الإسراء والمعراج وتحرير القدس

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 30 حزيران 1978 الكاتب:موسى الصدر

خطبة للإمام موسى الصدر في مسجد الصفا -الكلية العاملية  بتاريخ 1978/6/30 بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج والمبعث النبوي؛ تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد، وعلى أنبياء الله المرسلين. وسلام الله على آل بيته وأصحابه الطيبين، ومن اتبعهم بإحسان وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد،
فإن هذا اليوم المبارك يوم الجمعة، وهو يوم يذكرنا بيوم يجمع الله الناس للحساب، وهو يوم نراجع فيه حسابنا في الماضي، ومستقبل أعمالنا في الأسبوع القادم. في هذا اليوم، يقترن يومنا المبارك بمناسبات خالدة تلقي أضواء وتنير الدرب، في يومنا العصيب هذا، وفي ظروفنا القاسية اللبنانية والعربية بوجه عام. ذلك، لأن هذا اليوم يقترن مع يوم السابع والعشرين من شهر رجب، ويوم السابع والعشرين من رجب، يوم يجمع المناسبات الثلاث: مناسبة المبعث النبوي الشريف، والإسراء والمعراج.
محطات ومفاخر ثلاث لرسول الإسلام تلتقي في يوم السابع والعشرين. ففي هذا اليوم، بدأ المبعث، بدأ التحرك الرسالي، بدأ إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل تفصيلي ونجومي، على حد تعبير القرآن الكريم.
ففي رمضان نزل القرآن دفعة واحدة، أو ما يسميه القرآن بإنزاله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر، 1]. ولكن، بعث الرسول ودعوته للناس، بدأت في اليوم السابع والعشرين كما ورد في السير المباركة. وبعث الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وهو بعث الأمة، يذكرنا من خلال اللغة والمحتوى، بأن الأمة بعد الدعوة المحمدية، بدأت تأخذ طابعًا جديدًا، وحياة جديدة، وكأنها انتقلت من طور الغياب إلى الحضور، ومن طور الإهمال إلى الفاعلية. وبتعبير آخر، بُعثت الأمة من جديد لكي تكون شهيدة على الخلق وعلى الناس، ويكون الرسول شهيدًا عليها.
إذًا، يوم السابع والعشرين، يوم بعث هذه الأمة. والبعث لهذه الأمة معنى حقيقي، وليس صدفة تاريخية. كلما أرادت الأمة أن تلتقي، أن تقوم، أن تنهض، أن تتحرك، أن تقوم برسالتها وتتحمل دورها فالأمر ممكن، وليس هناك من عقبات واستحالة في وجه الأمة لكي تبعث من جديد.
والمناسبة الثانية، في تاريخ الرسول، أو المسؤولية الثانية في حياة الرسول التي حصلت في يوم السابع والعشرين، الإسراء: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله﴾ [الإسراء، 1].
هذا الانتقال إشارة إلى معنى كبير في تاريخ الرسالة المحمدية. هذا الرمز وهذا التنقل ليس الغاية منهما مجرد المعجزة والكرامة، وإظهار أمر مستحيل على الناس، سهل على الله سبحانه وتعالى أن يمكّن رسوله. الغاية من هذا التنقل إذا كانت، لـمحمد (عليه الصلاة والسلام) كما يصف القرآن الكريم، أن يريه الله سبحانه وتعالى من آياته، وأن يفتح آفاق محمد الفكرية والنفسية، وأن يدله على ما كان لا يعرفه قبل هذا اليوم؛ فإن للإسراء، في منطق الأمة وفي منطق الرسالة، معنى خالد يستمر مع استمرار الأمة، ويتم مع تمام الرسالة. هذا المعنى هو تلاقي المسجد الحرام والمسجد الأقصى. فالمسجد الأقصى، كما نعلم، ملتقى الرسالات السماوية السابقة. المسجد الأقصى مهد المسيح، والمسجد الأقصى مكان رسالة موسى (ع). والمسجد الأقصى والأرض المقدسة مكان أساس في انتقال إبراهيم (ع) عندما كان يتنقل بين النهرين وفلسطين والحجاز حيث بيت الله الحرام.
إذًا، المسجد الأقصى رمز للرسالات السابقة، تعبير عن الرسالات الإلهية السابقة. والإسلام عندما يؤكد في القرآن الكريم أن دين الله واحد، فلأن الله واحد، ولأن الخلق واحد، ولأن الكون واحد. ويؤكد أن رسالة الله الواحدة يحملها رسل ودعاة ومعلمون حسب مستوى التفكير، ومستوى تقدم المجتمع عبر الزمن، من الأزل إلى الأبد، فالرسالة واحدة.
إذًا، لقاء المسجد الأقصى مع المسجد الحرام، بشخص الزائر، وفي ليلة واحدة تعبير عن ارتباط الإسلام بالأديان السابقة. وهذا الربط واضح في القرآن الكريم. فكل نبي في المفهوم القرآني وفي المنطق القرآني، مصدق لما بين يديه ومبشر لما يأتي من بعده، فالرسالات الواحدة، بالتعبير القرآني، تجسدت في هذه الليلة وفي مفهوم الإسراء في هذه الليلة المباركة، عندما انتقل النبي الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
إذًا، الإسلام ليس دينًا بدعًا وجديدًا ومنحسرًا على نفسه، إنما هو الحلقة الأخيرة الكاملة من حلقات رسالة الله الواحدة التي أنعم الله على عباده بإرسال الأنبياء وبدعوة الناس إليها.
وكانت هذه الليلة، بالإضافة إلى لقاء الإسلام مع الأديان السابقة، لقاء محمد (عليه الصلاة والسلام) مع الرسل السابقين، كما ورد في روايات الإسراء والمعراج.
إذًا، الرسالات الملتقية، بالإضافة إلى ذلك، تلاقٍ وتَقَبُل وتوجيه الإسلام ودين الله مع الحضارات جميعًا. فالإنسان عندما يدرس تاريخ الحضارات الكبرى في العالم، الحضارات التي نبعت من هذه الأرض، ومن مناطق شواطىء الفرات ومن المناطق الإغريقية والمصرية ومن مختلف المناطق في العالم، عندما ندرسها دراسة تفصيلية، ندرك أن هذه الحضارات ينبوعها هذه المنطقة المباركة من الله سبحانه وتعالى. وهذا بحث تاريخي وعلمي واسع، يتمكن الإنسان من الاطلاع عليه عندما يرى أن دين الله، ودعوة الله، ورسالة الله ورسل الله هم الذين رفعوا العراقيل من وجه الإنسان، ودفعوه باتجاه التفاعل مع الطبيعة واكتشاف حقائق الكون؛ تلك العلوم التي يلخصها القرآن الكريم بكلمة سجود الملائكة في بداية القرآن، وتمكين الإنسان من التسلط على القوى الكونية، وتفجير الطاقات الكونية وتسخير الطاقات الطبيعية. عند ذلك ندرك أن دين الله، أن عبادة الله الواحد، أن تحطيم الأصنام التي كانت تقف في وجه الإنسان وتعرقل سير الإنسان... هي التي فتّحت [عيني] الإنسان على الكون، ومكَّنته من اكتشاف الطبيعة، وبالتالي من التقدم في مجالات الحضارة المختلفة. وهذه الرسالات ينبوعها هذه الأرض المقدسة، أرض المسجد الأقصى وما حوله، عندما باركه الله وتمكن العلم من الانتشار في العالم.
إذًا، انتقال الرسول الأكرم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، تعبير واضح لدعم هذا الدين للعلم وللتقدم البشري. كيف لا، وهو الدين الذي يعتبر الإنسان خليفة الله على الأرض وموجهًا لكل قوة كونية. كل موجود له دوره في الطبيعة، وكل موجود له دور إلهي ينفّذ هذا الدور بكل اتقان. ويعبر القرآن عن هذه الأدوار بالسجود: ﴿ألم ترَ أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض﴾ [الحج، 18]. ولكن دور الإنسان، سجود الإنسان، صلاة الإنسان، تسبيح الإنسان هو دور خلافة الله في الأرض، تسخير القوى الكونية، تفجير الطاقات الكونية رفع مستوى نفسها، توجيهها نحو قافلة واحدة، تبدأ من الله وإلى الله تعود.
إذًا، هذا الرمز، هذا المعنى، هذه المناسبة، مناسبة الإسراء، عبارة عن انتقال الرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبالتالي عن تلاقي الإسلام مع الأديان السابقة، وعن دفع الإسلام وتبني الإسلام وتوجيه الإسلام للحضارات الإنسانية الكبرى التي كانت قبل الإسلام.
أما المعراج فهو الصعود إلى الآفاق العلى، أما المعراج فهو مقام الدنو: ﴿ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ [النجم، 8-9]. أما المعراج وهو انتقال الرسول من أفقنا ومن عالمنا إلى آفاق أخرى لا نعرف أبعادها ولكننا نعرف أنها الآفاق العليا، تلك الآفاق. بالإضافة إلى نفس النتيجة حتى يرى الرسول آيات ربه الكبرى، بالإضافة إلى ذلك له معنى رسالي، وله معنى في حياة الإسلام، وفي حياة الأمة معنى الصعود، معنى الخلود، معنى الانتقال إلى السماء، معنى تحول الإنسان المتشتت الأناني، أسير الأرض، إلى الإنسان الذي يلتقي تحت حماية الله، وفي كنف الله: ﴿عند ربهم يرزقون﴾ [آل عمران، 169]. خلود الإسلام، دوام الإسلام، سمو الإسلام، عمق الإسلام، معنويات الإسلام، معانٍ تظهر من كلمة المعراج.
وإذا راجعنا الروايات الواردة عن الرسول في مشاهداته ليلة المعراج، نرى معنى تفاوت الأفق. كيف كانت رؤية الرسول على الأرض، وكيف كانت رؤيته ليلة المعراج، ماذا شاهد؟ وكيف شاهد؟ وكيف نظر إلى الشؤون المادية بعين معنوية ثاقبة تدخل في أعماق آثار الطبيعة وأعمال الإنسان.
هذه المعاني الثلاثة، هذه المناسبات الثلاث، تلتقي في يوم السابع والعشرين، اليوم الذي بُعِثَ [فيه] محمد، اليوم الذي بُعِثَ [فيه] محمد بأمر الله؛ هذه الأمة أحياها من جديد، ثم أكد صلتها بالأمم السابقة، بالأديان السابقة، بالرسالات السابقة، وأكد صلتها بالحضارات العالمية الكبرى، بتبنيها لها واحتضانها لها، ودفعها لها. بالإضافة إلى أن هذه المناسبة جعلت هذا الدين، أبناء هذا الدين، جعلت الإنسان والإسلام دين فطرته وخلقه، جعلته خالدًا ساميًا ينظر إلى الأمور بمنظار أساسي وعميق؛ ويبقى على الدهر يدعو كل يوم إلى بعث جديد، وإلى إسراء جديدة، وإلى معراج جديد. كل يوم يدعو أبناء هذه الأمة إلى التحرك، والتقاط هذه المعاني، والسير في المسير الذي سلكه الرسول (عليه الصلاة والسلام).
مناسبة كريمة تقترب من يومنا هذا، وتلقي أضواء على يومنا هذا، وتجعل من يومنا هذا يومًا مباركًا حيًا. نفكر بعض الشيء، بالانبعاث من جديد، وبالانتقال من جديد، وبالخلود من جديد. يوم يدعونا إلى أن نخرج من التشتت والتنابذ والتفرق، إلى أن ننتهي من عهد الدويلات والفئات والفئويات والتناقضات إلى عهد الأمة الواحدة، ويدعونا إلى تحمل مسؤوليتنا للإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لكي ندرك أهمية فلسطين وأهمية المسجد الأقصى في تاريخنا وفي حياتنا. وإننا لا ننظر إلى هذه القضية المقدسة بمنظار سياسي... ماذا نعطي؟ وماذا نأخذ؟ ماذا يؤثر في حياتنا؟ وماذا لا يؤثر؟
إنه ديننا، إيماننا، أساس تفكيرنا وانبعاثنا من جديد. نؤمن بذلك، ونعاهد الله على ذلك، ونسلك هذا الطريق. ولذلك، ترون أن دعوتنا للعودة إلى فلسطين ليست دعوة سياسية كدعوة الناس الآخرين، الذين هم خبراء في شؤون السياسة، أفرادًا أو جماعات، شخصيات أو أحزابًا.
كلا، إن العودة إلى فلسطين صلاتنا، وإيماننا، ودعاؤنا؛ نتحمل في سبيلها ما نتحمل، ونتقرب إلى الله في سبيلها بما نتحمله من مصاعب، حتى ولو كانت المصاعب من أهلها. معانٍ تبرز في مثل هذا اليوم، والمعراج [هو] الدعوة إلى الخلود، والدعوة إلى السماء، والدعوة إلى الرؤية الحقيقية للشعور.
كما وأن شهر رجب، شهر مولد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). ففي روايات آل البيت أن شهر رجب هو شهر علي، وأن شهر شعبان هو شهر محمد (عليه الصلاة والسلام).
هذا الشهر، شهر علي بما لـعلي من معانٍ، فماذا نعرف نحن عن علي؟ هل نعرف لون عينيه؟ أو طول قامته؟ أو عمق أصابعه؟ أو ضخامة جثته؟ أو مقدار وزنه؟ أبدًا! نحن نعرف عليًا بمعنى الشجاعة، نحن نعرف عليًا بمعنى الكرم، نعرفه بمعنى البطولة، نعرفه بمعنى العبادة، نعرفه بمعنى التسامي والتسامح، نعرفه بمعنى الصدقة السرية المجهولة، نعرفه بفصاحته، نعرفه بعلمه. هذه المعاني تتراكم وتتجسد وتكون لنا صورة علي، نقف أمامه بإجلال واحترام، نواليه ونعاهده أن نتبع طريقه في حياتنا دائمًا؛ هذا هو شهره.
إذًا، أيها الإخوة المؤمنون، في هذا اليوم، يوم الجمعة يوم مراجعة الحسابات، حسابات الأسبوع السابقة نحاسِب أنفسنا قبل أن نحاسَب -كما يقول الحديث الشريف- والتفكير في الأسبوع القادم، يوم مراجعة الحسابات. نحن نتذكر أننا في شهر علي، وأننا في شهر المناسبات الثلاث، بعث الأمة، حياة الأمة من جديد. إسراء رسول الله، بما له من معنى ينعكس على الأمة وعلى مفاهيم حياتنا وتعاليمنا، ومعراجه المبارك.
ومن خلال هذه الأبعاد نتزود من قيادة علي، نأخذ من إمامة علي، نستقي من غدير علي، من بركة علي، من حوض علي، من كوثر علي. نأخذ زادًا، بطولة، قوة أعصاب... ذلك الرجل الذي يقول: لو اجتمعت العرب عليّ، لا أبالي أوقعتُ على الموت، أو الموت وقع علي. ذلك الرجل الذي يطلب منه أحدهم سيفًا، فيقول: ما هكذا يؤخذ السيف! فيأخذ سيفه من عدوه. ذلك الرجل الذي من كرمه لا يفرق بين التبن أو التبر، بين التبن أو الذهب عندما يقدم في سبيل الله؛ بهذه القوة، وبهذه العبادة، وبهذه الجرأة، وبهذا الإخلاص، وبهذه الرؤية الثاقبة. هذه هي أسلحة علي، نأخذ هذه الأسلحة، نأخذ هذه الوسائل، هذه القوة لكي نؤدي واجبنا المثلث، الآتي يوم المبعث والإسراء والمعراج، فنضيء بذلك ليلنا، ونشرّف بذلك حياتنا، ونرفع بذلك الكابوس الذي طالما استمر على وطننا ومنطقتنا.
إذًا، هذه الوسيلة، وهذا الطريق، وهذه المناسبة، وفي يوم الجمعة المبارك، يوم قبول الدعاء، يوم التقرب من الله، وفي المسجد، في بيت الله الكريم الذي لا يرفع، ولا يردع، ولا يبعد السائل عن بابه؛ نطلب أن يلهمنا، وأن يزودنا، وأن يمكننا من أن نكون بجدّ من أصحاب محمد وعلي.
فـمحمد (عليه الصلاة والسلام) وعلي تابعه، وتلميذه، وصهره، وابن عمه والمؤمن به. هذان ومن معهما عاشا في المجتمع الصعب، عاشا في مجتمع لم يكن يرضي طموحهما، ويقنع أفكارهما. هما غيّرا المجتمع. هما وضعا آثارهما على المجتمع، فحوّلاه مجتمعًا على شكلهما.
إذًا، لا يدعو المبعث، ولا الإسراء، ولا المعراج، ولا مولد علي ولا يوم الجمعة، لا تدعو هذه المناسبات إلى الاتكالية وتوقع التغيير وانتظار التحسن ووضعنا في موضع التفاؤل أو التشاؤم. كلا، إن المناسبات تقول لنا: غيّروا مسيركم، غيّروا أنفسكم، غيّروا وسائلكم، حتى تتمكنوا من أن تكوّنوا مجتمعًا سعيدًا لأنفسكم ولأولادكم. أما الاعتماد على ما سيحصل، وماذا يقوم به الآخرون، فليست هذه طريقة محمد وعلي، ونحن بإذن الله في هذه الطريقة سائرون.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات * وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ [العصر].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 378