مولد وهجرة الرسول (ص)

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

*تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد، وعلى أنبياء الله المرسلين، وسلام الله على آل بيته وصحبه الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
وفي نهاية هذه الكلمات المشرقة، وبداية كلمتي المتواضعة أحب أن أقف شاكرًا حامدًا الله سبحانه وتعالى مقدرًا جهد العاملين على إقامة هذا الحفل البهيج الذي يمتاز بالنظام؛ وفي هذا المكان الذي يمتاز بالأناقة والنظافة، وعلى المحتفلين الذين يمتازون بأنهم في الأغلب شباب، وأنهم يعملون في هذا العصر وفي هذه الأيام لإعادة الثقة في نفوس المؤمنين، ولبناء المستقبل الزاهر للإسلام وللمسلمين؛ فكلّ شيء في هذا الحفل يدعو إلى الإعجاب والأمل فحيّاكم الله وحيّا رائدكم وأخاكم الذي يسبقكم في السراء والضراء الأخ العلامة الشيخ حسن عواد حفظه الله وأدام بقاءه ووفقه وجمع شملكم وكثَّر من أمثالكم.
وبعد،
يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول نحتفل في لبنان بذكرى مولد الرسول، وهذا اليوم باتفاق المؤرخين يوم هجرة الرسول أيضًا. ففي المولد آراء، ولكن الآراء متفقة في أن الهجرة بدأت بعد نهاية شهر صفر. ولذلك، كان الرسول (عليه الصلاة والسلام) ينتظر نهاية شهر صفر، وكان يقول: من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة، لا لأن شهر صفر نحس كما نتصور، فلا تُعَاب الأيام، كما يقول عليّ (عليه السلام)، بل لأنه كان موعودًا بأن الله أذن له بالهجرة بعد نهاية صفر؛ فسافر ووصل إلى المكان القريب من المدينة حيث انتظر عليًا والفواطم، وكان ذلك قد تمَّ يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
ولذلك، فإننا في دعواتنا نرجو أن نذكر الهجرة إلى جانب المولد، لأن الهجرة عند المسلمين الأوائل وفي مقدمتهم أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، الهجرة هي اليوم الأفضل في تاريخ المسلمين. فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يحتفل بمولده ولا ببعثته ولا بهجرته؛ لأنه كما سمعتم كان متفانيًا في ذات الله، وسيطًا لتعريف الناس على الله، ولكسب رضا الله والسلوك الذي يرضاه الله للناس. فهو نسي نفسه ونسي اسمه، ولم يسمِّ دينه الدين المحمدي، ولم يحتفل بميلاده ولا ببعثه ولا بهجرته، ولكن المسلمين عندما أرادوا أن يضعوا تاريخًا أصيلًا لهم، اختاروا يوم الهجرة بعد البحث والمفاضلة لأنهم اعتبروا أن يوم الهجرة هو اليوم الأفضل. والسبب واضح، لأن الإسلام قبل الهجرة كان في دور التحضير، الإسلام قبل الهجرة كان إسلامًا شخصيًا. كان الرسول في جو غير إسلامي، وفي مجتمع كافر وضمن قوانين جائرة غير إسلامية، كان يبشر وينذر ويربي ويدعو ويعلِّم ويصنع القيادات ليوم غد، لما بعد الهجرة. والأحكام الإسلامية قبل الهجرة والآيات المكية في القرآن الكريم إذا تتبعتموها تجدون أنها تهتم بالعبادات والزكاوات والصدقات والأمور الفردية الشخصية عدا جزء بسيط لأجل إعطاء الفكرة والرؤية الشاملة عن الإسلام للقيادات.
أما الإسلام بعد الهجرة فهو الإسلام الكامل، الإسلام الفردي والجماعي، الإسلام الشريعة والنظام، الإسلام الفرد والعلاقات، الإسلام القوانين والعقيدة، الإسلام الثقافة والرؤية والأيديولوجية والأحكام والحدود والسياسات والقضاء، وبتعبير آخر الفرد المسلم في المجتمع المسلم.
فالإسلام الكامل وُلِدَ بعد الهجرة، ولذلك اعتبر المسلمون الأوائل وفي طليعتهم عليّ (عليه السلام)، أن الهجرة هي اليوم المفضل لدى المسلمين ويصلح يوم الهجرة أن يكون بداية التاريخ. ولعلنا إذا تعمقنا نجد أن يوم الهجرة هو الفاصل لا في تاريخ العرب والمسلمين فحسب، بل في تاريخ العالم أجمع، لأن الدين الذي وضع النظام، والدين الذي يُعتبر الحلقة الكاملة للحلقات الدينية خلال تاريخ الأنبياء الطويل، هو الإسلام.
فقبل الهجرة كان الدين التربية والعقيدة والعبادة والنصيحة، وبعد الهجرة أصبح الدين نظامًا شاملًا ودينًا كاملًا يشمل كلّ وجود الإنسان ويتصدى لكلّ آلام الإنسان وحاجات الإنسان بشكل مباشر.
إذًا، الهجرة يوم من أعظم أيام الإسلام بل أأعظمها، والهجرة يوم من أعظم أيام التاريخ بل أعظمها على الإطلاق.
بهذه المناسبة بإمكاننا أن نحتفل بالثاني عشر من ربيع الأول بعيد المولد والهجرة، لأجل ذلك ولكي نصحح خطأً غير مقصود أصبح شائعًا لدى المسلمين حيث يحتفلون في أول محرم بعيد الهجرة ولم يرد في التاريخ رجل واحد ومؤرخ واحد يقول إن الرسول (عليه الصلاة والسلام) هاجر في بداية محرم.
التاريخ احتفل بالهجرة في البداية، ولكن السنة العربية التي كانت متداولة عند العرب تبدأ بشهر محرم، ولذلك وضعوا شهر محرم أول السنة فيما بعد، وقال البعض إن بداية السنة شهر رمضان أيضًا. إذًا، أول محرم بداية السنة الهجرية وليس عيد الهجرة، عيد الهجرة يوم الثاني عشر.
هذه الكلمة تضعنا في أجواء المولد والهجرة حيث نريد أن نعيش ساعة وقد عشنا مع الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ولادته وما اقترن بولادته من القضايا والرموز التي حصلت في العالم: سقوط الطغاة، وسقوط الأصنام، وإخماد النيران وغير ذلك من تحطم قصور الطامعين والظالمين هنا وهناك [التي] اقترنت مع ولادة الرسول؛ والهجرة بداية كاملة. هنا ألفت نظر الإخوان بالترابط بين الولادة الكاملة للإسلام وبين الهجرة.
لماذا كانت البداية الهجرة ولم تكن شيئًا آخر؟
هنا المفهوم التربوي الذي يجب أن يُبْحث في احتفالاتنا بالهجرة، الهجرة بداية الإسلام، والهجرة بداية كلّ شيء أو كلّ خير؛ ليست الهجرة محصورة بالانتقال من مكة إلى المدينة، ولا بانتقال الإنسان من مكان إلى مكان، من بلد إلى بلد، بل الهجرة هي كلّ الانتقال، انتقال الإنسان من مكانه وانتقاله من صفته، ومن حالته، ومن إرادته ومن رؤيته؛ إنساننا يعيش محاطًا بالمكان والزمان والإنسان زماني ومكاني، من الطبيعي أن كلّ فرد يحاط بزمان ما أو مكان ما. ولكن إنساننا أيضًا يعيش ظروفًا أخرى تحيط به، إنساننا له عادات، وله ثقافات، وله رؤية، وله قناعات، وله سلوك معين يؤمن بأشياء، ويكفر بأشياء، يحب أشياء ويبغض أشياء... إنساننا هذا، يعيش جوًا مؤلفًا من عناصر عدة منها الزمان والمكان، وهناك عناصر أخرى تحيط بالإنسان من كلّ جانب. إذا انتقل الإنسان من زمانه أو من مكانه فقد هاجر. وإذا انتقل الإنسان من كلّ ما يحيط به من عاداته، من رؤيته، من قناعاته، من حبه، وكرهه، من إيمانه وكفره هذا الإنسان أيضًا هاجر إذا تخلى عن هذه الأمور المحيطة به إلى أمور أخرى.
الإسلام انتقال الإنسان من حالة إلى حالة؛ الإسلام انتقال الإنسان من عبادة نفسه إلى عبادة الله؛ الإسلام انتقال الإنسان من الركوع والخضوع أمام الأصنام، الأصنام التي كانت من الصخر أو الذهب. الخروج من هذه الحالة، عبادة الأصنام، من عبادة أصنام منحوتة إلى عبادة الله الخالق. إذًا، هجرة الإنسان من عبادة طغاة الأرض، من عبادة الظالمين، من إطاعة الظالمين، من الخوف والخضوع والمسايرة والمشي في موكب الظالمين، هجرة من هذه الحالة إلى عبادة الله الواحد الأحد الرؤوف الرحيم العادل العزيز. الإنسان عندما ينتقل من تلك الحالة إلى هذه الحالة فقد هاجر أيضًا. الإسلام انتقال الإنسان من المجتمع الربوي الذي كان يستثمر الفقراء، ويسرق ثمار حياتهم ونتيجة جهدهم، ويسترقّهم بعد أن كان المرابي يأخذ أموال المديون، وبيته، وزوجته، وأهله كان في نهاية الجولة يسترقّه هو؛ هذا المجتمع الربوي الذي كان متجسدًا بشكل عفوي بسيط في تلك الأيام.
أما في يومنا هذا فهذه الحالة متجسدة بشكل خبيث عميق، فالربا تحول إلى معاملة البنوك وديون الدول والبلاد، والاستثمار تحول إلى تحالفات واتفاقات، والشركات تحولت إلى تواطؤ بين المستوردين والمحتكرين وبين السلطة، تحول الربا والاستثمار واغتصاب حقوق الناس إلى غلاء فاحش وتفرج المسؤولون عليه في كلّ يوم، حتى يكاد الإنسان المواطن ينحني ويتحطم تحت وطأة هؤلاء وآثارهم من الغلاء الفاحش.
هؤلاء آلهة الأرض، وطغاة الأرض، والظالمون في الأرض، والمستبدون في الأرض، والمحتكرون في الأرض، والغاصبون في الأرض، والمراؤون الدجالون الذين يؤيدونهم ويبررون موقفهم ويأمرون الناس بالصبر والسكوت... هؤلاء آلهة الأرض، الإسلام يقول: "لا إله إلا الله". تَنَكَّرْ لهؤلاء، اأرفضْ هؤلاء، ارفعْ رأسك أمام هؤلاء، انبذهم، افضحهم، لا تستسلمْ لأمرهم، وارفعْ رأسك إلى السماء، واعبدْ إلهًا واحدًا أحدًا لا يطمع ولا يريد إلا كمالك وخيرك ونجاتك وسموك؛ الهجرة من هذه الحالة إلى تلك الحالة هي هجرة أيضًا. والهجرة أيضًا انتقال من حالة السكون والصبر والإطاعة والتردد في كلّ شيء والقلق على كلّ شيء والوقوف أمام كلّ شيء والسكوت على كلّ شيء، انتقال من هذه الحالة إلى حالة الرفض والجهاد والنفي والصراع والنضال وحتى الاستشهاد. هذه هجرة أيضًا، انتقال من حالة إلى حالة.
الإسلام هجرة من الرؤية التي كان يعيشها الإنسان في بداية الإسلام إلى رؤية أخرى. فالإنسان الجاهلي كان يرى مجده في المال، وسعادته في الراحة، وعظمته بالكثرة، وقوته بالمرتبطين بالدم والعنصر؛ كانوا [في الجاهلية] يفتخرون على الناس بمالهم: ﴿وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم* أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم﴾ [الزخرف، 31-32]. كانوا يعتبرون أن هذا الرجل، لأنه يملك الكثير، أقرب إلى الله، فإذا كان هناك من وحي أو من قرآن أو من توجيه من الله، كان يجب أن تلتقطه يد هؤلاء المنتفعين بمالهم. هذه الرؤية... كانوا يعتبرون أن الرؤية بكثرة العنصر والعشيرة، فأبو سفيان هو العظيم وأبو لهب الآخر هو العظيم؛ الكثرة في العنصر والكثرة في الترابط بالدم؛ وكانوا ينظرون إلى الكون نظرة أخرى يعتبرون أن حياتهم تنتهي عند الموت. هذه الرؤية التي كانت تنظر إلى كلّ موجود على أنه صغير في منتهى الصغر، وحقير مرتبط بالحاجة. دفعة واحدة الإسلام يطلب منهم الهجرة من هذه الرؤية، ويؤكد لهم: ﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ [الزخرف، 32]، المال نحن أعطيناه وكثيرًا ما أعطيناه استدراجًا: ﴿إنما نملي لهم﴾ [آل عمران، 178]، كما تقول زينب مستشهدة بالآية الكريمة: ﴿إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين﴾ [آل عمران، 178]. المال ليس سبب الكمال، والكثرة ليست سبب الكمال: ﴿ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر﴾ [التكاثر، 1-2] الإنسان ليس كبيرًا بعدد أفراد عشيرته، المرء كثير بأخيه و﴿المؤمنون إخوة﴾ [الحجرات، 10].
هذه الرؤية عن الكون، عن العظمة، عن الخلق، عن العزة، عن القوة... هذه هي الرؤية الجديدة، المطلوب الهجرة من الرؤية السابقة إلى تلك الرؤية الصحيحة.
إذًا، الإسلام يطلب في كلّ شيء الهجرة والانتقال، لأن الهجرة هي بداية الإسلام. ونحن عندما نحتفل بالهجرة والمولد، احتفالنا ترسيم للصورة الحقيقية للإسلام، خَلْقٌ للمناخ الإسلامي المحمدي، خَلْقٌ لمناخ الهجرة والمولد ساعةً حتى نعيش ذلك المناخ لكي نتأكد بأننا إذا نريد الإسلام (الإسلام لا يتم بالحكي ولا يتم بالحب، و[...] ولا يتم بالتصورات)، الإسلام يرفض الاستسلام، الإسلام يرفض قبول الظالمين، الإسلام يرفض أن نقول لا نقدر.
لا يعترف الإسلام بعدم القدرة أبدًا، الإسلام يقول مهما كنتم ضعفاء، فلستم أضعف من جماعة المدينة. جماعة المدينة أهل يثرب كانوا مُحتقرين من قبل أهل مكة، أهل مكة كانوا يعتبرون أنفسهم سادة العرب وكانوا يعتبرون أن أهل المدينة... من هؤلاء الصغار؟ هاجروا في الإسلام فصاروا كبارًا؛ ولذلك، في واقعة بدر فوجئوا، قال أحدهم: إني أرى ما لا ترون، فوجئوا بالبطولات والقوة والعدالة التي تجسدت في البدريين. لماذا يسمون واقعة بدر الكبرى بيوم الفرقان؟ لأنها بداية التغيّر، منحى، الفصل الجديد، التحول الجديد؛ فوجئوا بأن هؤلاء الصغار كيف تحولوا إلى كبار. كيف غلبوا رغم أن عددهم كان كما سمعتم ثلث كبار مكة وكبار قريش، عددهم كان أقل وعدتهم كانت أقل، انتصروا. ما عذرنا نحن، نحن نكرّم محمد، نحتفل بهجرة محمد، وميلاد محمد؟ ما عذرنا نحن أمام محمد في معركتنا مع إسرائيل؟ عددنا أقل؟ لا، أكثر. عدتنا أقل؟ نعم. ولكن عدة البدريين كانت أقل من عدة المشركين وانتصروا.
فإذًا، محمد يرفض هذا المنطق، محمد يقول: هاجِروا، هاجِروا من مكان الخوف إلى مكان الاطمئنان. تريد الاطمئنان: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [الرعد، 28]، ذكر الله ليس أن تقول: "لا إله إلا الله"، هذا المدخل، ذكر الله أن تعيش مع الله، أن تحس بقلبك وبعقلك وبجسمك مناخًا إلهيًا، تعتقد بقوة أن الله مقلّب القلوب؛ ممكن خصمك، صديق خصمك، حليف خصمك، المسيطر على خصمك ممكن ينقلب قلبه دفعة واحدة. نحن شاهدنا في الفترة الأخيرة... في كلّ فترة انقلابات عجيبة في الناس، نحن نعتقد أن الله يده فوق أيديهم، وأنه يخلق من الإنسان الضعيف إنسانًا قويًا. بأيّ طريقة الإسلام يمدد عمر الإنسان؟! هذا معنى الهجرة.
الإسلام يقول: الهجرة أنك لا تعتبر أن عمرك 60 و70، عمرك الخلود، لا تموت أنت عندما تريد. تريد أن تموت! حسنًا: ﴿ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم﴾ [آل عمران، 169-170].
إخواني، كلماتي عندي وعندكم تظهر كأسطورة لكن عندما أقولها غصبًا عنكم وعني (أنا أيضًا) نريد أن نصبح أبطالًا، نريد أن نصبح أقوياء، نريد ألا نخاف، نحن صغار يجب أن نكون كبارًا، نقدر أن نكون كبارًا مثلما كان أصحاب محمد، وصاروا كبارًا. يجب أن نتحرّك، هذا الإسلام.
الإسلام هو الخروج في وجه الظالمين، هو عدم قبول الظلم: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾ [هود، 113]، إذا قبلت أنت بالذل، أنت سوف تمسك النار ثم تركن فلا تنصر.
إذًا، الهجرة يعني انتقال ولا يتم شيء من دون الهجرة. أنا أريد أن أحفظ بيتي حتى لا يهدم، وأريد أن أكمل شغلي حتى أربح، وأريد أن أحصل على راحتي، على أكلي، على أوضاعي، على علاقاتي، وأريد أن أجامل الناس لا يزعل مني أحد، لا يتركني صديقي، أريد أن أحتفظ بكلّ ما معي، يعني أريد أن أقعد مكاني. الإسلام يقول لك: لا، قُمْ هاجر، اتركْ مكانك، وانتقلْ من هذا المكان إلى مكان آخر، إذا هاجرت يولد الإسلام في قلبك فورًا. مقياس الإسلام الهجرة، إذا خطوتَ خطوة واحدة، هاجرتَ خطوة واحدة، لمع الإسلام في قلبك، لمع الإسلام في مجتمعك. الهجرة هي البداية، وهي النهاية وهي الأساس.
نحن شاهدنا في عصرنا هجرة واضحة، هجرة فلسطينية. فسّرها كما تشاء وقلْ فيها ما تشاء، أنا هذا الذي أفهمه أن الفلسطينيين قبل ثورتهم، قبل تأسيس مقاومتهم، قبل تحركهم كانوا أذّلاء لماذا كانوا أذّلاء؟ لأنهم كانوا فقراء؟ أبدًا. نحن نعرف مليونيريين فلسطينيين بكثرة. كانوا أميين؟ أبدًا. الشعب الفلسطيني هو أكثر الشعوب العربية ثقافة ما عدا لبنان، بل أول أمس قرأت تقارير في بعض الصحف الأجنبية تقول إن عدد خريجي الجامعات من الفلسطينيين يحاذي ويوازي جميع الدول الأوروبية حتى يفوق بعضها. فإذًا، ثقافتهم أيضًا لم تكن ضئيلة، ثروتهم ما كانت قليلة، عددهم ما كان قليلًا. ما الذي كان يعوزهم؟ كانوا أذّلاء. نحن شاهدنا ولا لزوم أن يقول لنا أحد كيف كانوا يعيشون في الجنوب، كيف كانوا يعيشون في المخيمات، كيف كنا نعاملهم؟ كيف كانت السلطة تعاملهم؟ كلّنا نعرف. أليست واضحة القصة؟ مرت خمس ست سنوات، مجرد أن [الفلسطيني] خرج من كسله، وعن استكانته، وعن استسلامه وعن تمسكه الشديد بالحياة بأي شكل كانت، تحوَّل. كيف هي أوضاعهم اليوم؟ هم الذين يقررون وضع الشرق الأوسط. لماذا يقولون كيسنجر وغيره فشلوا في قضية مفاوضات السلام (كانت أميركا والاتحاد السوفياتي، وكانت أوروبا، وكان مجلس الأمن، وكان بعض الدول العربية يعلّقون أملًا على هذه المهمة حتى سموه رجل المعجزات)... نحن في لبنان كلّ يوم كنا نتتبع خطوات كيسنجر (رايح وجاي رايح وجاي) أليس كذلك؟ لكن من فشَّله؟ الفلسطينيون.
ورغم عنفهم، رغم صلابتهم، ورغم تسلحهم ورغم قوتهم دخلوا الأمم المتحدة، ماذا تعني الأمم المتحدة؟ تعني مركز الدول.
أول منظمة غير دولية دخلت الأمم المتحدة كانت [منظمة التحرير الفلسطينية]، مباحثات طويلة جرت مع أبي عمار حتى لا يحمل المسدس عندما يدخل إلى قاعة الأمم المتحدة، رفض، قال: أنا بقوة السلاح دخلت ولماذا أتجرد [منه]؟ إذًا، تغَّير وضعهم، تغَّيرت نظرتنا إليهم، أليس كذلك إخواني؟
نحن... شعورنا، احترامنا، إيماننا، ثقتنا وأوضاعنا بالنسبة إليهم تغيرت، والعالم تغير وأوضاعهم تغيرت. إذًا، هذه الهجرة من حال إلى حال بداية التحول.
هجرة أخرى عشناها هجرة حرب رمضان، كيف كان العرب؟ كيف كانت جيوش العرب؟ كيف كانت المجتمعات العربية؟ كيف كانت نظرة الدول الصديقة، الدول الإسلامية؟ كيف كانت نظرة الدول الإفريقية؟ الدول الأوروبية، العالم كيف كانت نظرته؟ تغيرت. سمعت أحد المندوبين اللبنانيين في الأمم المتحدة كان يقول: حضرت جلسة من جلسات الأمم المتحدة بعد حرب تشرين يقول قبل هذه الحرب عندما كان يأتي الوفد الإسرائيلي، وطبعًا بينهم خطباء لامعين وكان يحضر بصورة خاصة وزير خارجيتهم السابق إيبان، -[المندوب]- يقول: عندما كان يخطب كان يسيطر على جميع المندوبين، وكان يرفع ويتجلى وكان يُحترم ويُصفق له، بينما المندوبين العرب ما كانوا يُحترمون قبل ذلك؛ بعد حرب تشرين انعكس الوضع تمامًا. فعندما أراد إيبان أن يتكلم لم يكن أحدًا يسمع له، كانوا يحكون هنا وهنا، عندما كان المندوب المصري -كان يتكلم الدكتور الزيات حينها- كانوا يصفقون له وكانوا يهللون له وكانوا يحترمونه ويسكتون، لماذا هذا الاحترام العالمي؟ لأنهم هاجروا ليس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية فحسب، ليس من الوديان إلى الجولان فحسب، بل هاجروا أيضًا من الخوف من الموت إلى خوض غمرات الموت، من الكسل إلى النشاط، من التخاذل إلى الإرادة، إلى القوة.
أمامنا تجربتان، وما أكثر التجارب! وما أكثر العبر! نرجو ألا يكون الاعتبار قليلًا. نحن حاولنا كثيرًا في لبنان، نحن نرى أن مجتمعنا يتفكك. نحن نرى أن المحرومين يزدادون يومًا بعد يوم، نحن نرى أن المناطق المتخلفة بدون سبب، بدون موجب، بدون أي ذنب تبقى متخلفة. المناشدات، الطرق السلمية، الوسائل التقليدية المستعملة منذ الاستقلال حتى الآن ما أفادت. فإذًا، وضعنا الداخلي من الناحية الاجتماعية من الناحية المعيشية خطر، أوضاعنا الخاصة، أوضاعنا الأخلاقية، نحن نريد أن نربي أولادنا، نحن نريد أن نربي بناتنا، نحن نسعى لتعليم الدين لأولادنا، لكن هل بإمكانك أنت أن تربي، والتلفزيونات والأفلام كأنها أمواج الفساد تدخل البيوت؟ طوفان من الانحراف يجرف ويحرق الأخضر واليابس. والإذاعة والمجلات، وهنا وهناك، والفقر والتشريد.
هذا لا يعني أننا لسنا مكلفين بالتربية الدينية، ولسنا مطالبين بالتعليم الديني، ولكن إذا تجاهلنا الجانب الآخر أن نشارك وأن نضع وأن نساهم بمقتضى حقنا كمواطنين في سياسة الدولة التربوية، في سياسة الدولة الإعلامية... إذا ما حسّنّا أوضاعنا وابتعدنا عن الفقر الذي كاد أن يكون كفرًا، إذا ما ناضلنا، إذا ما حاولنا وما سعينا حتى من النواحي الأخلاقية نتأخر؛ لأن المحتكرين يتحمسون ويرتاحون للفساد؛ لأن الفساد يذيب الإنسان المواطن ويحطمه فيمكِّن الطاغي من أن يستمر وأن يبقى ويسيطر عليه.
إذًا، الاحتفال بالهجرة، معايشة مناخ الهجرة، البقاء ساعة مع الرسول الأكرم في هجرته نشاهده يخرج ﴿من هذه القرية الظالم أهلها﴾ [النساء، 75] كما يسميها القرآن الكريم... نشاهده في هذه الصحراء يمرّ ويتعب وتدمى قدميه، نشاهده انطلق إلى الأشجار والكثبان في النهار، والمشي في الأشواك في الليل. نشاهده في هذه الحالة يمشي وهو مع هذه الهجرة الجسدية من مكان إلى مكان يهاجر، ويهاجر بأمته كلّها أن يخرجوا من الحالات...

source
عدد مرات التشغيل : 11