جانب الإنسان الروحي والجسمي في العالم الآخر

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

...وعن خلود الإنسان، وعن تعدد جوانب الإنسان، وشموله للجانب الجسمي والجانب الروحي ولأجل الوصول إلى توضيح حقيقة المعاد المعترف به من قبل جميع الأديان والمذاهب. فما من دين إلا ويؤكد على وجود عالم آخر، وجزاء للإنسان. قبل أن نصل إلى البحث في صميم الموضوع لا بد لنا من الإحاطة بعدة مواضيع.
الموضوع الأول: مسألة الروح في الإنسان.
الروح، طبعًا يمكن أن نعتبرها شيئًا واضحًا، باعتبار أن الإنسان ليس جسمًا فقط. وحينما يموت- ونحن نرى أنه قبل الموت وبعد الموت- للإنسان آثار تختلف بعضها عن بعض. فقبل الموت، في الحياة، ينمو ويأكل ويشرب ويتحرك. وبعد الموت كل شيء يتوقف. بالرغم من هذا الوضوح، أنتم تعرفون أن هناك من يُنكر وجود الروح، ويعتبرها نوعًا من أثر المادة في حياة الإنسان، والمادة في درجاتها العالية تمثل هذا الدور الذي نسميه نحن الروح. لن أدخل في تفاصيل النقاش، وإنما أذكر أدلة موجزة على إثبات المدعى ووجود الروح بشكل موجز.
أولًا: مسألة التصور والعلم
نحن اليوم نتصور ونفهم أشياء أكبر منا. مثلًا الآن أنا أغمض عيني وأتصور البحر الأبيض المتوسط الذي هو أكبر مني وأكبر من لبنان. البحر الأبيض المتوسط الذي هو أكبر مني بملايين المرات، أنا أتصوره على حجمه. يعني أتصور الجانب الشمالي والجانب الجنوبي، والجانب الشرقي والجانب الغربي، والبلاد الكثيرة التي هي واقعة على الحوض. وأتصور الجزر الكثيرة: اليونان، قبرص، مالطا، كريت، صقلية، وأمثال ذلك. وأتصور البواخر والغواصات والأمواج، والبحار. كل هذا أتصوره أنا.
فإذًا، أنا أتصور شيئًا أكبر مني. فأين أضع هذه الصورة؟ هل أتمكن أن أنقش وأرسم على خلية من خلايا جسدي أو على جانب من جوانب وجودي، أرسم هذا الموجود الكبير أم لا؟ نحن ندخل في بحث، وفي خلال الحديث هناك نقاش، لأننا نريد أن نصل إلى نتيجة.
أنا جسمي طوله كذا، عرضه كذا، دماغي بالمفهوم المادي حجمه كذا، طوله كذا، عرضه كذا. فأين أضع البحر المتوسط؟ وأين أضع حينما أتصور صورة أخي؟ أو صورة أبي؟ أو صورة أمي؟ أو صورة ابني؟ أنا أتصور وكأن أبي جالس أمامي، فأين أضع صورة أبي؟ في رأسي؟ أين أضع كل هذه التصورات؟ لو كان الإنسان جسمًا فقط، لما كان ممكنًا أن يتصور موجودًا أكبر من دماغه، أو أكبر من جسده. هذا أفضل دليل. فكر في هذا الدليل وناقش. فأنا أناقش مثلما أنت تناقش بهذا الدليل. ما هو هذا النقاش؟
نقول أن صورة الشيء لا لزوم أن تكون بحجم الشيء. فنحن اليوم نضع صورة إنسان على ورقة صغيرة، أو نحن نرى خريطة في مدرستنا مكتوب عليها البحر الأبيض من أقصاه لأقصاه بـ 5 أو 10 سنتيمترات. نحن نرى أن الكرة الأرضية بعظمتها وكبرها نراها بهذ الحجم، مرسومة وموضوعة هنا. فإذًا، ما المانع أن نتصور البحر الأبيض المتوسط أو الكرة الأرضية أو النجوم أو صورة أصدقائنا أو آبائنا أو أمهاتنا؟! نحن نتصور هذه الأشياء بشكل صغير، وليس بحجمها الكبير، حتى يمكن القول أن أبي أكبر من رأسي، أو أن البحر الأبيض المتوسط أكبر من جسدي، أو أن الكرة الأرضية أكبر مني، وأنا لا أقدر أن أتصورها. أليس كذلك؟ هذا هو النقاش، أي أن أحدهم يمكن أن يعترض على دليلنا، مع أن هذا النقاش غير صحيح. ونحن نقدر أن نجيب عن هذا السؤال.
نحن نقول أن الشيء الذي تراه أنت على هذه الورقة صورة زيد أو عمرو من الناس، أو صورة البحر الأبيض المتوسط، أو صورة الأشياء. إذا فكرت في الحقيقة أنه ماذا يوجد في هذه الورقة؟ هل بالفعل صورة أبيك على هذه الورقة؟ أو مثلًا هذه اللوحة بالفعل فيها صورة السيد؟ أو صورة البحر الأبيض بالفعل على الخريطة؟ أبدًا! هناك على هذه الورقة خطوط سوداء وبيضاء وحمراء وزرقاء ليس إلا. بالإضافة إلى بعض اللون وبعض الخطوط المرسومة، على هذه الورقة لا يوجد إلا خطوطًا سوداء وبيضاء. على هذه الورقة لا توجد صورة أبي، ولا على الخريطة يوجد البحر الأبيض المتوسط. أبدًا! هذا خلط. البحر الأبيض المتوسط أو صورة أبي موجودتان في دماغي أنا، أنا الذي أراهما وإلا أنا في هذا الواقع أرى خطوطًا، بضعة نقاط، عددًا من الأسطر، وبعض اللون أزرق وأحمر... هذا كل ما في الأمر، وما من شيء آخر. يعني أن على هذه اللوحة لن تجد البحر الأبيض المتوسط، ولا على الورقة تجد صورة أحد، ولا على هذه الكرة الصغيرة تجد الكرة الأرضية. أبدًا! على هذه الأشياء هناك خطوط ونقوش فقط، هذه الخطوط والنقوش أمامك تذكرك بالكرة الأرضية أو بالبحر الأبيض المتوسط، أو بصورة والدك، أو بصورة شخص غائب أو بصورة شخص حاضر. فإذًا، النقاش غير صحيح.
نرجع ونؤكد من جديد هذه الظاهرة التي نعيشها نحن كل يوم. الآن إن قالوا لك أن غواصة إسرائيلية غرقت في البحر المتوسط، فورًا تتصور غواصة بعرضها وطولها، تتصور الغواصة التي هي أكبر من وجود الجسد. يقولون أن الباخرة الأميركية للتجسس احتجزت في كوريا الشمالية، فورًا تتصور أنت، من دون الحاجة لأي عناية أو عناء، باخرة طولها كذا، وعرضها كذا... وعليها تسعة وستون بحارًا... تقرأ في الجريدة الخبر وتتصوره، صورة الجريدة خطوط وليست صورة.
أنت الذي تخلق عندك أي دماغك هو الذي يخلق الصورة. وكما يخلق الله الإنسان، يخلق الدماغ صورة الإنسان. فأنت تخلق، تخلق صورة أكبر منك. فلو كنت جسمًا لما كنت تتصور موجودًا أكبر منك، لأنه لا يمكن زيادة المظروف على الظرف. هذه كأس ذات حجم كذا، لا تحمل أكثر من حجمها ماءً، لا تقدر أن تضع إبريقًا بأكمله في هذه الكأس. لا يمكن، لماذا؟ لأن هذه مادة وهذه مادة. فلو كنت أنا مادة ذات أبعاد فقط: طول وعرض وعمق، لما كنت أتمكن أن أتصور وأن أفهم ما هو أكبر مني.
فإذًا، ما هو الجواب على هذا السؤال؟ الروح. هناك روح. الروح ما هو شكلها؟ سنتكلم عنها لاحقًا. هناك شيء يختلف عن هذه الموجودات. أنت اليوم على هذه الورقة التي طولها نصف متر وعرضها متر، تقدر أن تضع الشيء الذي يناسب حجمها، أما أكثر من ذلك فلا تقدر أن تضعه. لماذا؟ لأن هناك بعد، هناك كذا سنتيمتر، وكذا سنتي طول، وكذا سنتي عرض، وكذا سنتي عمق وارتفاع. بينما بالنسبة للروح، ليس هناك شيء من هذا النوع. روح طفل صغير، يمكن أن تتصور مجموعة العالم والكون. لماذا؟ لأن جنس الروح، ليس جنسًا ذا أبعاد. ليس لها بعد: طول وعرض وعمق. في يوم آخر سنتكلم بعد انتهاء هذه المعطيات التي نحن نعيشها، وهذه الظواهر التي أصبحت واضحة عندنا ولكن لا ننتبه دائمًا وأحيانًا. بعد استعراض هذه الظواهر، ندخل في النتيجة وكيفية الروح.
فإذًا، السؤال الأول: الإنسان يفهم ويتصور موجودات أكبر منه وأطول منه وأعرض منه وأكثر ارتفاعًا وعمقًا. وحينما يتصور الإنسان هذه الأشياء التي هي أطول وأوسع منه يبقى هذا السؤال: أين نضع هذه الصور؟ لا بد أن تكون في الجسم، في الدماغ، في خلايا الدماغ. أين نضعها في خلايا الدماغ؟ إذا كانت الخلايا الدماغية مادية، فلا نتمكن أن نرسم عليها صورًا أكثر منها وأكبر منها. فإذًا، يجب أن تعترف ونعترف بأن هناك جانبًا آخر من الوجود فيّ. هذا الجانب هو الذي يحتضن هذه الموجودات الكبيرة العريضة الطويلة الواسعة من دون أن يضيق بها.
سؤال: يمكن أن تتسع الأشياء المادية المضغوطة أو الآلات الحاسبة أكثر؟
الجواب: صح، الأشياء المضغوطة يجب أن نضغطها حتى تحتضن. مثلًا كيلو من القطن حجمه كذا سنتي في كذا سنتيمتر مكعب حسب تعبيركم. فإذا أردنا أن نضعه بالشكل الطبيعي في هذه الكأس الصغيرة فلن نتمكن. لا تدخل. إذًا، نقلل حجمها. عندما نقلل حجمها يعني تحول القطن سواء كان 10 سنتيمتر مكعب صار 3 سنتيمتر مكعب. يعني الظرف ما اشتمل على أكثر من حجمه. أنت ضغطت هذه الأشياء ووضعتها داخله. أما الآلات الحاسبة، فالعدد والمحاسبة ليس لها بعد، سنصل إلى قضية العدد والحساب. أنت افترض، وهل يمكن الافتراض أن موجودًا طوله متر وعرضه متر، يحتوي ويقبل موجودًا طوله 50 مترًا وعرضه 50 مترًا، من دون أن نقلل الكبير أو نطول الصغير؟ هذا أيضًا جزء من بحثنا. نحن عندما نقدر أن ندخل البحر المتوسط أو نتصور صورة زيد أو عمرو من الناس، أو صورة البستان مثلًا أو صورة بناء مدرستنا، أو بناء المؤسسة من دون أن نحاول تقليل الحجم، وهي بحجمها.
الآن تصور الباخرة... أنا أتصور أن الباخرة طولها كذا وعرضها كذا، أتصورها بحجمها الموجود، لا أحاول أن أضغطها، ثم مهما ضغطت فإلى أي حد تقدر أن تضغط الكرة الأرضية أو البحر الأبيض المتوسط؟ إلى أي درجة؟ من فروق هذا البحث أيضًا، يعني من ذيول هذا البحث: الضيق. مثلًا عندك حقيبة، يمكن أن تضع فيها 4 أو 5 أو 6 أشياء، في حقيبة الملابس تضع 5 أو 6 أو 10 فساتين، أو يمكن أن تضع 5 أو 6 أو 10 مقاعد في غرفة. كل موجود مادي يضيق بما قد يدخل فيه، عندما تضع فيه أشياء وأشياء إلا الدماغ الملعون، تقدر أن تدخل فيه خمسين ألف شخص شخص، ثم بإمكانك أن تتصور خمسين ألف شخص شخص آخرين. جيش كبير واقف في صيدون مثلًا. ومن ناحية ثانية، يستطيع أن يتصور أربع مئة وثمانون ألفًا أوغريتي أيضًا واقفين في صيدون.
ثم من جهة ثانية هذا الدماغ الذي استوعب نصف مليون شخص، يمكن أن تضيف إليهم مليون جندي آخر. هذا الدماغ الذي يتصور غابات فيتنام ويمكن أن نزيد عليها كوريا الشمالية، وكذلك سائر البلدان المجاورة، مثل الصين، الهند، ثم روسيا، وآسيا... تضع معه كل شيء تصور مرة واحدة تضع عندك كل الكرة الأرضية، وتتصورها بكل سهولة، من دون أن تشعر بالمضايقة. الشخص الذي يحكي لك عن الكرة الأرضية، يقول لك مثلًا أن هذه الكرة الأرضية أكبر 50 مرة من كرة القمر. فورًا تتصور كرة القمر مع الكرة الأرضية، تتصورهما معًا مع أن الثانية 50 مرة أكبر من الأولى؟
ثم يقولون لك هذه جزء من المنظومة الشمسية، يقفز ذهنك إلى المنظومة الشمسية وتتصور المنظومة الشمسية يعني: الشمس والكواكب والسيارات والكرة الأرضية وعطارد والزهرة وزحل والمريخ... تتصور كل هذه المسائل دون أن تشعر يومًا ما بأن دماغك بعد لم يحتوِ على شيء أكثر... وتبقى تتصور. هذه ظاهرة، وأنا سأستمر معكم في التصور، ولكن الآن أريد أن أطرح هذه الأسئلة أمامكم: إن هذه الظواهر المهيأة أمامكم، كيف نقدر أن نفسرها ونحللها؟ هذا كان البحث الأول.
ثانيًا: البحث أو الطريقة الثانية لإثبات الروح هي مسألة التغير
تصور أنني شخصيًا أو أنت أو أي واحد منا هو شخص واحد من أول الطفولة إلى الآن... موجود واحد. هذا الموجود كان طفلًا، ثم بدأ المولود يكبر، ثم درس وتعلم، كسب صداقات وعداوات، تربى، كبر... لم يزل نفس الموجود، إنما هو ينمو ويكبر ويتغير ويختلف ويتوسع ويتعلم ويتثقف. هذا الموجود شخص واحد، نحن نسأل هنا ما هو سر الوحدة في هذا الوجود بعد أن أثبت العلم الحديث أن الخلايا الجسدية تتغير؟
اليوم كما تعلمون، الإنسان يأكل، وهذا الأكل يتحول إلى المواد الغذائية وتصل هذه المواد إلى الخلايا التي بدورها تتوسع وتنمو وتكوّن خلايا جديدة. ثم الخلايا العتيقة تعتق وتهرم وتموت، ثم تخرج من الجسد، إما تتحول إلى الظفر أو الشعر، أو تخرج من البدن مع الفضلات الأخرى.
إذًا، الإنسان هو هذه الخلايا العتيقة التي تنتهي وتتكوّن خلايا جديدة. هذه الخلايا القديمة بالتدريج تكثر وتكثر حتى بإمكانك أن تقول أن جميع جسد الإنسان يتغير. لديكم خبر ربما أنهم يقولون اليوم أن جسد الإنسان خلال 14 سنة أو 12 سنة يتغير كله. أنت بواسطة الأوساخ من الجلد أو بواسطة الأظافر أو الشعر، أو بواسطة البول والمدفوع، أو بأي واسطة ثانية الخلايا العتيقة تطلع، والجديدة تنمو ثم الجديدة تتحول إلى عتيقة، وتطلع من الجسد، والجسد يتغير. يعني اليوم من خلاياك قبل 14 سنة، تلك الخلايا التي كانت موجودة عندك قبل 14 سنة لم يبقَ منها اليوم ولا واحدة. كلها انتهت. خلايا جسمك، خلايا جلدك، لحمك، دمك، عصبك، عظامك... كلها انتهت، هناك خلايا جديدة، الموجودة الآن هي غيرها التي كانت قبل 14 سنة. ما دام الجسد، المادة، تغيرت بمجموع أجزائها، وما بقي من خلاياك السابقة أية خلية، فإذًا، ما دامت الخلايا تغيرت، والمادة تغيرت، وأجزاء وجودك: جسم، لحم، ودم، وعصب، وعظام، ودماء... كله تغير، فإذًا، كيف أنت ما زلت تحتفظ بوحدة شخصيتك؟
أذكر بشكل أوسع وأوضح: أنت كنتَ في المهجر، عشتَ في المهجر 20 سنة، رجعتَ... لستَ أنت الذي رجعت، جميع أجزاء جسدك تغير. ولكن رجعتَ وأنتَ تعرف الناس، تعرف شوراع صور، تحتفظ بصداقاتك وعداواتك، كيف هذا؟ لو كنتَ أنت المادة، لكانت ذهب مع ذهاب الخلايا كل العواطف وكل الصداقات وكل العداوات وكل العلوم وكل المعلومات وكل التجارب. اليوم الذي يدرس 20 سنة، 30 سنة، 40 سنة، لو كان الجسم يتغير كله بجميع خلاياه، لكان يجب أن ينسى كل 14 عامًا، كل ما قرأه سابقًا لأنه لم يعد موجودًا في جسده لو كان مادة فحسب.
فإذًا، هذا السؤال يطرح بهذا الشكل: لو كان الإنسان جسمًا فقط، والجسم يتكون من المادة والخلايا، لكانت الخلايا تغيرت خلال 10 أو 12 أو 14 سنة، وكان يجب أن يتغير كل شيء في وجود الإنسان؛ ولكن هناك شخصية للإنسان لا تتغير... أنا أذكر ذكريات أيام طفولتي قبل 20 أو 30 سنة. فإذًا، يظهر أني أنا وجود واحد من أول طفولتي إلى الآن. ما هو السبب في وحدتي غير خلاياي، غير جسمي، غير أعصابي، ودماغي وقلبي ودمي... هناك شيء آخر لا يتغير، لا يتحول، لا يتكون من الخلايا... ذلك الشيء هو الروح.
فإذًا، هذا البحث الثاني يُطرح بهذا الشكل. الإنسان يتغير بجميع أجزاء وجوده، فلو لم يكن في وجود الإنسان شيء ما وراء هذا الجسم لكان يتغير كل شيء، كان يذهب بعد 14 سنة أو 15 سنة أو 20 سنة، يرجع من المهجر أو يرجع من السفر وما بقي منه شيء. كان يجب أن لا يعرف أحدًا. لا يتعرف على الشارع، لا يحتفظ بحب أو ببغض أو بصِلة، أبدًا أبدًا، انقضى كل شيء. لكن ما دام هناك أشياء باقية، يظهر ثقلًا... هناك قاعدة باقية من سابق الأيام إلى اليوم، مرسوم عليها الحب والبغض والصداقات والتجارب والعلوم والصفات الطيبة والصفات غير الطيبة وأمثال ذلك.
فإذًا، الإنسان هو غير هذا الجسم الذي يتكون من الخلايا، غير هذا الجسم، له شيء آخر اسمه الروح. وهذه الروح هي التي تحمل واقع وجود الإنسان، وتحافظ على شخصية الإنسان وتكوين هذه الشخصية، وتبقي تجارب الإنسان وعواطف الإنسان وصداقات الإنسان وعداوات الإنسان ونفسية الإنسان. هذا الموجود الواحد، ذلك هو الروح.
وإذا طُرِحَ السؤال: طالما أن الروح تأتي مع الإنسان فلماذا تبقى مستمرة بعد الموت؟
فإننا نجيب أن هذا بحث آخر. نحن هنا نرسم فقط إشارة عن الروح فقط، أي أن هناك شيئًا غير هذا الجسم الذي نراه. ويمكن أن نبحث في السؤال الذي يعني أنه كيف الروح هي جسمانية الحدوث وكيف أنها روحانية البقاء حسب تعبير الفلاسفة؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. والجواب الذي نستنتجه هو قاعدة المعاد وسبب الخلود. وهذا ما سوف نتكلم فيه الأسبوع القادم بإذن الله.
اليوم لخصنا حديثنا مثل واحد واقف أمام حشد، يريد أن يشير بيديه إلى شخص يعرفه. فيقول له: أُنظر في المكان الفلاني... أُنظر... أُنظر، قصده فقط أن يشير إلى جانب الروح حتى نقول أن هناك شيئًا غير هذا الجسم المحدود ذي الأبعاد المتغير هناك شيء آخر، لا حد له، ولا يتغير، ذلك هو الروح. هذه مقدمة البحث عن: المعاد، إن شاء الله نكملها في الأسبوع القادم، وأرجو أن تحضروا حسب الموعد، في الأسبوع القادم حتى لا نضيع وقتنا، ونكمل في الحديث ونجيب على هذا السؤال إن شاء الله.
ثالثًا: السير والسرعة والزمان
ممكن أن نقول أن الدليل الثالث هو مسألة السير والسرعة والزمان، لأن كل موجود مادي في حركته، بحاجة إلى الزمن. إذا أردنا أن نذهب من هنا إلى بعد كيلومتر، فإننا بحاجة إلى وقت لنقطع المسافة، السيارة تقطع المسافة أسرع منّا ولكنها تحتاج إلى وقت... ولو كيلومتر تحتاج إلى كم دقيقة، الطائرة تسرع أكثر من السيارة ولكنها أيضًا بحاجة إلى وقت لقطع المسافة. أسرع شيء في العالم، ما هو يا شباب؟ أسرع شيء في العالم النور، أليس كذلك؟ يقال أن النور أسرع شيء. أي في كل ثانية نور الشمس يقطع ثلاث مئة ألف كيلو مترًا، في كل ثانية. هذا أسرع شيء في الدنيا، ولكن مع ذلك يحتاج للوقت. نور الشمس يستغرق 13 دقيقة و17 ثانية حتى يصل إلينا. فإذًا، كل شيء في العالم بحاجة إلى وقت حتى يقطع مسافة ما. نور الشمس يحتاج إلى وقت! كم يحتاج من الوقت؟ 14 دقيقة. ولكن خيال الإنسان وتصور الإنسان، ليس بحاجة إلى وقت. أنت جالس هنا، دفعة واحدة تنتقل إلى أميركا. أحكي لك عن فيتنام، تقفز إلى أميركا وتذهب إلى آخر آسيا. ثم أتكلم عن كوكب الزهرة، فورًا ينتقل تصورك من الأرض إلى السماء. ثم إذا تكلمت عن السحابيات التي تبعد عنا ملايين السنوات الضوئية، أي أن نورها يحتاج إلى مليون سنة ضوئية للوصول إلينا... أنت فورًا تتصورها، بلحظة تنتقل إلى هذه السحابيات وإلى هذه الكواكب. كيف يتمكن الإنسان أن يتصور بهذه السرعة؟ لو كان شيئًا ماديًا في دماغنا ينتقل من هنا إلى هناك، ولو افترضناه أسرع من النور بمئة ألف مرة كذلك، على الأقل يتطلب ثانية أو ثانيتين... أبدًا، الروح لا تحتاج إلى شيء ولا إلى الزمن، مع أنه لو كان شيئًا ماديًا خاضعًا لقانون المادة، لكان يجب أن يقطع المسافة بمقدار وقت ما، مهما كان الوقت قليلًا.
أدلة الروح كثيرة، لكن أكتفي بهذه الأدلة الثلاثة:
1 ـ الإنسان متغير بأجمع أجزائه وخلاياه مع أنه يحتفظ بكثير من الأشياء مما يؤكد وحدة الإنسان.
2 ـ الإنسان يتصور ما هو أكبر منه بملايين المرات من دون الشعور بالضيق.
3 ـ الإنسان يتصور ما هو بعيد عنه بسرعة من دون أي وقت.
من هذه الأدلة الثلاثة ماذا نستنتج؟ نستنتج أن في الإنسان ما عدا هذا الجسم، ما عدا هذه الجسميات، ما عدا هذه الخلايا الموجودة الملموسة المحسوسة فينا، ما عدا هذا كله هناك شيء آخر الذي نسميه الروح. ما هي مزايا ذلك الشيء الآخر؟ الروح ما هي صفاتها؟ كيف نقدر أن نفهم طريقة الروح؟ أين هي الروح؟ وكيف هي؟ هذه المسائل تراود ذهننا، نحن إذا انتبهنا لهذه الأدلة الثلاثة نقدر أن نفهم مزايا الروح. ما هي الروح؟ كيف هي؟
أولًا، قلنا أن الروح لا تخضع لنظام التغير. الجسد يتولد ويتكون ويشيب ويهرم ويموت بكل ذرة من الذرات. لكننا رأينا أن الروح ليست كذلك، بدليل أنه من أول الحياة إلى آخر الحياة هي موجود واحد. صحيح يتكامل، يصير عنده معرفة، خبرة جديدة، تجربة جديدة، معلومات جديدة، لكنه لا يتبدل، بل يتكامل.
ثانيًا، الروح ليس لها أبعاد الطول، العرض، العمق. لماذا؟ لأنه لو كان للروح أبعاد لكانت تضيق بالتصورات. يعني أنه لو افترضنا أن للروح أبعادًا: طول وعرض وعمق، فمهما كانت كبيرة فهي مثلًا أصغر من البحر المتوسط الذي إذا تصورته، فهو سيضيق. فإذًا، الروح ليس لها أبعاد، ليس لها طول وعرض وعمق.
ثالثًا، الروح لا تخضع للزمان والمكان والسرعة. لا تخضع للزمان، يعني ليست زمانية خاضعة للزمان مثل الجسد. الجسد خاضع للزمن، الزمن يتحكم فيه. يعني هذا الشيء الواحد، هذا الموجود الواحد، بالأمس كان طفلًا، وبعده صار شابًا، وبعد ذلك صار شيخًا وبعد ذلك هرمًا... هو شخص واحد، في كل زمان له حكم. الجسم يخضع للزمن، بينما الروح لا تخضع للزمن، كما رأينا أنها تقطع المسافات من دون زمان.
سأوضح لكم، ليس هناك شيء غامض. تصوروا معنى: المجرد، هذه الأوصاف التي أقولها عن الروح أوصاف المجردات. إذا أحدهم تصور معنى المجرد فهذا إنسان كامل؛ وهذا بحث فلسفي عميق وأنتم بحاجة إلى الثبات على التفكير حتى تتصوروا. وأنتم بإمكانكم أن تتصوروا طريقة المجردات، الأشياء التي تشبه الروح، مثلًا الله! نحن نقول أن الله ليس له زمان ولا مكان ولا تغير. إذا سألك أحدهم: أين الله؟ ماذا تقول؟ تقول في السماء. أين هي السماء؟ السماء فوق؟ لا! ليس هناك فوق، اسمه السماء. فوق، هناك فضاء، وأنت تعرف أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها، فالمكان الذي تراه أنت فوق في الليل يصير تحت... ليس هناك فوق وتحت، فوق وتحت معنى نحن اختلقناه. المكان الذي فوق رأسنا فوق وفي الليل تنعكس الأمور. أليس كذلك؟
تصور! هذه الكرة الأرضية، الأرض كرة، أي تشبه من حيث الشكل التفاحة مثلًا، والأرض تدور حول نفسها، عندما تكون أنتَ: رأسك نحو فوق، وقدماك على الأرض. وأنتَ عندما تدور الكرة الأرضية، ينقلب الوضع رأسًا على عقب، ويصبح فوق تحت قدميك. المكان الذي هو في النهار فوق في الليل هو تحت. ليس في العالم فوق وتحت. فوق وتحت هذه أشياء نحن نختلقها، نحن نفترضها.
أذكر لكم مثلًا، وأرجو أن تنتبهوا للأبحاث لأننا هنا أمام قفزة من عالم المادة إلى عالم الروح، ونريد أن نتصور ولو طال المجال. أنت الآن تجلس في هذه الغرفة، أين جنوبها؟ جنوب هذه الغرفة قرب الباب. أليس كذلك؟ شمال الغرفة... وهذا الحائط يعتبر شرق الغرفة، وهذا الحائط غرب الغرفة؟ فإذًا، جنوب، شمال، شرق، غرب... هذا التصور محدود. في الغرفة الأخرى، هذا الحائط الذي كنت تسميه غربًا، هنا شرق. في غرفة الطعام، الحائط الذي كنت تسميه جنوبًا أصبح شمالًا. فإذًا، أين الشمال وأين الجنوب؟ تقول الشمال هناك، أنا معك! أين الجنوب؟ الجنوب هناك، بعيد، بعيد، بعيد. إذا ذهبنا إلى هذا البعيد، البعيد، البعيد، فأين الشمال؟ هل تجده؟
يقال أن للكرة الأرضية قطبًا شماليًا، أليس كذلك؟ إذا ذهبنا إلى هذا القطب الشمالي، فأين الشمال هناك؟ ليس هناك من شمال. تقول في السماء! جيد! تذهب إلى هناك، فهل تجد الشمال؟ كلا لن تجد الشمال، فإذًا، شمال، جنوب، شرق، غرب... هذا تحديد دماغنا نحن.
هذا بالنسبة للمكان. نأتي للزمان: فنقول: الساعة الواحدة. أو الساعة الثانية عشرة. فما هي الساعة الواحدة والساعة الثانية عشرة؟ تقول أن الساعة الواحدة يعني ساعة بعد الثانية عشرة. والساعة الثانية عشرة يعني نصف النهار، أي أن الشمس بلغت نصف النهار. فإذًا، ساعة يعني أننا احتسبنا دورة الشمس من هذا المكان إلى مكان آخر. أليس كذلك؟ أي أن الشمس دارت من هنا ووقفت في مكان معين. وهذا نسميه 24 ساعة أي نقطعه 24 ساعة... كيف تقطعه 24 ساعة، ولماذا ليس 25 ساعة؟ هل هناك فرق بين الساعة الواحدة والساعة الثانية؟ لا فرق... افتراض! نحن نعيش في أصنامنا، نحن نخلق أشياء ونعيش فيها. الساعة؟ ما هي الساعة؟ افترضنا! تصورنا أن الشمس في كل دورة، نقسمها أربعًا وعشرين قسمة، وكل قسمة نسميها ساعة. لو قسمنا دورة الشمس 30 قسمًا، وكل قسم نسميه ساعة، ولماذا سنقسمه 24؟ لأن العدد أسهل من هذه الناحية. وإلا ليس هناك أي سبب آخر.
نرجع إلى المكان، المكان هذه التحديدات التي نحن...

source
عدد مرات التشغيل : 1