01 حزيران 1966
الكاتب:موسى الصدر
تصدير لترجمة كتاب "تاريخ الفلسفة الإسلامية" لهنري كوربان بتاريخ حزيران 1966، نشر في مجلة العرفان المجلد 54، وفي (منبر ومحراب) في 1981/8/31.
عرفتُ الفيلسوف الفرنسي الكبير أستاذ الفلسفة بجماعة السوربون "هنري كوربان" من خلال ملاحظاته القيّمة ومقدمته الجامعة على كتاب فلسفة الإشراق للشيخ شهاب الدين السهروردي.
عرفته مهتماً بدراسة الفلسفة الإسلامية اهتماماً يشبه الغرام حتى صرَف من عمره في هذا الحقل ما يتجاوز خمساً وعشرين سنة، فأصبح مطلعاً على غوامضها وتاريخها وتطوراتها.
وللمرة الأولى تقريباً من تاريخ دراسات المستشرقين، وجدته متضلعاً بدراسة صدر الدين الشيرازي مؤسس الحكمة المتعالية ومجدد الفلسفة الإسلامية، وقرأت رسالة له فيه قيّمة.
ثم التقى هو مع أستاذي، علاّمة عصرنا السيد محمد حسين الطباطبائي مؤلف تفسير الميزان، فوجدت فيها وفي أسئلته العديدة التي جمعتها مع أجوبة السيد الطباطبائي مجلة "مكتب تشيّع"، وجدت فيها وفي أسئلته عمقاً يفوق مستوى تفكير زملائه المستشرقين، وإخلاصاً في عمله يفرضان على قارئه الإجلال.
وله مع الفيلسوف الشاب المؤمن الدكتور السيد حسين نصر جولات فكرية ومؤلفات مشتركة، ومن يعرف د. حسين نصر وسعة اطلاعه في الثقافة الإسلامية والحضارات التي انتهجتها هذه الأمة طيلة العصور الماضية، من يعرف الدكتور ويعرف احترامه للأستاذ كوربان يشعر باحترامهما احتراماً لا يناله إلا العلماء الكبار..
وللأستاذ المؤلف كوربان مؤلفات قيّمة وملاحظات نفيسة على الكتب الفلسفية، منها: رسالته عن صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) "تعلقيات"، ومقدمة على كتاب "حكمة الإشراق" لشهاب الدين السهروردي، وعلى كتاب "جامع الحكمتين" لناصر خسرو العلوي الفاطمي، وعلى كتاب "كشف المحجوب" لأبي يعقوب السجستاني، وشرح لقصيدة فلسفية لأبي الهيثم الجرجاني..
كنت أعرف ذلك كلّه، ولكن حينما قدّم لي الأخ الفاضل نصير أحمد مروّة كتاب "تاريخ الفلسفة الإسلامية" للأستاذ كوربان شعرتُ بدهشةٍ أمام هذا الجهد العظيم وأمام هذا الإخلاص في الدراسة الفلسفية..
وأنا لا أنسى شعوري بالفرح حينما قال لي الأستاذ نصير أنه مع زميله الأستاذ حسن قبيسي بدأ بترجمة هذا الكتاب، وأنّ دار عويدات سوف تطبع الترجمة وتزيد على مكتبتها الفلسفية الزاخرة ثروة كبرى جديدة.
درستُ الكتاب وتصفحته، خاصةً فيما كتَب عن الشيعة الإثنَي عشرية وفلسفتهم وتصوّفهم وآرائهم، فرأيت أنّ اللازم علينا حينما نقدّم للقارئ العربي الكريم هذا الكتاب أن نذكر ملاحظاتنا عليه، حيث انّ الكتاب يشتمل على أهم المباحث العقيدية عندنا، فلا يجوز عرض هذه المباحث من دون إبداء رأي المذهب فيها.
وقد رحّب الأستاذ أحمد عويدات بهذا الرأي، فكتبتُ هذا الفصل مقدمةً لكتاب "تاريخ الفلسفة الإسلامية" للبروفسور هنري كوربان، حيث ناقشتُ فيه النقاط الرئيسية التي نُسبت الى عقائد الشيعة الإمامية الإثنَي عشرية..
والآن أبعث بهذا الفصل الى مجلة "العرفان" الغرّاء لكي يُعرض على القراء الكرام أصحاب الرأي النيّر تمهيداً لمناقشته وإكماله..
تصدير ترجمة الكتاب:
لقد فتح هذا الكتاب أمام الفكر الغربي بابًا واسعًا جديدًا للثقافة الشرقية، وكشف له كنوزًا غنيّة بالإنتاج الديني الفلسفيّ والتصوّف الأصيل.
وقد بذَل الأستاذ المؤلف البروفسور هنري كوربان في هذا العمل الكبير جهدًا متواصلًا يُدهش القارئ ويُلزمه بالتقدير والإعجاب، لأنه تجاوز فيه طاقة الفرد والأفراد، ذلك أن الأبحاث التي يتحدث عنها المؤلف كانت في الكثير منها مودَعة في صدور العلماء الراسخين في العلم وفي أوراق الكتب المخطوطة، وقد تفرّق العلماء وانتشروا في أقطار الشرق الإسلامي، وتبعثرت الكتب في خزائن المكتبات الخاصة والعامة في مختلف بلاد العالم
والمؤلف مع ذلك، يحاول بصبر وجلَد متناهيين سبر أغوار هذه الأبحاث، واكتشاف جواهرها وترجمتها وتنسيقها وإخراجها، وهذا عمل يتجاوز جهود كثير من الباحثين، وخدمة يقدّمها المؤلف للثقافة العالمية، تعلو الكثير من خدمات المؤسسين.
أمّا القارئ العربي فسوف يجد في ترجمة هذا السِفر الجليل متعة فكرية، واعتزازًا بما أنتجه الشرق كلّه، وندمًا لجهله (أو تجاهله) لتراثه الثقافي والحضاري العظيم، حتى أصبح كالمرآة تعكس الفكر الغربي وإنتاجه، ناسيًا أنه امتداد لمؤسسي أكبر إنتاج حضاري وثقافي في التاريخ.
وترجمة هذا الكتاب تقدّم بدورها للفكر ما يتناسب مع المشقّات التي تحمّلها المترجمان الفاضلان، والجهد المتواصل الذي بذلاه للعثور على النصوص ومصادرها، ولإتقان الترجمة.
ولكن هذا الكتاب الجليل يحتوي على أبحاث أساسية تقبل النقد العلمي وتستحقّ النقاش العادل، وفضل المؤلِّف مضاعَف لأنه أثار هذه النقاط التي كان المهتمّون بها يفضّلون عدم الخوض فيها إيجابًا أو سلبًا.
تعتمد هذه الأبحاث بصورة إجمالية على ما وجده المؤلف في كتب الباحثين من الفقهاء والفلاسفة والصوفية من مقالات لا يمكن التشكيك في نسبتها إليهم. إنما التحفّظ الكلّي في إسناد هذه الآراء إلى مذاهب المؤلفين واعتبارها جزءًا من عقائد تلك المذاهب، فالثابت هو أننا لا نستطيع أن نُسنِد الأبحاث التي أبدعها القسّ العلاّمة تيلاردي شاردان إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولا يجوز لنا أن نحاسب المذهب الحنفي عمّا نجده في كتاب فصوص الحكَم لمحيي الدين بن عربي (أحد أساطين التصوّف في الشرق).
وقد حاولنا في هذه المقدّمة توضيح المبادئ والآراء في الأصول والتفسير والعقيدة، وهي جزء من المذهب والدين، ونحن لا نقصد إنكار ما نقَلَه الأستاذ المؤلف عن المفكّرين ولا التنكّر له، فالفكر مَعينٌ لا ينضب، يُنتج ويعطي، ولا يقف أبدًا، فكلّ مفكّر مسؤول عمّا يقول، ومعتزّ بما يقول، والصرح الثقافي يعلو ويرتفع بهذا أو ذاك.
الظاهر والباطن:
من أهم النقاط التي يثيرها الأستاذ المؤلف في هذا الكتاب هو موضوع الظاهر والباطن في الأحكام وفي الدين بصورة عامة، والرمزية في القرآن الكريم. فقد أسهب في هذا الأمر وجعَله أساسًا لكثير من أبحاثه ومنطلَقًا لمجموعة من استنتاجاته، واعتمد على هذا الأصل في فهم مذهب الشيعة، وتفسير معنى الولاية والإمامة والإمام الغائب، وأجاب عن مشكلة انقطاع الوحي وبقاء الحياة الدينية للإنسان.
والحقيقة أن الباحثين في الأحكام الإسلامية والمفسّرين للقرآن الكريم لا يعتمدون غالبًا على أسلوب الرمزية، ولا يأخذون بالظاهر والباطن، بل المبدأ الشائع عندهم والطريقة السائدة هي أصل مراحل الإدراك ومبدأ تفاوت مراتب الفهم.
ولإيضاح هذه النقطة بالذات، أنبّه القارئ الكريم إلى مثَل من الواقع الذي نعيشه، فالوردة ينظر إليها الطفل كلعبة حلوة، ويفهمها المريض أو المسافر هدية طيّبة، ويفسّرها الفنّان الرسّام بغير هذين المفهومين، أما العالِم الطبيعي فإن مفهومه عن الوردة يختلف عن جميع هذه المعاني، فهو يتعمّق فيما يخفى عن أبصار الآخرين، ويرى من النشاطات في خلايا الوردة وفي أوراقها الظريفة ما لا يراه غيره.
وإذا لاحظنا أن جميع هذه التفاسير والاتجاهات صحيحة ولا يناقض بعضها بعضًا، بل إنها جميعها -مع تفاوتها بعضها مع بعض- تمثّل جوانب ومراحل من الحقيقة. أقول إنه إذا لاحظنا جميع ذلك ننتبه إلى مبدأ أساسي يلقي الضوء على بحثنا هذا.
إن الحقيقة، أيّة حقيقة، لها جوانب عديدة ولها آثار مختلفة، يتفاوت بعضها عن بعض وضوحًا وخفاءً. والعِلم البشري يكشف بالتدريج، ويدرك الآثار واحدًا تلو الآخر كلما تقدّم وتسرّب إلى أعماق الحقيقة.
ولكن الكلمة تختلف عن سائر الحقائق، وتفسيرها يكاد يكون محدودًا بحدّين:
الحدّ الأول، هو مدلول الكلمة ومعناها الاستعمالي من حقيقة ومجاز وكناية، فلا يمكن تفسير الكلمة إلّا في حدود محتواها ومدلولها. أمّا إذا تعدّينا هذا الحدّ فتصبح الكلمة رمزًا وتتغير الدلالة الوضعية وتتحول إلى الدلالة العقلية.
والحدّ الثاني، هو مستوى معرفة المتكلم وقصده من التكلم والكلام، حيث لا يمكن أن نفسّر كلام شخص بمعنى لا يعرفه أو بحقيقة ما وصل إليها. وكلما ارتفع مستوى معرفة المتكلم وازداد علمه وثقافته، ارتفعت معاني كلامه وكثرَت مدلولات ألفاظه. فالباحثون في تفسير القوانين ونصوص الاتفاقيات يعتمدون مبدأً قطعيًا، هو أن واضعي القوانين أو كاتبي الاتفاقيات بلغوا من مستوى الخبرة والثقافة حدًّا يمكّن المفسّرين من أن يتعمقوا في معاني كلماتهم وأن يبلغوا درجات عالية من التفسير والتأويل. ولكن الباحثين والمفسّرين لا يسعهم إلّا أن يقفوا عند حدّ لا يتجاوزونه، إنه حدّ مستوى ثقافة الواضعين ومعرفة كتّاب النصوص واطلاعهم ومعلوماتهم.
أمّا الكلام الإلهي فلا يُحدّ تفسيره بالحدّ الثاني، حيث إن عِلم الله عين ذاته ولا حدّ له: ﴿وسع كل شيء علمًا﴾ [طه، 98]. فالمستمع للكلام الإلهي يحقّ له أن يفهم منه كل شيء في أيّ جانب من الواقع وفي أيّ حقل من المعرفة وبأيّ درجة من العمق والخفاء، شرط أن لا يتجاوز فهم السامع المفسّر مدلول الكلمة، ولا يتعدّى التفسير محتوى الكلام ودلالاته الوضعية حقيقةً ومجازًا وكناية.
إن كلام الله هو كالحقيقة العينية، أو هو الحقيقة بعينها، له جوانب من الدلالة ومراحل من التفسير، كل واحد منها مقصود للقائل، حجّة على المستمع وطريق للمؤمن.
وحينما نبحث في هذه الميزة التي يمتاز بها كلام الله، وإلى حدّ كبير نُلحق به كلام الرسول أنه لا ينطق عن الهوى، وذلك بشرط أن تُنقل لنا نصوص كلامه دون تحريف أو تفسير من الراوي.
ويجد الباحث المدقق في كلمات المفسّرين للقرآن الكريم وفي الأبحاث التي تدور حول الآيات المباركة وحول السيرة المطهّرة، يجد هذا المسلك الذي قلناه بوضوح، فَيَرى أن المفسرين والباحثين يحاولون التعمّق في الكلمات المباركة بكل اهتمام ودقّة، ثم يجدون في سائر الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة أو الأحكام العقلية أو المكتشَفات الحديثة، يجدون في كل هذا قرائن جديدة لاكتشاف معانٍ متفاوتة اتجاهًا وعمقًا من هذه الآيات أو الروايات، ويعتبرونها ينابيع لتدفق حقائق متجددة عليهم يومًا بعد يوم.
ولَسنا في هذه المقدمة بصدد سرد الأمثال للحقيقة التي ذكرتُها، ولهذا فإنّي أكتفي بذِكر مثالين: فالشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه الشهير في الفقه "المكاسب"، يذكر الحديث الشريف: "إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام"، فيفسّره تفاسير أربعة، يختلف أحدها عن الآخر وضوحًا وأثرًا، "ولكن الجميع مدلول الكلمة وتفسير الحديث"(1). والفقهاء المتأخرون فسّروا قول الرسول: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، وذكَر كل عالِم تفسيرًا يختلف عن تفسير الآخرين، حتى ليبلغ عدد التفاسير المشهورة خمسة، وكلّها مدلولات للحديث ظاهرة لا تتعدى نطاق دلالة اللفظ (2).
إن هذا المبدأ يوضح للقارئ:
أولًا، إن الآيات القرآنية أُنزلت على الطريقة المألوفة للتفاهم، وهي الطريقة التي تعتمد على الدلالة الوضعية التي يتكلم بها جميع الناس، ولا تعتمد أصلًا على الطريقة الرمزية والدلالات العقلية الغامضة، ولا على عِلم الأعداد وحروف الجُمَل ومقاطع الأبجدية.
وهذه هي الطريقة التي اعتمدت عليها السنّة المطهّرة بالذات في بيان الأحكام وفي تفسير الآيات الإلهية، وقد حذا حذو الرسول في هذه الطريقة خلفاؤه والأئمة من بعده.
والقرآن الكريم يؤكّد في مواضع كثيرة اعتماده هذه الطريقة، منها ما ورَد في الآيتين 15 و16 من سورة المائدة: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه﴾، و[الآيتين: 3 و4] من سورة فصّلت: ﴿كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون﴾، و[الآية، 185] من سورة البقرة: ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان﴾.
والسنّة المطهّرة تؤيّد هذا في أحاديث كثيرة، منها الحديث المستفيض المشهور: "إذا التبست عليكم الفتَن كغياهب الليل المدلهمّ فعليكم بالقرآن"، (الكافي: أبواب القرآن).
إن هذه الآيات والروايات تنفي بوضوح الرمزية في القرآن، وتؤكد أن القرآن كتاب هداية للبشر، كل البشر، على اختلاف درجات معرفتهم، نزل بلغة عربية ظاهرة لا رمز فيها ولا غموض.
ثانيًا، إن مراحل إدراك معاني القرآن الكريم تتفاوت كما يتفاوت إدراك جوانب الحقيقة وآثارها. وكلما تعمّق الإنسان في آيات القرآن كلما ارتفع مستوى ثقافته، فتنفتح أمامه أبواب من المعاني والمعارف الجديدة تختلف عن مدركاته السابقة اتجاهًا وعمقًا، وهذه المعاني بأجمعها صحيحة، حقيقية، لا تتناقض.
ويختلف هذا الأمر تمام الاختلاف عن مبدأ الرمزيّة ومبدأ الكنايات واعتبار مفاتيح الرموز وقرائن الكنايات عند أهلها كما يميل إليه الأستاذ المؤلف، فالتدبّر في القرآن مثل التدبّر في القوانين والاتفاقيات، ولكن بصورة أقوى، وقد أمر الله بالتدبّر في القرآن نفسه: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾] النساء، 82]، وعليه نهَج صحابة الرسول والأئمة ومنطق التكلم وعُرف المفاهمات البشرية.
ثالثًا، وتختلف هذه الطريقة أيضًا عن طريقة الوقوف على ظواهر الكلمات والاعتماد على المداليل البدائية منها، فالقرآن كما ورد في الحديث الشريف: "يفسّر بعضه بعضًا"، وإذا قرأنا في القرآن الكريم: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة﴾ [القيامة، 23-24]، لا يحقّ لنا أن نقول إن الله يوم القيامة يرى ونتجاهل الآية الكريمة الأخرى: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار﴾ [الأنعام، 103]، وإذا رأينا الآية الكريمة: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ ]طه، 5[، لا نقول مقالة بعض الأشاعرة القدامى بالتجسّد، لأننا نقرأ في مواضع أخرى في القرآن: ﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى،11].
ومن حقّ كل مؤلّف أن يطلب إلى قرّائه إدراك مصطلحاته الخاصة بمطالعة مواضيع عديدة من كتابه، والقارئ لكتاب علميّ لا يمكنه إلّا رعاية المعاني المعنيّة التي يقصدها أهل ذاك العلم من ألفاظه.
والقرآن الكريم يعلن عن هذا المبدأ بصورة حاسمة في سورة آل عمران [الآية: 7]: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربّنا وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾.
إن المحكمات هنّ أمّ الكتاب والمرجع للمتشابهات، ولا يمكن الاعتماد على المتشابه فقط، حيث أن المتشابه هو الذي يتّحد مع الشيء الآخر في بعض الأوصاف، ويختلف معه في الحقيقة، فإذا اعتمدنا على الآيات المتشابهة التي يُفهم منها أكثر من معنى وحاولنا تفسيرها برغبات نفسية أو قرائن خارجية، فقد انحرفنا عن الخط القرآني السليم الذي يلزم الرجوع إلى الآيات المحكمة وردّ المتشابه إليها، وهذه الطريقة تمنع الاعتماد على المعاني السطحية والمداليل البدائية لكلمات القرآن الكريم.
وملخّص الكلام أن مبدأ التفسير الصحيح يباين ما ينقله الأستاذ المؤلف في الكتاب من اعتبار الكلمات القرآنية ظواهر ورموزًا إلى بواطن وحقائق، ويباين أيضًا طريقة الاعتماد على المعاني السطحية والاكتفاء بظواهر بعض الآيات دون الغور في معاني الآيات الأخرى.
هنا أودّ أن أقف مع الأستاذ المؤلف لكي نكرر قراءة الحديث المعروف: "أن للقرآن ظهرًا وبطنًا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنًا". فنحن بعد دراسة المبدأ المذكور، نفهم الحديث بصورة أخرى تغاير ما فهِمه المؤلف، وهي أن مراحل معاني القرآن الكريم متعددة: سبعة أو سبعين. (لعلّ كلمة سبعة أو سبعين كناية عن الكثرة والانسجام المتكامل). والحديث الآخر: "إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف"، هذا الحديث قد فُسّر في الأحاديث الأخرى بأنه أنواع المباحث القرآنية: "أنه أمر وزجر وتبشير وتحذير وقصص وأمثال وحِكَم".
أمّا الحديث الوارد في مطاوي الكتاب: "لكلّ آية من كتاب الله ظاهر وباطن وحدّ ومطلع"، فنعتبره جامعًا بين معنى الظاهر والباطن ومعنى المحكم والمتشابه. فالحدّ ما يُفهم من الآية وحدّها، والمطلع معنى الآية بعد إرجاعها إلى المحكمات.
فواتح السوَر:
لقد أثّر الاعتماد على المبدأ المذكور عند المفسّرين إلى حدّ بتنا معه نجد عندهم رغبة ملحّة في إنكار وجود الرموز في القرآن الكريم، حتى في فواتح السوَر نظير: ﴿ألم﴾ [البقرة، 1]، ﴿ألر﴾ [إبراهيم، 1]،﴿كهيعص﴾ [مريم، 1].
فالمحاولات التي تُبذل من الباحثين في الكتاب لتفسير هذه الحروف المتقطعة، هي دليل ظاهر على أنهم يحاولون عدم الاقتناع بوجود رموز في القرآن، واعتبار جميع كلمات القرآن هدى وبيّنات للجميع.
ولا يختلف مفسّرو الشيعة عن غيرهم في هذه المحاولات. والفهم السائد عندهم لتفسير الحروف هذه، هو أن القرآن قد تحدّى مشركي العرب، فطلَب منهم أن يأتوا بمِثل القرآن أو عشر سوَر أو سورة منه لكي يثبتوا بذلك بشريّته وكونه كلام إنسان. ثم بالَغ في التحدّي بفواتح السوَر فأعلن أن هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله وما تمكنتم من معارضته إنما هو مؤلَّف من الحروف التي بين أيديكم. هو مؤلَّف من حرف ألف ولام وميم وراء وأمثال ذلك... ويعزّز هذا الفهم أنّك تجد أن حروف ألف ولام وميم التي افتُتحت بها سورة البقرة مثلًا، هي أكثر الحروف المستعملة والواردة في متن هذه السورة، وكذلك حروف كهيعص في سورة مريم، وهكذا في جميع فواتح السوَر.
والشاهد على ذلك أن ما يلي غالب الفواتح هو كلمة "تلك" أو "ذلك"، مشيرًا إلى الكتاب أو الآيات، مما يُظهر أن الله يشير إلى هذه الحروف على أنها هي التي تركّب الآيات وتؤلّف القرآن.
ولكن الاعتراف برمزية الحروف هذه كما يتبناها بعض كبار المفسّرين لا يثبت رمزية الكتاب، نظرًا لقلّة هذه الكلمات؛ ولهذا، فقد اعترف برمزية الحروف كثيرون من مفسري الشيعة والسنّة. وأخيرًا، فإنك كثيرًا ما تجد في كلام المفسّرين لهذه الفواتح هذه العبارة: "وهي مما استأثر الله ونبيّه بعِلمه..."
الإمام:
لا يُعدّ الإمام عند الشيعة الإثني عشرية مرجعًا في تفسير الرموز القرآنية، فلا رمزية ولا كشف لبواطن الأحكام بالإرث العلمي من النبي، وهو ليس قيّمًا على كتاب الله كما ورد في هذا الكتاب. ولكن معنى الإمام هو أنه المثَل الكامل الذي جُعل إمامًا ليُقتدَى به في الدين، والدين يتضمّن جوانب وجوده وفي عامة شؤونه.
والإمام هو الإمام في جميع هذه الشؤون ولجميع هذه الجوانب، فهو المُقتدَى به، والنموذج الكامل في قوله وفعله، في فكره وعواطفه، في رأيه بالموجودات ونظرته إلى الكون، في كلّ المسالك الفكرية والخلجات القلبية. وهذا مقام خطير لا يبلغه إلّا الأوحدي من البشر بعد التجارب الصعبة والجهاد المتواصل: ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهن وقال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين﴾ [البقرة، 124[.
ورأي الإمام هذا في تفسير الآيات القرآنية هو الرأي المفضّل، حيث إنه المثل الكامل في الإدراك الإسلامي لكلام الله، وحيث إنه يحمل التراث العلمي الديني من رسول الله. قال الإمام جعفر الصادق: "كل ما أرويه لكم فقد رويته عن أبي الباقر عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله".
وإنما يؤخذ برأي الإمام في التفسير وفي بيان الأحكام لقول الرسول: "مثَل أهل بيتي كمثَل سفينة نوح، من ركبَها نجا ومن تخلّف عنها غرق"، ولقوله (ص): "إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبدًا".
إن الإمام جعفر الصادق يناقش دور الإمام في التفسير في كلمة واضحة تعبّر عن هذا الأصل، وهي أنه يسأل عالِمًا من متكلمي الشام: "ما هو الحكم بين المسلمين إذا اختلفوا بعد النبي؟"، فيجيبه أن القرآن هو الحكَم بين المسلمين إذا اختلفوا، والدليل لهم إذا ضلّوا. فيعيد الإمام فيسأله عمّا إذا اختلف المسلمون في معنى آية من آيات القرآن الكريم وما هو الحلّ، فيجيب حائرًا مقتنعًا أن جوابه هو الخلف المنطقي -بالعودة إلى القرآن-، حيث إن الغرض هو صورة الاختلاف في معنى الآية، وحينما يعترف بلزوم شخص يفسّر القرآن ويرفع الخلاف من المسلمين يؤكد له الصادق ذلك، مشيرًا إلى البُعد الذي بيّناه من الفهم النموذجي للقرآن.
وكان أئمة الشيعة يدرّبون تلامذتهم على تفسير القرآن دائمًا، فحينما يُسأل الإمام الصادق مثلًا من قبَل أحد أصحابه عن المسح على القدم في الوضوء حينما يكون عليه مرارة لعلاج الجرح ولا يمكن رفع المرارة، يقول الصادق: "إمسح على المرارة"، ثم يضيف: "هذا وأمثاله يُعرف من كتاب الله": ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ [الحج، 78].
وللإمام في الأحكام دور أساسي في الإسلام، وهو دور أوجد الفرق الكثير بين الفقه الجعفري وبين فقه سائر المذاهب، وهذا الدور هو السبب (فيما أعتقد) لما يقوله الأستاذ المؤلف في هذا الكتاب: "الأحكام ليست الدين، بل إن لها حقائق وباطنًا، ولا يكشف هذا الباطن إلّا الإرث العلمي الذي ورثه الأئمة الإثنا عشر بصفتهم ورثة الأنبياء".
والحقيقة أن الأئمة الإثني عشر قد ساهموا مساهمة كبيرة في توسعة الفقه وبيان الأحكام، وقد ساعدهم على ذلك أنهم عاشوا في أحقاب متفاوتة أشدّ التفاوت مع عصر النبي والصحابة وعصر التابعين، وأنهم عاشوا عهود أحداث مهمة وموضوعات مستحدثة حدثت نتيجة لاتصال العرب بسائر الشعوب ولتلاقيهم بالحضارات والثقافات الإغريقية والفارسية والهندية والآشورية وغيرها، وأنت تجد الأحاديث الواردة عن الأئمة الإثني عشر مليئة بالأحكام والتوجيه في المسائل الجديدة، حتى إن مساهمة الإمام الصادق في تزويد الفقه وإغنائه بلغت درجة سُمّي معها الفقه الشيعي بالفقه الجعفري.
وهذه المساهمة ليست كشفًا لبواطن الأحكام ولا إظهارًا لحقائقها أبدًا، بل نقلًا لآراء إسلامية وسنن نبوية دوّنوها ورووها بالإسناد عن رسول الله، وكانت هذه الأحاديث موجودة بنصوصها أو بعمومها عند عليّ ابن أبي طالب (ع)، وقد رواها لأبنائه ولأصحابه الذين حاولوا الأخذ منه، بينما امتنع الآخرون عن نقلها لأسباب سياسية أو غيرها، وتاريخ السيرة في عهد الصحابة ينقل لنا البحث في عدد من القضايا ومحاولة الوصول إلى رأي الإسلام فيها، ثم يوضح أنهم سألوا عليًّا في بعض الأحيان، فنقل لهم ما يرويه عن الرسول، فاعتمدوا عليه.
وحياة الإمام ودأبه المستمرّ لأخذ التعاليم الدينية عن رسول الله يتبينان من كلمة عليّ (ع) الشهيرة: "كنتُ من رسول الله كالفصيل من أمه أحذو حذوه". وقد تمكن الإمام بذلك من حمل الكثير من الأحكام والآراء الإسلامية ونقلها وضبطها حتى وصل إلى درجة يعبّر عنها الرسول في حديث متواتر: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"... ولا أرى حاجة إلى تفسير كلمة العلم بمعنى العرفان GNOSE كما يفسّرها المؤلف، بل العلم النبوي هو الإسلام، والإسلام في حقوله المنوّعة لا يقل عظمة واتساعًا عن أيّ باب من أبواب المعرفة. والعلم النبوي –أيّ الشريعة الإسلامية- يؤخذ من باب المدينة، أيّ من عليّ. وقد قام عليّ بدوره، فروى النصوص، وعلّم ما كان يعلم لأبنائه ولأصحابه ولمن حاول الأخذ منه من المسلمين.
والأئمة الإثنا عشر يروون هذه الكنوز الإسلامية نقلًا عن عليّ عن رسول الله، ويفهمون النصوص القرآنية والسنّة المطهّرة فهمًا نموذجيًا إسلاميًا، ويطبّقون المبادئ العامة على الموضوعات المستحدَثة تطبيقًا دقيقًا، وبذلك كله تصبح كلماتهم حججًا ونصوصًا، وتنطبق على ما يصفهم الرسول به من أنهم أحد ثقلَيه في أمته وأنهم مثل سفينة نوح.
استمرار تاريخ الإنسانية الديني:
الأستاذ المؤلف يتساءل في كتابه، فيقول معتزًا باكتشاف: "كيف يمكن لتاريخ الإنسانية الديني أن يستمرّ بعد خاتم النبيين، والسؤال والجواب يشكّلان ظاهرة الإسلام الشيعي".
إننا نؤكّد السؤال ونؤيّد الجواب، ولكن لا للسبب الذي يعتمده الأستاذ المؤلف من الظاهر والباطن، ومن أن دور الولي القيّم على الباطن يبدأ بعد انقطاع دور النبي المكلّف بالظاهر، ولكننا نعتمد على السبب الذي يشير إليه الرسول العربي بهذا الصدد، فيقول: "إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
إن القرآن الكريم –كما وصفناه- هو كتاب الله وكلماته، فهو حقيقة كونية بصورته الموجودة، ويختلف بذلك تمام الاختلاف عن الكلمات البشرية، والحقيقة الكونية تتجلّى وتبرز للإنسان من جديد في أيّ خطوة تقدَّم وعيه فيها وارتفع مستوى ثقافته بها.
والكون هو موضوع تطوّر الحضارة وتقدّم الثقافة، وحامل هذه التطورات والتقدّم المستمرّ هو الإنسان. فالكون والإنسان حقيقتان تتجلّيان في كل مرحلة حضارية بصورة جديدة. والقرآن الكريم، هذه الحقيقة، تنكشف في كل مرحلة أيضًا بصورة جديدة تناسب الصور الجديدة للكون والإنسان، وتوجِّه الإنسان لخطوة إيجابية جديدة في الكون.
إن هذا الانسجام الحقيقي بين الكون والإنسان وبين كتاب الله، هو انسجام فطري يكشفه المبدأ الذي ذكرناه من مراحل إدراك القرآن وصوره المتفاوتة عمقًا واتجاهًا، وهو يبيّن لنا بوضوح إمكانية تنظيم الكون أو الكتاب التكويني، على حدّ تعبير المتكلّمين، بواسطة الكتاب التشريعي الإلهي -أيّ القرآن- في أيّ زمان ومع أيّ عهد وتطور.
ولكن الإدراك الإسلامي العميق للمعاني القرآنية يبلغ القمّة عند الإمام الذي هو المثَل والقدوة في هذا الإدراك. فالإمام يفسّر الكلمات القرآنية فيساهم في تطوير الفكر الإسلامي، ويجعله صالحًا لقيادة الحياة الإنسانية المتطورة.
فللإمام إذًا، دوران أساسيان يقوم بهما: فهو يبيّن الأحكام من جهة، ويفسّر الآيات من جهة ثانية.
أ- فهو يمدّ الفكر الإسلامي بفهمٍ عميق للقرآن، وبذلك يتّسع إدراك الأمة للتعاليم الواردة في الآيات المباركة.
ب- وهو يروي أحاديث وسننًا عن الرسول، وبذلك يشغل دورًا نقليًا بالنسبة للسنّة النبوية من جهة، ثم يلعب دورًا في توسيعها، وذلك بما يضيفه هو في سيرته الخاصة. وهكذا نفهم مغزى قول الرسول (صلوات الله عليه) من أن القرآن والعترة لن يفترقا.
أما نزول الآيات القرآنية بصدد أشخاص معينين وفي مناسبات محدودة، فإن هذا لا يمنع عموم الآية وشمولية الحكم. فالمناسبة مورد لنـزول الآية وقرينة لبيان الحكم، إذ ليس الدين تعليمًا وحسب، بل هو تربية أيضًا، ولدينا أن اعتماد المناسبة هو من أفضل الطرق التربوية.
وفي ختام البحث عن الإمام، أودّ أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى ما ورد في هذا الكتاب من أن التشيّع ليس مذهبًا خامسًا في مقابل المذاهب الأربعة السنّية الأخرى. فاعتقادنا هو أن الفقه عند الشيعة يعتبر فقهًا إسلاميًا جديدًا يعتمد على الكتاب والسنّة والأحاديث المروية عن الأئمة، والتي تمثّل فهمًا أعمق للكتاب وأوسع للسنّة، مما أوجب الاستغناء به عن القياس وعن الاعتماد على المصالح المرسلة.
أما الفقه عند المذاهب الأخرى، فهو يعتمد على القرآن الكريم والمعاني التي استنبطها كبار الصحابة والتابعين من القرآن، وعلى السنّة المطهّرة التي رُويت ودُوّنت في عهد الرسول والخلفاء، وهي القسم القليل من السنّة النبوية، لأنه منع تدوينها ونقلها، ويعتمد هذا الفقه على آراء الصحابة الذين عاشوا جميعًا في عصر متقارب، وأدركوا نوعًا واحدًا من الحياة بعيدًا عن التطورات والأحداث التي نتجت عن تلاقي الحضارات.
ولهذا السبب بالذات، بقي المشكل قائمًا بعدما شاهَد الفقه نفسه أمام الأحداث الجسام الجديدة، فراجع المعاني القرآنية الموجودة عنده، وراجَع النصوص القليلة من السنّة، ثم اعتمد على آراء الصحابة، فما وجد فيها جوابًا لجميع أسئلته ولا عثر على حلّ لكل مشاكله، فاضطر عندها أن يعتمد على المتشابهات والنصوص الواردة فيها، فأسّس القياس، وبقي العجز بالرغم من هذا كله قائمًا، وبقيت الموضوعات الجديدة من دون أحكام شرعية.
وهنا التجأ الفقه إلى اعتماد المصالح المرسلة التي تشبه إلى حدّ كبير وضع القوانين والتشريع، وبهذه الطريقة تمكّن من تطوير نفسه وحلّ مشاكله، ولكنه سرعان ما رأى نفسه أمام مشكلة أخرى هي مشكلة عدم وحدة الآراء الفقهية وعدم قربها واجتماعها في إطار مذهبي مناسب، حيث إن الآراء اختلفت، وازداد بُعد بعضها عن بعض حتى كاد ذلك أن يخترق شمل المسلمين، وهنا اضطر الفقهاء أن يسدّوا باب الاجتهاد.
نعود إلى ما يقوله الأستاذ المؤلف، فنقول:
إن وجه الشبَه بين المذاهب الأربعة الفقهية من حيث المصادر ومن حيث التاريخ ومن حيث المصير أكثر من أن تجعل الفقه الشيعي قسيمة للمذاهب الأربعة. فالفقه الشيعي يقع بالضرورة المنطقية مقابل الفقه السنّي ثم يقسم الفقه السنّي إلى المذاهب الأربعة.
الولاية:
أمام هذه الكلمة وتفسيرها، نرى استنتاجات خطيرة في الكتاب. والمنصف المتأمّل في مختلف كتب الشيعة في الكلام والفلسفة والحديث والتاريخ، يرى أن استخراج المفهوم الشيعي لهذا المبدأ هو في غاية الصعوبة. ونحن حينما نحترم تلك الآراء والأبحاث لا يمكننا أن نعتبرها جزءًا من عقائد الشيعة، وإن كانت مما يؤمن بها هؤلاء الباحثون إيمانًا لا يقلّ عن إيمانهم بالمبادئ الإسلامية أو المذهبية الأخرى.
وقد ظهرت هذه الكلمة بصورتها المذهبية عند الشيعة في حديث الغدير، وهو خطبة ألقاها الرسول (ص) في طريقه راجعًا إلى المدينة من حجّة الوداع في محلّ خُمّ في جحفة، وقال (ص) في أثنائها مخاطبًا المسلمين: "ألست أَولى بكم من أنفسكم؟"، قالوا: "اللهم بلى"، قال: "من كنتُ مولاه، فهذا عليّ مولاه"، ثم دعا له بقوله: "اللهم والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه، وانصُر من نَصَرَه، واخذُل من خَذَلَه".
فكلمة المولى وردت في هذه الخطبة مقترنة بالسؤال النبوي الذي يشير إلى قوله تعالى: ﴿النبي أَولى بالمؤمنين مِن أنفسهم ﴾ ]الأحزاب، 6]، وقد أوضحت الآية الكريمة مدلول كلمة "المولى" في الخطبة.
ولأجل إيضاح هذا المبدأ، يجب أن نعود إلى الرأي الإسلامي في السلطات المختلفة، أن الإنسان إذا بلَغ الحُلم وكان رشيدًا، أصبح حرًّا مستقلًا لا سلطان لأحد عليه، ولكنه يطيع في سلوكه الشريعة الإلهية التي ينقلها له رسول الله، إذ إنه لا ينطق عن الهوى: ﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين﴾ [الحاقة، 44-46].
وقد وضعت الآية الكريمة: ﴿النبي أَولى بالمؤمنين مِن أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6] مبدًأ جديدًا هو وجود سلطة للنبي يتصرف بها في تربية المؤمنين وتوجيههم لكي يبلغوا درجة الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله في أرضه ولا سلطان عليه، وهذه السلطة تشبه السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهي سلطة القيادة التي تعبّر عنها آية أخرى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [الأحزاب، 21]، وتوضحها الآية: ﴿وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر، 7].
أُعطي النبي هذه السلطة حتى يؤسس مجتمعًا إلهيًا مثاليًا، يتهيّأ فيه لكل مواطن وسائل العيش ونموّ الكفاءات والتقدّم المستمرّ، حيث إن البيئة التي تتكون مع المجتمع الصالح هي أقوى عناصر تربية الفرد وتوجيهه.
وإنما اختصّ النبي بهذه السلطة دون الآخرين للتأثير العميق الذي تشكّله هذه السلطة على غايات الإسلام وأهدافه السامية، فلا يستأهلها إلّا مَن يعصمه الله عن الأخطاء وعن الانفعالات النفسية المختلفة، هذا بالإضافة إلى لزوم كون الوليّ عارفًا بجميع مبادئ الشريعة وأصولها وفروعها.
وقد تحتاج ممارسة هذه السلطة إلى وضع أسس تنفيذية واعتماد أصول مسلكية لمسائل الحكم والقضاء، وهذا مما يزيد في خطورة هذا المقام ودِقّة موقف حامل هذه السلطة.
مارس رسول الإسلام هذه السلطة كما يصفها لنا تاريخ الإسلام بعد الهجرة بالفعل، ووضع مبادئ وأسسًا، واعتمد على أساليب وطرق هي من صلب سلطته الإلهية -أعني بها سلطته على المؤمنين- ولا شك أن هذا البحث هو بحث مفيد ويلقي الأضواء على سيرة الرسول الأعظم وكيفية التأسّي بها.
والولاية حسب هذا التفسير مقام عظيم، وتُعدّ متمِّمة للرسالة كما يصفها الأستاذ المؤلف، ولكن بالمعنى الذي قلنا من أن الولاية سلطة إلهية لتنفيذ الشريعة ولتطبيق الإسلام على المجتمع: سلطة لا تُعطى إلّا للرسول صاحب الرسالة، أو إلى من تحوّل إلى فكرته وذاب في ذاته حتى عُدّ استمرارًا له.
أمّا تفسير الولاية بأنها باطن النبوّة، وأن ابتداء الولاية نهاية دور النبوّة، فهذا رأي خاص لا يعترف به الشيعة كمذهب، ولا الإسلام كدين، وإن كان القائل به بعض كبار الصوفية أو علماء الفلسفة.
إن الولاية سلطة إلهية، وهي تحتاج إلى النص حسب رأي الشيعة، وقد ورد النص بذلك، وهي مقام عظيم لا يبلغه إلّا من يمثّل صاحب الرسالة قولًا وعملًا وفكرًا، ومن امتحن الله قلبه، من ينسى نفسه في ذات الله ولصالح الإسلام، أيّ من عاش الإسلام بكل وجوده.
ونحن نعتقد أن الاهتمام البالغ الذي تخصّ به أحاديث الأئمة وكلمات العلماء الولاية هو الذي جعل الأستاذ المؤلف يعتبر أن الولاية باطن النبوّة وحقيقة الشريعة، وأن فكرة الولاية داحضة لفكرة معارضة التشيّع للتصوّف، حتى بلغ رأي المؤلف إلى أن جعل التشيّع الينبوع الوحيد الأصيل للتصوّف، وغير ذلك من الاستنتاجات.
والحقيقة أن الولاية عند الشيعة لها مقام كبير يتجاوز كل مقام، ولكنها تختلف تمامًا عمّا يورده المؤلف ويستنتجه.
إن الولاية سلطة لتكوين المجتمع الإلهي الذي هو الطريق الوحيد لتربية المسلم تربية كاملة. والتربية هذه هي الغاية لرسالة الإسلام، فأصبحت الولاية في الحقيقة الطريق الوحيد لبلوغ الإسلام غايته، ولأجل هذا تجِد في أحاديث الشيعة: "بُني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية".
فالحديث يشير إلى هذه النقطة الجوهرية، ويعتبر أن الولاية من أُسس الدين، وأنها وسيلة لإيجاد ظروف ملائمة تمكّن للعبادات والاقتصاديات والسياسات الإسلامية أن تؤثّر أثرها. وإذًا، فقد باتت الولاية في طليعة الواجبات، والسؤال عنها يوم القيامة قبل جميع الأسئلة، وبإمكاننا أن نعتبرها قاعدة أساسية لجميع أحكام الإسلام.
وقد كان الرسول (ص) يجمع بين مقامَي النبوّة والولاية، ولكن الأولياء من بعده كان لهم مقام الولاية فحسب دون مقام النبوّة، ولم يكن عندهم حتى ما يشبه مقام النبوّة (كما يقول المؤلف). والقرآن الكريم يقرر مبدأ وحدة الدين الإلهي ونزوله بالتدريج حسب توارد الأنبياء والرُسُل، ويعتبر في ختام الشوط أن النبي محمدًا جاء بالمرحلة الكاملة من الدين الإلهي. فإذا لاحظنا أن الإسلام الكامل إنّما هو مجموعة من القوانين الفردية والاجتماعية، وإذا لاحظنا أن هذه المجموعة ما طُبقّت إلّا بعد هجرة الرسول وممارسة مقام الولاية، الأمر الذي جعل المسلمين يقررون يوم الهجرة مبدًأ للتاريخ الإسلامي دون يوم المبعث مثلًا. إذا لاحظنا جميع ذلك نقدّر عظمة مقام الولاية، وبإمكاننا أن نعبّر عنها مثل ما عُبّر عنها في أحاديث الشيعة وكلمات علمائها، من دون مبالغة أو تفسير لا يرضي أصحاب هذه الأحاديث.
إن هذه الأبحاث والكلمات هي السبب في استنتاجات الأستاذ المؤلف. والحقيقة أن هذه الاستنتاجات ليست واردة في المذهب الشيعي الإثنَي عشري بصورة من الصور. فلا وحي للأئمة الإثنَي عشر، ولا رؤية ملاك، ولا قيمومة على حقائق الأحكـام، ولا تفسير لرمزية الآيات، ولا سلطة لإدارة باطن الشريعة، ولا ولاية تكوّن لبّ النبوّة وحقيقتها.
التصوّف والتشيّع:
الحديث عن التشيّع والتصوّف يبدو غريبًا جدًا، حيث إن كلمات فقهاء الشيعة ومحدّثيهم ومتكلّميهم وحتى فلاسفتهم مليئة بنفي أي شبه.
إن التصوّف مدرسة مستقلّة عالمية تسرّبت إلى الشيعة بعدما غزت العالم الإسلامي كلّه، وبعدما دخلت في عقائد المسيحيين بصورة واضحة، حتى إن التصوّف الآن يُعدّ مفتاحًا لانفتاح جميع الأديان والمذاهب بعضها على بعض، ولا يختصّ بالشيعة تبعًا ولا سندًا.
فثنائية الشريعة والحقيقة غير واردة عند المسلمين بمختلف فرَقهم المعروفة. فالشريعة في الإسلام هي الحقيقة المطلقة الإلهية: و﴿من يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه﴾ ]آل عمران، 85]، أمّا اتصال كبار الصوفية في سلسلة أقطابهم إلى بعض أئمة الشيعة، واعتبار البعض الآخر كالإمام محمد التقي الجواد قادة الشريعة دون أئمة الحقيقة وأقطابها، فلا يحمل مسؤولية هذه الآراء إلّا القائلون بها.
وما ثنائية الشريعة والحقيقة إلّا نتيجة لثنائية الجسم والروح التي هي قاعدة أساسية للتصوّف، ومن نتائجها أن تضعيف الجسم والرياضات الجسدية هي أسباب لتقوية الروح وتكاملها. أمّا الإسلام فيكرّم الجسد ويعتبره نعمة من الله، ويمنع الرهبنة، ويعتمد على اتحاد الجسد والروح وتفاعلهما ومقارنة الدنيا والآخرة.
فالله يُعبد في محراب المسجد، وفي محلات السوق، وفي مكاتب الإدارة، وفي حقول المزرعة، وبالجهاد في سبيل الله، وبالمحافظة على سلامة البلاد، وبالكدّ للعيال، وبحُسن التبعّل للزوجية، وبتربية الأولاد. ويُعتبر من يُقتل دفاعًا عن ماله شهيدًا كالمدافع عن دينه.
والحاجات الجسدية والرغبات الطبيعية آثار نعمة الله ومن لطائف خلق الله، تكرَّم بالصيانة عن الوقوع في المحرَّم، وتقدَّس بالشكر على النعمة. والآداب الإسلامية تأمر باقتران الأكل والشرب والتمتُّع الجسدي بالشكر لله، وتُعدّ تعاليم الزواج والتجارة والزراعة عبادات عظيمة في الإسلام.
إن هذه الأحكام والآداب لا تنطبق على التصوّف الذي ينبع من معارضة الروح للجسم، ويتكامل بالمجاهدة ومحاربة النفس وبالامتناع عن رغبات الجسد مهما أمكن.
القطب:
يناقض مفهوم الإمام ومفهوم الولي عند الإثنَي عشَريّين مفهوم القطب عند الصوفية كليًا. فالإمام كما قلنا مثل كامل، والولي هو الحاكم بكل ما للكلمتين من معنى وآثار ونتائج وأهمية.
أما القطب بمعناه الظاهري عند الصوفية فهو المربّي الذي يأخذ بيد السالك خطوة خطوة في طريقه الوعر الشائك المحدِق بالأخطار والانحرافات لكي يوصله إلى الكمالات الإنسانية، ويباشر القطب -وهو الإنسان الكامل- هذه العملية بواسطة أنصاره ومعاونيه، ويسلك هو معهم ويسير معهم في نفس الطريق.
وأمّا المعاني العميقة للقطب فهي أنّه الإنسان الكامل، وإمام الزمان، ومظهر النبي، ومجلّي ذات الله، فيقصده السالك ويراه في حال مخاطبة الله حينما يقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ [الفاتحة، 5]، حيث إنه مرآة صادقة لذات الله.
وهذان المعنيان يختلفان عن معنى الإمام والولي ودورهما طريقًا وغاية. فلا حقيقة مغايرة للشريعة خفيّة عن أذهان الناس، ولا طرق خاصة بكل سالك، ولا عملية قيادة مباشرة، ولا مظاهر وتجلّيات.
ولا تأخذ الشيعة على المتصوف مسألة تنظيم الطريقة والمسائل المسلكية فحسب، بل الخلاف أعمق، والطريق مختلف، وأدوار القادة متفاوتة جدًا.
وهناك متصوّفون من الشيعة يعتبرون القطب إمام زمانهم، ويؤمنون بالمهدوية النوعية، وهذا استمرار لخطهم العام من اعتبار الأئمة، من علي بن أبي طالب إلى علي بن موسى الرضا، أئمة الشريعة وأقطاب الطريقة، وهو تفسير يعود لمفهوم الإمام عندهم.
الإمام الغائب:
ودور الإمام الغائب الذي اعتبر الأستاذ المؤلف أن رأي الصوفية في القطب تطاول عليه دور كبير يجب البحث عنه، خاصةً وأن المؤلف قد ربط بينه وبين باطنيّة الشيعة، وأنهم ينتظرون كشف الحقيقة لا ظهور نبي جديد، أيّ ظهور وليّ يكشف جميع حقائق الأحكام. واعتبر المؤلف أيضًا أن فكرة الإمام الغائب هي فكرة الهادي غير المنظور الذي يقود الأمّة ويعرّفها الحقيقة.
والأنسب توضيح مفهوم الإمام الغائب عند الإثنَي عشريين من الشيعة، ودوره المنتظر في أيام الغَيبة، لكي يتّضح مدى صحة استنتاجات المؤلف ومدى الفرق بين الفكرة عند الإثنَي عشريين وعند الإسماعيليين ومدى الفرق بين هذه الفكرة وفكرة القطب الصوفي.
إن فكرة الإمام الغائب هي بعينها فكرة ظهور المصلح الكامل الذي يبشّر بالنظام الأكمل ويهيّئ جميع البشر لبلوغ كمالهم، وذلك بإقامة أفضل مجتمع وتطبيق أفضل نظام وتعميم العدالة التامّة لكي يصل الإنسان إلى الذروة في المعرفة والعلم ووسائل العيش وفي صلات الناس بعضهم ببعض، هذه الفكرة أساسها الشعور الفطري للإنسان الذي يدفعه دائمًا ومن دون توقف إلى الأفضل في جميع حقول معرفته وميادين حياته، مقنعًا إياه أنه يستمرّ في الصعود إلى مدارج التكامل ويتقدّم دائمًا، وأن تجاربه الدائمة قد تعكس انعكاسًا مؤقتًا سرعان ما يعود عنه ولو بلغ عمر الانتكاسة عشرات السنين أو أكثر.
والعلم في سير دائم إلى الأمام، حيث إن الإنسان يجمع معلوماته وتجاربه دائمًا لتكوين قوانين جديدة تزيد في دائرة علمه، فالعلم ينمو من جميع الجوانب ويوفّر للإنسان التقدّم المنسّق المتكامل.
ولعلّ التراث العام الذي ورثه الإنسان من تعاليم السماء في أغلب الأديان، يجعله ينتظر ظهور مصلح كامل يعيد الحقّ إلى نصابه، ويطبّق ما تمنّاه الأنبياء للبشر تطبيقًا كاملًا غير منقوص.
والقرآن الكريم يُشير في مواضع عديدة إلى هذا المستقبل: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء، 105]، ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ [النور، 55].
والسنّة المطهّرة بالرغم من تفاوت مضامينها تشكّل تواترًا بظهور مصلح كامل، يطبّق الإسلام تطبيقًا كاملًا ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا.
من مجموع هذه الأدلّة، تكوّنت فكرة الإمام الغائب عند المسلمين، وأنه المبشّر بهذا النظام الكامل، حينما يعجز الإنسان ويقف حائرًا واعيًا لفشل جميع طرقه وأساليبه ينتظر نظامًا يرتاح فيه وجميع أفراده بجميع جوانب وجوده. وهذا الاستعداد في نفوس الناس يسهّل مهمّة الإمام المبشِّر فينجح فورًا في دعوته بالرغم من تقدّم البشر في القوى الهدّامة والأسلحة الفتّاكة.
فالإمام الغائب عند الشيعة هو أحد الأئمة الإثنَي عشر، وهو الحلقة الأخيرة منهم، وكلّهم نور واحد وخطّ واحد ويحملون رسالة واحدة، ودوره تطبيق ما كانوا يبشّرون به من رسالة جدّهم ليس إلّا، ولا شك أن هذا الدور، مع لحاظ ما قلنا في معنى الإمام الولي، يشكّل رأيًا خاصًا في المخطّط الديني وإيضاحًا لتعاليم هذا المخطّط، وليس كشفًا لبواطن الأحكام.
هذا هو دور الإمام المنتظر في المستقبل، أمّا دوره وهو غائب فصيانة الأحكام ومنع انعقاد الإجماع في الأحكام على خلاف الحقيقة، فهو بمخالفته لسائر الفتاوى يمنع حصول الإجماع، وبالتالي يمنع انحراف الفكر الشرعي. وإذا لاحظنا صعوبة الدراسات الفقهية أمام الأحداث والتطورات الحديثة، إذا لاحظنا ذلك نعرف أهمية هذه الصيانة، ولكن هذه المخالفة غير مشروطة بمعرفته وشهرة اسمه، وهذا البحث مستوفى في الكتب الأصولية وفي موضوع حجية الإجماع في زمن الغيبة.
والإمام المنتظر في المذهب الشيعي شخص واحد غير كلّي، فلا ينطبق على قطب في كل زمان، ولا علاقة له بالدور الذي يقوم به القطب ولا بانتظار كشف الحقائق وبواطن الأحكام بواسطته، وإنما تنفيذ الأحكام الإسلامية على يد الذي استخلفه الله في الأرض.
مبدأ الباطنية:
والكلام حول ما أشار إليه الأستاذ المؤلف: "فما من مسألة من مسائل الإسلام الباطني إلّا وقد أشار إليها الأئمة ومهّدوا لها ببحث أو موعظة"، إن الكلام حول هذه الدعوى ذو شجون.
والحقيقة هي أننا نلتقي في كتب الأحاديث عند الشيعة كما عند غيرهم بأحاديث يُستشمّ منها رائحة الباطنية بوضوح، وبأحاديث تدلّ على مغالاة وغيرها، ولكن المنصف المتأمل فيها وفي إسنادها يعرف عدم صحة هذه الأحاديث وضعفها. فالكافي مثلًا، وهو أهم كتاب حديث عند الشيعة، حينما يشرحه ويشرح أحاديثه المحدّث الكبير محمد باقر المجلسي في كتاب "مرآة العقول" يناقش كثيرًا هذه الأحاديث ويُضعفها. وقد ورد في كتب الرجال المعتبرة نقد إسناد "الكافي" وسائر الكتب المعتبرة من الأحاديث مما يطمئن القارئ إلى اختلاق الكثير من هذه الأحاديث.
ولعلّ الأحاديث التي تبحث في عدد الأئمة الإثنَي عشر، وتذكر أن اختيار هذا العدد هو لكونه عدد أبراج السماء، وعدد الشهور، وعدد الينابيع المتفجّرة من الحجر بعصا موسى، وكلها اثنا عشر، هذه الأحاديث مِن أوضح هذه المختَلقات، والمطالع في الكتب الناقدة والشارحة للكافي ولغيرها يرى بوضوح ما قلناه.
_________________________
عرفتُ الفيلسوف الفرنسي الكبير أستاذ الفلسفة بجماعة السوربون "هنري كوربان" من خلال ملاحظاته القيّمة ومقدمته الجامعة على كتاب فلسفة الإشراق للشيخ شهاب الدين السهروردي.
عرفته مهتماً بدراسة الفلسفة الإسلامية اهتماماً يشبه الغرام حتى صرَف من عمره في هذا الحقل ما يتجاوز خمساً وعشرين سنة، فأصبح مطلعاً على غوامضها وتاريخها وتطوراتها.
وللمرة الأولى تقريباً من تاريخ دراسات المستشرقين، وجدته متضلعاً بدراسة صدر الدين الشيرازي مؤسس الحكمة المتعالية ومجدد الفلسفة الإسلامية، وقرأت رسالة له فيه قيّمة.
ثم التقى هو مع أستاذي، علاّمة عصرنا السيد محمد حسين الطباطبائي مؤلف تفسير الميزان، فوجدت فيها وفي أسئلته العديدة التي جمعتها مع أجوبة السيد الطباطبائي مجلة "مكتب تشيّع"، وجدت فيها وفي أسئلته عمقاً يفوق مستوى تفكير زملائه المستشرقين، وإخلاصاً في عمله يفرضان على قارئه الإجلال.
وله مع الفيلسوف الشاب المؤمن الدكتور السيد حسين نصر جولات فكرية ومؤلفات مشتركة، ومن يعرف د. حسين نصر وسعة اطلاعه في الثقافة الإسلامية والحضارات التي انتهجتها هذه الأمة طيلة العصور الماضية، من يعرف الدكتور ويعرف احترامه للأستاذ كوربان يشعر باحترامهما احتراماً لا يناله إلا العلماء الكبار..
وللأستاذ المؤلف كوربان مؤلفات قيّمة وملاحظات نفيسة على الكتب الفلسفية، منها: رسالته عن صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) "تعلقيات"، ومقدمة على كتاب "حكمة الإشراق" لشهاب الدين السهروردي، وعلى كتاب "جامع الحكمتين" لناصر خسرو العلوي الفاطمي، وعلى كتاب "كشف المحجوب" لأبي يعقوب السجستاني، وشرح لقصيدة فلسفية لأبي الهيثم الجرجاني..
كنت أعرف ذلك كلّه، ولكن حينما قدّم لي الأخ الفاضل نصير أحمد مروّة كتاب "تاريخ الفلسفة الإسلامية" للأستاذ كوربان شعرتُ بدهشةٍ أمام هذا الجهد العظيم وأمام هذا الإخلاص في الدراسة الفلسفية..
وأنا لا أنسى شعوري بالفرح حينما قال لي الأستاذ نصير أنه مع زميله الأستاذ حسن قبيسي بدأ بترجمة هذا الكتاب، وأنّ دار عويدات سوف تطبع الترجمة وتزيد على مكتبتها الفلسفية الزاخرة ثروة كبرى جديدة.
درستُ الكتاب وتصفحته، خاصةً فيما كتَب عن الشيعة الإثنَي عشرية وفلسفتهم وتصوّفهم وآرائهم، فرأيت أنّ اللازم علينا حينما نقدّم للقارئ العربي الكريم هذا الكتاب أن نذكر ملاحظاتنا عليه، حيث انّ الكتاب يشتمل على أهم المباحث العقيدية عندنا، فلا يجوز عرض هذه المباحث من دون إبداء رأي المذهب فيها.
وقد رحّب الأستاذ أحمد عويدات بهذا الرأي، فكتبتُ هذا الفصل مقدمةً لكتاب "تاريخ الفلسفة الإسلامية" للبروفسور هنري كوربان، حيث ناقشتُ فيه النقاط الرئيسية التي نُسبت الى عقائد الشيعة الإمامية الإثنَي عشرية..
والآن أبعث بهذا الفصل الى مجلة "العرفان" الغرّاء لكي يُعرض على القراء الكرام أصحاب الرأي النيّر تمهيداً لمناقشته وإكماله..
تصدير ترجمة الكتاب:
لقد فتح هذا الكتاب أمام الفكر الغربي بابًا واسعًا جديدًا للثقافة الشرقية، وكشف له كنوزًا غنيّة بالإنتاج الديني الفلسفيّ والتصوّف الأصيل.
وقد بذَل الأستاذ المؤلف البروفسور هنري كوربان في هذا العمل الكبير جهدًا متواصلًا يُدهش القارئ ويُلزمه بالتقدير والإعجاب، لأنه تجاوز فيه طاقة الفرد والأفراد، ذلك أن الأبحاث التي يتحدث عنها المؤلف كانت في الكثير منها مودَعة في صدور العلماء الراسخين في العلم وفي أوراق الكتب المخطوطة، وقد تفرّق العلماء وانتشروا في أقطار الشرق الإسلامي، وتبعثرت الكتب في خزائن المكتبات الخاصة والعامة في مختلف بلاد العالم
والمؤلف مع ذلك، يحاول بصبر وجلَد متناهيين سبر أغوار هذه الأبحاث، واكتشاف جواهرها وترجمتها وتنسيقها وإخراجها، وهذا عمل يتجاوز جهود كثير من الباحثين، وخدمة يقدّمها المؤلف للثقافة العالمية، تعلو الكثير من خدمات المؤسسين.
أمّا القارئ العربي فسوف يجد في ترجمة هذا السِفر الجليل متعة فكرية، واعتزازًا بما أنتجه الشرق كلّه، وندمًا لجهله (أو تجاهله) لتراثه الثقافي والحضاري العظيم، حتى أصبح كالمرآة تعكس الفكر الغربي وإنتاجه، ناسيًا أنه امتداد لمؤسسي أكبر إنتاج حضاري وثقافي في التاريخ.
وترجمة هذا الكتاب تقدّم بدورها للفكر ما يتناسب مع المشقّات التي تحمّلها المترجمان الفاضلان، والجهد المتواصل الذي بذلاه للعثور على النصوص ومصادرها، ولإتقان الترجمة.
ولكن هذا الكتاب الجليل يحتوي على أبحاث أساسية تقبل النقد العلمي وتستحقّ النقاش العادل، وفضل المؤلِّف مضاعَف لأنه أثار هذه النقاط التي كان المهتمّون بها يفضّلون عدم الخوض فيها إيجابًا أو سلبًا.
تعتمد هذه الأبحاث بصورة إجمالية على ما وجده المؤلف في كتب الباحثين من الفقهاء والفلاسفة والصوفية من مقالات لا يمكن التشكيك في نسبتها إليهم. إنما التحفّظ الكلّي في إسناد هذه الآراء إلى مذاهب المؤلفين واعتبارها جزءًا من عقائد تلك المذاهب، فالثابت هو أننا لا نستطيع أن نُسنِد الأبحاث التي أبدعها القسّ العلاّمة تيلاردي شاردان إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولا يجوز لنا أن نحاسب المذهب الحنفي عمّا نجده في كتاب فصوص الحكَم لمحيي الدين بن عربي (أحد أساطين التصوّف في الشرق).
وقد حاولنا في هذه المقدّمة توضيح المبادئ والآراء في الأصول والتفسير والعقيدة، وهي جزء من المذهب والدين، ونحن لا نقصد إنكار ما نقَلَه الأستاذ المؤلف عن المفكّرين ولا التنكّر له، فالفكر مَعينٌ لا ينضب، يُنتج ويعطي، ولا يقف أبدًا، فكلّ مفكّر مسؤول عمّا يقول، ومعتزّ بما يقول، والصرح الثقافي يعلو ويرتفع بهذا أو ذاك.
الظاهر والباطن:
من أهم النقاط التي يثيرها الأستاذ المؤلف في هذا الكتاب هو موضوع الظاهر والباطن في الأحكام وفي الدين بصورة عامة، والرمزية في القرآن الكريم. فقد أسهب في هذا الأمر وجعَله أساسًا لكثير من أبحاثه ومنطلَقًا لمجموعة من استنتاجاته، واعتمد على هذا الأصل في فهم مذهب الشيعة، وتفسير معنى الولاية والإمامة والإمام الغائب، وأجاب عن مشكلة انقطاع الوحي وبقاء الحياة الدينية للإنسان.
والحقيقة أن الباحثين في الأحكام الإسلامية والمفسّرين للقرآن الكريم لا يعتمدون غالبًا على أسلوب الرمزية، ولا يأخذون بالظاهر والباطن، بل المبدأ الشائع عندهم والطريقة السائدة هي أصل مراحل الإدراك ومبدأ تفاوت مراتب الفهم.
ولإيضاح هذه النقطة بالذات، أنبّه القارئ الكريم إلى مثَل من الواقع الذي نعيشه، فالوردة ينظر إليها الطفل كلعبة حلوة، ويفهمها المريض أو المسافر هدية طيّبة، ويفسّرها الفنّان الرسّام بغير هذين المفهومين، أما العالِم الطبيعي فإن مفهومه عن الوردة يختلف عن جميع هذه المعاني، فهو يتعمّق فيما يخفى عن أبصار الآخرين، ويرى من النشاطات في خلايا الوردة وفي أوراقها الظريفة ما لا يراه غيره.
وإذا لاحظنا أن جميع هذه التفاسير والاتجاهات صحيحة ولا يناقض بعضها بعضًا، بل إنها جميعها -مع تفاوتها بعضها مع بعض- تمثّل جوانب ومراحل من الحقيقة. أقول إنه إذا لاحظنا جميع ذلك ننتبه إلى مبدأ أساسي يلقي الضوء على بحثنا هذا.
إن الحقيقة، أيّة حقيقة، لها جوانب عديدة ولها آثار مختلفة، يتفاوت بعضها عن بعض وضوحًا وخفاءً. والعِلم البشري يكشف بالتدريج، ويدرك الآثار واحدًا تلو الآخر كلما تقدّم وتسرّب إلى أعماق الحقيقة.
ولكن الكلمة تختلف عن سائر الحقائق، وتفسيرها يكاد يكون محدودًا بحدّين:
الحدّ الأول، هو مدلول الكلمة ومعناها الاستعمالي من حقيقة ومجاز وكناية، فلا يمكن تفسير الكلمة إلّا في حدود محتواها ومدلولها. أمّا إذا تعدّينا هذا الحدّ فتصبح الكلمة رمزًا وتتغير الدلالة الوضعية وتتحول إلى الدلالة العقلية.
والحدّ الثاني، هو مستوى معرفة المتكلم وقصده من التكلم والكلام، حيث لا يمكن أن نفسّر كلام شخص بمعنى لا يعرفه أو بحقيقة ما وصل إليها. وكلما ارتفع مستوى معرفة المتكلم وازداد علمه وثقافته، ارتفعت معاني كلامه وكثرَت مدلولات ألفاظه. فالباحثون في تفسير القوانين ونصوص الاتفاقيات يعتمدون مبدأً قطعيًا، هو أن واضعي القوانين أو كاتبي الاتفاقيات بلغوا من مستوى الخبرة والثقافة حدًّا يمكّن المفسّرين من أن يتعمقوا في معاني كلماتهم وأن يبلغوا درجات عالية من التفسير والتأويل. ولكن الباحثين والمفسّرين لا يسعهم إلّا أن يقفوا عند حدّ لا يتجاوزونه، إنه حدّ مستوى ثقافة الواضعين ومعرفة كتّاب النصوص واطلاعهم ومعلوماتهم.
أمّا الكلام الإلهي فلا يُحدّ تفسيره بالحدّ الثاني، حيث إن عِلم الله عين ذاته ولا حدّ له: ﴿وسع كل شيء علمًا﴾ [طه، 98]. فالمستمع للكلام الإلهي يحقّ له أن يفهم منه كل شيء في أيّ جانب من الواقع وفي أيّ حقل من المعرفة وبأيّ درجة من العمق والخفاء، شرط أن لا يتجاوز فهم السامع المفسّر مدلول الكلمة، ولا يتعدّى التفسير محتوى الكلام ودلالاته الوضعية حقيقةً ومجازًا وكناية.
إن كلام الله هو كالحقيقة العينية، أو هو الحقيقة بعينها، له جوانب من الدلالة ومراحل من التفسير، كل واحد منها مقصود للقائل، حجّة على المستمع وطريق للمؤمن.
وحينما نبحث في هذه الميزة التي يمتاز بها كلام الله، وإلى حدّ كبير نُلحق به كلام الرسول أنه لا ينطق عن الهوى، وذلك بشرط أن تُنقل لنا نصوص كلامه دون تحريف أو تفسير من الراوي.
ويجد الباحث المدقق في كلمات المفسّرين للقرآن الكريم وفي الأبحاث التي تدور حول الآيات المباركة وحول السيرة المطهّرة، يجد هذا المسلك الذي قلناه بوضوح، فَيَرى أن المفسرين والباحثين يحاولون التعمّق في الكلمات المباركة بكل اهتمام ودقّة، ثم يجدون في سائر الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة أو الأحكام العقلية أو المكتشَفات الحديثة، يجدون في كل هذا قرائن جديدة لاكتشاف معانٍ متفاوتة اتجاهًا وعمقًا من هذه الآيات أو الروايات، ويعتبرونها ينابيع لتدفق حقائق متجددة عليهم يومًا بعد يوم.
ولَسنا في هذه المقدمة بصدد سرد الأمثال للحقيقة التي ذكرتُها، ولهذا فإنّي أكتفي بذِكر مثالين: فالشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه الشهير في الفقه "المكاسب"، يذكر الحديث الشريف: "إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام"، فيفسّره تفاسير أربعة، يختلف أحدها عن الآخر وضوحًا وأثرًا، "ولكن الجميع مدلول الكلمة وتفسير الحديث"(1). والفقهاء المتأخرون فسّروا قول الرسول: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، وذكَر كل عالِم تفسيرًا يختلف عن تفسير الآخرين، حتى ليبلغ عدد التفاسير المشهورة خمسة، وكلّها مدلولات للحديث ظاهرة لا تتعدى نطاق دلالة اللفظ (2).
إن هذا المبدأ يوضح للقارئ:
أولًا، إن الآيات القرآنية أُنزلت على الطريقة المألوفة للتفاهم، وهي الطريقة التي تعتمد على الدلالة الوضعية التي يتكلم بها جميع الناس، ولا تعتمد أصلًا على الطريقة الرمزية والدلالات العقلية الغامضة، ولا على عِلم الأعداد وحروف الجُمَل ومقاطع الأبجدية.
وهذه هي الطريقة التي اعتمدت عليها السنّة المطهّرة بالذات في بيان الأحكام وفي تفسير الآيات الإلهية، وقد حذا حذو الرسول في هذه الطريقة خلفاؤه والأئمة من بعده.
والقرآن الكريم يؤكّد في مواضع كثيرة اعتماده هذه الطريقة، منها ما ورَد في الآيتين 15 و16 من سورة المائدة: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه﴾، و[الآيتين: 3 و4] من سورة فصّلت: ﴿كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون﴾، و[الآية، 185] من سورة البقرة: ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان﴾.
والسنّة المطهّرة تؤيّد هذا في أحاديث كثيرة، منها الحديث المستفيض المشهور: "إذا التبست عليكم الفتَن كغياهب الليل المدلهمّ فعليكم بالقرآن"، (الكافي: أبواب القرآن).
إن هذه الآيات والروايات تنفي بوضوح الرمزية في القرآن، وتؤكد أن القرآن كتاب هداية للبشر، كل البشر، على اختلاف درجات معرفتهم، نزل بلغة عربية ظاهرة لا رمز فيها ولا غموض.
ثانيًا، إن مراحل إدراك معاني القرآن الكريم تتفاوت كما يتفاوت إدراك جوانب الحقيقة وآثارها. وكلما تعمّق الإنسان في آيات القرآن كلما ارتفع مستوى ثقافته، فتنفتح أمامه أبواب من المعاني والمعارف الجديدة تختلف عن مدركاته السابقة اتجاهًا وعمقًا، وهذه المعاني بأجمعها صحيحة، حقيقية، لا تتناقض.
ويختلف هذا الأمر تمام الاختلاف عن مبدأ الرمزيّة ومبدأ الكنايات واعتبار مفاتيح الرموز وقرائن الكنايات عند أهلها كما يميل إليه الأستاذ المؤلف، فالتدبّر في القرآن مثل التدبّر في القوانين والاتفاقيات، ولكن بصورة أقوى، وقد أمر الله بالتدبّر في القرآن نفسه: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾] النساء، 82]، وعليه نهَج صحابة الرسول والأئمة ومنطق التكلم وعُرف المفاهمات البشرية.
ثالثًا، وتختلف هذه الطريقة أيضًا عن طريقة الوقوف على ظواهر الكلمات والاعتماد على المداليل البدائية منها، فالقرآن كما ورد في الحديث الشريف: "يفسّر بعضه بعضًا"، وإذا قرأنا في القرآن الكريم: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة﴾ [القيامة، 23-24]، لا يحقّ لنا أن نقول إن الله يوم القيامة يرى ونتجاهل الآية الكريمة الأخرى: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار﴾ [الأنعام، 103]، وإذا رأينا الآية الكريمة: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ ]طه، 5[، لا نقول مقالة بعض الأشاعرة القدامى بالتجسّد، لأننا نقرأ في مواضع أخرى في القرآن: ﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى،11].
ومن حقّ كل مؤلّف أن يطلب إلى قرّائه إدراك مصطلحاته الخاصة بمطالعة مواضيع عديدة من كتابه، والقارئ لكتاب علميّ لا يمكنه إلّا رعاية المعاني المعنيّة التي يقصدها أهل ذاك العلم من ألفاظه.
والقرآن الكريم يعلن عن هذا المبدأ بصورة حاسمة في سورة آل عمران [الآية: 7]: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربّنا وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾.
إن المحكمات هنّ أمّ الكتاب والمرجع للمتشابهات، ولا يمكن الاعتماد على المتشابه فقط، حيث أن المتشابه هو الذي يتّحد مع الشيء الآخر في بعض الأوصاف، ويختلف معه في الحقيقة، فإذا اعتمدنا على الآيات المتشابهة التي يُفهم منها أكثر من معنى وحاولنا تفسيرها برغبات نفسية أو قرائن خارجية، فقد انحرفنا عن الخط القرآني السليم الذي يلزم الرجوع إلى الآيات المحكمة وردّ المتشابه إليها، وهذه الطريقة تمنع الاعتماد على المعاني السطحية والمداليل البدائية لكلمات القرآن الكريم.
وملخّص الكلام أن مبدأ التفسير الصحيح يباين ما ينقله الأستاذ المؤلف في الكتاب من اعتبار الكلمات القرآنية ظواهر ورموزًا إلى بواطن وحقائق، ويباين أيضًا طريقة الاعتماد على المعاني السطحية والاكتفاء بظواهر بعض الآيات دون الغور في معاني الآيات الأخرى.
هنا أودّ أن أقف مع الأستاذ المؤلف لكي نكرر قراءة الحديث المعروف: "أن للقرآن ظهرًا وبطنًا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنًا". فنحن بعد دراسة المبدأ المذكور، نفهم الحديث بصورة أخرى تغاير ما فهِمه المؤلف، وهي أن مراحل معاني القرآن الكريم متعددة: سبعة أو سبعين. (لعلّ كلمة سبعة أو سبعين كناية عن الكثرة والانسجام المتكامل). والحديث الآخر: "إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف"، هذا الحديث قد فُسّر في الأحاديث الأخرى بأنه أنواع المباحث القرآنية: "أنه أمر وزجر وتبشير وتحذير وقصص وأمثال وحِكَم".
أمّا الحديث الوارد في مطاوي الكتاب: "لكلّ آية من كتاب الله ظاهر وباطن وحدّ ومطلع"، فنعتبره جامعًا بين معنى الظاهر والباطن ومعنى المحكم والمتشابه. فالحدّ ما يُفهم من الآية وحدّها، والمطلع معنى الآية بعد إرجاعها إلى المحكمات.
فواتح السوَر:
لقد أثّر الاعتماد على المبدأ المذكور عند المفسّرين إلى حدّ بتنا معه نجد عندهم رغبة ملحّة في إنكار وجود الرموز في القرآن الكريم، حتى في فواتح السوَر نظير: ﴿ألم﴾ [البقرة، 1]، ﴿ألر﴾ [إبراهيم، 1]،﴿كهيعص﴾ [مريم، 1].
فالمحاولات التي تُبذل من الباحثين في الكتاب لتفسير هذه الحروف المتقطعة، هي دليل ظاهر على أنهم يحاولون عدم الاقتناع بوجود رموز في القرآن، واعتبار جميع كلمات القرآن هدى وبيّنات للجميع.
ولا يختلف مفسّرو الشيعة عن غيرهم في هذه المحاولات. والفهم السائد عندهم لتفسير الحروف هذه، هو أن القرآن قد تحدّى مشركي العرب، فطلَب منهم أن يأتوا بمِثل القرآن أو عشر سوَر أو سورة منه لكي يثبتوا بذلك بشريّته وكونه كلام إنسان. ثم بالَغ في التحدّي بفواتح السوَر فأعلن أن هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله وما تمكنتم من معارضته إنما هو مؤلَّف من الحروف التي بين أيديكم. هو مؤلَّف من حرف ألف ولام وميم وراء وأمثال ذلك... ويعزّز هذا الفهم أنّك تجد أن حروف ألف ولام وميم التي افتُتحت بها سورة البقرة مثلًا، هي أكثر الحروف المستعملة والواردة في متن هذه السورة، وكذلك حروف كهيعص في سورة مريم، وهكذا في جميع فواتح السوَر.
والشاهد على ذلك أن ما يلي غالب الفواتح هو كلمة "تلك" أو "ذلك"، مشيرًا إلى الكتاب أو الآيات، مما يُظهر أن الله يشير إلى هذه الحروف على أنها هي التي تركّب الآيات وتؤلّف القرآن.
ولكن الاعتراف برمزية الحروف هذه كما يتبناها بعض كبار المفسّرين لا يثبت رمزية الكتاب، نظرًا لقلّة هذه الكلمات؛ ولهذا، فقد اعترف برمزية الحروف كثيرون من مفسري الشيعة والسنّة. وأخيرًا، فإنك كثيرًا ما تجد في كلام المفسّرين لهذه الفواتح هذه العبارة: "وهي مما استأثر الله ونبيّه بعِلمه..."
الإمام:
لا يُعدّ الإمام عند الشيعة الإثني عشرية مرجعًا في تفسير الرموز القرآنية، فلا رمزية ولا كشف لبواطن الأحكام بالإرث العلمي من النبي، وهو ليس قيّمًا على كتاب الله كما ورد في هذا الكتاب. ولكن معنى الإمام هو أنه المثَل الكامل الذي جُعل إمامًا ليُقتدَى به في الدين، والدين يتضمّن جوانب وجوده وفي عامة شؤونه.
والإمام هو الإمام في جميع هذه الشؤون ولجميع هذه الجوانب، فهو المُقتدَى به، والنموذج الكامل في قوله وفعله، في فكره وعواطفه، في رأيه بالموجودات ونظرته إلى الكون، في كلّ المسالك الفكرية والخلجات القلبية. وهذا مقام خطير لا يبلغه إلّا الأوحدي من البشر بعد التجارب الصعبة والجهاد المتواصل: ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهن وقال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين﴾ [البقرة، 124[.
ورأي الإمام هذا في تفسير الآيات القرآنية هو الرأي المفضّل، حيث إنه المثل الكامل في الإدراك الإسلامي لكلام الله، وحيث إنه يحمل التراث العلمي الديني من رسول الله. قال الإمام جعفر الصادق: "كل ما أرويه لكم فقد رويته عن أبي الباقر عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله".
وإنما يؤخذ برأي الإمام في التفسير وفي بيان الأحكام لقول الرسول: "مثَل أهل بيتي كمثَل سفينة نوح، من ركبَها نجا ومن تخلّف عنها غرق"، ولقوله (ص): "إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبدًا".
إن الإمام جعفر الصادق يناقش دور الإمام في التفسير في كلمة واضحة تعبّر عن هذا الأصل، وهي أنه يسأل عالِمًا من متكلمي الشام: "ما هو الحكم بين المسلمين إذا اختلفوا بعد النبي؟"، فيجيبه أن القرآن هو الحكَم بين المسلمين إذا اختلفوا، والدليل لهم إذا ضلّوا. فيعيد الإمام فيسأله عمّا إذا اختلف المسلمون في معنى آية من آيات القرآن الكريم وما هو الحلّ، فيجيب حائرًا مقتنعًا أن جوابه هو الخلف المنطقي -بالعودة إلى القرآن-، حيث إن الغرض هو صورة الاختلاف في معنى الآية، وحينما يعترف بلزوم شخص يفسّر القرآن ويرفع الخلاف من المسلمين يؤكد له الصادق ذلك، مشيرًا إلى البُعد الذي بيّناه من الفهم النموذجي للقرآن.
وكان أئمة الشيعة يدرّبون تلامذتهم على تفسير القرآن دائمًا، فحينما يُسأل الإمام الصادق مثلًا من قبَل أحد أصحابه عن المسح على القدم في الوضوء حينما يكون عليه مرارة لعلاج الجرح ولا يمكن رفع المرارة، يقول الصادق: "إمسح على المرارة"، ثم يضيف: "هذا وأمثاله يُعرف من كتاب الله": ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ [الحج، 78].
وللإمام في الأحكام دور أساسي في الإسلام، وهو دور أوجد الفرق الكثير بين الفقه الجعفري وبين فقه سائر المذاهب، وهذا الدور هو السبب (فيما أعتقد) لما يقوله الأستاذ المؤلف في هذا الكتاب: "الأحكام ليست الدين، بل إن لها حقائق وباطنًا، ولا يكشف هذا الباطن إلّا الإرث العلمي الذي ورثه الأئمة الإثنا عشر بصفتهم ورثة الأنبياء".
والحقيقة أن الأئمة الإثني عشر قد ساهموا مساهمة كبيرة في توسعة الفقه وبيان الأحكام، وقد ساعدهم على ذلك أنهم عاشوا في أحقاب متفاوتة أشدّ التفاوت مع عصر النبي والصحابة وعصر التابعين، وأنهم عاشوا عهود أحداث مهمة وموضوعات مستحدثة حدثت نتيجة لاتصال العرب بسائر الشعوب ولتلاقيهم بالحضارات والثقافات الإغريقية والفارسية والهندية والآشورية وغيرها، وأنت تجد الأحاديث الواردة عن الأئمة الإثني عشر مليئة بالأحكام والتوجيه في المسائل الجديدة، حتى إن مساهمة الإمام الصادق في تزويد الفقه وإغنائه بلغت درجة سُمّي معها الفقه الشيعي بالفقه الجعفري.
وهذه المساهمة ليست كشفًا لبواطن الأحكام ولا إظهارًا لحقائقها أبدًا، بل نقلًا لآراء إسلامية وسنن نبوية دوّنوها ورووها بالإسناد عن رسول الله، وكانت هذه الأحاديث موجودة بنصوصها أو بعمومها عند عليّ ابن أبي طالب (ع)، وقد رواها لأبنائه ولأصحابه الذين حاولوا الأخذ منه، بينما امتنع الآخرون عن نقلها لأسباب سياسية أو غيرها، وتاريخ السيرة في عهد الصحابة ينقل لنا البحث في عدد من القضايا ومحاولة الوصول إلى رأي الإسلام فيها، ثم يوضح أنهم سألوا عليًّا في بعض الأحيان، فنقل لهم ما يرويه عن الرسول، فاعتمدوا عليه.
وحياة الإمام ودأبه المستمرّ لأخذ التعاليم الدينية عن رسول الله يتبينان من كلمة عليّ (ع) الشهيرة: "كنتُ من رسول الله كالفصيل من أمه أحذو حذوه". وقد تمكن الإمام بذلك من حمل الكثير من الأحكام والآراء الإسلامية ونقلها وضبطها حتى وصل إلى درجة يعبّر عنها الرسول في حديث متواتر: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"... ولا أرى حاجة إلى تفسير كلمة العلم بمعنى العرفان GNOSE كما يفسّرها المؤلف، بل العلم النبوي هو الإسلام، والإسلام في حقوله المنوّعة لا يقل عظمة واتساعًا عن أيّ باب من أبواب المعرفة. والعلم النبوي –أيّ الشريعة الإسلامية- يؤخذ من باب المدينة، أيّ من عليّ. وقد قام عليّ بدوره، فروى النصوص، وعلّم ما كان يعلم لأبنائه ولأصحابه ولمن حاول الأخذ منه من المسلمين.
والأئمة الإثنا عشر يروون هذه الكنوز الإسلامية نقلًا عن عليّ عن رسول الله، ويفهمون النصوص القرآنية والسنّة المطهّرة فهمًا نموذجيًا إسلاميًا، ويطبّقون المبادئ العامة على الموضوعات المستحدَثة تطبيقًا دقيقًا، وبذلك كله تصبح كلماتهم حججًا ونصوصًا، وتنطبق على ما يصفهم الرسول به من أنهم أحد ثقلَيه في أمته وأنهم مثل سفينة نوح.
استمرار تاريخ الإنسانية الديني:
الأستاذ المؤلف يتساءل في كتابه، فيقول معتزًا باكتشاف: "كيف يمكن لتاريخ الإنسانية الديني أن يستمرّ بعد خاتم النبيين، والسؤال والجواب يشكّلان ظاهرة الإسلام الشيعي".
إننا نؤكّد السؤال ونؤيّد الجواب، ولكن لا للسبب الذي يعتمده الأستاذ المؤلف من الظاهر والباطن، ومن أن دور الولي القيّم على الباطن يبدأ بعد انقطاع دور النبي المكلّف بالظاهر، ولكننا نعتمد على السبب الذي يشير إليه الرسول العربي بهذا الصدد، فيقول: "إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
إن القرآن الكريم –كما وصفناه- هو كتاب الله وكلماته، فهو حقيقة كونية بصورته الموجودة، ويختلف بذلك تمام الاختلاف عن الكلمات البشرية، والحقيقة الكونية تتجلّى وتبرز للإنسان من جديد في أيّ خطوة تقدَّم وعيه فيها وارتفع مستوى ثقافته بها.
والكون هو موضوع تطوّر الحضارة وتقدّم الثقافة، وحامل هذه التطورات والتقدّم المستمرّ هو الإنسان. فالكون والإنسان حقيقتان تتجلّيان في كل مرحلة حضارية بصورة جديدة. والقرآن الكريم، هذه الحقيقة، تنكشف في كل مرحلة أيضًا بصورة جديدة تناسب الصور الجديدة للكون والإنسان، وتوجِّه الإنسان لخطوة إيجابية جديدة في الكون.
إن هذا الانسجام الحقيقي بين الكون والإنسان وبين كتاب الله، هو انسجام فطري يكشفه المبدأ الذي ذكرناه من مراحل إدراك القرآن وصوره المتفاوتة عمقًا واتجاهًا، وهو يبيّن لنا بوضوح إمكانية تنظيم الكون أو الكتاب التكويني، على حدّ تعبير المتكلّمين، بواسطة الكتاب التشريعي الإلهي -أيّ القرآن- في أيّ زمان ومع أيّ عهد وتطور.
ولكن الإدراك الإسلامي العميق للمعاني القرآنية يبلغ القمّة عند الإمام الذي هو المثَل والقدوة في هذا الإدراك. فالإمام يفسّر الكلمات القرآنية فيساهم في تطوير الفكر الإسلامي، ويجعله صالحًا لقيادة الحياة الإنسانية المتطورة.
فللإمام إذًا، دوران أساسيان يقوم بهما: فهو يبيّن الأحكام من جهة، ويفسّر الآيات من جهة ثانية.
أ- فهو يمدّ الفكر الإسلامي بفهمٍ عميق للقرآن، وبذلك يتّسع إدراك الأمة للتعاليم الواردة في الآيات المباركة.
ب- وهو يروي أحاديث وسننًا عن الرسول، وبذلك يشغل دورًا نقليًا بالنسبة للسنّة النبوية من جهة، ثم يلعب دورًا في توسيعها، وذلك بما يضيفه هو في سيرته الخاصة. وهكذا نفهم مغزى قول الرسول (صلوات الله عليه) من أن القرآن والعترة لن يفترقا.
أما نزول الآيات القرآنية بصدد أشخاص معينين وفي مناسبات محدودة، فإن هذا لا يمنع عموم الآية وشمولية الحكم. فالمناسبة مورد لنـزول الآية وقرينة لبيان الحكم، إذ ليس الدين تعليمًا وحسب، بل هو تربية أيضًا، ولدينا أن اعتماد المناسبة هو من أفضل الطرق التربوية.
وفي ختام البحث عن الإمام، أودّ أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى ما ورد في هذا الكتاب من أن التشيّع ليس مذهبًا خامسًا في مقابل المذاهب الأربعة السنّية الأخرى. فاعتقادنا هو أن الفقه عند الشيعة يعتبر فقهًا إسلاميًا جديدًا يعتمد على الكتاب والسنّة والأحاديث المروية عن الأئمة، والتي تمثّل فهمًا أعمق للكتاب وأوسع للسنّة، مما أوجب الاستغناء به عن القياس وعن الاعتماد على المصالح المرسلة.
أما الفقه عند المذاهب الأخرى، فهو يعتمد على القرآن الكريم والمعاني التي استنبطها كبار الصحابة والتابعين من القرآن، وعلى السنّة المطهّرة التي رُويت ودُوّنت في عهد الرسول والخلفاء، وهي القسم القليل من السنّة النبوية، لأنه منع تدوينها ونقلها، ويعتمد هذا الفقه على آراء الصحابة الذين عاشوا جميعًا في عصر متقارب، وأدركوا نوعًا واحدًا من الحياة بعيدًا عن التطورات والأحداث التي نتجت عن تلاقي الحضارات.
ولهذا السبب بالذات، بقي المشكل قائمًا بعدما شاهَد الفقه نفسه أمام الأحداث الجسام الجديدة، فراجع المعاني القرآنية الموجودة عنده، وراجَع النصوص القليلة من السنّة، ثم اعتمد على آراء الصحابة، فما وجد فيها جوابًا لجميع أسئلته ولا عثر على حلّ لكل مشاكله، فاضطر عندها أن يعتمد على المتشابهات والنصوص الواردة فيها، فأسّس القياس، وبقي العجز بالرغم من هذا كله قائمًا، وبقيت الموضوعات الجديدة من دون أحكام شرعية.
وهنا التجأ الفقه إلى اعتماد المصالح المرسلة التي تشبه إلى حدّ كبير وضع القوانين والتشريع، وبهذه الطريقة تمكّن من تطوير نفسه وحلّ مشاكله، ولكنه سرعان ما رأى نفسه أمام مشكلة أخرى هي مشكلة عدم وحدة الآراء الفقهية وعدم قربها واجتماعها في إطار مذهبي مناسب، حيث إن الآراء اختلفت، وازداد بُعد بعضها عن بعض حتى كاد ذلك أن يخترق شمل المسلمين، وهنا اضطر الفقهاء أن يسدّوا باب الاجتهاد.
نعود إلى ما يقوله الأستاذ المؤلف، فنقول:
إن وجه الشبَه بين المذاهب الأربعة الفقهية من حيث المصادر ومن حيث التاريخ ومن حيث المصير أكثر من أن تجعل الفقه الشيعي قسيمة للمذاهب الأربعة. فالفقه الشيعي يقع بالضرورة المنطقية مقابل الفقه السنّي ثم يقسم الفقه السنّي إلى المذاهب الأربعة.
الولاية:
أمام هذه الكلمة وتفسيرها، نرى استنتاجات خطيرة في الكتاب. والمنصف المتأمّل في مختلف كتب الشيعة في الكلام والفلسفة والحديث والتاريخ، يرى أن استخراج المفهوم الشيعي لهذا المبدأ هو في غاية الصعوبة. ونحن حينما نحترم تلك الآراء والأبحاث لا يمكننا أن نعتبرها جزءًا من عقائد الشيعة، وإن كانت مما يؤمن بها هؤلاء الباحثون إيمانًا لا يقلّ عن إيمانهم بالمبادئ الإسلامية أو المذهبية الأخرى.
وقد ظهرت هذه الكلمة بصورتها المذهبية عند الشيعة في حديث الغدير، وهو خطبة ألقاها الرسول (ص) في طريقه راجعًا إلى المدينة من حجّة الوداع في محلّ خُمّ في جحفة، وقال (ص) في أثنائها مخاطبًا المسلمين: "ألست أَولى بكم من أنفسكم؟"، قالوا: "اللهم بلى"، قال: "من كنتُ مولاه، فهذا عليّ مولاه"، ثم دعا له بقوله: "اللهم والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه، وانصُر من نَصَرَه، واخذُل من خَذَلَه".
فكلمة المولى وردت في هذه الخطبة مقترنة بالسؤال النبوي الذي يشير إلى قوله تعالى: ﴿النبي أَولى بالمؤمنين مِن أنفسهم ﴾ ]الأحزاب، 6]، وقد أوضحت الآية الكريمة مدلول كلمة "المولى" في الخطبة.
ولأجل إيضاح هذا المبدأ، يجب أن نعود إلى الرأي الإسلامي في السلطات المختلفة، أن الإنسان إذا بلَغ الحُلم وكان رشيدًا، أصبح حرًّا مستقلًا لا سلطان لأحد عليه، ولكنه يطيع في سلوكه الشريعة الإلهية التي ينقلها له رسول الله، إذ إنه لا ينطق عن الهوى: ﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين﴾ [الحاقة، 44-46].
وقد وضعت الآية الكريمة: ﴿النبي أَولى بالمؤمنين مِن أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6] مبدًأ جديدًا هو وجود سلطة للنبي يتصرف بها في تربية المؤمنين وتوجيههم لكي يبلغوا درجة الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله في أرضه ولا سلطان عليه، وهذه السلطة تشبه السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهي سلطة القيادة التي تعبّر عنها آية أخرى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [الأحزاب، 21]، وتوضحها الآية: ﴿وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر، 7].
أُعطي النبي هذه السلطة حتى يؤسس مجتمعًا إلهيًا مثاليًا، يتهيّأ فيه لكل مواطن وسائل العيش ونموّ الكفاءات والتقدّم المستمرّ، حيث إن البيئة التي تتكون مع المجتمع الصالح هي أقوى عناصر تربية الفرد وتوجيهه.
وإنما اختصّ النبي بهذه السلطة دون الآخرين للتأثير العميق الذي تشكّله هذه السلطة على غايات الإسلام وأهدافه السامية، فلا يستأهلها إلّا مَن يعصمه الله عن الأخطاء وعن الانفعالات النفسية المختلفة، هذا بالإضافة إلى لزوم كون الوليّ عارفًا بجميع مبادئ الشريعة وأصولها وفروعها.
وقد تحتاج ممارسة هذه السلطة إلى وضع أسس تنفيذية واعتماد أصول مسلكية لمسائل الحكم والقضاء، وهذا مما يزيد في خطورة هذا المقام ودِقّة موقف حامل هذه السلطة.
مارس رسول الإسلام هذه السلطة كما يصفها لنا تاريخ الإسلام بعد الهجرة بالفعل، ووضع مبادئ وأسسًا، واعتمد على أساليب وطرق هي من صلب سلطته الإلهية -أعني بها سلطته على المؤمنين- ولا شك أن هذا البحث هو بحث مفيد ويلقي الأضواء على سيرة الرسول الأعظم وكيفية التأسّي بها.
والولاية حسب هذا التفسير مقام عظيم، وتُعدّ متمِّمة للرسالة كما يصفها الأستاذ المؤلف، ولكن بالمعنى الذي قلنا من أن الولاية سلطة إلهية لتنفيذ الشريعة ولتطبيق الإسلام على المجتمع: سلطة لا تُعطى إلّا للرسول صاحب الرسالة، أو إلى من تحوّل إلى فكرته وذاب في ذاته حتى عُدّ استمرارًا له.
أمّا تفسير الولاية بأنها باطن النبوّة، وأن ابتداء الولاية نهاية دور النبوّة، فهذا رأي خاص لا يعترف به الشيعة كمذهب، ولا الإسلام كدين، وإن كان القائل به بعض كبار الصوفية أو علماء الفلسفة.
إن الولاية سلطة إلهية، وهي تحتاج إلى النص حسب رأي الشيعة، وقد ورد النص بذلك، وهي مقام عظيم لا يبلغه إلّا من يمثّل صاحب الرسالة قولًا وعملًا وفكرًا، ومن امتحن الله قلبه، من ينسى نفسه في ذات الله ولصالح الإسلام، أيّ من عاش الإسلام بكل وجوده.
ونحن نعتقد أن الاهتمام البالغ الذي تخصّ به أحاديث الأئمة وكلمات العلماء الولاية هو الذي جعل الأستاذ المؤلف يعتبر أن الولاية باطن النبوّة وحقيقة الشريعة، وأن فكرة الولاية داحضة لفكرة معارضة التشيّع للتصوّف، حتى بلغ رأي المؤلف إلى أن جعل التشيّع الينبوع الوحيد الأصيل للتصوّف، وغير ذلك من الاستنتاجات.
والحقيقة أن الولاية عند الشيعة لها مقام كبير يتجاوز كل مقام، ولكنها تختلف تمامًا عمّا يورده المؤلف ويستنتجه.
إن الولاية سلطة لتكوين المجتمع الإلهي الذي هو الطريق الوحيد لتربية المسلم تربية كاملة. والتربية هذه هي الغاية لرسالة الإسلام، فأصبحت الولاية في الحقيقة الطريق الوحيد لبلوغ الإسلام غايته، ولأجل هذا تجِد في أحاديث الشيعة: "بُني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية".
فالحديث يشير إلى هذه النقطة الجوهرية، ويعتبر أن الولاية من أُسس الدين، وأنها وسيلة لإيجاد ظروف ملائمة تمكّن للعبادات والاقتصاديات والسياسات الإسلامية أن تؤثّر أثرها. وإذًا، فقد باتت الولاية في طليعة الواجبات، والسؤال عنها يوم القيامة قبل جميع الأسئلة، وبإمكاننا أن نعتبرها قاعدة أساسية لجميع أحكام الإسلام.
وقد كان الرسول (ص) يجمع بين مقامَي النبوّة والولاية، ولكن الأولياء من بعده كان لهم مقام الولاية فحسب دون مقام النبوّة، ولم يكن عندهم حتى ما يشبه مقام النبوّة (كما يقول المؤلف). والقرآن الكريم يقرر مبدأ وحدة الدين الإلهي ونزوله بالتدريج حسب توارد الأنبياء والرُسُل، ويعتبر في ختام الشوط أن النبي محمدًا جاء بالمرحلة الكاملة من الدين الإلهي. فإذا لاحظنا أن الإسلام الكامل إنّما هو مجموعة من القوانين الفردية والاجتماعية، وإذا لاحظنا أن هذه المجموعة ما طُبقّت إلّا بعد هجرة الرسول وممارسة مقام الولاية، الأمر الذي جعل المسلمين يقررون يوم الهجرة مبدًأ للتاريخ الإسلامي دون يوم المبعث مثلًا. إذا لاحظنا جميع ذلك نقدّر عظمة مقام الولاية، وبإمكاننا أن نعبّر عنها مثل ما عُبّر عنها في أحاديث الشيعة وكلمات علمائها، من دون مبالغة أو تفسير لا يرضي أصحاب هذه الأحاديث.
إن هذه الأبحاث والكلمات هي السبب في استنتاجات الأستاذ المؤلف. والحقيقة أن هذه الاستنتاجات ليست واردة في المذهب الشيعي الإثنَي عشري بصورة من الصور. فلا وحي للأئمة الإثنَي عشر، ولا رؤية ملاك، ولا قيمومة على حقائق الأحكـام، ولا تفسير لرمزية الآيات، ولا سلطة لإدارة باطن الشريعة، ولا ولاية تكوّن لبّ النبوّة وحقيقتها.
التصوّف والتشيّع:
الحديث عن التشيّع والتصوّف يبدو غريبًا جدًا، حيث إن كلمات فقهاء الشيعة ومحدّثيهم ومتكلّميهم وحتى فلاسفتهم مليئة بنفي أي شبه.
إن التصوّف مدرسة مستقلّة عالمية تسرّبت إلى الشيعة بعدما غزت العالم الإسلامي كلّه، وبعدما دخلت في عقائد المسيحيين بصورة واضحة، حتى إن التصوّف الآن يُعدّ مفتاحًا لانفتاح جميع الأديان والمذاهب بعضها على بعض، ولا يختصّ بالشيعة تبعًا ولا سندًا.
فثنائية الشريعة والحقيقة غير واردة عند المسلمين بمختلف فرَقهم المعروفة. فالشريعة في الإسلام هي الحقيقة المطلقة الإلهية: و﴿من يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه﴾ ]آل عمران، 85]، أمّا اتصال كبار الصوفية في سلسلة أقطابهم إلى بعض أئمة الشيعة، واعتبار البعض الآخر كالإمام محمد التقي الجواد قادة الشريعة دون أئمة الحقيقة وأقطابها، فلا يحمل مسؤولية هذه الآراء إلّا القائلون بها.
وما ثنائية الشريعة والحقيقة إلّا نتيجة لثنائية الجسم والروح التي هي قاعدة أساسية للتصوّف، ومن نتائجها أن تضعيف الجسم والرياضات الجسدية هي أسباب لتقوية الروح وتكاملها. أمّا الإسلام فيكرّم الجسد ويعتبره نعمة من الله، ويمنع الرهبنة، ويعتمد على اتحاد الجسد والروح وتفاعلهما ومقارنة الدنيا والآخرة.
فالله يُعبد في محراب المسجد، وفي محلات السوق، وفي مكاتب الإدارة، وفي حقول المزرعة، وبالجهاد في سبيل الله، وبالمحافظة على سلامة البلاد، وبالكدّ للعيال، وبحُسن التبعّل للزوجية، وبتربية الأولاد. ويُعتبر من يُقتل دفاعًا عن ماله شهيدًا كالمدافع عن دينه.
والحاجات الجسدية والرغبات الطبيعية آثار نعمة الله ومن لطائف خلق الله، تكرَّم بالصيانة عن الوقوع في المحرَّم، وتقدَّس بالشكر على النعمة. والآداب الإسلامية تأمر باقتران الأكل والشرب والتمتُّع الجسدي بالشكر لله، وتُعدّ تعاليم الزواج والتجارة والزراعة عبادات عظيمة في الإسلام.
إن هذه الأحكام والآداب لا تنطبق على التصوّف الذي ينبع من معارضة الروح للجسم، ويتكامل بالمجاهدة ومحاربة النفس وبالامتناع عن رغبات الجسد مهما أمكن.
القطب:
يناقض مفهوم الإمام ومفهوم الولي عند الإثنَي عشَريّين مفهوم القطب عند الصوفية كليًا. فالإمام كما قلنا مثل كامل، والولي هو الحاكم بكل ما للكلمتين من معنى وآثار ونتائج وأهمية.
أما القطب بمعناه الظاهري عند الصوفية فهو المربّي الذي يأخذ بيد السالك خطوة خطوة في طريقه الوعر الشائك المحدِق بالأخطار والانحرافات لكي يوصله إلى الكمالات الإنسانية، ويباشر القطب -وهو الإنسان الكامل- هذه العملية بواسطة أنصاره ومعاونيه، ويسلك هو معهم ويسير معهم في نفس الطريق.
وأمّا المعاني العميقة للقطب فهي أنّه الإنسان الكامل، وإمام الزمان، ومظهر النبي، ومجلّي ذات الله، فيقصده السالك ويراه في حال مخاطبة الله حينما يقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ [الفاتحة، 5]، حيث إنه مرآة صادقة لذات الله.
وهذان المعنيان يختلفان عن معنى الإمام والولي ودورهما طريقًا وغاية. فلا حقيقة مغايرة للشريعة خفيّة عن أذهان الناس، ولا طرق خاصة بكل سالك، ولا عملية قيادة مباشرة، ولا مظاهر وتجلّيات.
ولا تأخذ الشيعة على المتصوف مسألة تنظيم الطريقة والمسائل المسلكية فحسب، بل الخلاف أعمق، والطريق مختلف، وأدوار القادة متفاوتة جدًا.
وهناك متصوّفون من الشيعة يعتبرون القطب إمام زمانهم، ويؤمنون بالمهدوية النوعية، وهذا استمرار لخطهم العام من اعتبار الأئمة، من علي بن أبي طالب إلى علي بن موسى الرضا، أئمة الشريعة وأقطاب الطريقة، وهو تفسير يعود لمفهوم الإمام عندهم.
الإمام الغائب:
ودور الإمام الغائب الذي اعتبر الأستاذ المؤلف أن رأي الصوفية في القطب تطاول عليه دور كبير يجب البحث عنه، خاصةً وأن المؤلف قد ربط بينه وبين باطنيّة الشيعة، وأنهم ينتظرون كشف الحقيقة لا ظهور نبي جديد، أيّ ظهور وليّ يكشف جميع حقائق الأحكام. واعتبر المؤلف أيضًا أن فكرة الإمام الغائب هي فكرة الهادي غير المنظور الذي يقود الأمّة ويعرّفها الحقيقة.
والأنسب توضيح مفهوم الإمام الغائب عند الإثنَي عشريين من الشيعة، ودوره المنتظر في أيام الغَيبة، لكي يتّضح مدى صحة استنتاجات المؤلف ومدى الفرق بين الفكرة عند الإثنَي عشريين وعند الإسماعيليين ومدى الفرق بين هذه الفكرة وفكرة القطب الصوفي.
إن فكرة الإمام الغائب هي بعينها فكرة ظهور المصلح الكامل الذي يبشّر بالنظام الأكمل ويهيّئ جميع البشر لبلوغ كمالهم، وذلك بإقامة أفضل مجتمع وتطبيق أفضل نظام وتعميم العدالة التامّة لكي يصل الإنسان إلى الذروة في المعرفة والعلم ووسائل العيش وفي صلات الناس بعضهم ببعض، هذه الفكرة أساسها الشعور الفطري للإنسان الذي يدفعه دائمًا ومن دون توقف إلى الأفضل في جميع حقول معرفته وميادين حياته، مقنعًا إياه أنه يستمرّ في الصعود إلى مدارج التكامل ويتقدّم دائمًا، وأن تجاربه الدائمة قد تعكس انعكاسًا مؤقتًا سرعان ما يعود عنه ولو بلغ عمر الانتكاسة عشرات السنين أو أكثر.
والعلم في سير دائم إلى الأمام، حيث إن الإنسان يجمع معلوماته وتجاربه دائمًا لتكوين قوانين جديدة تزيد في دائرة علمه، فالعلم ينمو من جميع الجوانب ويوفّر للإنسان التقدّم المنسّق المتكامل.
ولعلّ التراث العام الذي ورثه الإنسان من تعاليم السماء في أغلب الأديان، يجعله ينتظر ظهور مصلح كامل يعيد الحقّ إلى نصابه، ويطبّق ما تمنّاه الأنبياء للبشر تطبيقًا كاملًا غير منقوص.
والقرآن الكريم يُشير في مواضع عديدة إلى هذا المستقبل: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء، 105]، ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ [النور، 55].
والسنّة المطهّرة بالرغم من تفاوت مضامينها تشكّل تواترًا بظهور مصلح كامل، يطبّق الإسلام تطبيقًا كاملًا ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا.
من مجموع هذه الأدلّة، تكوّنت فكرة الإمام الغائب عند المسلمين، وأنه المبشّر بهذا النظام الكامل، حينما يعجز الإنسان ويقف حائرًا واعيًا لفشل جميع طرقه وأساليبه ينتظر نظامًا يرتاح فيه وجميع أفراده بجميع جوانب وجوده. وهذا الاستعداد في نفوس الناس يسهّل مهمّة الإمام المبشِّر فينجح فورًا في دعوته بالرغم من تقدّم البشر في القوى الهدّامة والأسلحة الفتّاكة.
فالإمام الغائب عند الشيعة هو أحد الأئمة الإثنَي عشر، وهو الحلقة الأخيرة منهم، وكلّهم نور واحد وخطّ واحد ويحملون رسالة واحدة، ودوره تطبيق ما كانوا يبشّرون به من رسالة جدّهم ليس إلّا، ولا شك أن هذا الدور، مع لحاظ ما قلنا في معنى الإمام الولي، يشكّل رأيًا خاصًا في المخطّط الديني وإيضاحًا لتعاليم هذا المخطّط، وليس كشفًا لبواطن الأحكام.
هذا هو دور الإمام المنتظر في المستقبل، أمّا دوره وهو غائب فصيانة الأحكام ومنع انعقاد الإجماع في الأحكام على خلاف الحقيقة، فهو بمخالفته لسائر الفتاوى يمنع حصول الإجماع، وبالتالي يمنع انحراف الفكر الشرعي. وإذا لاحظنا صعوبة الدراسات الفقهية أمام الأحداث والتطورات الحديثة، إذا لاحظنا ذلك نعرف أهمية هذه الصيانة، ولكن هذه المخالفة غير مشروطة بمعرفته وشهرة اسمه، وهذا البحث مستوفى في الكتب الأصولية وفي موضوع حجية الإجماع في زمن الغيبة.
والإمام المنتظر في المذهب الشيعي شخص واحد غير كلّي، فلا ينطبق على قطب في كل زمان، ولا علاقة له بالدور الذي يقوم به القطب ولا بانتظار كشف الحقائق وبواطن الأحكام بواسطته، وإنما تنفيذ الأحكام الإسلامية على يد الذي استخلفه الله في الأرض.
مبدأ الباطنية:
والكلام حول ما أشار إليه الأستاذ المؤلف: "فما من مسألة من مسائل الإسلام الباطني إلّا وقد أشار إليها الأئمة ومهّدوا لها ببحث أو موعظة"، إن الكلام حول هذه الدعوى ذو شجون.
والحقيقة هي أننا نلتقي في كتب الأحاديث عند الشيعة كما عند غيرهم بأحاديث يُستشمّ منها رائحة الباطنية بوضوح، وبأحاديث تدلّ على مغالاة وغيرها، ولكن المنصف المتأمل فيها وفي إسنادها يعرف عدم صحة هذه الأحاديث وضعفها. فالكافي مثلًا، وهو أهم كتاب حديث عند الشيعة، حينما يشرحه ويشرح أحاديثه المحدّث الكبير محمد باقر المجلسي في كتاب "مرآة العقول" يناقش كثيرًا هذه الأحاديث ويُضعفها. وقد ورد في كتب الرجال المعتبرة نقد إسناد "الكافي" وسائر الكتب المعتبرة من الأحاديث مما يطمئن القارئ إلى اختلاق الكثير من هذه الأحاديث.
ولعلّ الأحاديث التي تبحث في عدد الأئمة الإثنَي عشر، وتذكر أن اختيار هذا العدد هو لكونه عدد أبراج السماء، وعدد الشهور، وعدد الينابيع المتفجّرة من الحجر بعصا موسى، وكلها اثنا عشر، هذه الأحاديث مِن أوضح هذه المختَلقات، والمطالع في الكتب الناقدة والشارحة للكافي ولغيرها يرى بوضوح ما قلناه.
_________________________