسول واطّلعوا على سيرته عن كثب. فأقرّوا آراء الصحابة على أنها مصدر ثالث للتشريع يُعتمد عليه، واستندوا الى أحاديث أظهرها حديث منسوب الى النبي (صلّى الله عليه وآله): "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم".
أما الشيعة فإنها تعتمد على قول أهل البيت الأئمة، وتعتبر قولهم وفعلهم وتقريرهم مصدراً ثالثاً للتشريع، وتستند الى نصوص منقولة عن رسول الله كحديث "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا. وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
وحديث: "من أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فليتولّ علياً وذريته من بعده. فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة".
والمعروف أنّ الشيعة يعتقدون بعصمة الأئمة، ولا يعتبرونهم مجتهدين، بل هم نَقَلة الأحكام وحمَلَتها عن رسول الله بكل أمانة ودقة، وبدون خطأ، حيث أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
والواجب ذكره في هذا المجـال أنّ المصدر الثالث عند الشيعة والمصدر الثالث عند غيرهم يتداخلان في كثير من الأحايين، إذ أنّ بعض الأئمة، كالإمام علي، والحسن بن علي والحسين بن علي، من أصحاب رسول الله، يتفق الجميع في صحة أقوالهم وحجية آرائهم.
كما أنّ هناك جمعاً من الصحابة نص رسول الله على اعتبار قولهم وكونهم مع الحق. وهذان الأمران هما مع وحدة سائر مصادر التشريع: الكتاب، السيرة، الإجماع، العقل، ووحدة الأساس لصحة الأحاديث هو القرآن الكريم. كل هذا جعل تقارباً ظاهراً بين فقه الشيعة وغيرهم من الفِرَق.
وتجري منذ مدة غير قصيرة محاولات لدراسة الفقه المقارن وأصوله، ولا شك أنّ تقارن الآراء يحدث تقدّماً علمياً وحركة فكرية في مجالات الفقه الواسعة، وتقارباً على أسس مدروسة بين الأمة.
الاجتهــاد:
وهو المفسَّر باستفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية، يعني أنّ المجتهد ليس مشرّعاً ولا مغيّراً للقوانين الشرعية، بل المجتهد ينظر ويصرف طاقته في سبيل استنباط الحكم وتطبيقه على موضوعه.
والموضوع يشغل دوراً مهماً في تطوير الأحكام، إذ المقصود من الموضوع هو فعل المكلّف. وهو يتغير بحسب الأزمان والمجتمعات. فالمجتهد بعد درس الموضوع يحاول إخراج حكمه من الأدلة ومصادر التشريع. وكثيراً ما يكون الموضوع أمراً جديداً ليس له نظير في أيام التشريع، فيحاول المجتهد استنباط حكمه عن القوانين العامة والأصول الكلية. وليس دوره مراعاة المصالح والظروف، ولا وضع قانون أو حكم جديد للشيء.
ويختلف دور المجتهد عن دور المحدّث، من حيث أنّ المحدّث ناقل والمجتهد يضم جزءاً من نفسه، وهو رأيه، الى الواقع. ويختلف دوره عن دور المشرّع من حيث أنّ المشرّع لا يتقيد إلاّ بالمصالح والظروف.
والمجتهد أيضاً لا يتقيد بفتاوى الآخرين، بل يحرم على المجتهد التقليد، بحسب رأي الشيعة، وما أكثر المجتهدين الذين خالفوا الماضين وأبدوا آراء جديدة وفهماً جديداً للأدلة، فقوبل عملهم هذا بالتكريم. كما أنّ هنالك خطة مهمة لعدم التقيد بفتاوى الماضي، وهي أنه لا يجوز تقليد الميت لانقطاع عصره.
فالاجتهاد حركة فكرية، واستقلال في الرأي، وانطلاق لتطبيق الأحكام المستنبطة على الحياة المتطورة، مع الاحتفاظ بالإطار الإلهي للأحكام. إذا لم يتقيد الاجتهاد بهذا الإطار، فالحكم الديني يفقد مفهومه وأساسه، لأنّ العنصر الأساسي للدين هو كونه إلهياً صادراً عن الغيب. فإذا انقطعنا عن الغيب واستنبطنا الأحكام حسب الظروف والمصالح فلا يمكن اعتبار الحكم دينياً، بل يصبح قانوناً بشرياً.
والمعروف أنّ عنصر الإيمان بالغيب يمثل دوراً مهماً في حياة الإنسان، جعل للدين مكانه المميز تجاه العلم والفلسفة والحقوق والأخلاق.
واليوم، في القرن العشرين، يشعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بحاجته الى أن يؤمن بالغيب دون منتوجات العصر المتطورة المتزلزلة، كي يطمئن قلبه، وتستقر أعصابه، وترضى رغباته المحدودة، ويقلّ القلق الذي يشعر هو بازدياده يوماً بعد يوم. ولكن الغيب الذي يحتاج إليه الإنسان هو الغيب الذي لا تشوبه خرافات وأساطير، ولا يخلق مشكلات ومتاعب، ولا يمنع سير الإنسان نحو الكمال.
نريد الغيب الذي يرسم للعالم صورة واقعية مليئة بالخير والحياة والجمال، قائمة على أساس الحق والعدل.
ولنذكر الآن، بعد هذا التحديد، أمثلة للاجتهاد تعيننا على استيعاب البحث، فالزكاة، مثلاً، وهي صدقة للفقراء، كانت تطبّق سابقاً بالشكل الطبيعي، وذلك لسهولة معرفة الفقير وسهولة تنفيذ الحكم. ولكن هذا الأسلوب، في عصرنا الحاضر، يحدث مشكلات شتى، إذ أنّ معرفة الفقير أصبحت صعبة. ثم إنّ الصدقة تخلق طبقة من الكسالى، يتركون العمل ويصبحون عالة على المجتمع، مما يتنافى مع كرامة الإنسان.
فلو طوّرنا حكم الزكاة "التي لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرة قوي سوي" ووزنّاه بصيغة الضمان الاجتماعي للعمال مثلاً، فيقبض العامل أجره أيام مرضه وعطلته، نكون بهذا قد أعطينا العامل بكرامة، كما نكون قد اجتهدنا جهاداً صحيحاً.
وهكذا صرف الزكاة في تأمين التعليم والصحة بلا عوض للطبقات الضعيفة، وفي تغطية عجز الشركات التعاونية، وفي تأسيس صندوق لمساعدة الطبقات بقروض دون فائدة. كل هذا تطبيق سليم واجتهاد لحكم الزكاة.
ونسرد هنا ما نقرأ في كتب فقهائنا المعاصرين من تصحيح المعاملات والعقود الحديثة بقانون: "أوفوا بالعقود" ما لم تخالف القواعد الصحيحة، ومن تطوير كثير من أحكام الزواج والطلاق بقانون: "المؤمنون عند شروطهم"، وغير ذلك.
كان لأئمة الشيعة الأثر الأكبر في تخطيط الأسلوب الصحيح للاجتهاد وفي تعليمه. وأنّ كون الأئمة إثني عشر عاشوا مع الأحداث في اثني عشر جيلاً، لما يسهل لهم المهمة التي أصبحت جد شاقة نظراً لبعد الزمن والحوادث الطارئة ودخول الأكاذيب في الأحاديث.
المرجــع:
الاجتهاد، كما قلت، أمر فني دقيق يختص بالفقيه الممارس، الواسع الإطلاع، صاحب الإبداع، الواعي للحياة التي يعيشها، فلا يمكن أن يحصل على هذا المقام إلاّ الإختصاصيون. وبهذا ينقسم الناس الى مجتهد ومقلِّد. فالمجتهد العادل هو المرجع، أي يرجع إليه المقلّد في أمور دينه، كرجوع الناس الى أصحاب الخبرة. ومقام العدالة مقام كبير، يتلو مقام العصمة، وهو سيطرة الإنسان على نفسه سيطرة تجعله لا يرتكب المعاصي، وتصبح هذه السيطرة عادة له.
وتهتم الشيعة بالعدالة وتجعلها شرطاً أساسياً في المرجع والقاضي وإمام الجماعة والشاهد والراوي.
المرجع الأول:
عرفنا أنّ التقليد لمجتهد هو طريق للوصول الى الأحكام الإلهية الدينية. فقول المجتهد ورأيه سبيل الى المعرفة. ولا شك أنّ المجتهد كلما زاد علمه وخبرته ازدادت ثقة المقلّد بصواب رأيه. وهذا ما يفرض على الشيعي أن يقلّد أعلم المجتهدين، حرصاً على بلوغ الحق. وأعلم المجتهدين هو المرجع الأول عند الشيعة.
أيام كانت المواصلات بدائية، لم يكن الوصول الى أعلم المجتهدين ميسوراً. معرفة الأعلم كانت تُحدث مشـكلة. فلما ارتقت وسائل المواصلات وازدادت، لاحظنا ازدياد نسبة المقلّدين لمرجع واحد والتوجه الى المركزية.
في القرون الأولى كان المراجع المقيمون في مختلف البلاد يتقاربون قوة وعدد مقلّدين، إلاّ فيما ندر من الشخصيات العلمية الكبرى كالمفيد والمرتضى والطوسي، الذين نجد في مؤلفاتهم أجوبة لأسئلة فقهية أُرسلت إليهم من أماكن بعيدة كرسائل: ميافارقيات وطرابلسيات وتبّانيات، المرسلة من لبنان الى العراق.
فالأولية في مرجع الشيعة ليست قديمة جداً، ولكنها ليست إلاّ نتيجة للقواعد الثابتة عندهم ولسير الزمن وسهولة المواصلات.
ولكن سلطة المرجع الأول على سائر المجتهدين محدودة بالمصالح العليا. أما فتاواه فهي نافذة عند المقلّدين دون المجتهدين، إذ انّ كل مجتهد مكلّف العمل بفتواه دون فتوى المرجع، وعلى المرجع أن ينفّذ حكم المجتهد العادل إلا في حالة العلم بخطأ المصدر.
إنتخاب المرجع الأول:
انتخاب المرجع الأول لا يخلو من طرافة، فالمرجع لا تعيّنه السلطة، ولا ينتخبه مجلس واحد من بين المراجع، ولا يعيّنه الاستفتاء العام. بل إنّ الطائفة حينما تحتاج الى المرجع الأول، لوفاة المرجع السابق، ترجع الى علماء الدين في كل قطر وفي كل بلد وفي كل قرية. فتطلب إليهم تعيين أعلم المجتهدين. ولا شك أنّ رجال الدين المتخرجين غالباً في الجامعات الكبرى يعرفون الأعلم، لأنهم درسوا وتخرّجوا على جماعة متقاربة الكفايات، وهم يزاولون النشاط الفكري والفقهي بمراجعة كتب المرشحين لهذا المركز. فيختار كل عالم للتقليد، مَن هو أعلم في نظره من دون معرفة لمن يعينه زميله في بلد آخر، وحينئذ يتبوّأ مركز المرجع الأول مَن ترجع إليه أكثرية المقلّدين.
ولا شك أنّ هناك شخصاً أو أشخاصاً يقلَّدون من قِبل جماعات كثيرة ويشتركون في إعطاء الآراء الجديدة وتنشيط الحركة الفكرية وفي الزعامة الدينية.
ولهذا السبب عينه يصبح المرجع الأول مقاماً معنوياً حقيقياً مهماً، إذ يتعلق بقلوب الملايين، ويكون قدوة لهم، ولا ينفعل بالعناصر التي تؤثر في التعيين أو الانتخاب.
إنّ حساسية هذا المركز وعمق نفوذه في نفوس الملايين وفي مقدّرات البلاد والعباد، لما يجعل له شروطاً دقيقة وقيوداً ثقيلة. فالعنصر والقومية وغير ذلك من التقسيمات، لا تؤثر في تعيين المرجع الأول، بل العلم الجمّ الذي جعله أستاذاً لأغلب العلماء الموزعين في أقطار العالم والإدارة الحسنة التي تؤهله لتسيير الأمور والقيام بالأعباء الثقيلة، والزهد الذي يرفعه عن الطمع بالأموال التي تنهال على أعتابه دون مسؤولية، والتاريخ النقي الذي تحفظه صدور المعنيين بالأمر من أول طفولته الى شيخوخته، والخلق الرفيع، هذه الصفات هي المؤهلات لتعيين خليفة الإمام وحجته.
ومن المظاهر العادية أن ترى المرجع الأول، آناء الليل وأطراف النهار، يستقبل كل إنسان ويمشي في البلد مع مرافق واحد يساعد شيخوخته. ولا ينقطع المرجع الأول عن الصلاة في الناس والإتصال بهم يومياً وإلقاء المحاضرات على منبر يحيط به الأفاضل، يناقشونه في كثير من الأبحاث دون مراعاة.
وهو مع ذلك كبير، كبير في نفوس الناس، ويكفينا أن نتذكر حادثة التبغ في إيران سنة 1900 لنرسم صورة لأثر المرجع الأول.
كانت شركة استعمارية قد نالت امتياز التبغ في إيران، فاستغلت جهل الحكام وحاجتهم الشخصية الى المال، فسيطرت، حسب بنود الإتفاق، على مساحات شاسعة من الأراضي والأحراج بحجة أنها لازمة لزراعة التبغ، وبذلك أسست دولة قوية ضمن دولة ضعيفة. فالتجأ المخلصون من زعماء الشعب وعلمائه، بعدما يئسوا من اقناع الملك، الى المرجع الأول، وكان حينها السيد محمد حسن الشيرازي، المقيم في سامراء بالعراق. فحكم بحرمة التدخين في إيران. وهكذا حاربوا الشركة محاربة سلبية سلمية. حتى أنّ الملك ناصر الدين شاه طلب ذات يوم في قصره الخاص "نارجيلة"، فأنكرت عليه زوجته الملكة وغطت وجهها عنه بحجة أنّ الذي حلّلني لك حرّم عليك ذلك. فأدى هذا الحكم الى إفلاس الشركة وخروجها من البلاد وإلغاء اتفاقيتها.
الحـــج:
الحج فريضة على كل مسلم مرة واحدة في العمر، بشرط التمكن. ويعدّ الحج ركناً من أركان الإسلام. يشتمل الحج على الإحرام، وهو لبس ملابس غير مخاطة، والامتناع عن الطِيب، والتزين، والابتعاد عن النساء، وعدم قتل الحيوانات والحشرات، وعدم الجدال في الكلام، وعدم الاستظلال في الطريق، والطواف سبع مرات حول الكعبة وبين الصفا والمروة والهرولة في قسم من السعي، ثم الوقوف في صحراء عرفات نهار اليوم التاسع من ذي الحجة، والإفاضة الى المشعر، أي المزدلفة، ثم المكوث ثلاثة أيام بمنى، وذبح الأضحية، ورمي الجمار، ثم الرجوع الى مكة للطواف.
ولا شك أنّ هذه الأعمال شعائر وطقوس توحي الى الإنسان خضوعه للغيب، وتكرّس إيمانه وربطه واستسلامه لله شأن العبادات كلها. ومن متممات الحج زيارة مرقد نبي الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام) في المدينة.
وبالمناسبة، وما دام بحثنا قد تطرق الى الاجتهاد، أرى أن أثير اقتراحاً من على هذا المنبر الى المسؤولين في الحجاز، مؤيداً اقتراح بعض وفود العالم العربي والإسلامي، في إنشاء مصانع لحوم لحفظ وتعليب اللحوم ومساعدة الفقراء في الاستفادة منها في العمل والاستهلاك. إذ أنه في كل سنة تذبح في صحراء منى أكثر من مليون ذبيحة تترك في العراء، وفي هذا خطر على الصحة العامة وإتلاف للأموال. وإننا نلاحظ أنّ الواجب الشرعي يقتضي التضحية وإعطاءها للمحتاجين، أما هدر الأموال وإتلافها فلا، وهذا الاقتراح اجتهاد لازم محتوم في عصرنا.
مكة والكعبة:
مكة أو "بكة"، بتعبير بطليموس "مكوريا"، مأخوذة عن كلمة "مكورابا"، ومعناها: الحرم، تقع على بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر. ولها مركزها العظيم في تاريخ العرب، كما يُفهم من اسمها. وهي حرم في الإسلام، أي يحرم فيها الصيد وقلع الشجرة. وهي بلد آمن، يؤمّن الناس شرعاً على حياتهم. وقد قرر هذا الحكم النبي إبراهيم، واضع الحج ومشرّعه، رعاية لأمن الحجاج. وله أيضاً شرعة الأشهر الحُرُم، وفيها تترك الحروب والمنازعات التي كانت تملأ حياة العرب لوجود عادة القصاص القبلي.
والكعبة، في حديث ديني، أول نقطة من الكرة الأرضية المذابة، هذه النقطة التي تجمدت فصارت أرضاً وأعقبتها بقية النقاط. وقد عبّر الحديث عن هذا التطوير بدحو الأرض. وهذا هو السبب الأول لقداسة الكعبة عند المسلمين.
ومن الطريف ان تاريخ تكوين هذه النقطة حدد في الحديث اليوم 25 ذي القعدة. فالليّلة هذه هي ليلة دحو الأرض والقرآن الكريم يقرّ أنّ الكعبة هي أول بيت وُضع للناس ولهدايتهم، وكان بيت الله الحرام قبل بناء إبراهيم لها، حيث يقول: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك الحرام" [إبراهيم/ 37[
والمؤرخون، ومنهم المسعودي، يرَون أنّ موضع البيت كان ربوة حمراء أمر إبراهيم هاجر زوجته أن تتخذ عليها عريشاً ويكون لها مسكناً.
ثم يبدأ التاريخ المدون للكعبة حينما بنى إبراهيم، بمساعدة ابنه إسماعيل، هذا البيت. وقد نقلت القصة التواريخ. ويشرح القرآن الكريم الواقعة بقوله: ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا الى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومَن كفر فأمتّعه قليلاً ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم﴾ [البقرة: 125-127]
فالكعبة أصبحت محلاً للعبادة ومحجة للناس يأتونه ﴿رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات﴾ [الحج: 26-27]
وفي التواريخ ما يثبت أنّ الحج الى الكعبة لم يكن مختصاً بأتباع إبراهيم المعروفين بالحنفاء. بل كان محجة من قِبل كثير من الأمم والأقوام. فكان الهنود يعظمونها ويقولون إنّ روح "سيغا"، وهو أحد الأقانيم عندهم، حلّت في الحجر الأسود حين زار وزوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل إنه بيت زحل لقِدَم عهده وطول بقائه. وكان الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح "هرمز" حلّت فيها، وربما حجّوا إليها زائرين. ومن الثابت أنّ من بين التماثيل والصور التي كانت معلقة على الكعبة قبل الإسلام، كانت صورة النبي موسى والسيد المسيح والسيدة مريم العذراء، مما يدل على قداسة الكعبة عند اليهود والمسيحيين.
وقد دفن إسماعيل (عليه السلام) في المسجد الحرام قرب الحجر الأسود، والحجر الأسود هو صخرة بركانية قديمة، تاريخه مليء بالأساطير، وكان في وسط الكعبة ثم وُضع في عهد النبي محمد وقبل بعثته في ركن منها. وبناء الكعبة هذا هو الذي يشير إليه المؤرخون ويضيفون أنّ العرب استعملوا في بنائها أخشاباً ورخاماً رومانياً أخذت من سفينة مكسورة على شاطئ البحر الأحمر.
والكعبة كانت منذ أيام إبراهيم معبداً لعبادة الله، حتى انفعل أحد الزعماء بالعمالقة الذين كانوا يحكمون الشام آنذاك، وهو حارثة بن عامر المعروف بعمرو بن لحى، فجاء بالصنم الغريب المعروف بـ"هبل"، وهو بمعنى "الروح" أو "البخار" باللغة الآرامية.
ثم تكاثرت الأصنام، وفي بعض التواريخ أنّ الكعبة تحولت الى بيت للأصنام، وكان عددها ثلاثمائة وستين صنماً، حطمها النبي محمد جميعها يوم فتح مكة.
وآخر بناء للكعبة كان في عهد عبد الملك بن مروان، كما كان آخر تجديد ترميم لها في أيام الخليفة العثماني سليمان القانوني.
مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة:
مرجع الشيعة الأول ككل مسلم يشعر بواجب الحج، ويحاول تأديته. وقد أخبرني المرجع الحالي منذ عهد غير قريب بهذه النية. ولكن المهمات والمسؤوليات الملقاة على عاتق المراجع مباشرة تمنعهم وترفع عنهم الاستطاعة التي هي شرط لفريضة الحج.
والسيد محسن الحكيم، أي المرجع الأول في عهدنا، يفضّل الحج بالرغم من شيخوخته، كخطوة من سلسلة الخطوات التي نراها من زعماء الأديان في عصرنا هذا. وقد لمس الإنسان أكثر من أي وقت مضى، لزوم اللجوء الى الله بعدما أثقلت الأعباء كواهل الناس وأخذت بهم دواعي القلق. ففي هذه الخطوات تذكير من زعماء الأديان ومحاولة منهم الضمير الإنساني والتوكيد أنّ الحياة الطيبة المتناسبة المتكاملة لا يمكن أن تستقر إلاّ في أعماق الدين.
وهناك أمل للمرجع الأول في هذه الرحلة يتمنى تحقيقه، وهو إعادة تنظيم المشاهد المشرّفة الواقعة في المدينة. ولعلكم لا تجهلون، أيها السادة، أنّ قبر فاطمة بنت محمد وقبور الإمام الحسن بن علي والإمام علي بن الحسين، منشئ "الصحيفة السجادية"، والإمامين الباقر والصادق، اللذين ملآ الدنيا بعلومهما الفقهية والأدبية والطبيعية، وكذلك قبور جمع من أجداد النبي وأصحابه، هذه القبور التي أغنى أصحابها العالم أجمع تراثاً، ودفعوا العرب والمسلمين، بشكل خاص، فأغنَوا التاريخ حضارة، هذه القبور كانت معمّرة منظّمة وكانت مزارات للناس والحجاج.
ومنذ أقل من أربعين سنة تصدى الحكام هناك ونفذوا فتوى شاذة لبعض الفقهاء وهدّموا هذه المشاهد.
ويحاول المرجع الأول في سفره هذا إعادة البناء والظفر بموافقة الحكومة على هذا الأمر، لعلاج الجرح المحزن الذي لا مسوّغ أصلاً لوجوده ولا داعي لاستمراره.
وهناك غاية ثالثة يفكر فيها الجهاز الديني في النجف الأشرف، ويصرّ على إبرازها في هذه الرحلة، وهي إظهار واقع المرجعية وعظمة المرجع وعمق نفوذه في نفوس الناس، الأمر الذي خفي على الحكام في مختلف البلاد الإسلامية لسطحية كثير منهم، ولعوامل أخرى، قد يكون منها التواضع الكلي الذي يتّصف به المرجع في النجف، فجهلوا أو تجاهلوا هذا المقام الرفيع، وأوجدوا بعض المضايقات للأجهزة العلمية الدينية في مختلف البلاد الإسلامية. ولو أدركوا الحقيقة لاستقامت مواقفهم ولكان هذا خيراً لهم وللشعوب.
إنّ المرجع الأول لا يطمع في حكم ولا يرمي الى سلطان، وخصوصاً أنّ هذا يفقده شروطه لبقائه مرجعاً، كما أنه لا يتدخل في سلطات الحكم الزمنية إلاّ بمقدار النصح والإرشاد، وكثيراً ما يخفف عن الحاكمين تبعاتٍ جساماً في مجال العمران الداخلي وتعبئة الشعب لما فيه التقدم والخير.
أيها الحفل الكريم:
منذ مدة قريبة أطلت على العالم رسالة "السلام على الأرض" من القديس العظيم، العظيم جداً، "يوحنا الثالث والعشرين"، ثم أعقبت هذه الرسالة دعوته الى انعقاد المجمع المسكوني الذي ما يزال يستمر في مهمته.
وفي هذه السنة أخذت أنباء حج قداسة البابا "بيوس السادس" الى الأماكن المقدسة تملأ مسامع الدنيا، ذلك فضلاً عن التقاء الحَبرين، قداسته وغبطة البطريرك "أثيناغوراس"، في مهبط المسيح ومعراجه.
وما تـزال أخبار المؤتمر العام لعلماء المسلمين في القاهرة تتناقلها الألسن. والآن نسمع بنبأ رحلة المرجع الأول للشيعة الى حج بيت الله الحرام.
هل من صلة تربط هذه الإلتقاءات الروحية، وهل من مخطط لهذه النشاطات المعنوية؟ سؤال علينا أن نجيب عنه وقد عرضنا الحلقة التي لن تكون الأخيرة من هذه السلسلة.
الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الإنساني، تليها رسالة الأنبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشكلات التي يعانيها الإنسان، والتي هي محركات لدفع الإنسان الى الخير والكمال. ولعلكم تسمحون لي، أيها السادة، بتوضيح موجز حول هذا البحث.
خلَق الله البشرية كلوحة فنية ذات ألوان مختلفة، يزيد في جمالها اختلاف الصفات والألوان مما يمهد لها سبل التكامل، وخلَق سبحانه للإنسان فطرة سليمة وضميراً واعياً هو رسوله الأول ورسوله الباطن يهديه سواء السبيل ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض أجزائه ويكتمل بها، فهو بعض لا كل، فرد لا شخص.
فالإنسان بهذا الشعور عاش سعيداً في أول الخلق: ﴿كان الناس أمة واحدة﴾ [البقرة: 213]، ثم سيطر عليه جهله فانحرف فاتخذ من أخيه عدواً ومن عضده منافساً ومزاحماً، فصنع من نفسه ومن أسرته ومن قبيلته ومن عنصره أصناماً عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، فكانت الخلافات، وأصبح الإنسان في أزمة عنيفة، وعانى من النار التي أوقدها ما عانى: ﴿فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ [البقرة: 213]
بعث الله الرسل لحل هذه المشاكل، ولاستقامة سير الإنسان الى طريقه الحق، ولإيقاظ ضميره وتوقه الى الصلاح.
بعثهم ليُرجعوا الناس الى مواضعهم الأصيلة، ليُرشدوا الى الطريق الذي يبدأ من الإنسان ومن واقع الإنسان ذي الإرادة والإستقلال في الرأي، والجزء من الأسرة البشرية، والجزء من الكون، والجزء من الماضي، والجزء من المستقبل، والحلقة الممتازة في هذه السلسلة الواسعة الأزلية الأبدية.
من هنا، من واقع الإنسان، إتّبع الأنبياء النظام الأصيل الكوني، النظام الذي هو صورة من صفات الله، نظام الحق والعدالة: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن: 7].
فجعلوا الإنسان ينسجم في طريقه مع الكون كله، فإذا الكون كله تسبيح لله وسجود له وتمجيد لعظمته.
فأوضحوا الغاية وهي التخلّق بأخلاق الله، والوصول الى مقام خلافته في طريق ليس فيه فشل، بل كله نجاح.
إنّ الوصول الى الهدف مهما كان شريفاً ليس شرطاً أساسياً للنجاح في طريق الأنبياء، بل السعي الى الهدف هو المطلوب، فلا سقوط في الطريق ولا أخطاء، ففي كل خطوة عبادة، وفي كل عمل تسبيح، وفي كل طاقة ظاهرية أو باطنية أجر، وفي كل نتيجة مشاركة.
فجنّدوا، بذلك الأسلوب، الإنسان تجنيداً ليس له نظير، وخلقوا منه طاقة هائلة لا مثيل لها. رسموا جواً ملائماً لإبراز الكفايات المتفاوتة تمهيداً لتفاعلها. فنادوا بحرية الإنسان، الحرية من عبودية إنسان آخر، الحرية من عبودية الأشياء، الحرية من النفس. فالحرية عندهم مطلقة لا حدّ لها، وليست حرية تلك التي تصطدم وحرية الآخرين، لأنها إطاعة للنفس وعبودية للأهواء، ومن كان حراً من نفسه وأهوائه فلن تصطدم حريته مطلقاً وحرية الآخرين.
رسم الأنبياء هذه الخطة، وأدّوا رسالتهم وأعلنوا أنّ التفاوت في الخلق، في الفكر، في المواهب وفي الدين يجب أن يصرف في سبيل خير الإنسان، وأن يكون وسيلة للتسابق نحو الأفضل.
هذا القرآن يقول: "وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتّبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، الى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون" [المائدة/ 46-48].
وهذه رسالة القديس بولس الى أهل "كولوسي": "ولا يكذّب بعضكم بعضاً، بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث لا يوناني ولا يهودي ختان ولا أقلف ولا أعجمي ولا أسكوتي ولا عبد ولا حرّ بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع، فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والأناة محتملين بعضكم بعضاً مسامحين بعضكم بعضاً. إن كانت لأحد شكوى على آخر، وسامحكم الرب سامحوا أنتم أيضاً".
هذا القرآن يقول:﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [المائدة/ 69].
وهذه رسالة "غلاطية" في العهد الجديد يقول: "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعكم واحد في المسيح يسوع، فإذا كنتم للمسيح فإنكم إذن نسل إبراهيم وورثته بحب إبراهيم".
سبحان الله، ما أشبهه بالقرآن: "وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله، هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير" [الحج/ 78].
نعم! رسم الرسل هذه الخطة الواضحة وطلبوا من الناس أن يتعارفوا وأن يستبقوا الخيرات وأن يكونوا كما أراد لهم ربهم.
ثم أتمّوا الحجة، ودفعاً لكل ما يُحتمل وقوعه بين أبناء دين واحد من الاختلاف في الرأي قالوا بلسان محمد: "اختلاف أمتي رحمة".
والحقيقة انّ التفاوت في الرأي وفي الأديان من أهم أسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية.
ولكن الإنسان، ويا للأسف، جعل من الدين أو المذهب مركباً جديداً للخلافات وتعبيراً قوياً عن أهوائه وأنانياته، فأثار بهذا العنوان فتناً كبرى ومشكلات وأزمات أكثر من قبل.
وبعد اللتيا والتي، وبعدما تعب من ثقل الأعباء واكتوى بالنار التي هي حصيلة أعماله، حاول العلاج، فاعتبر أنّ المسـؤول عن هذه المشكلات هو الدين، فوضعه وراء ظهره وتجاهله أو عزله عن دوره القيادي واعترف به طقوسـاً وشعارات.
ثم بقي أمام مشاكله، أمام الفواصل المصطنعة العازلة لأجزاء الأسرة البشرية بعضها عن بعض، أمام المنازعات والحروب، أمام القلق. بقي أمام هذا كله يفكر في الخلاص.
والإنسان تمرّ أيامه وسنواته وهو يحاول العثور على طريق سليم للاستقرار والسلام والرفاه. ويدخل في تجارب عديدة.
هذه حالة إنساننا اليوم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" [الروم/ 41].
هذه المصائب وهذا القلق ليست إلاّ نتائج أعمال الإنسان وبُعده عن واقعه الكوني، وهي تهيب به للعودة الى ربه.
ويعبّر عن هذا الواقع وهذه العودة هؤلاء الرجال الذين نذروا أنفسهم لخير الإنسان ونسوا مصالحهم وحاجاتهم في سبيل مصالح الإنسان.
هؤلاء يهاجرون من أماكنهم ومن بيوتهم الى مهابط الوحي، الى المجامع الروحية، حيث يدخلون في بيوت الله على الأرض، في ملكوت الله حيث البعد عن الأنانيات، عن الحاجات والمصالح الشخصية، حيث الوحدة.
هؤلاء الرجال يهاجرون الى مواطن العبادة، العبادة لله فقط دون الخلق، مواطن الرحمة والنور حيث بدأ الإنسان. "قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون" [الأعراف/ 29].
ونحن في لبنان، في هذه الواحة النموذجية، في هذه القطعة التي تمثّل بيت الأسرة البشرية، نحن الآن، ومن خلال تجاربنا التي يتجاوز عمرها عمر الحضارات القائمة بأجمعها، نحن هنا ومن خلال وضعنا الخاص، نتمكن بكل سهولة أن نعبّر عن هذه الرسالة الإلهية السامية.
فليكن شرف الإبتداء للندوة اللبنانية التي لا يكون هذا أول مآثرها.
وختاماً، أرجو أن تكون هذه الرحلة المباركة الى مكة رحلة موفقة، وأن لا يمنع من تحقيقها الوضع الصحي للمرجع الأول، وأرجو أن تكون رحلتنا هنا، وفي هذه الندوة، قد أدت واجبها.
أجل! سيتحدث إلينا سماحته بفيض من العلم، غير أنه سيضفي على علمه العميق نبل الانفتاح فيخلص من الاضواء إلى التأمل بما يقرب الإنسان من أخيه الإنسان حيث يكمن الله، ثم بما يشد بالمخلوقات جميعاً إلى الإله المتسامي، عز وتعالى.
"محاضرات الندوة اللبنانية بذور للمعرفة نغرسها في مزرعة الزمن، فإذا أثمرت وآتت أكلها، تحققت غايتنا، وأدركنا أمانينا، ولا فرق أن يكون هذا في أيامنا أو في العصور القادمة".
بهذه الجملة افتتح الأستاذ ميشال أسمر حديثه معي، وكفى بهذا الهدف المقدّس بدءاً وختاماً! وسأكون سعيداً جداً، إذا وُفّقت بمحاضرتي الليلة لتكون بذرة في هذه الأرض الطيبة، حتى إذا استقامت، أدت واجبها للحياة وشاركت في بناء الفكر الحضاري، وحسبي هذا وفاء للأرض المتعهدة بالنماء، الزاهرة بالعطاء.
الإنسانية تعيش بوجود واحد يتفاعل بمختلف أجزائه بعضه مع بعض، وكلما ارتقت ثقافة الإنسان وازدادت معرفته، تجلّت هذه الحقيقة وازدادت وضوحاً.
وتجزئة هذا الوجود خلاف للناموس الإلهي، إذ خلقه موحداً. وهي خلاف لطبيعة الإنسان وفطرته التي تنـزع الى هذه الوحدة، كما أنها خلاف لمصلحته العليا القائمة على التعارف والتعاون والتفاعل بين أبناء الأسرة البشرية.
فمحاولة التجزئة تحمل خطورتها بين طيّاتـها كيفما انتسبت وبأية صورة ظهرت، ولو أُلصقت بأقدس مقدّساتنا كالدين والوطن، فكيف بها إذا انحرفت مع الأهواء فبرزت باسم العنصرية والطائفية واختلاف المستوى الحضاري بين الشعوب؟
نحن نعترف بحقيقة الفرق بين أفراد البشر، ولكننا نقرّ ونؤكد أنّ هذا التفاوت يجب أن يكون سبباً للحركة والتعارف، وموجباً للتعاون والتبادل والتكامل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" [الحجرات: 13].
نعم! إنّ هناك ميزات وتراثاً خاصاً، وتجارب لكل شعب، لكل عصر، لكل طائفة، ولكل منطقة. فوجب أن تبرز وتتضح لبقية الأفراد حتى يأخذوا من صالحها: النصيحة، ويفهموا من معناها: الفكرة، ويستفيدوا من نجاحها: الطريقة. وبهذا تتمكن الإنسانية أن تستمر في سيرها الطبيعي نحو الكمال والرفاه والسعادة.
والطريق الطبيعي للوصول الى هذه الغاية النبيلة إنما هو التعريف عن حقيقة تجربة فئة لها دورها الفكري ولها أسسها في توضيح العقيدة، ولها خصائصها العلمية. وإخفاء هذه الحقائق والميزات يوجد شيئاً من التخوف والحذر، تشوبهما غالباً عناصر أخرى، فتمنع التفاعل وتتحول الى روح العداوة وعدم الثقة.
في هذه المحاضرة المتواضعة تشعرون، أيها السادة، بمحاولة لتعريف جامع عن الشيعة، الاجتهاد، المرجع، المرجع الأول، الحج والكعبة، ولعلنا نساعد بعض الشيء ندوتنا في هدفها النبيل، فنقدّم للمستمعين الى محاضرتنا هذه، هدية تعادل سعيهم للحضور، وشكراً عملياً مع شكرنا المعنوي.
وأنا واثق من أنّ المزرعة النموذجية التي هيأها الله سبحانه لنا، أعني لبنان، سوف تساعد أرضها الخصبة، من جهات متعددة، على أن تقوم بهذه المهمة، وسوف نرى أكثر من قبل أنّ أماني الندوة تتحقق، وأنّ الأستاذ ميشال وزملاءه يجنون ثمار أعمالهم ومساعيهم الخيّرة كل حين.
كما أني آمل أن يستمر هذا النوع من البحث، وتشمل المحاضرات مواضيع تلقي الأضواء على حقيقة ما لدى جميع الفئات والشعوب والأقوام: أعضاء هذا الجسم.. جسم الإنسانية.
إنّ موضوع محاضرتنا هو "مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة"، فلندخل في صميم موضوعنا، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الشيعــة:
الشيعة فِرقة من المسلمين ينتمون الى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ويعتبرونه نموذجاً كاملاً للمسلم ومرآة تامة لنبي الإسلام محمد (صلوات الله عليه وآله).
أصل الكلمة مأخوذ عن حديث نبوي شريف جاء في كتب الحديث، كـ"الصواعق المحرقة" لابن حجر، و"النهاية" لابن الأثير، و"الدر المنثور" للسيوطي، إذ قال النبي: "يا علي إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين".
ولقد كان في طليعتهم جمع من كبار صحابة الرسول، كفاطمة بنت رسول الله، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار، وبنو هاشم، حسب نقل الطبري وابن قتيبة والمفيد والطبرسي وغيرهم.
وفي إمكاننا أن نلخّص ما تختص به الشيعة من بين سائر الفرق الإسلامية في أمرين:
الأمر الأول: موضوع الخلافة.
الأمر الثاني: الموضوع الماثل بين أيدينا اليوم، أي موضوع الفقه الذي يشمل جميع أعمالنا، من عبادات ومعاملات.
الخلافــة:
إنّ الإسلام، بما أوتي من المحتوى في مجالات العقيدة والأعمال والأخلاق، له في الحياة والكون نظرة خاصة، وله بالنسبة الى الخير والشر، ميزان معيّن. وله مفاهيم جديدة تختلف كل الاختلاف عن النظرات والموازين والمفاهيم التي كانت سائدة قبل الإسلام، عند العرب وغيرهم.
يتضح هذا الفرق بالتسمية التي أطلقها الإسلام على العصر المقارب لظهور النبي، أي اسم "الجاهلية". فإنّ هذه التسمية تبيّن لنا بوضوح رأي الإسلام في العصر الجاهلي.
ولقد كان على النبي، لكي يغيّر نظرة العرب العامة في الكون والحياة، ويقلب موازينهم ومفاهيمهم، ويصهرهم في بوتقة الإسلام، كان على النبي، بالإضافة الى التعليم وبيان الأحكام، أن يخلق مجتمعاً كاملاً فيتسلّم مقاليد السلطة الزمنية فيه، مستخدماً عامل الزمن والوقت.
السلطة الزمنية: لخلق مجتمع سليم، تسلّم الرسول هذه السلطة بولايته الموكلة إليه من الله سبحانه بحسب ما ورد في الآية الكريمة، "النبي أَولى بالمؤمنين من أنفسهم" [الأحزاب: 6]، والى هذا يشير الحديث الشريف: "بُني الإسلام على خمس: الصـلاة، الزكـاة، الحج، الصـوم، الولاية. وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية". ولا يخفى تأثير الحكم الصالح في تكوين المجتمع الصالح، وتأثير المجتمع في تربية الأفراد.
عامل الزمان والوقت: إنّ تربية الناس، وصهرهم في بوتقة الإسلام، بحاجة الى فترة من الوقت غير قصيرة لتتحول الأفكار والآراء وتُجتث العادات وتُستأصل الرواسب، ولا بد لذلك من الوقت الكافي. فنـزلت الأحكام تدريجياً، خلال ثلاث وعشرين سنة، وحرّم الخمر والميسر، مثلاً، تحريماً قطعياً في أربع مراحل، بعد السنة الرابعة للهجرة.
وإذا لاحظنا قصر مدة حكم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي عشر سنوات، ونظرنا في عِظَم المهمة وصعوبتها، نعرف السبب لاعتقاد الشيعة لزوم تعيين خليفة بنص من الله يحكم باسمه ولو الى فترة انتهاء هذه المهمة.
فالشيعة تعتقد أنّ خلافة علي، أي ولايته، ثابتة حسب النص، وأنّ سبب اختياره كونه شخصية إسلامية محضة، وتلميذاً دخل في مدرسة محمد مذ كان في السادسة من عمره، وبقي فيها طوال حياة المعلّم، حتى قال معلّمه في حقه: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وقال: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه أينما دار".
فقه الشيعة:
إنّ مصادر التشريع عند المسلمين عامة تبدأ بالقرآن الكريم، كتاب الله، ثم تليه السيرة النبوية الشريفة، من قول النبي وفعله وتقريره، أي إمضائه ومواقفه، ويختص النبي بآيات من القرآن الكريم تجعل سيرته حجة لا مجال للشك والتردد فيها.
الى هنا يجتمع المسلمون كلهم، كما أنّ الجميع تقريباً يعترفون باعتبار إجماع الأمة، وبدليل العقل الذي يعبّر عنه بعضهم بالنبي الباطن، كما يعبّرون عن النبي بعقل الكون والعقل الظاهر.
ولكن الواقع أنّ بعض تفاصيل الأحكام الشرعية غير صريحة في القرآن الكريم، وغير واردة في السنّة الشريفة التي وصلت الى المسلمين. وقد نقل إلينا تاريخ الفقه عشرات الموضوعات التي وقعت بعد وفاة رسول الله، دون أن يكون هنالك حكم منقول عن الرسول. هنا اعتمد كثير من المسلمين على آراء الصحابة الكبار وفتاواهم، إذ أنهم عاشوا مع الرسول واطّلعوا على سيرته عن كثب. فأقرّوا آراء الصحابة على أنها مصدر ثالث للتشريع يُعتمد عليه، واستندوا الى أحاديث أظهرها حديث منسوب الى النبي (صلّى الله عليه وآله): "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم".
أما الشيعة فإنها تعتمد على قول أهل البيت الأئمة، وتعتبر قولهم وفعلهم وتقريرهم مصدراً ثالثاً للتشريع، وتستند الى نصوص منقولة عن رسول الله كحديث "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا. وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
وحديث: "من أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فليتولّ علياً وذريته من بعده. فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة".
والمعروف أنّ الشيعة يعتقدون بعصمة الأئمة، ولا يعتبرونهم مجتهدين، بل هم نَقَلة الأحكام وحمَلَتها عن رسول الله بكل أمانة ودقة، وبدون خطأ، حيث أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
والواجب ذكره في هذا المجـال أنّ المصدر الثالث عند الشيعة والمصدر الثالث عند غيرهم يتداخلان في كثير من الأحايين، إذ أنّ بعض الأئمة، كالإمام علي، والحسن بن علي والحسين بن علي، من أصحاب رسول الله، يتفق الجميع في صحة أقوالهم وحجية آرائهم.
كما أنّ هناك جمعاً من الصحابة نص رسول الله على اعتبار قولهم وكونهم مع الحق. وهذان الأمران هما مع وحدة سائر مصادر التشريع: الكتاب، السيرة، الإجماع، العقل، ووحدة الأساس لصحة الأحاديث هو القرآن الكريم. كل هذا جعل تقارباً ظاهراً بين فقه الشيعة وغيرهم من الفِرَق.
وتجري منذ مدة غير قصيرة محاولات لدراسة الفقه المقارن وأصوله، ولا شك أنّ تقارن الآراء يحدث تقدّماً علمياً وحركة فكرية في مجالات الفقه الواسعة، وتقارباً على أسس مدروسة بين الأمة.
الاجتهــاد:
وهو المفسَّر باستفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية، يعني أنّ المجتهد ليس مشرّعاً ولا مغيّراً للقوانين الشرعية، بل المجتهد ينظر ويصرف طاقته في سبيل استنباط الحكم وتطبيقه على موضوعه.
والموضوع يشغل دوراً مهماً في تطوير الأحكام، إذ المقصود من الموضوع هو فعل المكلّف. وهو يتغير بحسب الأزمان والمجتمعات. فالمجتهد بعد درس الموضوع يحاول إخراج حكمه من الأدلة ومصادر التشريع. وكثيراً ما يكون الموضوع أمراً جديداً ليس له نظير في أيام التشريع، فيحاول المجتهد استنباط حكمه عن القوانين العامة والأصول الكلية. وليس دوره مراعاة المصالح والظروف، ولا وضع قانون أو حكم جديد للشيء.
ويختلف دور المجتهد عن دور المحدّث، من حيث أنّ المحدّث ناقل والمجتهد يضم جزءاً من نفسه، وهو رأيه، الى الواقع. ويختلف دوره عن دور المشرّع من حيث أنّ المشرّع لا يتقيد إلاّ بالمصالح والظروف.
والمجتهد أيضاً لا يتقيد بفتاوى الآخرين، بل يحرم على المجتهد التقليد، بحسب رأي الشيعة، وما أكثر المجتهدين الذين خالفوا الماضين وأبدوا آراء جديدة وفهماً جديداً للأدلة، فقوبل عملهم هذا بالتكريم. كما أنّ هنالك خطة مهمة لعدم التقيد بفتاوى الماضي، وهي أنه لا يجوز تقليد الميت لانقطاع عصره.
فالاجتهاد حركة فكرية، واستقلال في الرأي، وانطلاق لتطبيق الأحكام المستنبطة على الحياة المتطورة، مع الاحتفاظ بالإطار الإلهي للأحكام. إذا لم يتقيد الاجتهاد بهذا الإطار، فالحكم الديني يفقد مفهومه وأساسه، لأنّ العنصر الأساسي للدين هو كونه إلهياً صادراً عن الغيب. فإذا انقطعنا عن الغيب واستنبطنا الأحكام حسب الظروف والمصالح فلا يمكن اعتبار الحكم دينياً، بل يصبح قانوناً بشرياً.
والمعروف أنّ عنصر الإيمان بالغيب يمثل دوراً مهماً في حياة الإنسان، جعل للدين مكانه المميز تجاه العلم والفلسفة والحقوق والأخلاق.
واليوم، في القرن العشرين، يشعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بحاجته الى أن يؤمن بالغيب دون منتوجات العصر المتطورة المتزلزلة، كي يطمئن قلبه، وتستقر أعصابه، وترضى رغباته المحدودة، ويقلّ القلق الذي يشعر هو بازدياده يوماً بعد يوم. ولكن الغيب الذي يحتاج إليه الإنسان هو الغيب الذي لا تشوبه خرافات وأساطير، ولا يخلق مشكلات ومتاعب، ولا يمنع سير الإنسان نحو الكمال.
نريد الغيب الذي يرسم للعالم صورة واقعية مليئة بالخير والحياة والجمال، قائمة على أساس الحق والعدل.
ولنذكر الآن، بعد هذا التحديد، أمثلة للاجتهاد تعيننا على استيعاب البحث، فالزكاة، مثلاً، وهي صدقة للفقراء، كانت تطبّق سابقاً بالشكل الطبيعي، وذلك لسهولة معرفة الفقير وسهولة تنفيذ الحكم. ولكن هذا الأسلوب، في عصرنا الحاضر، يحدث مشكلات شتى، إذ أنّ معرفة الفقير أصبحت صعبة. ثم إنّ الصدقة تخلق طبقة من الكسالى، يتركون العمل ويصبحون عالة على المجتمع، مما يتنافى مع كرامة الإنسان.
فلو طوّرنا حكم الزكاة "التي لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرة قوي سوي" ووزنّاه بصيغة الضمان الاجتماعي للعمال مثلاً، فيقبض العامل أجره أيام مرضه وعطلته، نكون بهذا قد أعطينا العامل بكرامة، كما نكون قد اجتهدنا جهاداً صحيحاً.
وهكذا صرف الزكاة في تأمين التعليم والصحة بلا عوض للطبقات الضعيفة، وفي تغطية عجز الشركات التعاونية، وفي تأسيس صندوق لمساعدة الطبقات بقروض دون فائدة. كل هذا تطبيق سليم واجتهاد لحكم الزكاة.
ونسرد هنا ما نقرأ في كتب فقهائنا المعاصرين من تصحيح المعاملات والعقود الحديثة بقانون: "أوفوا بالعقود" ما لم تخالف القواعد الصحيحة، ومن تطوير كثير من أحكام الزواج والطلاق بقانون: "المؤمنون عند شروطهم"، وغير ذلك.
كان لأئمة الشيعة الأثر الأكبر في تخطيط الأسلوب الصحيح للاجتهاد وفي تعليمه. وأنّ كون الأئمة إثني عشر عاشوا مع الأحداث في اثني عشر جيلاً، لما يسهل لهم المهمة التي أصبحت جد شاقة نظراً لبعد الزمن والحوادث الطارئة ودخول الأكاذيب في الأحاديث.
المرجــع:
الاجتهاد، كما قلت، أمر فني دقيق يختص بالفقيه الممارس، الواسع الإطلاع، صاحب الإبداع، الواعي للحياة التي يعيشها، فلا يمكن أن يحصل على هذا المقام إلاّ الإختصاصيون. وبهذا ينقسم الناس الى مجتهد ومقلِّد. فالمجتهد العادل هو المرجع، أي يرجع إليه المقلّد في أمور دينه، كرجوع الناس الى أصحاب الخبرة. ومقام العدالة مقام كبير، يتلو مقام العصمة، وهو سيطرة الإنسان على نفسه سيطرة تجعله لا يرتكب المعاصي، وتصبح هذه السيطرة عادة له.
وتهتم الشيعة بالعدالة وتجعلها شرطاً أساسياً في المرجع والقاضي وإمام الجماعة والشاهد والراوي.
المرجع الأول:
عرفنا أنّ التقليد لمجتهد هو طريق للوصول الى الأحكام الإلهية الدينية. فقول المجتهد ورأيه سبيل الى المعرفة. ولا شك أنّ المجتهد كلما زاد علمه وخبرته ازدادت ثقة المقلّد بصواب رأيه. وهذا ما يفرض على الشيعي أن يقلّد أعلم المجتهدين، حرصاً على بلوغ الحق. وأعلم المجتهدين هو المرجع الأول عند الشيعة.
أيام كانت المواصلات بدائية، لم يكن الوصول الى أعلم المجتهدين ميسوراً. معرفة الأعلم كانت تُحدث مشـكلة. فلما ارتقت وسائل المواصلات وازدادت، لاحظنا ازدياد نسبة المقلّدين لمرجع واحد والتوجه الى المركزية.
في القرون الأولى كان المراجع المقيمون في مختلف البلاد يتقاربون قوة وعدد مقلّدين، إلاّ فيما ندر من الشخصيات العلمية الكبرى كالمفيد والمرتضى والطوسي، الذين نجد في مؤلفاتهم أجوبة لأسئلة فقهية أُرسلت إليهم من أماكن بعيدة كرسائل: ميافارقيات وطرابلسيات وتبّانيات، المرسلة من لبنان الى العراق.
فالأولية في مرجع الشيعة ليست قديمة جداً، ولكنها ليست إلاّ نتيجة للقواعد الثابتة عندهم ولسير الزمن وسهولة المواصلات.
ولكن سلطة المرجع الأول على سائر المجتهدين محدودة بالمصالح العليا. أما فتاواه فهي نافذة عند المقلّدين دون المجتهدين، إذ انّ كل مجتهد مكلّف العمل بفتواه دون فتوى المرجع، وعلى المرجع أن ينفّذ حكم المجتهد العادل إلا في حالة العلم بخطأ المصدر.
إنتخاب المرجع الأول:
انتخاب المرجع الأول لا يخلو من طرافة، فالمرجع لا تعيّنه السلطة، ولا ينتخبه مجلس واحد من بين المراجع، ولا يعيّنه الاستفتاء العام. بل إنّ الطائفة حينما تحتاج الى المرجع الأول، لوفاة المرجع السابق، ترجع الى علماء الدين في كل قطر وفي كل بلد وفي كل قرية. فتطلب إليهم تعيين أعلم المجتهدين. ولا شك أنّ رجال الدين المتخرجين غالباً في الجامعات الكبرى يعرفون الأعلم، لأنهم درسوا وتخرّجوا على جماعة متقاربة الكفايات، وهم يزاولون النشاط الفكري والفقهي بمراجعة كتب المرشحين لهذا المركز. فيختار كل عالم للتقليد، مَن هو أعلم في نظره من دون معرفة لمن يعينه زميله في بلد آخر، وحينئذ يتبوّأ مركز المرجع الأول مَن ترجع إليه أكثرية المقلّدين.
ولا شك أنّ هناك شخصاً أو أشخاصاً يقلَّدون من قِبل جماعات كثيرة ويشتركون في إعطاء الآراء الجديدة وتنشيط الحركة الفكرية وفي الزعامة الدينية.
ولهذا السبب عينه يصبح المرجع الأول مقاماً معنوياً حقيقياً مهماً، إذ يتعلق بقلوب الملايين، ويكون قدوة لهم، ولا ينفعل بالعناصر التي تؤثر في التعيين أو الانتخاب.
إنّ حساسية هذا المركز وعمق نفوذه في نفوس الملايين وفي مقدّرات البلاد والعباد، لما يجعل له شروطاً دقيقة وقيوداً ثقيلة. فالعنصر والقومية وغير ذلك من التقسيمات، لا تؤثر في تعيين المرجع الأول، بل العلم الجمّ الذي جعله أستاذاً لأغلب العلماء الموزعين في أقطار العالم والإدارة الحسنة التي تؤهله لتسيير الأمور والقيام بالأعباء الثقيلة، والزهد الذي يرفعه عن الطمع بالأموال التي تنهال على أعتابه دون مسؤولية، والتاريخ النقي الذي تحفظه صدور المعنيين بالأمر من أول طفولته الى شيخوخته، والخلق الرفيع، هذه الصفات هي المؤهلات لتعيين خليفة الإمام وحجته.
ومن المظاهر العادية أن ترى المرجع الأول، آناء الليل وأطراف النهار، يستقبل كل إنسان ويمشي في البلد مع مرافق واحد يساعد شيخوخته. ولا ينقطع المرجع الأول عن الصلاة في الناس والإتصال بهم يومياً وإلقاء المحاضرات على منبر يحيط به الأفاضل، يناقشونه في كثير من الأبحاث دون مراعاة.
وهو مع ذلك كبير، كبير في نفوس الناس، ويكفينا أن نتذكر حادثة التبغ في إيران سنة 1900 لنرسم صورة لأثر المرجع الأول.
كانت شركة استعمارية قد نالت امتياز التبغ في إيران، فاستغلت جهل الحكام وحاجتهم الشخصية الى المال، فسيطرت، حسب بنود الإتفاق، على مساحات شاسعة من الأراضي والأحراج بحجة أنها لازمة لزراعة التبغ، وبذلك أسست دولة قوية ضمن دولة ضعيفة. فالتجأ المخلصون من زعماء الشعب وعلمائه، بعدما يئسوا من اقناع الملك، الى المرجع الأول، وكان حينها السيد محمد حسن الشيرازي، المقيم في سامراء بالعراق. فحكم بحرمة التدخين في إيران. وهكذا حاربوا الشركة محاربة سلبية سلمية. حتى أنّ الملك ناصر الدين شاه طلب ذات يوم في قصره الخاص "نارجيلة"، فأنكرت عليه زوجته الملكة وغطت وجهها عنه بحجة أنّ الذي حلّلني لك حرّم عليك ذلك. فأدى هذا الحكم الى إفلاس الشركة وخروجها من البلاد وإلغاء اتفاقيتها.
الحـــج:
الحج فريضة على كل مسلم مرة واحدة في العمر، بشرط التمكن. ويعدّ الحج ركناً من أركان الإسلام. يشتمل الحج على الإحرام، وهو لبس ملابس غير مخاطة، والامتناع عن الطِيب، والتزين، والابتعاد عن النساء، وعدم قتل الحيوانات والحشرات، وعدم الجدال في الكلام، وعدم الاستظلال في الطريق، والطواف سبع مرات حول الكعبة وبين الصفا والمروة والهرولة في قسم من السعي، ثم الوقوف في صحراء عرفات نهار اليوم التاسع من ذي الحجة، والإفاضة الى المشعر، أي المزدلفة، ثم المكوث ثلاثة أيام بمنى، وذبح الأضحية، ورمي الجمار، ثم الرجوع الى مكة للطواف.
ولا شك أنّ هذه الأعمال شعائر وطقوس توحي الى الإنسان خضوعه للغيب، وتكرّس إيمانه وربطه واستسلامه لله شأن العبادات كلها. ومن متممات الحج زيارة مرقد نبي الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام) في المدينة.
وبالمناسبة، وما دام بحثنا قد تطرق الى الاجتهاد، أرى أن أثير اقتراحاً من على هذا المنبر الى المسؤولين في الحجاز، مؤيداً اقتراح بعض وفود العالم العربي والإسلامي، في إنشاء مصانع لحوم لحفظ وتعليب اللحوم ومساعدة الفقراء في الاستفادة منها في العمل والاستهلاك. إذ أنه في كل سنة تذبح في صحراء منى أكثر من مليون ذبيحة تترك في العراء، وفي هذا خطر على الصحة العامة وإتلاف للأموال. وإننا نلاحظ أنّ الواجب الشرعي يقتضي التضحية وإعطاءها للمحتاجين، أما هدر الأموال وإتلافها فلا، وهذا الاقتراح اجتهاد لازم محتوم في عصرنا.
مكة والكعبة:
مكة أو "بكة"، بتعبير بطليموس "مكوريا"، مأخوذة عن كلمة "مكورابا"، ومعناها: الحرم، تقع على بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر. ولها مركزها العظيم في تاريخ العرب، كما يُفهم من اسمها. وهي حرم في الإسلام، أي يحرم فيها الصيد وقلع الشجرة. وهي بلد آمن، يؤمّن الناس شرعاً على حياتهم. وقد قرر هذا الحكم النبي إبراهيم، واضع الحج ومشرّعه، رعاية لأمن الحجاج. وله أيضاً شرعة الأشهر الحُرُم، وفيها تترك الحروب والمنازعات التي كانت تملأ حياة العرب لوجود عادة القصاص القبلي.
والكعبة، في حديث ديني، أول نقطة من الكرة الأرضية المذابة، هذه النقطة التي تجمدت فصارت أرضاً وأعقبتها بقية النقاط. وقد عبّر الحديث عن هذا التطوير بدحو الأرض. وهذا هو السبب الأول لقداسة الكعبة عند المسلمين.
ومن الطريف ان تاريخ تكوين هذه النقطة حدد في الحديث اليوم 25 ذي القعدة. فالليّلة هذه هي ليلة دحو الأرض والقرآن الكريم يقرّ أنّ الكعبة هي أول بيت وُضع للناس ولهدايتهم، وكان بيت الله الحرام قبل بناء إبراهيم لها، حيث يقول: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك الحرام" [إبراهيم/ 37[
والمؤرخون، ومنهم المسعودي، يرَون أنّ موضع البيت كان ربوة حمراء أمر إبراهيم هاجر زوجته أن تتخذ عليها عريشاً ويكون لها مسكناً.
ثم يبدأ التاريخ المدون للكعبة حينما بنى إبراهيم، بمساعدة ابنه إسماعيل، هذا البيت. وقد نقلت القصة التواريخ. ويشرح القرآن الكريم الواقعة بقوله: ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا الى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومَن كفر فأمتّعه قليلاً ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم﴾ [البقرة: 125-127]
فالكعبة أصبحت محلاً للعبادة ومحجة للناس يأتونه ﴿رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات﴾ [الحج: 26-27]
وفي التواريخ ما يثبت أنّ الحج الى الكعبة لم يكن مختصاً بأتباع إبراهيم المعروفين بالحنفاء. بل كان محجة من قِبل كثير من الأمم والأقوام. فكان الهنود يعظمونها ويقولون إنّ روح "سيغا"، وهو أحد الأقانيم عندهم، حلّت في الحجر الأسود حين زار وزوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل إنه بيت زحل لقِدَم عهده وطول بقائه. وكان الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح "هرمز" حلّت فيها، وربما حجّوا إليها زائرين. ومن الثابت أنّ من بين التماثيل والصور التي كانت معلقة على الكعبة قبل الإسلام، كانت صورة النبي موسى والسيد المسيح والسيدة مريم العذراء، مما يدل على قداسة الكعبة عند اليهود والمسيحيين.
وقد دفن إسماعيل (عليه السلام) في المسجد الحرام قرب الحجر الأسود، والحجر الأسود هو صخرة بركانية قديمة، تاريخه مليء بالأساطير، وكان في وسط الكعبة ثم وُضع في عهد النبي محمد وقبل بعثته في ركن منها. وبناء الكعبة هذا هو الذي يشير إليه المؤرخون ويضيفون أنّ العرب استعملوا في بنائها أخشاباً ورخاماً رومانياً أخذت من سفينة مكسورة على شاطئ البحر الأحمر.
والكعبة كانت منذ أيام إبراهيم معبداً لعبادة الله، حتى انفعل أحد الزعماء بالعمالقة الذين كانوا يحكمون الشام آنذاك، وهو حارثة بن عامر المعروف بعمرو بن لحى، فجاء بالصنم الغريب المعروف بـ"هبل"، وهو بمعنى "الروح" أو "البخار" باللغة الآرامية.
ثم تكاثرت الأصنام، وفي بعض التواريخ أنّ الكعبة تحولت الى بيت للأصنام، وكان عددها ثلاثمائة وستين صنماً، حطمها النبي محمد جميعها يوم فتح مكة.
وآخر بناء للكعبة كان في عهد عبد الملك بن مروان، كما كان آخر تجديد ترميم لها في أيام الخليفة العثماني سليمان القانوني.
مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة:
مرجع الشيعة الأول ككل مسلم يشعر بواجب الحج، ويحاول تأديته. وقد أخبرني المرجع الحالي منذ عهد غير قريب بهذه النية. ولكن المهمات والمسؤوليات الملقاة على عاتق المراجع مباشرة تمنعهم وترفع عنهم الاستطاعة التي هي شرط لفريضة الحج.
والسيد محسن الحكيم، أي المرجع الأول في عهدنا، يفضّل الحج بالرغم من شيخوخته، كخطوة من سلسلة الخطوات التي نراها من زعماء الأديان في عصرنا هذا. وقد لمس الإنسان أكثر من أي وقت مضى، لزوم اللجوء الى الله بعدما أثقلت الأعباء كواهل الناس وأخذت بهم دواعي القلق. ففي هذه الخطوات تذكير من زعماء الأديان ومحاولة منهم الضمير الإنساني والتوكيد أنّ الحياة الطيبة المتناسبة المتكاملة لا يمكن أن تستقر إلاّ في أعماق الدين.
وهناك أمل للمرجع الأول في هذه الرحلة يتمنى تحقيقه، وهو إعادة تنظيم المشاهد المشرّفة الواقعة في المدينة. ولعلكم لا تجهلون، أيها السادة، أنّ قبر فاطمة بنت محمد وقبور الإمام الحسن بن علي والإمام علي بن الحسين، منشئ "الصحيفة السجادية"، والإمامين الباقر والصادق، اللذين ملآ الدنيا بعلومهما الفقهية والأدبية والطبيعية، وكذلك قبور جمع من أجداد النبي وأصحابه، هذه القبور التي أغنى أصحابها العالم أجمع تراثاً، ودفعوا العرب والمسلمين، بشكل خاص، فأغنَوا التاريخ حضارة، هذه القبور كانت معمّرة منظّمة وكانت مزارات للناس والحجاج.
ومنذ أقل من أربعين سنة تصدى الحكام هناك ونفذوا فتوى شاذة لبعض الفقهاء وهدّموا هذه المشاهد.
ويحاول المرجع الأول في سفره هذا إعادة البناء والظفر بموافقة الحكومة على هذا الأمر، لعلاج الجرح المحزن الذي لا مسوّغ أصلاً لوجوده ولا داعي لاستمراره.
وهناك غاية ثالثة يفكر فيها الجهاز الديني في النجف الأشرف، ويصرّ على إبرازها في هذه الرحلة، وهي إظهار واقع المرجعية وعظمة المرجع وعمق نفوذه في نفوس الناس، الأمر الذي خفي على الحكام في مختلف البلاد الإسلامية لسطحية كثير منهم، ولعوامل أخرى، قد يكون منها التواضع الكلي الذي يتّصف به المرجع في النجف، فجهلوا أو تجاهلوا هذا المقام الرفيع، وأوجدوا بعض المضايقات للأجهزة العلمية الدينية في مختلف البلاد الإسلامية. ولو أدركوا الحقيقة لاستقامت مواقفهم ولكان هذا خيراً لهم وللشعوب.
إنّ المرجع الأول لا يطمع في حكم ولا يرمي الى سلطان، وخصوصاً أنّ هذا يفقده شروطه لبقائه مرجعاً، كما أنه لا يتدخل في سلطات الحكم الزمنية إلاّ بمقدار النصح والإرشاد، وكثيراً ما يخفف عن الحاكمين تبعاتٍ جساماً في مجال العمران الداخلي وتعبئة الشعب لما فيه التقدم والخير.
أيها الحفل الكريم:
منذ مدة قريبة أطلت على العالم رسالة "السلام على الأرض" من القديس العظيم، العظيم جداً، "يوحنا الثالث والعشرين"، ثم أعقبت هذه الرسالة دعوته الى انعقاد المجمع المسكوني الذي ما يزال يستمر في مهمته.
وفي هذه السنة أخذت أنباء حج قداسة البابا "بيوس السادس" الى الأماكن المقدسة تملأ مسامع الدنيا، ذلك فضلاً عن التقاء الحَبرين، قداسته وغبطة البطريرك "أثيناغوراس"، في مهبط المسيح ومعراجه.
وما تـزال أخبار المؤتمر العام لعلماء المسلمين في القاهرة تتناقلها الألسن. والآن نسمع بنبأ رحلة المرجع الأول للشيعة الى حج بيت الله الحرام.
هل من صلة تربط هذه الإلتقاءات الروحية، وهل من مخطط لهذه النشاطات المعنوية؟ سؤال علينا أن نجيب عنه وقد عرضنا الحلقة التي لن تكون الأخيرة من هذه السلسلة.
الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الإنساني، تليها رسالة الأنبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشكلات التي يعانيها الإنسان، والتي هي محركات لدفع الإنسان الى الخير والكمال. ولعلكم تسمحون لي، أيها السادة، بتوضيح موجز حول هذا البحث.
خلَق الله البشرية كلوحة فنية ذات ألوان مختلفة، يزيد في جمالها اختلاف الصفات والألوان مما يمهد لها سبل التكامل، وخلَق سبحانه للإنسان فطرة سليمة وضميراً واعياً هو رسوله الأول ورسوله الباطن يهديه سواء السبيل ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض أجزائه ويكتمل بها، فهو بعض لا كل، فرد لا شخص.
فالإنسان بهذا الشعور عاش سعيداً في أول الخلق: ﴿كان الناس أمة واحدة﴾ [البقرة: 213]، ثم سيطر عليه جهله فانحرف فاتخذ من أخيه عدواً ومن عضده منافساً ومزاحماً، فصنع من نفسه ومن أسرته ومن قبيلته ومن عنصره أصناماً عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، فكانت الخلافات، وأصبح الإنسان في أزمة عنيفة، وعانى من النار التي أوقدها ما عانى: ﴿فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ [البقرة: 213]
بعث الله الرسل لحل هذه المشاكل، ولاستقامة سير الإنسان الى طريقه الحق، ولإيقاظ ضميره وتوقه الى الصلاح.
بعثهم ليُرجعوا الناس الى مواضعهم الأصيلة، ليُرشدوا الى الطريق الذي يبدأ من الإنسان ومن واقع الإنسان ذي الإرادة والإستقلال في الرأي، والجزء من الأسرة البشرية، والجزء من الكون، والجزء من الماضي، والجزء من المستقبل، والحلقة الممتازة في هذه السلسلة الواسعة الأزلية الأبدية.
من هنا، من واقع الإنسان، إتّبع الأنبياء النظام الأصيل الكوني، النظام الذي هو صورة من صفات الله، نظام الحق والعدالة: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن: 7].
فجعلوا الإنسان ينسجم في طريقه مع الكون كله، فإذا الكون كله تسبيح لله وسجود له وتمجيد لعظمته.
فأوضحوا الغاية وهي التخلّق بأخلاق الله، والوصول الى مقام خلافته في طريق ليس فيه فشل، بل كله نجاح.
إنّ الوصول الى الهدف مهما كان شريفاً ليس شرطاً أساسياً للنجاح في طريق الأنبياء، بل السعي الى الهدف هو المطلوب، فلا سقوط في الطريق ولا أخطاء، ففي كل خطوة عبادة، وفي كل عمل تسبيح، وفي كل طاقة ظاهرية أو باطنية أجر، وفي كل نتيجة مشاركة.
فجنّدوا، بذلك الأسلوب، الإنسان تجنيداً ليس له نظير، وخلقوا منه طاقة هائلة لا مثيل لها. رسموا جواً ملائماً لإبراز الكفايات المتفاوتة تمهيداً لتفاعلها. فنادوا بحرية الإنسان، الحرية من عبودية إنسان آخر، الحرية من عبودية الأشياء، الحرية من النفس. فالحرية عندهم مطلقة لا حدّ لها، وليست حرية تلك التي تصطدم وحرية الآخرين، لأنها إطاعة للنفس وعبودية للأهواء، ومن كان حراً من نفسه وأهوائه فلن تصطدم حريته مطلقاً وحرية الآخرين.
رسم الأنبياء هذه الخطة، وأدّوا رسالتهم وأعلنوا أنّ التفاوت في الخلق، في الفكر، في المواهب وفي الدين يجب أن يصرف في سبيل خير الإنسان، وأن يكون وسيلة للتسابق نحو الأفضل.
هذا القرآن يقول: "وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتّبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، الى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون" [المائدة/ 46-48].
وهذه رسالة القديس بولس الى أهل "كولوسي": "ولا يكذّب بعضكم بعضاً، بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث لا يوناني ولا يهودي ختان ولا أقلف ولا أعجمي ولا أسكوتي ولا عبد ولا حرّ بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع، فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والأناة محتملين بعضكم بعضاً مسامحين بعضكم بعضاً. إن كانت لأحد شكوى على آخر، وسامحكم الرب سامحوا أنتم أيضاً".
هذا القرآن يقول:﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [المائدة/ 69].
وهذه رسالة "غلاطية" في العهد الجديد يقول: "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعكم واحد في المسيح يسوع، فإذا كنتم للمسيح فإنكم إذن نسل إبراهيم وورثته بحب إبراهيم".
سبحان الله، ما أشبهه بالقرآن: "وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله، هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير" [الحج/ 78].
نعم! رسم الرسل هذه الخطة الواضحة وطلبوا من الناس أن يتعارفوا وأن يستبقوا الخيرات وأن يكونوا كما أراد لهم ربهم.
ثم أتمّوا الحجة، ودفعاً لكل ما يُحتمل وقوعه بين أبناء دين واحد من الاختلاف في الرأي قالوا بلسان محمد: "اختلاف أمتي رحمة".
والحقيقة انّ التفاوت في الرأي وفي الأديان من أهم أسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية.
ولكن الإنسان، ويا للأسف، جعل من الدين أو المذهب مركباً جديداً للخلافات وتعبيراً قوياً عن أهوائه وأنانياته، فأثار بهذا العنوان فتناً كبرى ومشكلات وأزمات أكثر من قبل.
وبعد اللتيا والتي، وبعدما تعب من ثقل الأعباء واكتوى بالنار التي هي حصيلة أعماله، حاول العلاج، فاعتبر أنّ المسـؤول عن هذه المشكلات هو الدين، فوضعه وراء ظهره وتجاهله أو عزله عن دوره القيادي واعترف به طقوسـاً وشعارات.
ثم بقي أمام مشاكله، أمام الفواصل المصطنعة العازلة لأجزاء الأسرة البشرية بعضها عن بعض، أمام المنازعات والحروب، أمام القلق. بقي أمام هذا كله يفكر في الخلاص.
والإنسان تمرّ أيامه وسنواته وهو يحاول العثور على طريق سليم للاستقرار والسلام والرفاه. ويدخل في تجارب عديدة.
هذه حالة إنساننا اليوم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" [الروم/ 41].
هذه المصائب وهذا القلق ليست إلاّ نتائج أعمال الإنسان وبُعده عن واقعه الكوني، وهي تهيب به للعودة الى ربه.
ويعبّر عن هذا الواقع وهذه العودة هؤلاء الرجال الذين نذروا أنفسهم لخير الإنسان ونسوا مصالحهم وحاجاتهم في سبيل مصالح الإنسان.
هؤلاء يهاجرون من أماكنهم ومن بيوتهم الى مهابط الوحي، الى المجامع الروحية، حيث يدخلون في بيوت الله على الأرض، في ملكوت الله حيث البعد عن الأنانيات، عن الحاجات والمصالح الشخصية، حيث الوحدة.
هؤلاء الرجال يهاجرون الى مواطن العبادة، العبادة لله فقط دون الخلق، مواطن الرحمة والنور حيث بدأ الإنسان. "قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون" [الأعراف/ 29].
ونحن في لبنان، في هذه الواحة النموذجية، في هذه القطعة التي تمثّل بيت الأسرة البشرية، نحن الآن، ومن خلال تجاربنا التي يتجاوز عمرها عمر الحضارات القائمة بأجمعها، نحن هنا ومن خلال وضعنا الخاص، نتمكن بكل سهولة أن نعبّر عن هذه الرسالة الإلهية السامية.
فليكن شرف الإبتداء للندوة اللبنانية التي لا يكون هذا أول مآثرها.
وختاماً، أرجو أن تكون هذه الرحلة المباركة الى مكة رحلة موفقة، وأن لا يمنع من تحقيقها الوضع الصحي للمرجع الأول، وأرجو أن تكون رحلتنا هنا، وفي هذه الندوة، قد أدت واجبها.
