الشيعة والمذاهب الاسلامية

calendar icon 26 تشرين الأول 1973 الكاتب:موسى الصدر

حاوره جلال كشك
*الشيعة رؤية خاصة للاسلام تعكس عالمية الاسلام.
*التشريع في العالم الاسلامي بعيد كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية في الأساس وفي المصادر وفي المبادئ العامة وحتى في التفاصيل.
*الاجتهاد تحرك وتطور ونظر إلى الأرض ضمن الاطار الغيبي المطلق السماوي للحكم.
*التشريع دراسة للظاهرة وأبعادها والظروف المحيطة بها ووضع حكم لها مستند إلى مصلحة عامة أو خاصة.
*ذابت الفوارق وانفتح باب اللقاء بين السنة والشيعة والولاية هي للحاكم الصالح.
*لا يوجد دليل شرعي يقيدنا بشكل معين من أشكال الحكم.
*إذا اتبعت الوسائل العلمية في تحديد ولادة هلال رمضان فسوف نصوم معاً ونفطر معاً.

*حرام أن يكون هذا الدين بين أيدينا نحن؟
- إنه أكبر من قدراتنا.. أكبر من طاقتنا.. أكبر من فهمنا.. إنه بحاجة إلى رجال من طراز هؤلاء المؤمنين الذين به غيروا الدنيا وأناروا بصيرة الإنسان..
بهذا التواضع يحكي واحد من أذكى العقول الاسلامية، ومن أكثرها ثقافة واطلاعاً، وإثارة للتعليقات والتساؤلات.
الامام "موسى الصدر" رئيس المجلس الشيعي الأعلى..
ونحن في مصر يقال عنا "شيعة بدون تشيع"، وربما نكون أكثر شعب مسلم تعلقاً بآل البيت، وعندنا من المزارات، والمشاهد التي يفترض فيها أنها تضم أجسادهم، وأجسادهن الطاهرة، ما يفوق ما لدى الدول الاسلامية مجتمعة.. ومعظم الكتاب الاسلاميين المصريين في كتاباتهم نفحة من التشيع لآل البيت.. ولا شك أن تعبير "شيعة آل البيت"، قد أصابه الكثير من التبدل في المفهوم، والإيحاءات، خلال القرون الطويلة، التي انقضت منذ خلاف "علي ومعاوية".. حتى وصلت لفظة "شيعة" إلى مفهومها الحالي في السياسة اللبنانية، وصراعات الخليج والعراق، مما يوحي للسامع، غير الملم ببواطن الأمور، وكأن للشيعة ديناً آخر.. أو حتى مذهباً شديد الانفصال.. بل إن البعض حاول أن يوظّف هذه القضية في الصراعات الحزبية، مشككاً في موقف الشيعة، وهم في الصف الأول إسلاماً وعروبة..
من هنا كان حرصي على مقابلة الامام "موسى الصدر"...
واتفقنا على اللقاء في المجلس الشيعي الأعلى بعد العاشرة مساء، بعد ما يفرغ من أعمال الجماعة، والمقابلات، التي تستنزف قوى المسؤولين العرب وفكرهم عادة.. ولكن الامام "موسى الصدر" يزداد حيوية وتفتحاً بالمناقشات والمحاورات والمراجعات.. والسهر..
عندما دخلت غرفته في "المجلس الأعلى" كان هناك المستشار السياسي لدار "اطلاعات" الايرانية، وبعد أن قدمني إليه، قال الضيف الايراني: إن الصحف الايرانية كثيراً ما تقتبس من "الحوادث" وتعلق على أخبارها، قلت: هذا يثبت أنها أصبحت عالمية.. وعلق الامام: "تقصد الحوادث".. قلت: "بل الصحافة الايرانية"!.
وجاء الشاي وأخرجت أوراقي وقلت: بمناسبة وجود ضيفنا الايراني.. أود أن نبدأ الحديث بذكر إيران..
*ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه كإمام شيعي في كسب إيران للحق العربي؟..
- بإمكاننا أن نوضح لهم حقيقة الوضع في الشرق الأوسط.. ونشرح طبيعة الأطماع الاسرائيلية في العالمين العربي والاسلامي، ونبرز مدى الخطر الذي تمثله هذه الاطماع على المسلمين بصفة عامة، وعلى إيران بصفة خاصة، باعتبارها جزءاً من الشرق الأوسط، وأقرب الجيران المسلمين، وتدخل ضمن دائرة الاطماع الصهيونية.. ونستطيع أيضاً أن نذكّر بالمواقف الأخوية في التاريخ الاسلامي، عندما اتحد الاكراد والايرانيون والعرب ضد الصليبيين فأنقذوا الأراضي المقدسة، والعالم الاسلامي من خطر كبير..
من مثل هذه المنطلقات - تابع سماحة الامام - يمكن أن نحقق مزيداً من الاقناع للرأي العام الايراني لكي يقف إلى جانب العرب، وقد حاولت ذلك أثناء زيارتي لإيران من سنتين، ولمست هناك مدى اندفاع الشعب الايراني في التجاوب مع الأحداث والمحن التي تنزل بأشقائه العرب، وأستطيع أن أقول أن هذا التضامن يمكن بشيء من الفهم، والتفهم، وكثير من الاخلاص والايمان أن يتحول إلى عمل لا يقل عن حماسة العربي.
*بالمناسبة.. هل صحيح أن إيران أرسلت أسلحة لبعض الجهات اللبنانية؟
- لا علم لي بذلك، وأستطيع أن أقرر أن هذا الخبر، لا أساس له من الصحة..

*هل تعتبر ايران وطن الشيعة، كما كان الاتحاد السوفياتي مثلاً، وطن الاشتراكية؟ ثم ما هو الموقف الشيعي في الخليج؟
- الشيعة في رأيي، هي رؤية خاصة للاسلام، ولا أحب أن أتصورها مذهباً خامساً. والرؤية الشيعية، تعكس عالمية الاسلام، ونظرته إلى العقيدة باعتبارها الوطن الذي ينتمي اليه المؤمن. ولكن هذا لا ينفي أن الشيعي، كمواطن في بلد بعينه، ملتزم بأن يرد عطاء هذا الوطن حباً، وانتماء، وصيانة لكرامته، وذوداً عن حريته واستقلاله، ولذلك فهو ملزم بالولاء، ملزم بأداء واجبات المواطنية الصحيحة.
وموقف الشيعة من ايران - وعندما أقول موقف الشيعة.. أقصد موقف قيادتها المذهبية، ولا أتحدث عن أفراد أو مؤسسات هنا وهناك- ومع أخذ هذا الفارق بعين الاعتبار، يمكنني القول أن موقف الشيعة وقادتهم الروحيين، هو الاصرار على صيانة منطقة الخليج، وحفظ استقلاله وازدهاره، عن وعي ويقين بأنه يمثل مكانة أساسية في عالمنا العربي، وفي تحديد مستقبله. والشيعة يدركون أن الحفاظ على عروبة الخليج، هو واجب أساسي، وعنصر حاسم في مستقبل الوطن العربي، وأيضاً لأن تأكيد عروبة الخليج وصيانتها، يخلق قاعدة التفاهم بين شاطئ الخليج، لأنه يؤمن للجانب الآخر سياجاً قوياً ومحاوراً كفؤاً شريفاً يكفل الاستقرار والأمن.
*أليس غريباً أن ايران، التي تعتبر المذهب الشيعي هو مذهبها الرسمي، يتولى الحكم فيها من لا ينتمي لآل البيت ولا إلى الأئمة؟
- ليس لإيران وضع خاص تتميز به عن سائر الدول الاسلامية، فهي كما هو الحال في معظم الدول الاسلامية التي تنص على أن الدين الرسمي هو الاسلام.. كذلك نص في ايران، على أن الدين الاسلامي، بتعاليم واجتهادات فقهاء المذهب الشيعي، هو المصدر الرئيسي للقوانين في ايران.. ثم سلامتك!
وأستطيع أن أقول - الكلام ما يزال لسماحة الامام - إن التشريع في العالم الاسلامي، في وقتنا هذا، بعيد كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية في الأساس، وفي المصادر، وفي المبادئ العامة وحتى في كثير من التفاصيل.
ولكني أشهد أن فقهاء إيران عند تدوين الدستور، ووضع القانون المدني، قد أبدعوا في استخراج الأحكام الشرعية، وتطويرها.. ووضعها في صورة قوانين.. وهو جهد مشكور.
التشريع والاجتهاد!
*هل يعني ذلك أنهم شرّعوا؟
- يجب أن يتّضح الفارق بين الاجتهاد والتشريع.. فالاجتهاد هو بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره، وهذا يعني بدء المجتهد بالمصادر والنصوص لكي يكتشف الصواب في الواقعة الجديدة، التي يحتاج إلى معرفة حكمها، فهو يبدأ من النص ليهبط إلى الواقع، وهو يضم إلى الحكم الديني فهمه واستنباطه النابع من خبرته، وممارسته، ومكوناته الذاتية. فالاجتهاد تحرك وتطور، ونظرة إلى الأرض، ضمن الاطار الغيبي المطلق السماوي للحكم.
والمطلق والغيبية، لا يفقدان الحكم تطوره، وانطباقه على حاجات الانسان، كما أن التطور والاهتمام بالحاجات لا يفقدان الحكم قدسيته وغيبيته. فالاجتهاد يتكون من عنصرين، عنصر إلهي، وهو النص الذي جاء به الوحي، وعنصر ذاتي، وهو فهم المجتهد.
أما التشريع، فهو دراسة للظاهرة، وأبعادها، والظروف المحيطة بها ووضع حكم لها مستند إلى مصلحة عامة أو خاصة.
فالتشريع هو تركيب بين جزء ذاتي وجزء واقعي.. وهو نظرة إلى الأرض، بينما الاجتهاد انتباه إلى السماء!.
ولكنهما يشتركان في هذا الجزء الذاتي، الذي يقوم على فهم المجتهد أو المشرّع لحاجيات عصره، ووقائع هذا العصر... وهذا يفترض، العلم، في الاثنين..
وقال الامام "موسى الصدر".. خذ مثلاً التأمين.. إذا لم تتوفر المعلومات عنه يستحيل اصدار الرأي الصحيح بشأنه.. لأنه سيبدو للفقيه كمقامرة، بينما لو درس الفقيه هذه الظاهرة لعرف أنها من مفاخر الحضارة الحديثة، لأن المؤمن يدفع وغيره يدفع، والشركة تحسب احتمال الحوادث، بجداول واحصائيات غاية في الدقة، تبعد العملية عن المقامرة، أو الغرر، بل تحدد القسط بما يغطي أية خسارة، وتكون النتيجة أن الفرد يربح والشركة تربح.. وهو نوع من التضامن الجماعي..
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الزكاة، فإن تطور مستوى المعيشة، وارتفاع مستوى الدخل الفردي، يعني التوسع في مفهوم الفقر، وهذا يعني أن الزكاة تدارك مستمر لانخفاض مستوى المعيشة لدى الفقراء، وتقريب دائم لمستوى دخل الطبقات المختلفة.
ومثل موضوع الرشد في آية البلوغ، والذي يسمح للحاكم بتحديد سن للبلوغ المدني، يختلف عن السن الذي يبلغ به الشاب درجة المسؤولية الجزائية.
*ننتقل إلى بحث الخلافات التي تبدو من الخارج وكأنها حواجز، بينما حديثك يجعلها قضايا تفصيلية.. ما هي قضية الإمامة..؟ وهل لا سبيل إلى التقاء سني - شيعي إلا في ظل إمام من آل البيت؟..
- الاسلام يتميز بأنه دين ودنيا، فالرسول كانت له مهمتان.. التبليغ ثم الولاية.. والولاية بدأت في المدينة عندما توفّر المناخ الصالح لقيام الحكم الاسلامي، والولاية نص عليها في الآية الكريمة "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" [الأحزاب/6].. ولكن الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم، لم يمتد به العمر إلا لعشر سنوات فقط بعد انتقاله للمدينة.. وإذا عرفنا أن الاسلام هو تغيير للعقلية البشرية، وتحويل النفسية الجاهلية، نفسية القاتل، المرابي، الزاني، الذي يئد البنات، ويتعصب لقبيلته... تحويله إلى مسلم بالخُلْقِ الذي جاءت به تعاليم الاسلام وليس ذلك الهدف بقاصر على إنسان الجزيرة العربية، حيث نزلت الرسالة، بل هو مطلوب للانسان في كل زمان ومكان، وضد مؤثرات الحضارات المختلفة، والأنظمة المتباينة.. كل ذلك يجعلنا ندرك ضرورة استمرار الولاية، ولذلك قال رسول اللَّه في الغدير:
"ألست أولى بكم من أنفسكم..؟".. قالوا بلى يا رسول اللَّه.. قال.. فمن كنت مولاه وأشار إلى عليّ.. أي أنه جعل له الولاية على الجيل الذي شهد ظهور الاسلام.
وقال عمر: "لو وليتم هذا (يقصد علياً) لأخذكم على المحجة البيضاء" أي كان المفروض أن يتولى عليّ، كرم اللَّه وجهه، قيادة المجتمع الاسلامي في رحلة التغيير والتطهير..
*ولكن الآية تقول:﴿"اليوم أكملت لكم دينكم..﴾" [المائدة،3]
- نحن نقول إنها نزلت بعد الغدير، التبليغ تم، واكتمل الدين بالولاية..
*واليوم؟
- الولاية اليوم، هي للحاكم الصالح الذي يكوِّن المجتمع الصالح على ضوء كتاب اللَّه، وسنة الرسول والآثار الواردة عن آل البيت. وليس من الضروري أن يكون من الأئمة، يجب أن تلتقي كلمة المسلمين على إقامة حكم إسلامي، ولم يعد هناك خلاف على الولاية.. لا يوجد دليل شرعي، يقيّدنا بشكل معين من أشكال الحكم، ولكن في الاطار الذي يقول إن القاعدة العامة، هي الاحتفاظ ببيضة الاسلام، نكون مرنين في اختيار الشكل.. وإذا ما توصلنا لنظام إسلامي فسيدعمه السنة والشيعة. أما مشكلة الخلافة بعد الرسول فقد أصبحت قضية نظرية، يمكن الاحتفاظ بها في المجال الفكري.. ولا يحول ذلك دون الالتقاء معاً.
*هل يعني ذلك أنه لو قام هذا الحاكم، يصلي الشيعة جماعة؟
- سبب عدم اشتراك الشيعة في صلاة الجماعة، أنه يشترط الصلاة خلف الامام العادل، فهو مظهر من مظاهر إدانة السلطة في كل العالم الاسلامي، إدانة الظلم.. ولكن هذه، كما قلت، تفصيليات، وهناك رواسب تاريخية ناتجة عن استغلال سياسي على الجانبين.. ركز المستغلون على الفروق الجزئية، وجعلوا منها حواجز فاصلة وأصبحت كل فئة تعيش بمعزل عن الفئة الأخرى، مما نشر فقدان الثقة والشك، وعزز رفض التعاون، الأمر الذي أعطى كل مذهب، بعداً أكبر من واقعه. وبدلاً من أن يكون المذهب وسيلة أصبح غاية، ولاشك أن الاسلام لا يحبذ ذلك، ويعتبر المسلمين أمة واحدة.. ولكن هذه الرواسب، في طريق الزوال، بالاختلاط والتعارف والانفتاح والتعاون نحو الوحدة..
*والصيام.. لماذا لا تشتركون مع السنة في الصيام والافطار؟
- هذا من الفروع، ليس لأنه لا يوجد الامام العادل، بل لأننا نشترط، لثبوت الهلال، الرؤية، أو البينة. وهي شهادة عدلين اثنين، أو حكم الحاكم المستند لهذين العاملين. أو شيوع ذلك بين الناس، والحقيقة أننا عشية غرة رمضان ونهايته نبذل جهداً، قد يمتد حتى الفجر في التحري عن شاهدين عدلين..
*وشهادة المفتي في مصر أو السعودية؟
- قد يكون المفتي حنفياً يقبل بشهادة شاهد واحد في أول رمضان..
*ولكن عندما يشيع ذلك في العالم الاسلامي كله؟
وسكت الامام قليلاً ثم قال:
- المشكل أن هذا الشيوع، يستند إلى مصدر واحد ويتناقل عنه.
ويبدو أن هذه التفصيليات لا تتفق وسعة أفق الامام الصدر، وما يسعى إليه من قضايا كبيرة.. فقد قال:
الحمد للَّه الذي أنقذنا من هذه المشكلة، فقد صدرت فتاوى من مراجع الشيعة، ومن فقهاء المسلمين عامة، ومن المؤتمرات الاسلامية بجواز الاعتماد على الوسائل العلمية التي تثبت وجود الهلال في الأفق، وأنه إذا ثبت في قطر، يثبت في جميع الأقطار.. وإننا نسعى الآن في تحضير معلومات دقيقة حول هذا الموضوع. كما أننا اقترحنا في المؤتمرات الاسلامية اعتماد الوسائل العلمية، سلباً وإيجاباً..
*يعني؟
- يعني إذا تقرر الأخذ بالوسائل العلمية وأثبتت عدم ظهور الهلال، لا يجوز أن يؤخذ برأي شاهد يدّعي رؤية الهلال...
*وبالنسبة لمصادر التشريع؟
- الالتقاء ممكن.. القرآن، والسنة، والاجماع، والقياس.. كلها متفق عليها، يبقى اعتماد السنة على الصحابة واعتماد الشيعة على الأئمة من آل البيت.. وفي اعتقادنا إن قصر الاعتماد على الصحابة، يعني قصر المعرفة على صدر الاسلام، بينما الأئمة عاشوا التطورات التي وقعت في القرن الأول والقرن الثاني، وبداية القرن الثالث.. عندما فتح المسلمون العالم، وأقاموا دولتهم عبر منطقة واسعة، غنية بالتجارب والمشاكل، وغنية بخيرات الحضارات المختلفة، كل هذا خلق وقائع جديدة، وافترض اجتهادات جديدة، ومن هنا كان الفقه الشيعي، والينابيع الشيعية، أكثر غنىً، لأن الفقه الشيعي استمر في الاجتهاد.. (علماء السنة وفقهاء السنة استمروا أيضاً في الفتوى، وإلى ما بعد ذلك التاريخ).
وتابع الامام:
أما الآن وبعد أن اعتمد السنة على بعض الأئمة، بوصفهم أئمة وصحابة كعليّ والحسنين.. والبعض بوصفهم تابعين مثل الباقر.. واعتمد الشيعة على بعض الصحابة باعتبار النص على اتباعهم..
الآن وبعدما أصبح الاعتماد على النص، وإمكان الاجتهاد في إطار النص، وبعد أن فتح باب الاجتهاد، بدلاً من الفتاوى.. أصبح الفرق بين المذاهب قليلاً، وأصبح التلاقي ممكناً..
وأكل حبة من العنب.. وتراجع في كرسيه
.. فذكرت كلمة الامام "لو ثنيت لي الوسادة.. الخ".
وقال:
الواقع، ثم الواجب، يحتم التلاقي، وعلماء السنة والشيعة يمكنهم اللقاء على شكل الحكم، ثم على التشريع.
*هل حاولتم هذا اللقاء، ولماذا لا تنضمون لرابطة العالم الاسلامي؟
- في سنة 1962 كان السيد "محسن الحكيم"، رحمه اللَّه، يريد الحج، فكلفني بالاتصال بالمسؤولين في السعودية، لسؤالهم: هل من الممكن السماح ببناء المشاهد المشرفة بالبقيع، لأن فيها الامام الحسن، وزين العابدين، والباقر، وجعفر الصادق والسيدة فاطمة.. فأجريت اتصالات مع الشيخ محمد سرور الصبان.. واقترح أن نشترك في مؤتمر الرابطة، لكي نحضر ونناقش القضية، مع علماء الوهابية.. فاشتركنا وتمكنا من أخذ اقرار بإحياء الآثار الاسلامية، والآثار منها بيت النبي، وبيت عبد المطلب، وغار حراء، غار ثور، وكلها موجودة، ولكنها مهملة إلى حد بعيد..
*ولكن زيارة القبور؟
- منع زيارة القبور، كان لفترة، لترسيخ العقلية التوحيدية، ولمنع المشاعر العشائرية.. ولكن النبي قال: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور.. أما الآن فزوروها إن فيها عبرة". ثم هناك مشاهد حكمها يختلف عن القبور، إنها تشبه نصب الجندي المجهول، تذكر المسلم بمواقع الاستشهاد والبطولة والفداء..
زواج المستقبل
*وزواج المتعة؟
أولاً: زواج المتعة كان على عهد الرسول باتفاق الصحابة والأئمة..
ثانياً: زواج المتعة، ليس بالصورة التي توحي بها بعض التعليقات، بل هو زواج له نفس القوانين والأنظمة، التي تراعى في الزواج الدائم، كالعقد، والعدة، وإلحاق الطفل، والميراث بالنسبة للزوجين إن اشترطا ذلك، طبعاً الطفل يرث بلا قيد ولا شرط..
ثالثاً: هذا الزواج غير مطبق في الوقت الحاضر، ولا في البلاد التي تأخذ بالمذهب الشيعي..
رابعاً: إن زواج المتعة لا يعني الاتفاق على ممارسة العمل الجنسي!.. بل يعني الاتفاق على الزواج. ولكن لمدة محددة.. وهو على هذا الأساس يمكن أن يحل مشكلة الخطوبة، ولعله في المستقبل يصبح هو الزواج المفضل لدى الناس.. إن فيه الحل بين مشاكل خطأ الاختيار، ومشاكل الطلاق..
وغرق في تأملاته ثم قال:
إن هذا الدين يسر، وهو أكبر مما نستحق!.. زواج المتعة يمكن أن يكون معجزة هذا العصر، ونحن لا نجد فيه إلا مصدراً للخلاف والتعليقات؟!
*ما حكاية حضورك حفل تتويج البابا؟
- في 1962 كنت في طريقي إلى الجزائر، فمررت بروما، وحضرت حفل تنصيب البابا، وجلست، مع من جلس، في الساحة الضيقة، المخصصة لكبار الزوار.. وهذا هو كل شيء..
*هل قابلتم البابا؟
- لم يحدث.. وأنا أود ذلك.
*يشاع أن البابا دعم فكرة إنشاء المجلس الشيعي، كرد على تحية حضورك حفل تتويجه..
- لا علاقة لقداسة البابا بهذه المواضيع إطلاقاً.. بل كان إنشاء المجلس خطوة متفقة مع التقاليد اللبنانية، التي اتبعتها المذاهب الأخرى، فهناك 16 مجلساً ملياً، ثم هي جاءت معبرة عن الرغبة الشاملة للطائفة، ومباركة المرجع الأعلى.
*من هو المرجع الأعلى.. وكيف يصبح كذلك؟ وهل يمكن أن يكون لبنانياً؟
- المرجع هو المجتهد الأعلى والأعلم.. ونحن هنا في لبنان نمارس التطبيق والتنفيذ لا الدراسة.. المرجع الأعلى يظهر في الجامعات الدينية حيث الحوار العلمي مستمر، وتنمو ملكات المجتهد بشكل أسهل وأسرع، وعندما يبلغ القمة، أو ما نسميه بالأعلم يُقَلَّد أو يُتَّبع من كافة الشيعة في العالم..
*كيف يحدث ذلك الاتفاق؟..
- إنه يتم بطريقة ليست انتخاباً ولا تعييناً.. ولكنها أشبه بالاجماع على حقيقة قائمة.. لا ينازع فيها أحد.. فكل عالم في منطقته يشهد المؤمنين بأعلميته كمجتهد أكبر، وذلك باتباع اجتهاداته، وعندما يتبين أن أكثرية المؤمنين أصبحوا يتبعونه في مسائلهم الشرعية، يصبح هو المرجع الأول..
والمرجع الأعلى، يتخرج حتى الآن من الجامعتين الدينيتين الكبيرتين في العالم الاسلامي، "النجف" في العراق، و"قم" في ايران، وهناك جامعات دينية أخرى في مختلف البلاد، وفيها علماء كبار في مستوى المراجع..
أما في لبنان فقد بدأنا بمدرسة دينية في صور "معهد الدراسات الاسلامية" بمستوى الثانوية، وفي العام القادم ستضم السنة الأولى الجامعية، وستكون، بإذن الله، جامعة للعلوم الاسلامية. كذلك هناك مدارس في بيروت.
*هل المسلمون بحاجة إلى مدارس دينية، أم مدارس تكنولوجية؟
- للإثنين، وإذا كان لا بد من التمييز، مع أن ديننا لا يفرق بين الدين والحياة، لقلت نحن أحوج إلى دراسة الدين، الدين هو الأساس الذي يوجهك ويحثك على استكمال القوة وطلب المعرفة.. ولعلك لا تعرف أن عندنا مبدأ شرعياً يقول "كل ما حكم به العقل حكم به الشرع"! فلا تناقض عندنا، بين الدين والعقل والعلم. ونحن في "صور"، إلى جانب معهد الدراسات الاسلامية الذي يضم 36 طالباً، نرى مدرسة مهنية، أو تكنولوجية، كما يحلو لك، تضم 320 طالباً وهناك 60 طالبة في مدرسة مهنية أخرى.
*هل توافق على تعليم الفتاة كل أنواع التعليم؟
- بالطبع، العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، بلا تمييز ولا تخصيص، إلا استعداد الفرد، ومع إجازة اشتغال المرأة بكل الأعمال، لا نرى إجبارها على شغل وظائف معينة لمجرد إثبات المساواة، شبهة انعدام المساواة عندنا غير واردة، فلا معنى للإصرار على رفض تخير أنواع معينة للعمل يتقنها الرجل أفضل وأخرى تتقنها المرأة، ولا معنى للاصرار على اشتغال المرأة، اذا كانت مسؤولياتها العائلية، وقدرات الزوج، تحتم وتسمح لها بالبقاء في البيت.
*ما حكاية محاولة ضم العلويين للطائفة.. وماذا عن أحداث طرابلس؟
- ليس هناك من علوي لا يعتبر نفسه شيعياً، أي مسلماً تابعاً لمدرسة الامام عليّ الفكرية. أما ما تشير إليه، فكان مجرد خلاف في وجهات النظر حول نوع الادارة.. وليس على المبدأ ذاته. ونحن نجد اليوم انسجاماً كاملاً بين الجميع في طرابلس، كما أننا نحاول عدم التدخل في شؤونهم إلا إذا طُلِبَ منا. ولا شك أن هذا التحفظ مؤقت، وسيكون المستقبل حافلاً بالمزيد من الانسجام والتعاون.
*هل هذا حكم عام على العلويين.. رغم ما يتردد عن أفكار بعض الجماعات المنسوبة اليهم؟
قال:
- في منطقة العلويين، في سوريا وتركيا، كما في المناطق الأخرى توجد اقليات ذات أفكار غريبة، ولا يمكن أن يكونوا من العلويين.
*سماحتك تقول إنك تود مقابلة البابا.. لماذا؟
- إن العالم بحاجة إلى تعاون إسلامي - مسيحي ضد طغيان اليهود، والالحاد، والفساد واستضعاف الانسان.. وقد جرت في لبنان محاولات من هذا النوع.. كذلك أصدر البابا في عيد الفطر الماضي رسالة طالب فيها المسلمين بالتعاون، وتساءل لماذا التخوف؟.. وفي اعتقادي أن العالم يحتاج هذا السعي المشترك، ولكن ما دام قداسة البابا تساءل عن سبب التخوف، فمن حقه علينا أن نجيبه بصراحة، وهو أن العالم الاسلامي متألم من حملة التبشير.. في أندونيسيا، مثلاً، تقوم منظمات مسيحية بمحو الأمية، ولكنها تهتم بإخراج المسلمين من الاسلام، وتبشيرهم بالمسيحية.. وتفتخر بأنها تحقق ذلك بين عشرات الألوف كل عام.. نفس الظاهرة تجري في افريقيا.. وغيرها.. وإذا لم ينجح المبشرون في تنصير المسلمين يملأون نفوس الشباب بالشكوك.. الشباب في السنغال فريسة القلق والحيرة نتيجة جهود المبشرين.. نحن نفهم أن يبذل جهد التبشير بين الوثنيين، وغير المؤمنين باللَّه.. ولكن لا مجال للتبشير بين المسلمين.. أعرف أن هناك رغبة من البابا والفاتيكان لمنع المبشرين من التبشير بين المسلمين. وأتمنى أن يكون لقائي المنتظر مع البابا مناسبة لإعلان ذلك.. وهكذا يصبح التعاون ممكناً بين المسلمين والمسيحيين للعمل بين الوثنيين.
ورد سماحة الامام على التليفون، وقدم لي سيجارة وتابع:
هذا هو موقف الاسلام.. نشعر بالوحدة مع المسيحية ضد الوثنية.. منذ 14 قرناً، فرح المسلمون لانتصار الروم المسيحيين على الفرس الوثنيين..
*في الحديث الذي أجرته "الحوادث" مع الفاتيكان اعترضنا على الحوار بين المسيحية والاسلام وطالبنا بالحوار بين المسيحيين والمسلمين؟
- الحوار بين الاسلام والمسيحية قائم باعتبار ان القرآن اعتبر المسيحية مرحلة في الدين الواحد، والمطلوب فعلاً هو حوار بين المسلمين والمسيحيين لتبادل المعلومات.
وفي ذهني أن أعمل لقاءً مع السفير البابوي وأطرح معه هذا الموضوع..
المشكلة ستسير في طريق الحل لو سوّيت قضية التبشير، يمكن للفاتيكان عمل جهاز لمراقبة ذلك.. المسلمون ليس لديهم جهاز كافٍ لمواجهة التبشير، لذلك يسودهم التخوف والشك.. أما إذا اطمأنوا فسينفتحون كلية للتعاون المطلوب.
*يا سماحة الامام.. عندما كنا في سن الشباب، ونقرأ التاريخ الاسلامي لأول مرة، كانت ميولنا، ولا تزال بالطبع، مع أهل البيت، ومأساتهم، وكنا نعتبر أنفسنا شيعة، ولا نرى ذلك مرتبطاً بتميز خاص، ولا أظن أنني قابلت مصرياً مسلماً يعتقد بأن "معاوية" أفضل من "عليّ".. بل أن الفقه الاسلامي، تضمن مبدأ جواز تولية المفضول على الأقل لتفسير تخطي آل البيت، رضي اللَّه عنهم، ولكن بعض التجمعات الشيعية، تتصرف أو ينظر إليها، وكأنها مجموعة منفصلة عن جماعة المسلمين!.. حتى أن البعض يحاول جمعنا تحت اسم المحمديين؟!
- هذه رواسب الماضي.. كان الشيعة دائماً، لا يدينون بالولاء للحكام، مما جعلهم أقلية معارضة، فحاربهم الحكام مادياً ومعنوياً، وبقيت رواسب ذلك في نفوس الناس!
أما في لبنان فنحن نحاول بكل جهد أن نقوّي العلاقات الأخوية مع المسلمين السنة، ونتمنى أن يكون موقفنا في لبنان رائداً للعلاقات بين المسلمين في العالم.. وتسمية "محمديين" مرفوضة، وغير صحيحة، الاسلام لا يكرس شخص محمد، وليس هو دين محمد، بل هو دين اللَّه.. والذي يقبل أن يسمى "محمدياً"، كيف يرفض أن يسمى مسلماً!..
*صحيح.. ما دام قد قبل محمداً، فهل يعترض على اللَّه؟! وما موقفكم اذن من المشاركة؟
- نحن نفضل أن تطرح قضية المشاركة بشكل مدروس، بعيداً عن التحديات، لأننا نعرف أن التحدي ليس من مصلحة لبنان.. فإذا ما طرحت بغير تحدٍ، وبشكل مدروس، كان واجبنا الوطني والديني يحتم دعمها، كما يحتم دعم كل قضية حق عادلة.
*هل تعتقد أن المسلمين مظلومون؟
- الحقيقة إن نظام لبنان الديموقراطي يتيح لكل فئة أن تنال حقوقها كاملة، ولعل أهم الأسباب التي يشكو منها طلاب المشاركة، هو عدم تحديد مدة رئاسة الوزارة كما تحدد مدة رئاسة الجمهورية.. مما يجعل رئيس الوزراء مضطراً للمسايرة.. ولعل العلاج يكون بتشكيل جبهة، تتولى مناقشة المرشحين لرئاسة الوزارة ضمن اطار المصلحة العامة، وبحيث لا يصبح رئيس الوزراء في مركز الضعيف.
*تعني أن رئيس الوزراء يرشحه المسلمون، ولا يعزل إلا بانتهاء العهد..
- أنا لا أقترح ذلك، ولكن أقترح تشكيل جبهة تمنع تناحرهم، وحتى لا يضرب بعضهم ببعض.
وأنا من الأساس من المؤيدين لإلغاء النظام الطائفي، وقد قدمت منذ فترة مشروعاً انتقالياً، يقترح إقامة مجلس للطوائف والفئات، إلى جانب مجلس النواب، تمثل في المجلس الجديد كل الطوائف، ليست المذهبية والدينية فحسب، بل والتي تعتبر أنها غير ممثلة، حتى الآن، مثل العمال والفلاحين والطلاب، والمناطق المحرومة.. يمكن لهذا المجلس أن يكمل الديموقراطية الليبرالية، ويتلافى أخطاءها.
أقترح هذا، رغم أنني لست خبيراً في شؤون السياسة، لأنني أرى أن الوضع الحاضر، يجعل من الانتماءات الدينية، مصالح مادية، وسلعاً تستثمر بما يعود بالمكاسب المادية، كالمراكز أو حتى دخول المدارس!.. وهذا يعني تفريغ الدين من روحه، ولذلك أتمنى أن ينهي اللبنانيون هذا الوضع، ويمارسوا الحياة التي تتفق مع تاريخهم ومع الوطن الذي كان دائماً يحافظ على الاقليات بل ويتشكل كيانه من التعدد المتناسق والمتكامل دينياً وثقافياً وحضارياً..
قلت: ان شاء اللَّه.

source