بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الأخ الجليل الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية الموقّر،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيّة الإسلام الطيّبة، وبعد:
في هذه الأيام العصيبة التي تلفّ الأمة بالقلق، وبين يدي هذه الأخطار المحدقة التي تجعل المنطقة كلّها، حاضرها ومستقبلها، في مضرب الطوفان، تبدو لنا بوضوح أكثر فأكثر حاجة المسلمين الملحّة إلى وحدة شاملة متلاحمة، لجمع ما تفرّق من صفوفهم وتوحيد ما تبعثر من جهودهم، وذلك حتى تتبيّن لهم مواقع أقدامهم، وتعود الثقة إلى أنفسهم وهُم في طريقهم إلى المستقبل وأمام بناء تاريخهم وأداء مسؤولياتهم.
إن جمع الكلمة لتوحيد الطاقات ولتنمية الكفاءات ليس موجهًا، كونها من أشرف الغايات الدينية ووصية نبينا العظيم فحسب، ولكنها أيضًا تتصل بوجودنا وكرامتنا وبمقومات وجود أجيالنا، إنها مسألة حياتية.
ووحدة الكلمة هذه لا ينبغي أن تظلّ شعارًا مرفوعًا أو كلمة مكتوبة، بل يجب أن تكون ومضة الفكر وخفقة القلب ودرب السلوك، إنها البُعد الأساس للمستقبل.
ولا يكون ذلك إلّا ببذل عناية فكرية خارقة، وإيلائها اهتمامًا وجدانيًا خاصًا، والسعي والسهر من أجل تكريسها. عندئذ تصبح الوحدة حقيقية قائمة، ونموذجًا عليه يُحتذى، ومثلًا به يُقْتدى.
صاحب السماحة،
وها نحن نضع تجربتنا المتواضعة بين أيديكم، وكان قد سبق وعُرِضَت في أول لقاء بيننا في دار الإفتاء الإسلامية منذ أربعة أشهر.
إن توحيد كلمة المسلمين وعقولهم وقلوبهم، وبتعبير أدَقّ، إن تعميق وحدة المسلمين وجعْلِها على ركائز فكرية وعاطفية متينة يتحقق بطريقين:
توحيد الفقه:
فالصرح الإسلامي الواحد في الأساس، والأمة الواحدة في العقيدة والكتاب والمبدأ والمنتهى، بحاجة إلى وحدة التفاصيل، وتوحيد هذه التفاصيل المختلفة أو تقريبها، أمرٌ لم تفتْ رؤياه الكبيرة سلفَنا الصالح من علمائنا الأبرار قدس الله أسرارهم.
فقد رأينا الشيخ أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي وضع كتابه "الخلاف" منذ ما يزيد على ألف سنة في الفقه المقارن، وتبعه العلاّمة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهر في كتاب "تذكرة الفقهاء"، والفقه المقارن هو النواة الصالحة لاستنبات الوحدة الفقهية ولاكتمال وحدة الشريعة.
وفي أيامنا ومنذ ثلاثين عامًا، أسّست نخبة فاضلة ومجاهدة من كبار علماء المسلمين دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة. ومن بينهم المغفور له الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم، والمغفور له الأستاذ المجدّد الشيخ محمود شلتوت، والمغفور له عميد كليّة الشريعة بالأزهر الشيخ محمد محمد المدني، وكبار علماء المسلمين في لبنان وإيران والعراق كالمقدس سِرّه الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، والمغفور له المرجع الأعلى للطائفة الإسلامية الشيعية في العالم السيد حسين البروجردي، والأستاذ العلاّمة الجليل الشيخ محمد تقي القمّيّ سكرتير دار التقريب الدائم.
وقد تبنّت مؤسسة التقريب هذه -عدا خدماتها الواسعة- مشروعًا وضع خطوطه الأولى وبدأ بتنفيذها والدنا المغفور له الإمام السيد صدر الدين الصدر في كتاب "لواء الحمد"، وهو محاولة لجمع كلّ ما رواه المسلمون في مختلف فرقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) في سائر حقول العقيدة والشريعة، ليكون مرجعًا للمسلمين بعد القرآن الكريم، وبتعبير أدقّ سعى لتوحيد السُّـنة النبوية المطهّرة.
وقد وضع خلال هذه الفترة بعض هؤلاء الأعلام وغيرهم، أبحاثًا وكتبًا حول الفقه على المذاهب الإسلامية.
ثم جاء دور الموسوعات الفقهية، وبدأت جامعة دمشق بوضع "الموسوعة الفقهية"، وبدأت جامعة الأزهر بتأليف "موسوعة عبد الناصر للفقه الإسلامي"، والآن تجري في جامعة الكويت نشاطات كبيرة حول إكمال "الموسوعة الفقهية".
وألَّف الأستاذ الأكبر عميد كلية الفقه في النجف الأشرف السيد محمد تقي الحكيم كتابًا جليلاً حول المبادئ العامة للفقه المقارن.
إن هذه المساعي البنّاءة بدأت تعطي ثمارها في فتاوى فقهاء المسلمين، وتؤكِّد إننا أصبحنا على مقربة من وحدة الفقه بإذن الله.
طريق المساعي المشتركة:
وهذا الطريق يبدو في الظروف الاستثنائية، مثل ظروفنا في لبنان، أكثر ملاءمة وأسرع إنتاجًا، ويتمثل بحشد جهود مشتركة لتحقيق أهداف متنوعة يُعدّ بحدّ ذاته كسبًا وحدويًا ويؤدي السعي المشترك إلى تلاقي العاملين في ميدان واحد كرفاق سلاح، فتشيع الثقة وترتاح النفوس حيث تتجلّى وحدة العقيدة والمشاعر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض هذه الأهداف:
أ- الأهداف الشرعية المحضة: مثل توحيد الأعياد والشعائر الدينية، وصيغ بعض العبادات كالأذان والجماعة وغيرها.
فبالإمكان درس اقتراح يرمي إلى الاعتماد على الطرق العلمية الحديثة لاكتشاف وجود الهلال في الأفق في زاوية الرؤية، توصلًا إلى معرفة العيد بصورة دقيقة، لكي يمكن للمسلمين في العالم اعتباره في يوم واحد، ولكي يوفّر لهم المتاعب التي تحصل لهم ولكلّ من يريد مشاركتهم بزيارة أو عطلة أو خلافه، تلك المتاعب التي نعيشها لتأخّر ثبوت العيد. وبالإمكان درس صيغة مقبولة للأذان لدى الجميع.
ب- الأهداف الاجتماعية: وتبدو صورة هذه الجهود المشتركة في المساعي الرامية إلى مكافحة الأمّية والتشرّد ورعاية الأيتام ورفع مستوى حياة الكادحين.
ومن السهل تأسيس مؤسسات لهذه الغايات السامية ودعم الموجودة منها برعاية أوسع وتأييد أمنع.
ج- الأهداف الوطنية: وهل هناك ريب في وحدة مشاعرنا الوطنية؟
فوجوب المشاركة الفعلية لتحرير فلسطين،
وواجب حماية لبنان من مطامع العدو الغادر،
وواجب دعم المقاومة الفلسطينية المقدّسة،
وضرورة الاستعداد التام والتعاون الكامل مع الدول العربية الشقيقة لمواجهة العدوان المحتمل في كلّ لحظة،
وموضوع تحصين الجنوب بصورة خاصة،
وكلّ لبنان بصورة عامة ليصبح قلعة عليها تتكسّر قرون إسرائيل وتتبدد مطامع الاستعمار،
كلّ هذه... أهداف ليس عليها أدنى خلاف؛
ولكنّها كلّها بحاجة ملحّة لوضع دراسات دقيقة لتنفيذها ولتحديد المسؤوليات فيها، وتنسيق جهود جميع أبناء هذا البلد فيما بينهم ومع المسؤولين ومع الدول العربية، ولتجنيد طاقات المسلمين في العالم وأصحاب الضمائر الحيّة والنوايا الحسنة في كلّ مكان.
ولأجل المشاركة الحقيقية في هذه الواجبات -أيّ بذل جميع ما في الوسع- علينا أن ندرس هذه الأمور وبرامجها وأساليبها بصورة مشتركة تسهّل تنسيق النشاطات ومضاعفتها.
هذه نماذج نعرضها على سماحتكم، على أمل دراسة الموضوع من كلّ جوانبه، وتكليف ذوي الاختصاص لتكوين لجان مشتركة والشروع في العمل فورًا.
صاحب السماحة،
وقبل أن أوقّع هذه الرسالة وأقدّمها، نلفت نظر سماحتكم إلى أن شهر رمضان المبارك أصبح قريبًا، ورمضان المبارك فرصة فريدة -كما تعلمون- لخلق جوّ روحي وبطولي يعيش فيه المسلم ذكرياته الخالدة، لكي تنعكس تلك المواقف العظيمة على حياته فتتحول إلى حركة مماثلة تصنع واقعه في هذه الأيام.
ولذلك، نرجو الإسراع بتكليف المسؤولين عن هذا الشأن بدار الإفتاء الإسلامية، للاجتماع بأعضاء لجنة النشر والإعلام في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بحضور وتعاون بعض الناشطين من المؤمنين الاختصاصيين في دوائر الإعلام الرسمية، لوضع برامج متكاملة تساعد على خلق الأجواء المناسبة لهذا الشهر العظيم، وتذكّي في نفوس المسلمين جذوة الخير والحقّ والبطولات.
دمتم يا صاحب السماحة للإسلام وللخير كلّه، ولإخوانكم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولأخيكم المخلص.
موسى الصدر
__________________________
* رسالة أرسلها إثر انتخابه رئيسًا للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد بتاريخ 1 تشرين أول 1969
