* مؤتمر صحفي للإمام الصدر في مقرّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، جريدة النهار بتاريخ 8 تموز 1975.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم﴾ [آل عمران، 169-170].
في غمرة الآلام المبرحة وبكلّ اعتزاز أنعي إلى المواطنين عامةً، وإلى أبناء الجنوب الصامد بوجه خاص استشهاد نخبة من الشبان اللبنانيين ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ [الأحزاب، 23].
هذه الباقة الحمراء من زهور الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبّوا نداء الوطن الجريح الذي تستمرّ إسرائيل في الاعتداء عليه من كلّ جانب وبكلّ وسيلة.
إنهم استجابوا لله وللرسول عندما دعاهم لما يحييهم، ولما يحمي الوطن ويصون كرامة الأمة. تلك الدعوة التي وجهتها إلى اللبنانيين جميعًا في احتفالات ذكرى سيد الشهداء في عاشوراء السنة الماضية وفي العاملية، في الأيام التي بلغت الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب ذروتها ومنتهى قسوتها، ولم تقم السلطات المسؤولة آنذاك بواجبها الدفاعي عن الوطن وعن المواطنين.
إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحًا ومكاسب ولا متاعًا للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته ومجال رسالته تجب حمايته بالأرواح والدماء حتى مع عدم التكافؤ في القوى، ويجب التهيؤ لذلك بسرعة. إنهم اتخذوا من موقف الحسين سلوكًا، والتحقوا بقافلته، ووضعوا أنفسهم قربانًا للحقّ والعدل.
إنهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها فشقّوا بجهادهم الصامت، دون إعلام، طريق التضحيات الوطنية ووضعوا الأمور في نصابها الصحيح.
إنهم أكدوا ضرورة توجيه الأسلحة، كلّ الأسلحة، إلى صدر العدو، وأن لا خلاص من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية إلّا إذا توجه المسلحون إلى الجنوب وإلّا إذا نُقِلَتْ المتاريس والحواجز والأسلحة الخفيفة والثقيلة إلى الحدود.
لذلك فقد انتقمت منهم إسرائيل (ولهم الشرف بذلك) فأصبحت إذاعتها بعد ساعة فقط من الحادثة تقهقه وتشمت وتحرِّض وتبالغ وتشجِّع عملاءها في كلّ مكان، وحطمت طائراتها جدار الصوت فوق مكان الحادثة.
لكن هذه المحاولات لم تكن ولن تكون يومًا سببًا لتراجع المجاهدين الشرفاء، ولا لترددهم في الاستمرار على الطريق، فكتبوا بدمهم ساعة الاستشهاد على ورقة "كونوا مؤمنين حسينيين"، وأصرّ الجرحى في المستشفيات على العودة فورًا إلى المخيم لمتابعة التدريب، وأعلن ذوو الشهداء رضاهم بما كتب الله لهم صابرين محتسبين مستعدين لتقديم المزيد من التضحيات، وأعلنت الثورة الفلسطينية اعتبارهم شهداء الثورة.
أما السلطة اللبنانية والمواطنون، وفي طليعتهم رجال الدين، في زحلة وفي البقاع فقد أدوا واجبهم الإنساني، وقاموا بعمليات النقل السريع والإسعافات اللازمة.
كما أن القطاعات الواسعة من الشعب اللبناني الكريم رغم التشويش قدمت مواساتها للفاجعة، وها هم الشباب مصرون على مواصلة التدريب، وعلى إيجاد مخيمات أخرى في أماكن أخرى بعيدة عن رؤية العدو.
وها أنا بصفتي الداعي أنحني أمام أرواحهم الطاهرة، وأغبطهم على ما شرَّفهم الله تعالى به، وأناشد الشباب اللبنانيين من كلّ منطقة وفي كلّ طائفة، لا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعًا أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية، فيلتحق المدربون والمسلحون الشرفاء بها، ويستعدّ الآخرون للتدريب ولتلبية نداء الوطن ساعة الحاجة.
وأؤكد للبنانيين جميعًا أن الآلام الدامية التي تنتاب جسم وطننا العزيز إنما هي نتيجة الانحراف عن السلوك الصحيح، وإثر غياب الدفاع الرسمي والشعبي عن الجنوب. وإن العلاج لهما إنما هو بالانتقال إلى الحدود، وبإشعار المواطن أنه يقدم واجبه الوطني في مكانه الطبيعي.
وها أنا في هذه اللحظة أعلن ولادة هذه الحركة الوطنية الشريفة التي أخذت على عاتقها تقديم جميع ما يملك أعضاؤها في سبيل صيانة كرامة الوطن ومنع إسرائيل من الاعتداءات السهلة. وكان يودّ الشباب تأخير الإعلان عن هذه الحركة أو عدم الإعلان نهائيًا رغبة منهم في أن تبقى حركتهم تنمو وتكتمل وتعبِّر عن ذاتها بالعمل... ولكن الحادثة المؤلمة وما رافقها من تشويش وافتراء لدى الرأي العام، فرضت عليهم أن يطلبوا مني شخصيًا إبلاغ المواطنين الحقيقة كلّها.
وستقام حفلة تكريمية لهم صباح الجمعة المقبل 11 تموز الجاري في بيروت.
وأختتم كلمتي مخاطبًا البعض بتلاوة هذه الآيات: ﴿يا أيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير* ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون﴾ [آل عمران، 156-157].
﴿يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور﴾ صدق الله العظيم [آل عمران، 154].
ثم أرفع يدي إلى السماء قائلًا مع بطلة كربلاء زينب بنت عليّ: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان"، وطالبًا منه سبحانه وتعالى أن يربط على قلوب ذويهم، وأن يجزل أجرهم، إنه نعم الوكيل.
أسئلة وأجوبة
س: ما عدد القتلى والجرحى؟
ج: 26 شهيدًا و43 جريحًا من أصل 101 كانوا يتدربون على لغم ضد الدبابات. وكلّ تدريبهم كما بلغني خاصّ بالدفاع أمام هجوم الآليات، وهم يستفيدون من خبرة المقاومة الفلسطينية في هذا الخصوص. وسنذيع الأسماء اليوم. وولادة الحركة كانت منذ أقلّ من سنة، وذلك بعد دخول الإسرائيليين كفرشوبا والطيبة.
س: إن البعض فسّر أن هذه التدريبات كانت للمشاركة في الاشتباكات الأخيرة التي وقعت في لبنان؟
ج: أنتم تعرفون أن المسلحين في منطقة البقاع كثيرون، ولكن خلال الأحداث الأخيرة منعتهم بكلّ ما أملك من القوة من النزول إلى بيروت ومن الاشتراك في المعارك على رغم أن كثيرًا من أقربائهم أصيبوا في مختلف ضواحي بيروت.
والاعتصام الذي قمت به كان أيضًا لوضع حدّ نهائي لاستعمال المواطنين السلاح بعضهم ضدّ بعض. وأكثر من ذلك، عندما اعتصمتُ وتمَّ تشكيل الحكومة والتزمت الحكومة الجديدة بالمطالب، كنت أفضِّل أن أستمرّ في اعتصامي حتى أساهم في تكوين ضغط أدبي وشديد على المواطنين المسلحين ليتخلوا عن سلاحهم، لكن انفجار الوضع في بعض مناطق بعلبك-الهرمل فرض عليَّ إنهاء اعتصامي والانتقال إلى هناك وتوفير الدماء البريئة وما زلت أؤكد ذلك منشدًا قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
وإننا نقول لا لاستعمال السلاح في وجه المواطنين ونرحب باستعماله مع العدو.
س: إن تكاثر السلاح في أيدي المواطنين أدى أخيرًا إلى الانفجار، وقد يؤدي بعد أعوام إلى الانفجار، فما هو الحل لمنع تكرار ما حصل؟
ج: أنا قدمت حلًا لهذه المشكلة يقوم على ضمّ الميلشيات إلى مؤسسة حكومية تحتفظ بالأسلحة في مخازنها، وتقدمها إلى الأفراد ساعة الحاجة، وما زلت مقتنعًا بهذا الحلّ الذي يشكِّل جيشًا شعبيًا ووطنيًا رديفًا للجيش النظامي، يكون قادرًا على صدّ الاعتداءات الإسرائيلية.