عدم الدفاع خيانة

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 22 كانون الثاني 1975 الكاتب:موسى الصدر

* كلمة بمناسبة ذكرى عاشوراء في نادي الإمام الصادق في صور في 22 كانون ثانٍ 1975، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد وعلى أنبياء الله المرسلين، وسلام الله على آل بيته وصحبه الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان الى يوم الدين.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك منّا سلام الله أبدًا ما بقيت وبقيَ الليل والنهار. ولا جعله الله آخر العهد منا لزيارتك، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
وبعد،
ماذا في الزيارة المأثورة الواردة في هذا اليوم والتي سنتلوها في نهاية الاجتماع مجددين البيعة والولاء، نقرأ في هذه الزيارة الفقرات التالية:
"السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله".
إن الغاية من هذه الزيارة إعطاء صفة الحركة لعاشوراء وإخراج الذكرى من عزلتها وانفصالها وبُعدها عن الماضي والمستقبل، لأن الخطر، كلّ الخطر، أن تصبح ذكريات عاشوراء ذكريات فحسب، وأن تصبح معركة كربلاء تاريخًا للكتب وللسير، أو أن تصبح ذكريات عاشوراء ذكريات للثواب والأجر في الآخرة.
يُخشى أن تتجمد هذه المناسبة في ظرفها الزمني، يُخشى أن يبقى مقتل الحسين العزيز ومقتل أصحابه، يبقى معزولًا في سنة 61 الهجرية: كان هناك حسينًا قُتل وانتهى. لكي لا يبقى هذا العزل والقتل والتجميد، ولكي لا يُهدر دم الحسين، وردت هذه الفقرات في الزيارة لكي تربط بين مقتل الحسين وبين الصراع الدائم المستمر بين الحقّ والباطل منذ بداية الحركة والإصلاح والجهاد لدى الإنسان، وإلى الأزل إلى أن يعيش الإنسان حريته وكرامته، ويتخلص من الظلم والظالمين.
أحد رفاقنا الأفاضل يقول إن الحسين (عليه السلام) أعداؤه ثلاثة:
العدو الأول: أولئك الذين قتلوا جسد الحسين وأصحاب الحسين. هؤلاء ظالمون، ولكن تأثير ظلمهم قليل لأنهم قتلوا الجسد، وحطموا الأجسام وأحرقوا الخيام ونهبوا البضاعة؛ إنهم قضوا على عناصر محدودة. لو لم يمت الحسين في سنة 61، لمات في سنة 69 أو 70. ما هي الخطورة الكبرى؟ ما هي المكاسب التي حققوها من وراء قتل الحسين؟ بالعكس حوّلوا الموقت والعابر إلى الخالد والدائم. إذًا، العدو الأول، الظالم الأول، الطاغية الأول خطره محدود.
العدو الثاني: أولئك الذين حاولوا إزالة آثار الحسين، فهدموا قبره وحرقوا الأرض التي دُفن فيها، وسلطوا الماء على المقام كما عمل بنو العباس.
أولئك الذين منعوا مآتم الحسين كما كان أيام السلطة العثمانية، عشتموها وعاش آباؤكم تلك الظروف المظلمة، عندما كانوا يقيمون المآتم في البيوت ويجعلون مراقبين في مداخل الأحياء لكي يبلغوا عن وصول زبانية بني العثمان حتى يفرقوا جمعهم. أولئك الذين منعوا زوار الحسين من الزيارة في الداخل والخارج، وخلقوا صعوبات وصعوبات لكلّ من يريد أن يزور الحسين. هؤلاء هم الصنف الثاني من الأعداء، أولئك الذين حاولوا منع أثر الحسين، اسم الحسين، ذكر الحسين، قبر الحسين، المأتم الحسيني وأمثال ذلك. هذا الصنف أخطر من الصنف الأول، ولكنه أيضًا عاجز عن تنفيذ خطته كما برز ذلك.
ونحن نشاهد اليوم ذكريات الحسين في توسعة زمنية ومكانية مستمرة. في هذا اليوم أكثر من مئة مليون إنسان على الأقل يحضر مآتم الحسين، لا في العالم الإسلامي فحسب بل في أفريقيا... يوم الجمعة المقابل في عاشوراء، خطب الجمعة تُلقى كلها باسم الحسين (عليه السلام). وفي العالم كلّه، في أوروبا، في أميركا، في أيّ بلد يعيش المحبون والموالون للحسين (عليه السلام) يقيمون هذه الذكرى، مئة مليون أو أكثر. أنا شاهدت بنفسي في الغابون كنت مرة هناك وصادفت أيام الأربعين، فتحدثت فيها بشكل مفصل، وكنت سنةً في السنغال أقمنا ذكريات مفصلة. وهكذا في كلّ بلد، الذكرى في اتساع. هنا في لبنان، في بيروت، في الأماكن المختلفة كلّ يوم ذكريات الحسين تزداد وتتعمق. إذًا، الصنف الثاني من الأعداء أيضًا كان خَطِرًا كاملًا، ولكنه لم يتوفق و[هو] أقلّ خطرًا في النتيجة من الصنف الثالث من الأعداء.
أما الصنف الثالث من الأعداء، فهم الذين أرادوا تشويه أهداف الحسين، تجميد واقعة كربلاء في ذكراه، حصر ذكرى الحسين في البكاء والحزن والنحيب. نحن نبكي الحسين، نبكيه كثيرًا، ولكن لا نقف عند البكاء أبدًا؛ البكاء لكي يجدد أحزاننا وأحقادنا ورغبتنا في الانتقام، وغضبتنا على الباطل، هذا هو المطلوب من البكاء. لماذا نذكر المصرع؟ لماذا نتلو المصرع الفجيع المزعج؟ نتلوه فقرة بعد فقرة لكي نستعرض الواقع فنغضب وندرك أبعاد خطر الظالمين وقسوتهم، وندرك أبعاد التضحيات وقوتها. أما إذا اكتفينا بالبكاء واعتبرنا الحسين شهيد العبرات، وأن واجبنا قد أُديَ بأننا اجتمعنا وتحدثنا وبكينا ثم ذهبنا مسرورين إلى بيوتنا، مغفوري الذنوب، مرتاحين، أدينا واجبنا واسينا فاطمة في ذكرى ابنها العزيز... كلا!
فاطمة والحسين يرفضان، بالعكس إذا اعتبرنا أن الذكريات الحسينية مجرد التحدث والبكاء، فاسمحوا لي أن أقول إن هذا مضرّ، لأن هذا ينفّس ويفش الخلق كما نسميه في المصطلح. أولئك الذين حاولوا أن يجعلوا مقتل الحسين مجرد ذكرى، مجرد بكاء، مجرد حزن، دون تطبيقات عملية وانعكاسات حيّة على سلوكنا وعلى اختيارنا وعلى حياتنا، أولئك شوّهوا أو حاولوا تشويه أهداف الحسين (عليه السلام)، هؤلاء هم أخطر الأعداء لأنهم يقلعون جذور الذكرى، لأنهم يُعدمون آثار التضحيات، لأنهم يخفون عن الضمائر حقيقة ما طلبه الحسين ووقف لأجله الحسين. رغم أنه أكد- كالمظاهرات التي ترفع الشعارات في كلّ لحظة- أكد ماذا يريد، قبل خروجه من المدينة وقبل خروجه من مكة، وفي كلّ منزل، وليلة عاشوراء ونهار عاشوراء، ومع كلّ حادثة جديدة خطبة واحتجاج حتى في اللحظات الأخيرة، بشكل بارز يطرح شعارات معركته وأبعاد صراعه، ويؤكد ماذا يريد ولماذا يدخل هذه المعركة القاسية ويقدم كلّ هذه التضحيات. إذًا، الثلث الثالث من الأعداء أولئك الذين يحاولون أن يعدموا روح ذكرى عاشوراء، جوهر وجود الحسين، أولئك يجمدون الذكرى في فترة زمنية من التاريخ ثم ينظرون إليها من القرن العشرين وكأنه ماضٍ سحيق مذكور في الكتب ينظرون إليه فيبكوه.
هذه الزيارة التي نقرأها في كلّ يوم من أيام عاشوراء، فنبدأ بالفقرة: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله"، من أول كلام نقوله نحن نعتبر أن الحسين هو وارث آدم، وارث نوح، وارث "إبراهيم"، وارث اسماعيل، موسى، عيسى، محمد، عليّ. وارثهم بأي شيء؟ بالنبوة؟ كلا، الحسين ليس نبيًا، ولا يوحى إليه، ولا نؤمن بنبوته، النبوة انتهت مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). إذًا، وارثهم في أيّ شيء؟ وارثهم في محاربة الظلم، وارثهم في المعركة، وارثهم في القيادة، وارثهم في تقديم الشهادة، وارثهم في خوض معارك الموت للنهاية دون تراجع. لذلك نربط بين الحسين وبين الماضي، وبلا شكّ بين الحسين وبين المستقبل لأننا إذا أخرجنا الحركة، إذا أخرجناها من جمودها الزمني وما اعتبرناها أنها حادثة ظاهرة منفردة في تاريخ الصراع بين الحقّ والباطل، إذا أخرجناها من هذا الجمود وربطناها بالماضي من الطبيعي أن الحادثة ترتبط بالمستقبل، وعند ذلك تنتهي. وكما نقول إن الحسين وارث السلف نقول إنه قائد الخلف، كما أنه وارث آدم ونوح وموسى وعيسى، نقول إنه مورث الصادق والباقر والرضا، مورث كلّ من يصرع الباطل وكلّ من يناضل في سبيل الحقّ وكلّ من يسعى ويقدّم جهده وحياته في سبيل الدفاع عن الحق، لأن الحق والباطل كانا متصارعين منذ الأزل، سُنة الله في خلقه. الإنسان يعرف الخير والشر: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس، 8]. الله سبحانه وتعالى هو الذي علّمني وألهمني ووضع في نفسي وخلقني، وأنا شاعر بالخير وشاعر بالشر، متمكن من الخير ومتمكن من الشر: ﴿وهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد، 10]، وسُنّة الله في خلقه أن في الكون إمكانية ممارسة الخير وإمكانية ممارسة الشر.
لسنا معصوبي الأعين، نسلك سبيل الخير من دون الانتباه إلى الشر. هناك خير وشرّ في العالم وهناك خير وشرّ في النفس، ولذلك عندما يختار الإنسان الخير يختاره بعد الصراع. عندما يقف أمام أيّ موقف يجد نفسه بين الخيارين: هناك ما يجتذبه إلى الشرّ وهناك ما يجرّه إلى الخير، وهو مع كلّ موقف يعيش صراعًا مرًا فيختار الخير أو يسقط في أحضان الشرّ. إذا اختار الخير يكتمل لأن الاختيار جاء بعد الصراع، بعد المعركة الطاحنة النفسية، عند ذلك يستمر. ليس الإنسان مثل النحلة، النحلة لا تقدر إلا أن تجني العسل لا تستطيع فعل شيء آخر، مثل الخروف، مثل الشمس، مثل الحيوانات الطيبة لا تقدر أن تعمل إلا الخير. غير أن الإنسان يقدر أن يعمل خيرًا، ويقدر أن يعمل شرًّا. إذًا، سُنة الله في الخلق وجود الإحساس بالخير والشرّ في النفس، وجود الخير والشرّ في الخارج، ولذلك الإنسان أمام الخيارين في كلّ موقف.
وجود الخير والشرّ شكَّل جبهتين أزليتين أبديتين، قاد الجبهة في الأساس آدم صفوة الله، فحصل الصراع بين هابيل وقابيل... قل إنها معارك رمزية، أو قل إنها حقائق تاريخية، لا فرق، المهم انعكاسها علينا. هابيل وقابيل قد نُصّ على معركتهما القرآن الكريم، الصراع حصل. هناك جبهة الخير الصغيرة وقفت مقابل جبهة الشرّ الصغيرة في إطار محدود بين أخوين شقيقين من أب واحد وأم واحدة، فحصل الصراع، فقتل قابيل هابيل ودفنه تحت التراب. وبدأت المعركة وتلطخت المعركة بالدم من الساعة الأولى... من الساعة الأولى بدأت المعركة حامية حارة، ووُضعت التجربة أمام الإنسان عبر الأجيال من أيامهم إلى أيامنا وإلى الأبد، وبعد ذلك المعارك استمرت. المعارك كانت بين من ومن؟!
لقد فسّرها الباحثون والمعلقون والفلاسفة وعلماء الاقتصاد ومؤسسو المدارس الاقتصادية الحديثة والقديمة، ووضعوا لها تصاميم، وضعوا لها أطرًا، وكلٌّ له حق لأنه حدد المعركة في إطار زمانه: بعضهم اعتبر المعركة بين الطبقات، بين الرأسمالية وبين الاشتراكية؛ بعضهم صنّف المعركة بشكل آخر، له الحق لأنه عاش فترة كانت الصفة البارزة في الصراع، صفة الصراع بين الطبقات. أنا لا أشكّ أنه لو عاش زماننا هذا لأعطى للمعركة طابعًا آخر، لأن المعارك اليوم خرجت عن كونها بين الطبقات... أحيانًا بين الطبقات، أحيانًا مع الطبقات، أحيانًا بين الشعوب... لا نريد أن نناقش هذا البحث، ولكن أولئك حددوا أطر المعارك حسب رؤيتهم، فعمموها واعتبروا أن التاريخ، كلّ التاريخ، يتكون من الصراع من الأساس وإلى النهاية.
ولكن الحقيقة أن المعركة الحقيقية كانت بين الظالم -والظالم له أشكال- وبين المظلوم، ، والظالم قد يكون ظالمًا شخصيًا: رجل يضرب رجلًا، زوج يضرب زوجته، أخ يظلم أخاه، إنسان يظلم جاره، قبضاي يظلم إنسانًا ضعيفًا في السوق... معارك شخصية. وأحيانًا الظلم يأخذ طابعًا أوسع، فالظلم السياسي: الاستعمار، والمستعمرون يظلمون الشعوب، يأخذون حريتهم وأرضهم ووطنهم. يأخذونه بالسياسة، يأخذونه بالسيف، يأخذونه بالمدافع، يأخذونه بالسلاح. هذا نوع من الظلم، المعركة بين الظالم والمظلوم، تتجسد المعركة بين الاستعمار والمستعمرين.
أحيانًا المعركة تأخذ طابعًا اقتصاديًا فتتجسد بين المستثمِر والمستثمَر. فئة تسرق أموال الآخرين بالقوة أو بالحيلة أو بالرّبا، -والرّبا كان منتشرًا من قديم الزمن، قبل الإسلام وبعد الإسلام، وحتى في زماننا هذا، بشكل أو بآخر- فئة تغتنم فرصة تملكها للمال، فتمتص أموال وحياة وطاقات وجهد الآخرين. هذا نوع آخر من الظلم، المعركة هنا بين المستثمِر وبين المستثمَر.
وأحيانًا المعركة تتجسد بطابع ثقافي فكري، أحد المؤلفين الكبار الباحثين يسميه الاستحمار، يعني أولئك الذين يريدون أن يجعلوا الناس حميرًا، لا يعرفون، يجهلون. هنا أيضًا الظالم يغتصب عقل المظلوم وفكر المظلوم وثقافة المظلوم ووعي المظلوم وإحساس المظلوم... المعركة قائمة.
القرآن الكريم يجمع كلّ أنواع الظلم ويجمع كلّ أصناف المظلومين ويسميهم بالمستضعفين: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص، 5]، الاستضعاف يعني فئة اعتبرت فئة أخرى ضعيفة فاغتصبت منها مالها أو فكرها أو حريتها أو كرامتها أو استقلالها. القرآن الكريم منطقه التاريخي، القرآن الكريم رؤيته التاريخية، هي التالية: أن المستضعفين في الأرض أمام الظالمين، أمام المستضعفِين فئتان تتقابلان، يزداد الظلم ويطغى المستضعِف فيسيطر ويتحكم. المستضعفون يفتشون، يتفقون، يلتمسون، يتوسلون، ينادون، يئنون، يرزحون تحت الأعباء، والله سبحانه وتعالى يبعث لهم قائدًا أو نبيًا أو وصيًا (أو شهيدًا استشهد)، يجمعهم يقودهم ويدافعون عن مصالحهم أمام الظالم. الأنبياء جميعًا، الأنبياء الإبراهيميون كما نسميهم، أولئك الذين نادوا بالله الواحد الأحد جميعًا، أولئك كانوا دائمًا محاطين بعدد كبير من المستضعفين يقفون معهم لا كرهًا بالأقوياء، فلا عقد أبدًا، بل كرهًا بالظلم، فلينزل الأقوياء والظالمين عن عروشهم ويعيشوا حقهم وحظهم وحصتهم في الحياة. ليس هناك من عقد ضد أيّ إنسان، والنبي صافٍ من العقد تمامًا.
الصراع يحتدم، المستضعفون يقومون ويلتفون حول نبيهم فيبدأون بالصراع ويقدمون التضحيات ويستمرون في المعركة حتى ينزلوا الظالم عن عرش طغيانه، ويمنعوه عن الاستعمار والاستثمار والاستحمار. ولكلّ من الأنواع الثلاثة من الظلم رجال، رجاله موجودون: كانوا موجودين والآن موجودون. ينكسر الظلم أمام الكثرة وينكسر الظالم ويسقط عن عرشه. سرعان ما يغير لبسه، الظالم يغير ملابسه من جديد، يلبس ثوب الأنبياء، ويلبس ثوب الدين، يلبس ثوب الدعوة الجديدة، يتغطى بغطاء الشعب، ينادي بالشعارات لمصلحة الناس، يعلن عن وقوفه إلى جانب المستضعفين. يعود المستضعفون فيرون أن الظلم بدأ من داخلهم، وأن الاغتصاب والتحكم والسيطرة والاستثمار والاستحمار والاستعمار جاءت من الداخل، وعند ذلك يبدأ صراع آخر... وهكذا في الزمن من الأول إلى الآخر، هذه المعركة، لماذا هذه المعركة؟ هذه سُنة الله في الخلق، كمال الإنسان والصراع الداخلي الدائم لكي يتمكن الإنسان من اختيار الخير والحقّ بملء إرادته، فيكتمل.
إذًا، هذه السلسلة المستمرة من الصراع بين الظالم والمظلوم، بأي صفة وصفتَ الظالم والمظلوم، من خلالها بدأت المعركة من أيام آدم صفوة الله ونوح نبي الله وابراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمد حبيب الله وعليّ وليّ الله، وهكذا. إذًا، معركة كربلاء ليست معركة مفصولة وظاهرة فريدة في تاريخ الإنسان، إنها حلقة مايزة. طبعًا تختلف عن الحلقات الأخرى، حلقة مايزة في تاريخ الصراع، كما أنها حلقة مرتبطة بالماضي فإنها حلقة مرتبطة بالمستقبل.
نحن نحاول في ذكرياتنا وفي احتفالاتنا، ومن قديم الزمن حاول آباؤنا وأجدادنا وقادتنا، علمونا أن نقيم المآتم الحسينية. ونذكر المأتم والذكرى وكأنهما شيء جديد نعيشه، نسمع الشعارات: "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه"، هذا كلام الحسين لا تشمّ فيه أبدًا أنه كلام الماضي أبدًا، كأنه كلام يقال اليوم، "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقًا". هذه الكلمة تدوي في مسامع المحتفلين وتجعل الإنسان ينتبه إلى ما هو الموقف اليوم، طالما أن المعركة مستمرة، وطالما أن الجبهتين متميزتان، وطالما أن لكل جبهة رجالها فلنفتش نحن عن أنفسنا عن مكاننا في أي واحدة من الجبهتين؟! نسمع: ألا وأن الدنيا قد أدبرت وتنكرت وأصبح معروفها... ولم يبقَ إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش... كلمة معروفة للإمام الحسين في هذا الموقف، الكلمات والشعارات واضحة. الإنسان المعاصر عندما ينتبه بأن معركة الإمام الحسين مرتبطة بالماضي والمستقبل يقف فيصنف نفسه، يقف اليوم يفكر في الجبهتين. إذا أردنا أن نعرف الجبهتين فلهما مواصفات، لا نريد كثيرًا من الدقة والاستماع، مواصفات الجبهة واضحة: الظلم. هل هناك أحد ما يشكّ بأن إسرائيل ظالمة؟ إسرائيل اغتصبت الأرض وشردت الشعب وقتلت الأبرياء، وتحاول أن تستمرّ في الاعتداء بحجة الحماية للنفس، وضللت الفكر العالمي. إذًا، مارست الاستعمار والاستثمار والاستحمار.
نحن مستضعفون، إذًا، إسرائيل مصنفة في جبهة يزيد، في جبهة الباطل، في جبهة الظالمين، ونحن مصنفون في جبهة المستضعفين، في جبهة الحسين، في جبهة المظلومين... الأبعاد واضحة. فإذًا، ماذا يجب أن نعمل؟ نتلو ذكرى الحسين (عليه السلام)، نرى أن الحسين خرج مع بني قومه، مع أصحابه، مع أحفاده، مع كلّ ما يملك، وكلّ من معه من الرجال والنساء... حتى الذين لم يخرجوا، لم يخرجوا غصبًا عن الحسين، إنما دعاهم، كتب لهم رسالة: "ألا وأن من خرج معي يُقتل، ومن لم يخرج لن يبلغ النصر". يريد أن يأخذ كلّ الناس، يريد أن يأخذ كلّ الأعزاء معه، وإلى أين؟ إلى مذبح الشهادة، وهو يعرف أنهم يتقدمون جميعًا إلى الموت إلى الشهادة، وقدّم واحدًا تلو الآخر.
كنت أستمع إلى كلمة جرت بين عليّ بن الحسين ابنه الأكبر وبين الحسين، عندما رجع إلى المخيم يطلب الماء... مضمون كلام الإمام الحسين أنه أنا لا أملك الماء ولكن أرجو أنك تُسقى من يد جدك، ماذا يعني من يد جدك؟ في هذه الدنيا؟! أين سيعطيه جده الماء؟ يعني أرجو أن تموت. الحسين يتمنى الموت والشهادة لابنه الوحيد... تفضل حارب ومتْ واشرب؛ هذا معنى كلام من يد جدك. وبالنسبة إلى الآخرين يستأذنون فيأذن لهم، وهكذا الواحد تلو الآخر، قدمهم جميعًا.
وسمعتم في المصرع، تفاصيل المصرع، تفاصيل غير بعيدة عن الحقيقة، بل قريبة إلى الحقيقة كلّ القرب. أناس جاؤوا إلى المطامع مضللين، أعطوهم بضع فرنكات، بعضهم أخذ كفًا من التمر الناشف وجاء ليقتل الحسين. 30 ألفًا أو أكثر... الأحاديث والسير مختلفة، طوّقوا حرم الحسين، هؤلاء عندما يشعرون أن بينهم وبين الانتصار، بينهم وبين الفرار من الضربات الحسينية وضربات العباس وضربات الأبطال، ما بقي بينهم وبين النجاة إلا لحظات، وعندما يُقتل الحسين ينتهي كلّ شيء. أولئك الذين يرون أنه بعد مقتل الحسين سيدخلون خيام الحسين وسينهبون الملابس والفرش والحلي والقرط وكلّ شيء دون رحمة. وتبين كيف تصرفوا وما سمعتم في المصرع هو عين الحقيقة: الضرب بالسيوف، الضرب بالحجارة، الضرب بالسهام، السبي، الضرب بالرمال... بأيّ وسيلة كانت متوفرة لديهم يضربون.
نحن نقرأ ذلك يوم عاشوراء. ما الغاية؟ بعد أن وضعنا عاشوراء في موضعها الصحيح التاريخي، لها موضع في سلسلة متصلة الحلقات من الصراع تبلغ القمة مع الحسين ولكنها مستمرة، قبل الحسين كانت وستبقى بعد الحسين.
لماذا حلقة الحسين حلقة مميزة؟
لأن التضحية التي قدمها الحسين تضحية كبرى. قدّم كلّ شيء لله فقط، "إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني". قدّم كلّ شيء، إنما أخرجنا هذه الحلقة من عزلتها وربطناها بالسلسلة التاريخية السرمدية من الصراع، عند ذلك نضع أنفسنا أمامها ونسأل: اليوم المعركة حامية أولًا بين الشعب الفلسطيني وبين إسرائيل بالدرجة الأولى ليس باعتبار أنه واجبهم الأول، لا واجبنا جميعًا، باعتبار أنهم تحملوا فلو لم يقوموا، لكان الواجب العيني علينا أن نقوم نحن. حسنًا، إسرائيل قوية، ويزيد كان قويًا؛ إسرائيل مجرمة ويزيد كان مجرمًا، إسرائيل تقتل وتقصف ثم تحرق ثم تذبح، مثلما فعلت في هذه المعارك وشاهدناه بعيوننا على الشاشات وفي الصور أنهم قتلوا ثم أحرقوا ثم رموا، تمامًا نتذكر أن مسلمًا بن عقيل قُتِلَ في دار الإمارة، فذبح ثم أُلقي به من الشاهق ووقع على الأرض.
إذًا، كلّ الأبعاد المتوفرة في هذه المعركة كانت متوفرة هناك، والحسين ما تراجع وما قال إنها جماعة ظالمة، والله لا ترحم الرجال والنساء والأطفال، أو لا ترحم الميت والحي، أبدًا؛ ما قال إن هؤلاء سيسحقون صدري بعد القتل، فليكن... طريق الحق. ما الفائدة من البقاء ذليلًا وهو القائد! عليه أن يتحمل.
إذًا، هذه المعركة، معركتنا مع إسرائيل استمرار لمعركة الحسين تمامًا والذي يريد أن يشكك مثلما كانوا يشككون بـالحسين، وكانوا يقولون: "خرج عن حده، فقتل بسيف جده"، هذا هو حكم صادر عن المحكمة. كانوا يقولون لماذا تشقُّ عصا الطاعة؟ لماذا لا تترك الأمة مسرورة مرتاحة؟ لماذا لا تترك الناس يعيشون يصومون ويصلون ويحجون ويدفعون الزكاة؟ ماذا تريد يا حسين أنت من كلّ هذه المعارك؟ إسرائيل أيضًا تقول نفس الشيء: أنا أريد أن أحذركم تعالوا نتعايش، تعيشون أنا أريد أن أعيش معكم، تعالوا نتصافى. لا، ليس معقولًا، الظالم لا كإنسان، إنما كدولة قائمة على أساس الاعتداء، على أساس المطامع، على أساس التعدي، على أساس التوسع وعلى أساس أنه أنا فوق البشر وكلّ البشر يجب أن يبقوا تحت.
إذًا، هذه المعركة هي بعينها معركة الحسين في عصرنا، ولا نعزل أبدًا شيئًا عن شيء، ومثلما نقول للحسين: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله"، نقول اليوم لمعركة الفلسطينيين مع إسرائيل: السلام عليكم يا ورثة "الحسين بن عليّ بن أبي طالب، السلام عليكم يا ورثة الحسين بن عليّ الشهيد. تمامًا مأساتكم كبيرة مثل مأساة الإمام الحسين لأنه هناك قتل ودمار وتشريد وحرق وإلقاء من الشاهق وقتل الأطفال وكلّ شيء.
نحن لماذا نقرأ يوم عاشوراء هذه المقارئ والمقاطع بالتفصيل، ونذكر لقطات مثيرة حتى نؤكد للذي يريد أن يدخل هذا الباب بأن في هذا الباب لا يوزعون الحلوى، الذي يريد أن يدخل في هذه المعركة لا يعطونه "البونبون"، لا يعطونه الشوكولاتة، لا يقولون له أهلًا وسهلًا، لا. يدمرونه، يحطمونه، يفظعون وينكلون به. كلّ شيء موجود ونحن عارفون. نحن قرأنا يوم عاشوراء ذلك وقلنا: يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزًا عظيمًا، أليس كذلك؟ لم نكن كذابين إن شاء الله.
هذه المعركة المستمرة والقائمة كيفما كانت تنتقل اليوم وبعد أن عجزت إسرائيل عن القضاء على اللاجئين -سمتهم لاجئين وسُموا لاجئين- انتقلت للاعتداء علينا حتى تشرّدنا، وحتى تضعّفنا وحتى تأخذ منهم ظهرهم، وحتى تدافع عن نفسها بشكل الهجوم والهجوم أفضل وسائل الدفاع. بدأت في لبنان، بدأت بتشريد أهالي كفرشوبا، بدأت باحتلال مناطق، وحفر الطرق ووضع المخافر. طول الليل أمس من الليالي التي كنت نائمًا فيها، "البروجكترات" والقنابل المضيئة والأصوات المرتفعة كلّ الليل.
أيها الحسينيون،
لا تتذمروا، هذه طبيعة الصراع مع الباطل، من خصمكم؟ ليست إسرائيل فقط. العالم المادي، العالم الذي يعتمد على العلة، العالم الذي يريد كلّ شيء لنفسه، صفته صفة جهنم، يقال له ﴿هل امتلأت وتقول هل من مزيد﴾ [ق، 30]؟ هذه طبيعة. استعدوا، تجهزوا رحمكم الله، فقد نودي فيكم للرحيل. أكمَلوا التحضير للجنوب... أكملوه، الآن بدأوا يستثمرون مثلما فعلوا مع الفلسطينيين -اسمحوا لي يا إخواني الفلسطينيين الموجودين هنا- ضللوكم قبل الـ48 سنوات وسنوات وسنوات. اشتروا أراضيكم، وَعَدوكم، أعطوكم مزايا، خلقوا بينكم وبين لبنان خصومات، مصارعات، كراهيات، مذهبيات؛ خلقوا أشد الناس تعصبًا مذهبيًا في جنوب لبنان وفي شمال فلسطين، لماذا؟ حتى لا يلتحمان، حتى لا يتفقان، حتى لا توحدهما القومية ولا الدين ولا وحدة المصير، شتتوهما. نحن نتذكر تمامًا، كلّ هذا كان تحضيرًا قبل الـ48 بعدها ضربوا الضربة الكبرى، راحت الأيام والمناشدات ما أفادت... حملوا السلاح بدأوا يستعيدون أرضهم وهم في طريقهم إلى الاستعادة.
نحن كيف حضّرونا؟ حاولوا إذلالنا، تركوا إسرائيل تضربنا كلّ يوم ولا دفاع. لم يحصل في العالم أبدًا حالة مثلما حصل في جنوب لبنان: خطف، قتل، تدمير، تحطيم ولا دفاع... هل عرفت السبب! لماذا لا يوجد دفاع؟! طيب، اعطونا السلاح، نحن ندافع. لا، لن نعطيكم سلاحًا ستقتلون بعضكم بعضًا ونحن حريصون على الوحدة بينكم وبينهم. يا جماعة إسرائيل تقتلنا... لا أنت إذا أعطيتك سلاحًا (يا ابن فلان) ستقتل أخاك، جارك، ابن عمك. ضللونا وما أعطونا سلاحًا حتى نكون مستعدين. الضرب من الخارج، ونحن عُزّل من السلاح من الداخل، وجمّدوا جميع مشاريعنا الاجتماعية العمرانية، فلا الليطاني، ولا الأوتوستراد، ولا القرى المحصنة، ولا تحسين الزراعة، ولا الثروة الحيوانية، ولا المشروع الأخضر ولا شيء... شغلونا بالحياة، رحل من رحل من شبابنا المهاجرين إلى أفريقيا، والذي رحل إلى الكويت وليبيا، والذي رحل الى بيروت والذي رحل إلى صيدا، وأستراليا وكندا، امتصوا القطاع الحيّ من أبناء الجنوب، بقي القليل من المشايخ والنساء وبعض الشباب.
إذًا، الإذلال من الخارج والعزل من السلاح من الداخل وتدمير المشاريع وامتصاص الشباب، كلّ هذا لماذا؟ والطغيان من الإقطاع. ليس لك حقّ أن تحكي! هذا قدرك! أنت لا تعرف... طوّل بالك! الحقّ على الفلسطينيين هم الذين ورطوك؟! أيّ فلسطينيين؟! أنا واجبي أن أموت في سبيل القدس وليس الفلسطيني، أنا مسؤوليتي أن أحمي الأرض المقدسة ولو كنت لبنانيًا. كتّر خير الفلسطينيين الذين تحمّلوا المسؤوليات. هذا واجبنا، واجب كلّ مسلم، واجب كلّ مسيحي، واجب كلّ إنسان. أنتم فكرتم أنه نحن خُدعنا بهذه الحدود التي وُضعت! مصيرنا واحد، ديننا واحد، هدفنا واحد، معركتنا واحدة، إسرائيل عدوتنا أيضًا؛ تمامًا مثل اللحام، الجزار الذي يأخذ اليوم خروفًا، والخرفان الأخرى مسرورة أنه الحمد لله لم يأتِ إليها! غدًا آتٍ.
إذًا، الاستثمار والاستحمار والاستعمار استضعفونا، من الداخل استضعفونا، السياسة المتحكمة الطاغية التي تنظر إلينا من فوق، تدمير المشاريع، حصر الإنتاج بالتبغ، هذا بحدّ ذاته مؤامرة، أنتم تعرفون أن التبغ يفسد الأرض، أسوأ أنواع الزرع في العالم زرع التبغ، تعرفون! يعني التبغ في مصطلح علم الزراعة، ولا أعرف علم الزراعة إلا أني أخذت معلومات، الزراعة للأرض التي لا تعطي أي ثمر آخر، مع العلم أن أرض الجنوب من أحسن وأخصب الأراضي في العالم. كلا يجب أن تزرعوا تبغًا! ويجب أن تُحتقروا! أنا الذي أصلح لكم وأنا الذي أحدد لكم يوم التصليح! ماذا يعني؟ أنتم تعرفون! السنة الماضية استلموا التبغ في 20 تشرين ثانٍ، اليوم 22 كانون ثانٍ، أخّروا شهرين تمامًا. من ليس بمزارع تبغ فليأخذ علمًا أنه يوميًا المزارع يخسر أكثر من 100 ألف ليرة، تعرفون لماذا؟ لأن هذا التبغ بعد أن يتكوّن -يقولون عنه مثل الميت- يجب أن يطلع لأنه أولًا، الوجه كلّ يوم يقلّ؛ ثانيًا، الرّبا للمرابين يزداد كلّ يوم، بينما المزارع في خسارة دائمة. إذًا، يا أخي لماذا استلمت السنة الماضية في 20 تشرين ثانٍ، والسنة تواصل وتؤخر والآن تريد أيضًا أن تأخذ مثلما تريد. إذًا، كلّ عوامل الذل، سياسة التشجيع، لو ما كانت هذه المدرسة، قدّس الله نفس السيد عبد الحسين شرف الدين الذي أسس والذي شجع أولئك الذين سعوا لرفع مستوى الثقافة في هذه المنطقة، أيضًا كانوا يريدون أن يجهّلونا!
التضليل، التجهيل، تدمير المشاريع، احتقار الناس، ضربات العدو كلّ يوم، وضربات من الداخل، عصابات المسلحين تتحكم في الناس وتحتقر هذا، وتموّت ذلك، وتخطف هذا. فكّروا أن الجنوب مات، انتهى الجنوب، الأرض انجرفت، الآن خلِّنا نبدأ بالتشريد والاحتلال، خلِّنا ننتقل وبدأوا في كفرشوبا، في مجدل زون، في الطيبة؛ وما كان أعظم خيبة أملهم عندما وجدوا أن الشباب يدافعون عن أنفسهم فيقتلون ويُستشهدون. فليعلموا أن معنى عاشوراء، عاشوراء التي حفظها لنا أجدادنا ليومنا هذا... ألف سنة حفظوها لمثل هذا اليوم، ما معنى عاشوراء؟ معناه أنه نحن يجب أن نقف في وجه إسرائيل، ونقتل المهاجم وندافع عن أنفسنا ولو قُتِلنا نحن وأولادنا وسُبيت نساؤنا وهُدّمت بيوتنا وفظّعوا فينا... وماذا يريدون أن يفعلوا فليفعلوه!
هذا طريقنا وهكذا تعلمنا! لأنه نحن في المصرع قرأنا أنه من أتى إلى الحسين وضرب على كتفه ومن ضرب على صدره، ومن ضرب على جبهته، ومن حزّ رأسه ومن رفع لفته ألم تسمعوا؟ والحسين أيضًا كانت لديه لفة... بالمناسبة لم تكن لفته فقط تجعله يصلي ويصوم، ولا يحكي في مصالح الناس، كان لديه لفة حتى في الحرب. عرفنا هذه المسائل كلّها أن الحسين قُتِل، وبعدها قلنا يا ليتنا كنا معك. إذًا، نحن لها.
إذًا، لن تتمكنوا من تركيع الجنوب. لا تتمكنون من إذلال هذا الشعب الحسيني الذي تمنى أن يكون مع الحسين ألف سنة، واليوم المعركة المفتوحة التي هي مرتبطة بالماضي ومرتبطة بالمستقبل، هذه المعركة أمامنا ونحن لها بإذن الله. فماذا أنتم قائلون أيها الحسينيون، معركة صعبة، جماعة بدر، بدر يوم الفرقان، ﴿يوم التقى الجمعان﴾ [الأنفال، 41]، أشرف المعارك في تاريخ الإسلام، القرآن يقول: ﴿ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا﴾ [الأنفال، 42] صعب، المواجهة صعبة، الحياة عزيزة، اللحم لا يتحمل السهام والرصاص. صحيح؟ كلّه صحيح. ولكن تذكروا الحسين، الحسين كان عنده أولاد، الحسين أيضًا كان عنده أحفاد، ألم تسمعوا ابن الحسن وهو مطوّق، ركض عبد الله بن الحسن وجد أن واحدًا رفع سهمه يريد أن يقتل عمه، بيده دافع فانقطعت يده. هل نحن أقل سلاحًا من عبد الله بن الحسن؟ ندافع بأسلحتنا، لا يوجد أسلحة لندافع؟ ندافع بأسناننا، بأظافرنا، بكلّ شيء. هل يقدرون أن يذبحوا شعبًا، يقدرون أن يميتوا أمة؟ كلا.
[...] يأتي الآخرون... وينتهي عهد إسرائيل كما انتهى عهد بني أمية [...] ونحن حالتنا أسهل من الفلسطينيين، [حالتهم] أصعب لأن الجماعة بالإضافة الى جميع وسائل التضليل والتحكم والإذلال ما كانوا على أرضهم كانوا في المخيمات، كانوا ممنوعين من الاجتماعات، كانوا ممنوعين من حمل السلاح، كانوا ممنوعين من التدريب. ألا تذكرون قبل 57، 67؟ كلنا نتذكر كيف كان وضعنا. أشهد أنكم الحسينيون في هذا العصر.
هذا الطريق وهذا مفهوم عاشوراء وبصورة خاصة في هذه السنة عندما نشعر أن إسرائيل بدأت تنفذ الخطة بعد تحضير الأجواء، الأجواء تحضرت بدأوا بتنفيذ الخطة. وعاشوراء في هذه السنة لها مفهومها الآخر، غير المفهوم في كلّ سنة. المفاهيم السابقة، احتفالاتنا السابقة كانت تعني صيانة التراث لتقديمها إلى شعب حيّ، وللتقديم إلى فرصة مناسبة، ها هي الفرصة قائمة. فاسمحوا لي أن أخاطبكم بما يقول الحسين في آخر ليلة، يقول في آخر ليلة في مكة: ألا من كان منكم باذلًا فينا مهجته، راغبًا إلى لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحًا إن شاء الله.
إن شاء الله هذه المعركة معركتنا مباشرة، في هذه المعركة لا يوجد مثقف أو غير مثقف، لا يوجد شيخ وشاب وسيد ورجل دين وإنسان عادي، معركة الأمة، معركة الدفاع عن الأرض، عن الكرامة، عن الدين، كلّنا يجب أن نمشي فيها.
سيدي أبا عبد الله،
نحن نعاهدك في هذا اليوم الكريم أن نحيي ذكراك بدمائنا، وأن نكتب تاريخك فنجدد وجودك بحبر دمائنا، هذا هو عزمنا. الإخوان المحتفلون الأوفياء الذين حفظوا ذكرى الحسين هم وأجدادهم في أصعب الظروف، أصبحوا اليوم يشعرون أنهم أمام البحر الحسيني يغترفون منه لمعالجة محنهم. فلم يأتِ الحسين لكي يفرّق بين المسلمين، وما قُتِل الحسين لكي يميّز المسلمين -بين الشيعة والسنة-، أو المسلم وغير المسلم، لا. الحسين في تراثه موقف المسيح عيسى بن مريم. قلنا: "السلام عليك يا وارث عيسى روح الله"، الحسين وارث كلّ البطولات ومورّث كلّ البطولات.
الحسين يجيء حتى يميّز الجبهتين، جبهة الظالم المستضعِف المستعمِر المستثمِر المستحمِر المعتدي وجبهة المظلوم المستضعَف؛ لكن ليس المظلوم المستسلم لأن الاستسلام حرام، لأن الانظلام مشاركة في الظلم، ولأن المنظلم كما يقول الحديث أحد الظالمَين.
إذًا، إذا أنت ترفع العشرة فورًا ننقلك من صف المستضعفين ونضعك في صف يزيد. الحسين لا يريد أنصارًا مستسلمين وصغار وضعفاء، الحسين مع المظلومين، مع المستضعفين، فقط أولئك الذين يسمحون في العودة وفي التغلب على العدو وفي الانتصار على الباطل كيفما كان ومهما كانت التضحيات.
قلتُ هذه دعوتنا وسبيلنا وطريقتنا ونسأل الله ببركات الحسين (عليه السلام) أن يمكّننا رجالًا ونساءً، شيبًا وشبانًا أن نتمكن من التهيؤ والاستعداد والتصدي لكلّ ظالم: إسرائيل، حكام ظالمين، طغاة إقطاعيين، إنسان عادي ظالم، أيٍّ كان، كلّهم الكفر ملّة واحدة، كلّهم مثل بعض... معركة صعبة، لكن جيدة وضرورية ولازمة ﴿والعاقبة للمتقين﴾ [الأعراف، 128].
والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 955