رحلة الشهادة

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 01 شباط 1974 الكاتب:موسى الصدر

* خطبة للإمام الصدر بمناسبة ذكرى عاشوراء في الكلية العاملية- بيروت بتاريخ 1 شباط 1974، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
[...] لنا العدل والحقّ في هذا الوطن. نحن جماعة الحسين، نحن السائرون في موكب الحسين، نحن الثائرون مع الحسين، نحن البانون في التاريخ الذي يريده الحسين، ونتمنى أن يُفهم حديثنا، أن يُعرف هدفنا، وأيُّ مكان أولى، لا تؤاخذينا أيتها العاملية؟ أليس شعارك على المدخل ذو الفقار؟ فلا فتى إلا عليّ ولا سيف إلّا ذو الفقار.
عليّ ما كان حبًّا بالدم يقتل، كان أمام المظلوم يرتجف ويبكي، وأمام اليتيم يضع وجهه أمام نار الفرن فيقول: ذُقْ يا أبا تراب، هذا جزاء من ضيّع الأيتام... هذا عليّ... عليّ يرتجف أمام اليتيم. القرآن يقول: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون، 1-3]. هذا هو خطّ عليّ. نقول بهذا الخطّ ونسأل الله أن نتوفق بسلوك هذا الخطّ. نوضّح جميع الأبعاد، ونذكر جميع الأهداف والوسائل والخلفيات كما ذكرها الحسين (عليه السلام).
نرجو أن تكون عاشورانا هذه، أيّامنا هذه، أيامًا حسينية حيّة. هكذا أراد وهكذا أوصى. البكاء لا يكفي، الاحتفال لا يكفي. الحسين (عليه السلام) لا يحتاج إلى ذلك. الحسين شهيد الإصلاح: أريد الإصلاح في أمة جدي ما استطعت. فإذا ساعدنا في إصلاح أمة جده نصرناه، وإذا سكتنا أو منعنا الإصلاح، خذلناه ونصرنا يزيد.
أيّها الإخوة،
اختاروا صفوفكم: صفّ يزيد أو صفّ الحسين، فوالله لا أراكم تختارون إلّا صفّ الحسين وإلّا أن تلبوا نداء الحسين الذي يقول: هل من ناصر ينصرنا؟ هل من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله؟
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك. عليك منّا سلام الله أبدًا ما بقينا وبقي الليل والنهار، يا ليتنا كنا معك، لا، نقول نحن معك يا أبا عبد الله، الزمن منعنا أن نكون إلى جانبك، نموت دونك، ولكن الزمن ما منعنا من أن نكون في أيام إسلامك.
[...] والجهل.
هذا المناخ الحسيني، عندما نغتنم فرصة زمان الحادثة فنحتفل به ونعيد الحادثة إلى مسامعنا وإلى قلوبنا وإلى مشاعرنا، نرتبط بدورنا بتلك البطولات الخالدة التي قلعت جذور الظلم والظالمين، ورفعت الأقنعة والحجب من أمام وجوه الطغاة والمنافقين.
هذه الحادثة الخالدة التي كانت منارةً عبر الأجيال غير مخصوصة بأيّام الحسين (عليه السلام). فالحادثة في أبعادها تتجاوز محنة عاطفية ومأساة بشرية، بل إنها نموذج صالح للاقتداء في كل زمان ومكان. إن الحادثة بأسبابها وتفاصيلها ونتائجها تعلِّم الأجيال، كلّ الأجيال، وتفتح أمام الأجيال، كلّ الأجيال، طرق النجاة وطريق الخلاص. أمتنا كانت ولم تزلْ، وكلّ أمة أيضًا، تحتاج إلى مثل هذا الدرس وأخذ هذه العِبر.
الحادثة تحطُّ... الحادثة وُجدت في ظرف زمني معيّن، ذلك الظرف يرتبط بخلفيات معيّنة، عندما ندرس تلك الخلفيات ندرك سبب عنف الحادثة وعظم المأساة وأبعاد المعركة.
كانت هناك خطّة للقضاء على الإسلام ولتشويه الإسلام. هذه الخطّة انكشفت في ساعة من الزمن على لسان يزيد بن معاوية وهو جالس منتصر ومغرور في قصره، وأمامه رأس الحسين (عليه السلام)، انكشفت من خلال شعر استشهد به يزيد، والشعر للشاعر ابن الزبعرى، فقال يزيد وهو يمسُّ ثنايا ابن بنت رسول الله بخيزرانته، قال:
لعبت هاشم بالملك فلا                         خبر جاء ولا وحي نزلْ
من يقول هذه الكلمة؟ يزيد. يسمِّي نفسه أمير المؤمنين، ويجلس على منبر الرسول ويحكم على الأمة باسم الإسلام. فهو من الداخل يتحدى الإسلام، ويعتبر أن كلّ ما حصل من تضحيات ومن مجاهدات ومن مساعٍ، كلها وسائل للحكم وليست رسالة لتحرير الإنسان. هذه الخطّة التي بدأ بتنفيذها معاوية ثم مكّن ابنه يزيد الذي كان يقال عنه قبل الخلافة وفي أيام الشباب أنه غرّ مستهتر فاسق. عندما مكّن معاوية ابنه يزيد الذي كان يقتل النفس المحرّمة ويهتك الأعراض ولا أمان له ولا ذمّة كما يصفه التاريخ، مكّنه من رقاب المسلمين وجعله خليفة وفرض على الأمة البيعة. عند ذلك يتبين لنا أن الأمر بلغ منتهى خطورته.
فيزيد الذي يتحدث عن الإسلام فيعتبره لعبة هاشمية للتحكم في رقاب الناس لا وحي ولا رسالة، يصبح حاكم المسلمين، والأمة ساكتة وهادئة خائفة وطامعة لا حول لها ولا طول، الأحرار مشردون والناس ساكتون.
في هذا الجو، ويزيد يتصرف كما يشاء ويهتك حرمات الناس ويستهتر بقيم الناس، في هذا الجو، وأمام سكوت الأمة على المظالم تتفرج كل يوم على ظلم أو على قتل، وترى في كل يوم أمام أعينها محنةً ومصيبةً وتجاوزًا، أمام هذا الواقع، أمام الضمائر الخائفة أو النائمة، كان لا بدّ من تضحية كبرى توقظ الضمائر وتهزُّ المشاعر. فحادثة كربلاء جاءت في ظروف ملائمة تهيّأت لهذه الظروف كافة الأسباب، ومكّنت من هذه الظروف عوامل متسلسلة تعود إلى سنوات وسنوات قبل واقعة كربلاء.
يأتي يزيد فيصبح أميرًا للمؤمنين وخليفة على المسلمين، ويطلب من الحسين البيعة. ماذا يعمل الحسين أمام هذا الاقتراح؟ هل يبايع فيضع صيغة الشرعية على تصرفات يزيد؟ ويزيد هو الذي يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا                                     خبر جاء ولا وحي نزلْ
وعند ذلك، أين مسؤولية الحسين؟ أما قال رسول الله يوم أن قال في عودته من حجة الوداع: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؟
وبهذه الكلمة، ما جعل النبي أبناءه حكامًا، بل جعلهم حفظة للإسلام، وخاصة وكلّ واحد منهم حافظًا للقرآن والشرع، وبذلك حمّلهم أمانة كبرى لا يمكنهم أن يتخلوا عنها. يقول الحسين (عليه السلام) في بعض كلماته: لن تشذَّ عن رسول الله لُحمته. لا يمكن لمثل الحسين ابن بنت رسول الله والصحابي الجليل وريحانته من الدنيا... هل يمكن لمثل الحسين هذا أن يخون أمانة رسول الله، وأن يسكت أو يوافق على تصرفات يزيد وعلى ظلمه وعلى انحرافه وعلى ادعاءاته؟ كلا.
فلا مصير أمام الحسين، لا السكوت ولا الإمضاء. ويزيد يريد تنفيذ الخطة، يريد القضاء على الإسلام واحدًا من أحكامه تلو الآخر. ولذلك، تصرف مع مدينة الرسول، كما نعلم، تصرفًا قتل خلاله المئات من الصحابة والتابعين. وحاول أن يتصرف مع مكة المكرّمة بحجة السيطرة على عبد الله بن الزبير فأراد أن يهدم الكعبة. هذا الرجل الذي يريد قلع جذور الإسلام والقضاء على أحكام الإسلام، ويريد أن ينتقم ويستردّ ديونه من محمد ومن الرسالة، ماذا يمكن للحسين أن يعمل معه؟
يقول يزيد عندما برز رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس إخوته وأهل بيته، يقول شعرًا، والشعر له:
لما بدت تـلك الرؤوس وأشرقت                           تلك الشموس على ربى جيرونِ
نعق الغراب فقلت ِصحْ أو لا تصحْ                      إنِّي أخذت مـن النبيّ ديونـي
بهذا المنطق علينا أن نعيّ أبعاد المعركة، الحسين خرج لا حبًا في الخروج، وقُتِل وحارب لا حبًّا في الحرب والقتل، إنما صيانة للإسلام. هذا الرجل الذي يريد أن يأخذ من النبيّ ديونه ويتمثل أيضًا بشعر ابن الزبعرى فيقول:
لستُ من خندفٍ إن لم أنتقم                             من بني أحمد ما كان فعل
هذا الرجل لا يريد بقاء الإسلام. تسلل داخل الإسلام ووصل إلى كرسي الخلافة ويريد القضاء على الإسلام والأمة ساكتة هادئة، مسايرة خائفة طامعة. ماذا يعمل الحسين؟ بطبيعة الحال، مسؤوليته الأساسية تتحرك. إنه لحمة من رسول الله، ابن بنت رسول الله، لا يمكنه أبدًا أن يتخلى عن مسؤوليته، فعليه أن يقضي على أهداف يزيد، ويقلع مؤامرة يزيد ومن وراء يزيد. هل يمكنه، والحسين فرد ومعه قلّة من الأفراد، هل يمكنه أن يتغلب على يزيد؟ بحسب المنطق الطبيعي المادي، لا! فماذا يعمل؟
حاول الحسين أن يجنّد كافة طاقاته فوضع في الميزان وجوده ولسانه وفكره وأهل بيته، رجاله ونساءه، وكلّ ما يملك، وضعهم في كفّة الميزان وكوّن بذلك طاقة كبرى. فجّرت هذه الطاقات بني أمية وقصورهم وأمراءهم وحكامهم ووسائل إعلامهم وخطباءهم وكلّ ما يملكون.
التكافؤ بحسب المنطق المادي غير موجود. الحسين مع سبعين شخصًا، خصومه ثلاثون ألفًا، ووراء الثلاثين ألفًا عشرات الألوف من الجيش والعسكر. وسائل الإعلام ضلّلت الجماهير. العالم الإسلامي اعتبر أن الحسين خارجي. القاضي كتب في الحكم: قد خرج عن حدِّه، قُتل بسيف جدِّه. المدن احتفلت بقتل الحسين. في كلّ مكان حديث عن انتصار الخليفة، وعن الخطر الذي يشقُّ صفوف المسلمين، والخلاف الذي حدث بين المسلمين. هذه الأجواء المضللة التي خلقتها وسائل الإعلام ليزيد، هذه الأجواء كانت تزيد في المحنة والمشكلة.
ولذلك، قام الحسين بالمحاسبة، وجد أن هذه الكفاءات في المنطق المادي لا يمكن أن تؤدي لانتصار الحسين أو هدف الحسين. عند ذلك عبَّر بما قاله عن لسان رسول الله أنه قال له: إن الله شاء أن يراك قتيلًا، وقال عن لسانه أيضًا: إن الله شاء أن يراهنّ سبايا.
فإذًا، الحسين لا يوفّر شيئًا. يأخذ نفسه، روحه، لسانه، فكره، دمه، قلبه، ويضع إلى جانب نفسه طفله الصغير وابنه الكبير وإخوانه جميعًا وأصحابه جميعًا، ويكتب لكل أولاد أبي طالب وأرحامه جميعًا في المدينة فيقول لهم: ألا ومن خرج منكم معي يُقتل، ومن لم يخرج لن يبلغ النصر.
لا تفكروا يا أرحامي! يا أهل بيتي أنكم إذا تخليتم عني ستنالون النصر وستكسبون المجد وستعيشون بارتياح وعزّ، فحياتكم بعدي ذلّ على ذلّ، وخزي على خزي، وعار على عار. لا يسمح يزيد، الذي ينتهك حرم رسول الله ويقتل ابن بنت رسول الله، لا يمكن أبدًا أن يرحم محمد ابن الحنفية أو غير ذلك من الهاشميين أو غيرهم من أبناء عليّ وأحفاد أبي طالب، وسيرسم أمامهم صورة الحجاج بن يوسف الثقفي إذ كان يأخذ بالتهمة، ويدفن حيًا بقايا أسرة عليّ، ومن تبقى من بني هاشم، ومن بقي من الموالين لعليّ.
الحسين يرسم أمام أهله ذلك كلّه حتى يشجعهم على الخروج معه، دون أن يغشّهم، ودون أن يقول لهم إنكم إذا خرجتم معي ستنتصرون. لا! النصر معنا ولكن نصرنا بالموت والشهادة. فأكد عليهم ذلك، فخرج من خرج وتخلّف من تخلّف. وبذلك أثبت الحسين أنه يريد أن يجنّد أكبر كمية من الطاقة البشرية لكي ينتصر في هذه المعركة غير المتكافئة. وأعلن بشعار واضح يوم خروجه من المدينة: فوالله إني ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا، لا أريد الإفساد، لا أريد السيطرة، لا أريد الحكم لا أريد التحكم في الناس، إنما أريد الإصلاح في أمة جدي ما استطعت، أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهى عن المنكر؛ وفي هذا السبيل وضعتُ ضمانة واحدة هي حياتي: إن الله شاء أن يراك قتيلًا كلمة نقلها عن لسان رسول الله.
فإذًا، الحسين في المدينة عُرضت البيعة عليه، رفض. ثم عرف أنهم لا يسمحون له بالابتعاد عن البيعة فيقتلونه، لا يريد أن يُقتل مغدورًا، خرج من المدينة وأعلن بشعار واضح أنه يريد الإصلاح، وانتقل إلى مكة وهناك التقى مع جماهير المسلمين فأوضح لهم الأمر وبيّن لهم الحقيقة. وكان يعرف أن حملة التشكيك والتضليل والأباطيل والشبهات تملأ العالم الإسلامي، ولسوف يُتهم الحسين بكل شيء.
أراد أن يوضح حتى يكشف الحقيقة ويلقي أضواءً كاشفةً على هذه الرحلة لكي تكون رحلة نموذجية يمكن الاقتداء بها في جميع مراحل التاريخ. وانتظر إلى يوم التروية -يوم الثامن من ذي الحجة- عندما يكتمل العقد ويصل كل حاج إلى مكة من كل فجّ عميق. اجتمع الآلاف وعشرات الألوف ومئات الألوف في مكة، واستغربوا عندما وجدوا الحسين وحده مع قلّة من أصحابه وكثرة من أطفاله ونسائه يخرجون عكس الطريق، يتركون الكعبة، مقصد الجميع وهدف الجميع، يتركونها يوم التروية دون أن يكملوا حجّهم، فيحوّلون إحرام الحج إلى العمرة المفردة ثم يخرجون، استغربوا ذلك فسألوه: وما هو السبب يا ابن رسول الله؟
قال: إنني لا أبايع، ولكن يزيد قد أرسل جماعة حملوا السيوف تحت ملابسهم وتحت إحرامهم، يريدون أن يريقوا دمي وأنا لا أريد أن تهتك المشاعر [في] حرم الله، أريد أن أخرج... ولكنه بذلك إلى [...] اليزيدية.
فخرج وألقى كلمته المشهورة: خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، أنا غير خائف من الموت، فالموت قلادة وزينة وفي نفس الوقت محيط بالإنسان: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء، 78]، لا مناصّ ولا مفرّ من الموت. والموت الكريم زينة الإنسان كما أن الحياة اللئيمة الرذيلة غير مناسبة للإنسان: وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. ثم يشرح: وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ونوفَّى أجره أجر الصابرين. ألا ومن كان منكم باذلًا مهجته متشوقًا إلى لقاء الله فليرحل معنا فإني راحل غدًا إن شاء الله.
بهذه الخطبة يكشف الأبعاد ويبين الأهداف، فهو غير خائف من الموت، وهو متشوق إلى لقاء آبائه، وهو لا يجوز له أن يتخلى عن مسؤولياته، وهو سالك هذا السبيل ويعلم أن عسلان الفلوات، ذئاب الصحراء، ستأكله. لماذا؟ فيملأن مني أكراشًا جوفًا، وأجربة سغبا، الغاية من قتلي ليس إلا ملء البطون وملء الجيوب. في سبيل بطونهم وجيوبهم يفتكون ويفترسون ويتصرفون دون واعٍ ودون وازع من الدين أو من الإنسانية، وأراد أن يثبت الحسين ذلك في رحلته.
انتقل من مرحلة إلى مرحلة وفي كل مرحلة يرفع الشعار، ويكشف الحقيقة، ويوضِّح الأبعاد، حتى يجنِّد أكبر قدر ممكن من الرأي العام ويوضِّح أكبر قدر ممكن [من] الحقيقة للأمة جميعًا. يريد أن يهزّهم، يريد أن يكشف لهم النتائج، يريد أن يقول للساكتين والمسايرين إلى متى أنتم جالسون؟ يزيد هذا، هذه صورته. لا تنظروا إلى أنه يحكم باسم أمير المؤمنين وخليفة المسلمين. لا تنظروا إلى شِعْره وليونته بل انظروا إلى هذه الواقعة التي هو الحسين بطلها.
فدخل إلى كربلاء وحاول أن يوضِّح لأصحابه خلال الخطبة المعروفة: ألا وإن الحق، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن إلى لقاء الله محقا.
هذه الكلمة تكشف هدف الحسين وطريقة الحسين وألم الحسين. أنه متألم من عدم وصول الحق إلى صاحبه ومن طغيان الباطل على جميع الأجواء. هكذا خرج، وهكذا قُتِل، وهكذا استُشهد، وهكذا كشف للعالم أنهم يقتلون الرجال، ويقتلون الأطفال، ويسحقون الأجسام، ويَسبّون النساء، ويحرقون الخيام، ويمنعون الماء عن الضحايا والشهداء أيضًا، ثم يدفنون أمواتهم ويتركون الأجساد الطاهرة تحت الشمس معرضة لكلّ خطر. بهذا المقياس أوضح الحسين واقع بني أمية وكشف القناع عن وجه يزيد وأكّد أن هذا الرجل غير ملتزم بالرسالة، بالإسلام، بالقيم، بالإنسانية، غير ملتزم بشيء، ولذلك أنا خرجت، قرَّبت لكم البعيد.
لو لم يكن الحسين لما انكشف يزيد في ذلك الوقت. فكان مغطى وجهه بالكثير الكثير من الوسائل ومن الوجوه ومن الأساليب. وهو يتمكن من خلال هذه الأقنعة أن يقضي على الإسلام حكمًا بعد حكم، وأمرًا بعد أمر، وموقفًا بعد موقف. ولكن الحسين كشف كل ذلك ووضع يزيد عاريًا وبني أمية عراة أمام الأمة، ثم قال لهم: أيها المسلمون احكموا، هذا هو حاكمكم وهذا هو المسيطر عليكم، انظروا إلى وجهه كيف ترونه؟ هل تقبلون أن تخضعوا له؟ وأن تبايعوه؟ أو لا؟
بمجرد ما كشف، بمجرد ما ما استعمل هذه القنابل...
الفرد عند الحسين ما كان فردًا، الفرد عند الحسين كان قنبلة؛ الطفل عند الحسين ما كان طفلًا، كان وسيلة تحرق الأقنعة وتكشف الحقائق.
الحضور، الخصوم، العسكر، رأوا بأم أعينهم أن ليل الحسين صلاة وابتهال ودعاء وتسبيح، وأن ليل خصومه خمر وفجور وتآمر وفسق. وجدوا أن حرب الحسين حرب شريفة مقدسة، لا يبدأ بالضرب حتى صباح عاشوراء... أوصى الحسين أصحابه بما كان يوصي أصحابه به أمير المؤمنين في جميع الحروب، ومن قبلهما رسول الله معلمهم ونبيهم وسيدهم: لا تبدأوهم قبل أن يبدأوكم وقبل أن يبدأوكم. فحتى نهار عاشوراء، عندما طُوِّق الحسين وتبين أن الموت محتوم، حتى في هذا الوقت ما بدأ بالضرب ولا أمر أن يبدأوا بالضرب. فوجد الناس، الحضور، المأجورون، المتفرجون، ومن ورائهم الأمة جميعها، وجدوا أن حرب الحسين حرب شريفة، وحرب يزيد حرب ظالمة لا تبقي ولا تذر، تقتل الكبير والصغير، وتمنع الماء، وتسبي النساء وتحرق الخيام. وهو بعد ذلك، يأمر بسحق الأجساد ويتوقع أن رمال الصحراء المتحركة ستغطي أجساد الحسين وأهل بيته، فلا تبقي منهم أثرًا.
هذه الواقعة بالشكل الذي مارسه الحسين أوضحت الحقيقة وكشفت الواقع ووُضِعت الصورة أمام الأمة. فالأمة من خلال هذه الصورة حكمت. الأمة وجدت أن السكوت لا يجوز، وأن المسايرة ظلم، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس؛ وجدت الأمة كلّ ذلك، فبدأت تتحرك الثورة تلو الثورة، والحركة تلو الحركة، والاحتجاج تلو الاحتجاج. فبدأت الحركة بالمعسكرات من الرجال ومن النساء. وبدأت الحركة في كلّ مدينة مرّت القافلة عليها، عندما كان [الناس] يتساءلون ويسألون عن واقع الأمر، فكانت زينب تكشف لهم الحقيقة فيتوبون ويندبون ويلومون أنفسهم، ثم يخرجون لضرب الأعداء.
بدأت الحركات، ثم بدأت ثورة التوابين ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، ثم تحركت هنا فئة وهناك فئة حتى جاءت ثورة بني العباس فقضت على بني أمية. وهذه الفترة من مقتل الحسين إلى زوال بني أمية، الشعارات المرفوعة من قبل جميع الثوار وجميع المعترضين وجميع المحتجين وجميع الرافضين، كان الشعار يا لثارات الحسين. فالثأر والعمل والدفع والمحرك في جميع هذه الحركات كان حسينيًا.
كيف تمكن الحسين أن يحرك كل هذه الضمائر الغافلة النائمة؟
بتضحيته، بكشف الواقع أمام أعين الناس... بصدقه، بموته، بإيضاحه للحقائق، كشف الأمر للجميع، فبنو أمية زالوا...
كان يريد يزيد أن يقضي على الإسلام، ولكن بعدما حصلت ثورة الحسين، حتى يزيد تراجع لأنه وجد [أن] في بيته أقيمت تعزية الحسين، ومن حوله من أهله بدأوا يوبخونه، فقال: قاتل الله ابن مرجانة، إنه قد استعجل في هذا الأمر. فحمّل المسؤولية لابن مرجانة، لعبيد الله بن زياد، وبذلك ما مكَّنه الحسين (عليه السلام) من تقدير ما كان ينوي أو ما نُويَ وكُلِّفَ يزيد بتنفيذه. وبعد ذلك، وإلى مدى التاريخ، هذه الثورة التي انتقلت من الصحراء، من وسط الرمال انتقلت إلى جميع العالم الإسلامي، انتقلت أيضًا من سنة إلى سنة ومن جيل إلى جيل، ومن قرن إلى قرن، حتى بقيت هذا اليوم، وبقيت بين أيدينا أمانة نستفيد منها، ونتمتع بها ونستقي منها كل يوم أمرًا جديدا، وتصحيحًا جديدًا، وموقفًا جديدًا، وحركة جديدة، وثورة جديدة، وعملًا صالحًا، وتضحية كاملة مفيدة، في سبيل دفع الظلام ومنع الظلم وإبعاد الباطل.
إنه يحدَّد: ألا ترون أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟ هذان العاملان فقط يكفيان: ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا. وهذا اليوم، وفي كلّ يوم، عندما نقف أمام هذه اللوحة الخالدة، أمام هذا السراج المشتعل بزيت دم الحسين، أمام هذه المنارة التي بُنيتْ على جماجم أصحاب الحسين، أمام هذه الواقعة التي فُجرت بدمه الطاهر، ودماء أبنائه وأحفاده وأطفاله، أمام هذه الصورة التي نجد إلى جانبها تضحية الكبير، من بلغ عمره ثمانين كـحبيب بن مظاهر، ومن لم يبلغ عمره قبل الحلم كقاسم، تضحية الأبيض إلى جانب تضحية الأسود، تضحية الموالي إلى جانب تضحية المعادي التائب كزهير بن القين والحرّ بن يزيد الرياحي. التضحية للرجال وللنساء، التضحية لكلّ فرد. ولكن هذه المجموعة، هذه النخبة التي كانت مع الحسين وضعت كل وجودها في سبيل القضاء على الظلم، ومن يضع كلّ وجوده في كفّة الميزان ينتصر.
أتذكر يومًا كنت مع جماعة من إخواننا الفلسطينيين في مصر، كنّا على مائدة، أحد الشباب قام وقال: بخاطركم... الحضور قالوا له: مع السلامة. فما سمعت بكاءً ولا وداعًا ولا صوتًا ولا عويلًا ولا صريخًا لا من الرجال ولا من النساء، فسألتهم: إلى أين ذاهب؟ قالوا: إلى الجبهة. فاستغربت ذلك: أليس من وداع؟ قالوا: نحن وضعنا الجيل ثمنًا لتحرير فلسطين، ومن وضع الجيل ومن وضع نفسه في سبيل تحرير أمته ينتصر.
هذا هو المقياس الذي يعلمنا [إيّاه] الحسين. الحسين يقول مهما كان يزيد كبيرًا، ومهما كان جنده كثيرًا، ومهما كان تضليله عامًا وشاملًا، ومهما كانت أفكاره جهنمية ومنتشرة، ضَعْ التضحية في الميدان، فيفرون عنك كالجراد المنتشر.
ويقول أحد المحدثين [من] كتّاب السير: فوالله ما رأيت مكسورًا قطّ قد قُتِلَ ولده وأهل بيته جميعًا وهو في حالة العطش، ولكن وجهه كالبدر، يكروّن عليه فيكرّ عليهم، فيفرقهم كالجراد المنتشر. لا في الصحراء فقط بل في التاريخ. هناك كان الحسين أمام ثلاثين ألف ولكن في خارج الساحة، كان الحسين أمام مئة من الوجوه، فكان يفرق الظَلَمة وأهل الباطل كالجراد المنتشر. هذه الصورة تكشف أن الحق ينتصر، أن الحقّ من الله، أن الحقّ هو الغالب. القرآن الكريم يقول: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء، 18] هذا هو منطق القرآن.
نحن اليوم ماذا نقول؟ في هذا المكان: مكان الإشعاع، مكان العلم، مكان العطاء، مكان التضحيات، المكان الذي نرى على كلّ حجارة أثرًا وتضحيةً وسخاءً وعطاء. نرى في كل حجارة جهدًا، ودم قلب مهاجر، ودم قلب مقيم، ودم دماغ وأعصاب وأفكار المجاهدين، في هذا المكان الذي بُنِيَ للكشف والوضوح، نقول بوضوح حتى نقضي على التضليل: لا نريد هدمًا ولا تخريبًا ولا فسادًا، نريد الإصلاح في أمتنا ما استطعنا، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهى عنه. الثمن، لئن يرغب المؤمن إلى لقاء الله محقًا، هذا هو الثمن. الثمن، الوقوف الحازم... الثمن، المطالبة الحقة.
ما هي الأهداف؟ إحقاق حقّ المواطنين. وهل الشيعة إلا المواطنون الشرفاء الطيبون، الأوفياء، المتمسكون بالوطن، المحافظون للحدود، المرابطون في الثغور، الدافعون للضرائب، البانون للقصور، المثقفون، العاملون، المفكرون، الأدباء، المهاجرون، المقيمون، العمال، التجار، المشايخ، وكلّ ذي فن وذي حرفة؟! مِن أولى الناس بهذا البلد؟! والبلد هذا، لبنان أولى وأفضل لهم وهم أولى وأفضل لهذا البلد. لا يريدون هدمه، يريدون صيانته ولكن صيانة هذا الصرح، صيانة هذا الوطن عن طريق العدل: فالحكم يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم.
وإذا قلنا الشيعة لا نقصدهم كشيعة، الإنسان مكرّم، المواطن مكرّم. نريد حقّ الشيعة وغير الشيعة، نريد حقّ كلّ محروم، نريد عمران كلّ منطقة. لا يعقل أن تكون الأرض في بيروت المتر بعشرة آلاف ليرة وعشرة آلاف مترًا في مكان آخر تكون بليرة. هذا غير معقول.
لا يعقل أن يُصرف في أربع سنوات 948 مليون ليرة ولا يُصرف منها فلسًا واحدًا في المناطق المتخلفة.
التصفيق ممنوع التصفيق ممنوع لأنه مجلس الحزن، والمطالبة بالحقوق من صميم أهداف أبي عبد الله الحسين -أرجو الانتباه أيها الإخوة الأعزاء-، نريد حقّ المواطنين جميعًا، نريد عمران المناطق، جميع المناطق لا الجنوب والبقاع والهرمل فحسب، لا حي السلم والكرنتينا اللذين يندى لرؤيتهما الجبين.
لا نريد فقط هذا وذاك، بل نريد عمران عكار، نريد عمران مناطق جبيل، نريد عمران مناطق جبل لبنان، أي منطقة متخلفة تكون في هذا البلد. نريد لبنانًا متكاملًا عادلًا يسود فيه العدل ويكون كل مواطن فيه مكرّمًا.
لبنان ميزته التاريخية التعايش الكريم، كلّ مشرد كان يرى لنفسه عيشًا كريمًا، كل فئة كانت ترى في لبنان كرامة وعزة. بُني هذا الوطن على هذا الأساس، بُني هذا الوطن على التكافؤ والعدالة. هل يمكن 19 مليون... اليوم قرأتُ في الصحف من جملة المعلومات التي كلّ يوم تأتي للطرق لتصليح الطرق لا يُصرف منها فلس واحد في الجنوب. أمر غير معقول. الدفاع عن الجنوب، صيانة المواطن... يقولون إن لبنان بواسطة صداقاته ودبلوماسياته يحفظ الوطن... على الرأس والعين، لكن ألا يجب المدافعة عن المواطن؟ نترك المواطن يُذَلّ ويموت وتقطع أرزاقه وعيشته، ويخرج ذليلًا زاحفًا نادمًا مكسورًا إلى بيروت أو إلى صيدا! أيّ منطقة في أيّ وطن من الأوطان لا دفاع عنها؟
نريد كرامة لكلّ محروم، حقًا لكلّ محروم، عمرانًا لكلّ منطقة متخلفة، حقًا لكلّ مواطن مظلوم، أيّ فئة كان: عمالًا كانوا أو فلاحين كانوا أو مثقفين أو طلابًا أو معلمين، أو كبارًا أو صغارًا، أيّ إنسان محروم علينا أن نقف إلى جانبه. حتى السلطات، طغيان سلطة على سلطة لا نريد، تعدي واحد على الآخر لا نريد، نريد العدالة. والحسين يقول: ألا ترون أن الحقّ لا يُعمل به. كلمتان من كلمات الحسين.
أيها الحسينيون،
ليس بدعًا مني، لا تقولوا: أنت الشيخ ما علاقتك بهذه المسائل. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: فوالله ما خُلِقْتُ كالبهيمة المربوطة همُّها علفها وشغلها تقمُّمها. إذا كان الإنسان كلّ همّه أنه هو يعيش ليملأ بطنه ويشتغل، هذا عليّ يسميه بهيمة. لا والله، ما خُلقتُ أنا أيضًا ابن عليّ ما خُلِقْتُ لكي أكون كالبهيمة المربوطة همُّها علفها وشغلها تقمُّمها.
ألا يقول رسول الله وقد قلت في هذه القاعة يوم عيد الأضحى: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع. فَزِدْ على ذلك: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات في بيروت مطمئنًا وجاره في الجنوب خائف.
ما آمن بالله واليوم الآخر من بات مسرورًا وجاره حزين، من بات صحيحًا وجاره مريض، من بات تحت سقف وجاره بلا سقف؛ من بات في مدرسة وليس لجاره مدرسة... كل هذا من متطلبات الإيمان.
هل كنّا نريد زيدًا أو عُبيدًا... اختاروا الأشخاص كما تريدون، تصرفوا بالغنائم كما تشاؤون. ولكن حقّ الشعب، حقّ المظلوم، حقّ المواطن، حقّ الطوائف، حقّ الفئات، حقّ المناطق يجب أن يصل وإذا ما وصل نردد لهم: أما رأيتم أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن إلى لقاء الله محقًا.
أمام الظلم، الحسين يعتقد أن الإنسان لا يمكن أن يصبر. الحسين يقول: فوالله لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما.
العدالة، الكرامة للجميع، العدالة للجميع، والشيعة منهم والجنوب منها والبقاع والهرمل منها. كرامتهم، كرامة هذا الوطن.
خير لكم أيها المسؤولون، أما قرأتم ما كتبت مجلة "الإيكونوميست" نُشِرت أمس وترجمته في النهار. اقرأوا لتروا ماذا يُقال عن الجنوب وعن الشيعة، هذه نظرة الإنسان المحايد.
رفقًا بكم أيها المسؤولون، شفقة عليكم، لا نكره أحد، نشفق عليهم لأنهم يهدمون بيوتهم ويهدمون وطنهم [...].

source
عدد مرات التشغيل : 37