دور الطلاب في بناء المستقبل أو المصير

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 04 كانون الأول 1969 الكاتب:موسى الصدر
* كلية الحقوق - الجامعة اللبنانية (تسجيل صوتي)
اعتذارًا عن التأخير 40 دقيقة، أسرد موجز ما جرى قبل حضورنا في هذه القاعة مجتمعين. حاولت الدخول إلى مبنى الجامعة فسمعت بعض الإخوان يقولون: الجو متوتر. وكأنه أراد أن يثني عزيمتي ويعيدني إلى حيث الراحة والكسل، فقلت له: أما التوتر في جو الجامعة، في جو العلم، أما التحرك الشديد، أما الحرارة في التصرف، فهذا الذي نريده، ونفتش عنه. فاجتمعنا في غرفة العميد، واستمعنا إلى عرض موجز للمأساة التي وقعت. نقول مأساة لأنها مأساة من حيث الكيف، لا من حيث الكم. الطالب يُحترم، لأنه صانع المستقبل، صانع المستقبل بجدارة، لأنه يدرس ويحاول أن يفتش من خلال سطور الدراسة عن المستقبل، لصالح أبناء الجيل الحاضر، لصالح أبنائنا، فهو يُحترم. استمعنا إلى الأحاديث فهناك جرت عدة نقاط أذكر بعضها الذي يهمكم. قلنا إذا كان المعتدي طالبًا فنحن تمنياتنا على المعتدى عليه أن يقبِّل المعتدي، فيقول له لأنك طالب أنا أتنازل عن حقي. وفي هذا تمكن أن يعبر عن السد والجسر الذي يحاول القديم أن يضع في صفوف الطلاب، فيصنفهم أيضًا على ضوء التصنيف القديم؛ فدفع الثمن، وأمّن تقوية الصف الطالبي الذي هو الأمل الوحيد غير المصنف في هذا البلد. وإن كان المعتدي من الخارج، فعلى جميع الطلاب، على مختلف اتجاهاتهم أن يتعاونوا للقضاء على أمثال هذا الاعتداء؟ فالاعتداء على أي طالب، وفي أي صورة من الصور، هو اعتداء على الجميع. وإذا كان أحدهم يتمكن أن يستقدم من الخارج من يتعدى على زميله، فبإمكان الكل أن يستعينوا، فَيَأْتُونَ من الخارج للتعاون على زميلهم. فالتعدي على الطالب، هو التعدي على جميع الطلاب، وهو التعدي على العميد، وهو التعدي على العلم، وهو التعدي على المستقبل المنتظر. وهكذا تمكنّا أن نطلب من الشباب الأعزاء الذين أكثروا في تكريمي، فاجتمعوا جميعًا في هذه القاعة مع إني أعاهدكم وأعاهد الله على أن أجعل طاقتي المتواضعة في خدمة مطاليبكم الحقة بإذن الله.
لقد سمعتُ سيادة العميد يتحدث بكل اهتمام وعطف بالنسبة إلى قضية المعادلات وحملة المعادلات وملاحقة قضيتهم أمام مجلس الوزراء؛ وطالب أيضًا بكل إصرار وعطف أبوي، رئيس الرابطة أن يتعاونوا جميعًا في سبيل هذا الحق المطروح. فنرجو أن لا يوفرونا الشباب الأعزاء في مثل هذه القضايا، فأنا أيضًا لي شرف زمالة شبابنا في هذه الجامعة، لأنني أحمل أيضًا شهادة مشابهة لشهادتكم. أما حديثي، فأنا اختصرت الحديث رغبة في أن أترك المجال للحوار والأسئلة. ولا أدري هل الجو ملائم لطرح الأسئلة بعد حديثي أم لا؟ فعليّ أن أقدم ما عليّ، وأترك ما على الطلاب أن يقدموا من الأسئلة التي لا شك أنها تفسح المجال بشكل أوسع في إلقاء الضوء، من خلال أسئلتهم والأجوبة لما نهتم به. موضوع حديثنا، أو روح محاضرتنا، حول دور الطلاب في بناء المستقبل أو في بناء المصير. وقد ختمت كلمتي أو عنوان محاضرتي بكلمة تمنيات وابتهالات لأني أجد في هذه الظروف، وخاصة بالنسبة إلى الطلاب، [أن] حديثنا لا يدخل في عنوان النصائح، أو عنوان التوجيهات، بل يدخل تحت عنوان التمنيات والابتهالات. هاتان الكلمتان تعطي للمحاضرة صورة فريدة، صورة مليئة بالإخلاص والرغبة في أداء الخدمة. مع العلم أن المتكلم عن الموضوع هو رجل دين، فما أتحدث عنه في هذه المحاضرة من خلال رؤيتي الخاصة، ومن خلال اختصاصي، في التحدث عن هذا الموضوع.
أحببت قبل أن أتحدث عن تمنياتي للطلاب أن افسر موضوع المحاضرة، أحببت أن أحدد كلمة "الطالب". من هو الطالب؟ ولماذا نتحدث عن الطالب؟ وما هي ميزات الطالب؟ من هو الطالب الذي نبحث عنه؟ عفوًا، إذا أقول بلساني ما تمارسونه أنتم.
الطالب هو شاب يتعلم، فعنده من الكفاءات: كفاءات الشاب وكفاءات التعلم. ما هي كفاءات الشاب؟ وما هو الفرق بين الشاب والكهل؟ مع العلم أنه في المنطق الديني (أريد أن أعطي مبررًا لنفسي في المنطق الديني)، حتى الكهل إذا كان مؤمنًا عاملًا صالحًا حسب تعبير الدين، فهو يلتحق بالشاب. الفرق بين الشاب والكهل أن الشاب يتمتع بميزات مادية ومعنوية لا يتمتع بها غيره.
أولًا: قوته أكثر، وهذا شيء واضح. والقوة قاعدة، ووسيلة وسبب للنجاح دائمًا، لأن كل سعي بحاجة إلى طاقة، فكلما كانت الطاقة أكثر، فالسعي يصبح أوفر.
ثانيًا: صبر الشاب أكثر أمام الصعاب. وهذا أيضًا عنصر من عناصر النجاح، لأن السعي بحاجة إلى تحمل المشاق، خاصة فيما يعود إلى التغيير والتبديل، وخاصة فيما يعود إلى مقابلة المحافظين المتمسكين.
ثالثًا: الشاب صبره أكثر أمام الرغبات والأهواء. ربما يبدو هذا العنصر غريبًا، ولكنه الحقيقة. الشاب حاجته إلى المغريات وإلى الرغبات أكثر من غيره، ولكنه أيضًا صبره وتمكنه من الوقوف أمام المغريات، أكثر أيضًا. فبإمكاننا أن نذكر مثلًا صغيرًا واضحًا: الصيام، وهو الامتناع عن الأكل والشرب في مدة معينة مثلًا، الشاب حاجته -وحاجة خلايا جسده- أكثر إلى الأكل وإلى الشرب، ولكنه أيضًا يمكنه الامتناع عن الأكل والشرب في خلال مدة معينة أكثر. الشاب ربما حاجاته الجنسية أكثر من غيره، ولكن صبره أيضًا أكثر. وهذا قد يبدو غريبًا، ولكن في دراسة موجزة لمرونة الشاب وانعطافه، يؤكد... والأطباء أمامكم وعلماء الدراسة في جسد الإنسان بمتناول يدكم بإمكانكم أن تسألوهم.
رابعًا: فرصته اليومية أكثر. لأن الرجل الكبير كثيرًا ما خلال 24 ساعة ما يحتاج إلى راحة. يحتاج إلى بعض الاستعدادات للحضور في المجالس العامة. الشاب حتى إذا ما نام بالليل، يتمكن أن يحضر صباحًا في الصف أو في المصنع، أو في الإدارة فيقوم بعمله; بينما الشخص الكبير إذا [...] (*) أمام الهواء البارد، لا يتمكن من الحضور. أقل شيء يؤدي إلى عدم تمكن الرجل الكبير من الحضور. فحينما ترون الرجل الكبير في السن يحضر في الاجتماعات، ثقوا بأنه أخذ قسطًا كبيرًا من الوقت لتحضير نفسه أمامكم في المجلس. وهكذا نجد أن 24 ساعة، الساعات المشتركة بين الشاب وغير الشاب، كثيرًا ما الكبير في السن لا يتمكن أن يستفيد من الـ24 ساعة، إلا من ساعتين أو ثلاث أو أربع. بينما الشاب يتمكن أن يستفيد من هذه الفرصة ساعات عديدة.
خامسًا: حماس الشاب عند اللزوم أكثر، هذا الشيء الذي يكرس إحساس الشاب النفسي أمام الصبر الذي ذكرناه أمام الرغبات. ارتباطات الشاب والتزاماته في المجتمع الحاضر أقل، لأن الإنسان الكبير في السن، حينما عاش فترة من الزمن، في مجتمع معين، أصبح بينه وبين هذا المجتمع علاقات، التزامات. هذه العلاقات والالتزامات، خيوط وسلاسل على أيدي وعلى قلوب وعلى أفكار الكبار تربطهم بالمجتمع الحاضر. بينما الشخص الذي يعيش في المجتمع وهو شاب، لم يرتبط بعد ولم يلتزم بعد التزامًا وثيقًا بمجتمعه القائم. فإذًا، تمسك الشاب بمجتمعه القائم أقل، وهذا يساعده على السعي المطلق لتطوير المجتمع بصورة تغييرية.
هذا يعني أن عوائق التحرك أمام الشاب أقل من غيره. غير الشاب، حينما يريد أن ينطلق أو يثور أو يغير أو يقدم أطروحة جديدة للنظام، يصطدم بمصالحه ومصالح أهل بيته ومصالح أرحامه وأصدقائه. ويلتزم بما قال في المجلس الفلاني وفي السنة الفلانية. آلاف من الخيوط أمام الإنسان الكبير تحول غالبًا دون تمكنه من الانطلاق والسعي للتغيير.
ثم أكثر من كل هذا، فرصته الزمنية على طول العمر، أفضل من غيره. يعني الشاب حينما يريد أن يخطط، بإمكانه أن يضع برنامجًا لـ20 سنة، أو لـ30 سنة لأنه يعرف أن أمامه مجال طويل. بينما غير الشاب لا يتمكن أن يخطط لأنه لا يطمئن إلى بقائه مدة طويلة، إلا عندما يشعر أحدهم بالوحدة الإنسانية، على طريقة الفلاح الذي قال: "زرعوا فأكلنا، نزرع فيأكلون"، يشعر بالوحدة بينه وبين من يأتي.
ومن الناحية الروحية: إمكانات الشاب أكثر، حيث إنه يعتبر أن كل شيء ممكن. قد تبدو هذه مبالغة لأنه ليس كل شيء بالفعل ممكنًا. ولكن شعور الإنسان الشاب بأن كل شيء ممكن، هذا يقدم له رصيدًا هائلًا وكبيرًا في الانطلاق وفي السعي، فلا يجد الشاب شيئًا مستحيلًا أمامه وهذه أيضًا فرصة.
من الناحية النفسية: صفاء نفسه وخلايا دماغه (أطرى) مما يؤدي إلى سرعة الذاكرة، وسرعة العزم، وسرعة الاستيعاب، وسرعة التذكر.
وهكذا نجد أن الشاب يملك من الطاقة البشرية جسميًا وروحيًا وزمنيًا ما لا يملكه غيره. وهذا هو السبب أن الكتب الدينية تعبر عن الشاب بالتعبير الآتي: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [يوسف، 22]، جمع شدّ، وشدّ يعني: القوة، يعني حينما يريدون أن يقولوا أن أحدهم شاب يقولون يملك جميع قواه. فإذًا، الشاب في المنطق الحقيقي الطبيعي، هو الذي يملك أكبر طاقة نفسية وروحية وجسدية وزمنية في عمره. بعد هذا بمقدار ما يملك طاقة أكثر، فمسؤولياته والإنتظار منه والأمل فيه أكثر من غيره.
وعلى الصعيد العملي، أتحدث كرجل دين، أكثر الأنبياء بل كلهم، أصبحوا أنبياء وهم في عمر الشباب: إبراهيم، موسى، عيسى، محمد... أكثر الأنبياء وصلوا إلى درجة النبوة في حالة الشباب. ولا شك أنه في منطق الدين مقام النبوة أرفع مقام ممكن. وحينما يصلح الإنسان لمقام النبوة، يصلح لجميع المقامات.
فإذًا، الإنسان الشاب هو في الحقيقة معقد آمال الأرض والسماء، المسؤول عن المستقبل في منطق المادة وفي منطق الروح. هذه نبذة عن تفسير الشاب.
أما الطالب، الطالب من يدرس فيعيش العلم، يعيش العلم أكثر مما يعيش الواقع. والشباب يفرقون بين الواقع والحقيقة كما نعرف. طبيعة هذا العيش المشترك، مع العلم لا مع الواقع، أنهم يصبحون أقرب إلى المثالية والإخلاص; لأن الحياة في الواقع مليئة بالظلمات، بالمصطلح الديني، مليئة بغير العلميات، مليئة بالظلم الفردي والجماعي، مليئة بالزيف وعدم الحقيقة. بينما الطالب ساعات يعيش في الكتاب ومع الأستاذ، ومع الآراء والنظريات، ومع المطالعات، ومع المذاكرات، بالتالي نتمكن أن نقول أكثر ساعات يقظته، يقضيها مع العلم.
وما هو العلم؟ الضياء لكشف الحقيقة. فالشاب يعيش مع الحقيقة المجردة أكثر مما يعيش مع الواقع الخارجي، وهذا يزيد في مثاليته ويزيد في إخلاصه. حتى لو وجدنا طبقة من الشباب منحرفة، فلا نشك غالبًا في إخلاصهم؛ على أساس أنهم اتخذوا هذا الخط عن رغبة صادقة في كشف الحقيقة، وبالعمل الإيجابي البناء، لأن مصالح الطلاب أقل من غيرهم، في هذه الخطوط، لأنهم غير ملتزمين ولا مرتبطين بالمجتمع القائم كما ذكرنا في تفسير كلمة الشاب.
فإذًا، الشاب كشاب يملك طاقات هائلة، وكطالب يعيش العلم والحقيقة أكثر مما يعيش الواقع الخارجي. وثانيًا كطالب يعيش مع تجدد العلم، وهذه أيضًا نقطة أساسية، الحقيقة أو الواقع الخارجي؛ حتى العلماء والفنانين والأدباء والخبراء في خارج الجامعة، هم الذين يعيشون غالبًا العلم قبل سنوات، حينما كانوا في الجامعة، بينما الجامعة تعيش ويعيش معها طلابها العلم المتجدد الدائم. والفرق في هذه الظروف كبير جدًا. لأنه سابقًا الآراء والنظريات ربما كانت تحتاج إلى سنوات وعشرات السنين حتى تتجدد، بينما في ظرفنا الحاضر، كل يوم وكل شهر وكل سنة، آراء جديدة تختلف عن الآراء القديمة في مختلف الحقول.
فإذًا، الطالب يعيش العلم. والطالب يعيش العلم المتجدد الدائم، فهو أقرب إلى الحقيقة من العالِم في خارج الجامعة، وفي غير حالة الطلب. هذا موجز النتيجة.
دخلنا حالًا في محاضرتنا، بكل صراحة، هذه الإمكانيات، وهذه الثروة البشرية الهائلة عند الطلاب، دون مجاملة، أو دون محاولة، -غير محاولة وضع المسؤوليات والابتهالات والتمنيات والرجاء المخلص- الشاب الطالب ثروة في كل مجتمع؛ لأن الشاب بما عنده من الإمكانات هو صانع المستقبل. والمجتمع دون الشاب الطالب، مجتمع أبتر، لا مستقبل له بل هو مستقبل جامد، وعدم التغيير بين الحاضر والمستقبل معناه الموت، معناه الجمود. فإذًا، الشاب هو القطعة المتحركة بالمجتمع، أو بتعبير فلسفي حديث قديم، هو Antithèse في كل مجتمع، الذي يتمكن أن يكوِّن المستقبل بقدرته وكفاءاته وإمكاناته. هذا، في كل مجتمع.
أما طلابنا في لبنان، أما طلابنا في العالم العربي، أما طلابنا في الشرق كله، فالأمل وقيمة الطالب عندهم أكثر من أي منطقة أخرى. السبب في ذلك، أن الشرق بصورة عامة، لا يعيش حاضره إطلاقًا، وإنما يعيش ماضيه كعاطفة، ويعيش مجتمع الآخرين كعقل ودراسة.
أي إنتاج اليوم لمجتمعنا الحاضر؟ أي علم نكتشف؟ أي صناعة نحترف؟ أي نظرية نقدمها للعالم؟ أي خدمة نقدمها للسلام العالمي؟ أي هدية نفيسة نادرة إنسانية، نتمكن أن نقدمها للعالم؟ فإذًا، مجتمعنا القائم يأخذ من العالم ولا يعطي، وهذا معناه بكل احترام لي ولغيري الموت، لأن الميت هو الذي يأخذ ولا يعطي. كيف يأخذ؟ يأخذ غصبًا عنه، لأن البيئة والجراثيم والمناخ والأرض والتراب والهواء، كل هذه الأمور تؤثر في جسد الميت، دون أن تأخذ من الميت شيئًا. بينما الحي هو الذي يعطي ويأخذ، أما الذي يعطي ولا يأخذ فهو الغريب كما يسميه أحد الأدباء اللبنانيين الكبار.
فإذًا، مجتمعنا الحاضر، ثروته قسمان:
ثروة عاطفية يستمدها من التاريخ، هكذا كنا، فتوحاتنا، إسلامنا، مسيحيتنا، أدياننا، أبطالنا، "عليُّنا"، "خالدنا"، "صلاح الديننا"، كله ماضٍ. هذه الثروة العاطفية التي نحاول أن نجرها إلى يومنا هذا، فنغطي بها عجزنا، وضعفنا، وغربتنا [...] (*) وموتنا.
أما الثروة الثانية فليست لنا، نأخذ من العالم العلوم، والإقتصاد، والسياسة، والتجربة، مع الأسف حتى تقرير المصير.
فإذًا، نحن مجتمعنا الحاضر، بإمكاننا أن نعتبره، ما عدا بعض النشاطات الفردية ومع احترامنا للمعطين و[...] (*)، مجتمعنا الحاضر ليس مجتمعًا حيًا بين المجتمعات.
وعلى هذا الأساس مسؤولية شبابنا في هذا المجتمع، أكثر من مسؤولية الشباب في أي مجتمع آخر. شباب أميركا أو فرنسا أو الاتحاد السوفياتي، إذا قاموا وتغلبوا وثاروا وعملوا، فالمطلوب منهم أو المنشود من تصرفهم، أو النية الصادقة في قلبهم، أن يبنوا مجتمعًا أفضل. ولكن شباننا المطلوب منهم أن يبنوا مجتمعًا، [وليس] أن يبنوا مجتمعًا أفضل أو يسعوا لبناء مجتمع أفضل.
أما أنتم أيها الشبان فأنتم صانعو المجتمع، لا مجتمع دونكم. نحن كتلة مهملة من البشر في هذه المنطقة، لا شعب ولا أمة ولا مجتمع; لا نملك شيئًا إلا الآمال بالنسبة إلى المستقبل، وتجسيد هذه الآمال على أيديكم. ناقشوني أيها الشبان: هل يمكنكم في العالم اليوم أن تقول باعتزاز، أنك شرقي، أو أنك عربي أو أنك لبناني؟ ماذا تقدم للحضارة البشرية في هذا اليوم؟
فإذًا، أنت إرحم نفسك، وإرحمنا وإرحم تاريخك، وإعلم أنك مكلف كرسول، ولا مبالغة، شهد الله، أنت مكلف كرسول أن تبني مجتمعًا، لا مجتمعًا أفضل. إبنِ المجتمع الصحيح ولك فضل الخلود.
فأنتم صانعو المستقبل، فيا صانعي المستقبل، ما هو تخطيطكم للمجتمع القادم؟ ما هي أبعاد مجتمعكم الذي تنشدون بناءه من خلال دراساتكم ومطالعاتكم وخدماتكم في المستقبل؟ أنتم النواة الوحيدة للتكامل. والتكامل دون أن ندخل في تفسيره الفلسفي، لأن هناك بحث: هل التكامل خلع ولبس؟ يعني رفض وبناء؟ أم التكامل هو اجتثاث الوجود مهما كان ورفض الحاضر بأبعاده القائمة، هو مقدمة البناء للمستقبل; ولا تخافوا من الرفض، فالرفض حقيقة وجودكم، والرفض مقدس غاية القداسة. أليس الإسلام أو أي دين بدأ أول ما بدأ بالرفض، في العقيدة وفي المجتمع؟
ففي العقيدة، بدأ الإسلام بقوله: "لا إله إلا الله" فرفض جميع الآلهة. والآلهة، والإله هو قدس الأقداس. والإنسان كان يعيش من منطلقات عديدة، ومن أهواء عديدة، ومن دوافع متعددة; فكان الإنسان متجزئًا وليس موجودًا واحدًا، كان الإنسان متجزئًا خمسين جزءًا، لأن الدوافع التي كانت تدفع الإنسان كآلهة، كانت تدفع الإنسان إلى 50 اتجاه. فالأنانية كانت إلهًا، والجنس كان إلهًا، والأرض كانت إلهًا، والقبيلة كانت إلهًا، والعشيرة والجاه، وكل هذه الأمور كانت آلهة تُعبد، فرفضها.
ثم تعبير الإسلام عن معنى الماضي بالجاهلية رفض للماضي. وهكذا نجد في سيرة المسيح، أول من بدأ بتشويه أقدس مقدسات اليهود.. الرفض. وفي سيرته ترون أنه يحاول أن يخالف جميع تقاليد مجتمعه القائم فيحارب القديسين من فريسيين وغيرهم، ويرفض أسلوبهم في استعمال الهيكل، ويرفض تصنيفهم للمجتمع القائم القادم بينهم. ويرفض عقلياتهم حتى اضطروا أن يمكروا به. فلا تخافوا من الرفض، فالرفض مقدس، والرفض دوركم الإلهي، ودوركم العلمي.
ترفضون!! وماذا ترفضون؟ ترفضون نواقص مجتمعنا.
ما هي نواقص مجتمعنا؟ وكله نواقص! نعرف هذه النواقص وتعرفون. لكن المشكلة أن المجتمع الحاضر، أو من يستفيد من هذه النواقص، لا يكتفي بأن يعيش هو نواقصه القائمة، بل يحاول أن يتسلل إلى صفوف الطلاب فيؤثر بالطلاب فيعكس على الطلاب أيضًا محنه وآلامه ومشاكله ونواقص، وهذا هو أساس البلاء.
أيها الإخوة،
كرجل دين لا أرفض تعدد الطوائف، أبدأ من نفسي. لا أرفض تعدد الطوائف، ولكني أرفض الطائفية. الطائفية، وليس المرض في الطائفية فقط، بل في أي تصنيف يؤدي إلى السلبية في الحياة. فكيان المجتمع وحقيقة المجتمع، وكما قلت في حديث آخر، الفرق بين المجتمع وبين الناس هناك ناس، وهناك مجتمع; الفرق بين المجتمع والناس، هو وجود التفاعل بين أبناء المجتمع، حتى يجعل من المجموعة شيئًا واحدًا، يختل بخلل بعض أفراده; لأن الكفاءات في الأفراد مختلفة، والأقاليم من جهة المناخ مختلفة، والطوائف كنوافذ حضارية إلى إنتاج البشر الواسع، أيضًا تختلف في الإنتاج، فالتفاعل بين فرد وفرد، وبين إقليم وإقليم، وبين فئة وفئة، وبين طائفة وطائفة، وبين حزب وحزب... هذا التفاوت وهذا التفاعل هو سر تكوين المجتمع. وكل ما يحول دون هذا الأخذ والعطاء ودون هذا التبادل في الكفاءات والصلاحيات والإمكانات، فهو قضاء ومرض في المجتمع. فإذا كنت أنا أرفض التعاون مع [من هو من] غير طائفتي، أو أشك فيه أو أشك في وطنيته، أو لا أثق فيه، أو أضعّف المبادرة بيني وبينه، فالطائفية أصبحت تقلل من التفاعل، وبالتالي تؤدي إلى ضعف في المجتمع، وتُعدُّ حينئذ مرضًا في المجتمع. وهكذا أيضًا الحزبية، والإقليمية. إذا كانت الإقليمية سببًا للتعصب للإقليم، فأريد الشيء الإقليمي، ولا أريد أن أعطي من إقليمي لآخر، فأصبحت الإقليمية أيضًا عازلًا تضعف الروح الوطنية، فأصبحت مرضًا في المجتمع القائم، وهكذا أيضًا مهما صنفت المجتمع.
اسمحوا لي أن أقول حتى التصنيف "المودرن" الذي نسميه الطبقية، الطبقية أيضًا إذا كانت تدعو إلى السلبية وعدم التفاعل بين طبقة وطبقة أخرى، فهذا دين القرن العشرين، وطائفية القرن العشرين، ولون جديد أيضًا للعزل بين أبناء المجتمع وللتقليل من الروح الاجتماعية في المجتمع.
تريدون أن ترفضوا الحاضر لكي تبنوا مجتمعًا واحدًا. ويحاول المحافظون المتمتعون بالثراء والمنافع والمكاسب من الوضع الحاضر والمستقبل، يحاولون أن يصنفوكم فيدخلون فيكم الطائفية، وأنتم تمكنتم إلى حد علمي أن ترفضوا هذا التصنيف، وتصبحوا إخوة، تصبحوا طلابًا، فحسب؛ يعني بناة المستقبل، لا (منجرين) للأصناف والأمراض الماضية.
ولكن أريد أن أوجه إليكم سؤالًا أيها الشبان، فلا تؤاخذوني كما يقولون، وكضيف يحق لي أن أقول لكم ألا تعتبرون أنه من الأمراض والتصنيفات والمحاولات التي يحاول القديم أن يصنفكم بها وأن يدخلكم في قوالبها، هو قالب اليسار واليمين؟ أوضِّحُ الموضوع.
أيها الإخوان،
في سابق الزمن، قالوا اليسار وقالوا اليمين. لماذا قالوا؟ لأنه في مجلس العموم البريطاني، أظن حسب ما أعرف، كانوا يجلسون في يمين البرلمان، وفي يسار البرلمان. وكانوا يعبرون عن أنفسهم بأن هؤلاء ضد النظام القائم أو المعارض. بعدئذ فلسفوا العملية فقالوا: القلب المتحرك النابض الذي يعطي الحياة في اليسار، فعلى هذا الأساس صنفوا الناس -وأصلح الله شأنهم- قالوا بما كان واجبًا عليهم، ولكن هلّا تجدون أيها الطلاب بأن قالب اليمين وقالب اليسار، الذين يحاولون أن يقولبوكم بهذين القالبين الذي ليس من شغلكم ولا من يدكم... أليس هذا أيضًا اجترارًا للماضي وتأثيرًا من الأمراض القائمة على المستقبل الذي يُطلب منكم أنتم وحدكم أن تبنوه؟ أليس هذا أيضًا اجترارًا؟
بإمكانكم أن تصنفوا بشكل آخر، وبأسلوب آخر وأن تميزوا بين الطالب وغير الطالب، وبين العلم وغير العلم، وبين الوحدة وغير الوحدة، وبين التقدم والتأخر، وبين التحرك والجمود، وبين الحياة والموت، كيفما تشاؤون. بإمكانكم أن تضعوا صنفًا جديدًا، تكونون أنتم حملة هذا الصنف، ورَفَعَة هذا اللواء، وأما فيما بينكم فلتجعلوا أصنافا جديدة متفاعلة موحدة، لا بأس بذلك. لماذا أقول لكم ارفضوا؟ لأنه بمجرد ما تبنيتم اليسار واليمين، ويجب أن ترجعوا إلى قاموس اليسار واليمين، فتأخذوا مفهوم اليسار ومفهوم اليمين من القواميس التي هي من صنع يد القدامى الذين تريدون أن ترفضوا، إلا كمالهم، وأن لا تبتلوا بمصالحهم ومشاكلهم وأمراضهم. وعلى هذا الأساس بإمكانكم أن تبنوا المجتمع الذي تريدون على ضوء اللاسلبية، وعلى ضوء رفض الأمراض السابقة، التي كانت تحول دون التفاعل ووحدة المجتمع، بإيمان متين; لأن الإيمان هو الوحيد الذي يتمكن أن يربط، لأن الأجساد متغيرة ومتفاوتة فإذا ما آمنا بفكرة أو بهدف لا يمكننا أن نتوحد.
وعلى هذا الأساس ومع هذه التمنيات، أستعرضها بصورة موجزة، ثقوا أننا لا حياة لنا، ولا وضع لنا قائمًا، إلا ما أنتم تبنون، أكثر من أي منطقة أخرى، وأكثر من أي بلد آخر. وثِقوا أن السلبية لا الأصنام كانت مشكلة مجتمع ماضيكم ومجتمعنا القائم. عليكم أن تتجنبوا هذه السلبية، وفي خلال رفضكم حاولوا أن ترفضوا أي تصنيف وأي تراث مهما كان شكله جميلًا أو غريبًا أو متغيرًا أو متحركًا. المهم أن تكشفوا ما في هذه القوالب من الأفكار والتصنيفات فترفضوها، وتتمكنوا أن تبنوا مجتمعًا نموذجيًا تجريبيًا في كليتكم
ما الذي يحول دون أن تحولوا رابطتكم أو لقاءاتكم كتجربة في مختبر فتصنعوا مجتمعًا مثاليًا مشابهًا لما تنوون أن تؤسسوه في المستقبل؟ ما الذي يحول دون أن تصنفوا الأعمال وتوزعوها حسب الكفاءات في داخل جامعتكم وفي داخل مجتمعكم الصغير فتجربوا مستقبلكم؟ وتجربوا تجربتكم وآراءكم وأفكاركم مع الاحتفاظ باستقلالكم.
أيها الإخوة،
أمانة الله عندي وثروتي الفكرية المنبثقة من إيماني تفرض عليّ أن أنصحكم بأن الإيمان الذي يوحد، والذي يعوض عن تباين الأجساد، وتضارب المصالح... هذا الإيمان الواحد هو الذي يوحدكم، وكلما كان أمد الإيمان أطول يصبح طموح الإنسان أكثر. فإذا اكتفينا في إيماننا بتأمين وسائل العيش المادية فحسب، ينتهي تحركنا عند الوصول إلى تلك الوسائل; أما إذا كان الإيمان إيمان باللانهاية يتجدد مع كل [...] (*).
__________________
(*) التسجيل الصوتي ناقص.
source
عدد مرات التشغيل : 72