تابع مؤتمر "كلمة سواء" الذي ينظمه مركز الصدر للأبحاث والدراسات أعماله أمس، لليوم الثاني على التوالي في فندق "الكومودور" في بيروت، في ثلاث جلسات تمحورت حول موضوع الحوار الإسلامي – المسيحي وحضرها عدد من رجال الفكر والدين والثقافة والإعلام بالإضافة إلى مهتمين.
الجلسة الأولى
ترأس الجلسة الأولى رئيس تحرير "السفير" طلال سلمان، وشارك فيها نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب انطوان الجميل والشيخ الدكتور سعيد البوطي.
قدم سلمان المحاضرين قائلاً: ان الحاجة إلى الحوار مع الذات أولاً ثم الآخر شرط حياة الآن، والحوار معطل مع الأسف، أكاد أستدرك فأقول: ان نوعاً من الحوار البائس مع العدو هو المفتوح الآن، يتحدثون عن حوار بين الأديان، ولكن الحوار بين المؤمنين يكاد يكون متوقفاً، ويسود مناخ إرهابي يكاد يعطل الحوار داخل المنتمين إلى الدين الواحد ذاته.
أضاف: الأمة عطشى إلى الحوار، إلى أن تحاور ذاتها أولاً لكي تعرف ذاتها ولكي يعترف عناصرها بعضهم بالبعض الآخر "فعسى هذه البداية المتواضعة التي أقدمت عليها مشكورة مؤسسات الإمام الصدر أن تكون خطوة أولى على الطريق، وتحية للسيدة رباب الصدر ولمركز الأبحاث ولجميع من أسهم في الدعوة إلى الندوة وتنظيمها لنستعيد هنا ومعكم لغة تكاد تكون منسية ومهجورة هي لغة الناس".
قبلان
تميزت كلمة المفتي قبلان بخروجها عن النص المكتوب ودعا إلى الحوار مع النفس قبل الحوار مع الآخر وقال: أسألكم هل بيوتنا وعائلاتنا وأحزابنا متفقة، لماذا لا يتواضع واحدنا للآخر، لماذا لا نلغي المذاهب ونصبح جميعاً أتباع محمد. أضاف، ان الحوار مطلوب وعلينا أن نبدأ من المدرسة والحي والبيت والجامعة وأن نوحد جامعتنا وكتابنا المدرسي ولغتنا متسائلاً: لماذا لا يحب الشيعي أخاه الشيعي والسني أخاه السني والدرزي أخاه الدرزي، ولمذا لا يحب الشيعي أخاه السني ولماذا لا نتنازل الواحد للآخر كما تنازل علي لأن مصلحة الأمة تتقدم على مصلحته.
وأكد قبلان أن الأديان جاءت في خدمة الإنسان فلماذا تختلف على الإنسان ولماذا لا نعطي دوراً للكفاءات ولأولاد الفقراء الذين يزرعون الأرض بحثاً عن لقمة عيش وأي حوار نريد هل هو حوار الأغنياء أم الأغبياء وحوار السلطة وحوار الجالس في قصره سواء أكان شيخاً أو حاكماً، وتساءل: هل دعمت الثورة الإسلامية في إيران فقراء لبنان وهل دعم الفاتيكان الفقراء في لبنان؟ كلا لم يدعمهم إلا الله.
واعتبر ان كلمة سواء هي كلمة اعتدال ونهج سلكه الإمام الصدر. وقال: ان ما نعانيه اليوم هو تماماً ما كان يحذر منه الإمام الصدر، ولهذه الأسباب ولهذه المنهجية الإيمانية والوطنية والإنسانية كانت المؤامرة على الإمام الصدر التي دبرتها أيدي التآمر والإجرام لأنه حارب التقسيم ووقف ضد التوطين والإقتتال الطائفي والمذهبي البغيض.
الجميل
وتطرق الأب الجميل إلى ثلاثة أخطار تواجه الديانتين المسيحية والإسلامية: الخطر الأول وهو الصهيونية العالمية، والصهيونية لا تعني اليهودية التي هي ديانة توحيدية يجمعها والإسلام المسيحية إيمان ابراهيمي مشترك بالله الواحد. وقال ان الصهيونية تحاول تقويض كل من المسيحية وخاصة المسيحية المشرقية والإسلام عبر أساليب متعددة أبرزها وأقواها الإعلام وذلك عبر عدد من الجمعيات التي تضمر غير ما تعلن مثل أتباع "شهود يهوه" وهم الأكثر نشاطاً في العالم وكذلك "الماسونية" التي تهدف في تعاليمها السرية والمغلقة إلى هدم كل دين.
أضاف الجميل: الخطر الثاني وهو الأصولية في الدين "والأصولية في معناها الأول عودة إلى الأصل والجذور والينابيع لحياة دينية تعزز علاقة الإنسان مع ربه ومع قريبه وتلك هي الأصولية الإيجابية التي نتمناها في كل دين ومذهب. لكن إذا انحازت عن أهدافها فقدت هويتها وتحولت إلى بطش وعنف في التعامل مع الآخرين وتذرعت بالشريعة والتقاليد لتفرض نظامها بالقوة.
واعتبر ان العنف باسم الله هو الخطر الأكبر الذي يهدد بالتشكيك الدائم والعميق بجوهر الرسالات السماوية ويساهم في تغذية النزعات المادية الإلحادية وتزداد هذه الأصولية خطراً عندما تدعمها مؤسسات دينية أو دول تمدها بالمال والسلاح فالأصولية تشكل أكبر خطر على الأديان، غير أن الدعوة والتبشير هما حق لكل دين ولكن من شروطهما ان يحترما الحريات فـ "لا إكراه في الدين".
وأشار إلى أن الخطر الثالث هو خطر المادية المعاصرة الآتية من الغرب وتدعو إلى اعتماد الإنسان على قواه الذاتية متخطياً لا بل محتقراً كل المعطيات الدينية ليبلغ إلى تحقيق ذاته "وكيف يمكننا تحقيق ذاتنا دون الله".
البوطي
وارتجل الشيخ البوطي مداخلة حدد فيها ضرورات الحوار: الواجب الرباني "ولا بد أن نستشهد أن مولانا وخالقنا الذي نقف جميعاً تحت مظلة العبودية له يدعونا إلى الحوار وهذا الدافع ينبغي أن يكون هو المحرك لنبضات قلوبنا لعملية الحوار"، والضرورة الثانية هي ضرورة التعاون الإنساني "أليس الإنسان إنساناً اجتماعياً بطبعه وهل يكمن معنى كونه اجتماعياً إلا في أنه يسعى إلى مد جسور التآلف ومن ثم التعاون إلى سائر بني جنسه". وقال ان الأخوة الإنسانية هي كالشجرة بحاجة إلى سقي دائم حتى تثمر وسقيها يتمثل في الحوار.
وأشار إلى ضرورة أخرى تتمثل بالقيام بحق المواطنة وهي عبارة عن حق وواجب "والمواطنة هي النسيج الواحد الشامل لكل من يعيش فوق أرض واحدة ويملك حقوقاً مشتركة في ذخر هذه الأرض وفي باطنها ومن خيرها فكيف نتصور أن يطمع عدو في غرفة أو في جزء من هذه الذرة ولا يكون هناك أي ضرر لكل من يمتلكون هذه الدار".
وقال: ان الضرورة الأخيرة تتمثل في رعاية الجذور الإيمانية المشتركة فكلنا ننطلق من جامع واحد هو أننا نؤمن بأننا عبيد لله وبأن هذا الصانع هو مولانا وخالقنا وهذا الكنز من الإدراك لا بد من حمايته.
أضاف: أما الهدف الأول من الحوار فهو حماية صلات البر بين فئات الأمة وطوائفها والهدف الثاني هو تنمية الجامع المشترك بين الطوائف والفئات وهو الإيمان الحقيقي بالله والهدف الثالث هو تغذية عوامل الوحدة التي هي مصدر القوة.
وحدد البوطي منطلقات الحوار بالتحرر من العصبية والذاتية والتعامل بورقة الحب الحقيقية وأن يكون الحوار منطلقاً في دائرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية من حوار المسلم للمسلم وحوار المسيحي للمسيحي وحوار المسيحي والمسلم.
الجلسة الثانية
وبعد استراحة قصيرة انعقدت الجلسة الثانية برئاسة لور مغيزل وقالت في مستهلها: نحن البشر بحاجة كي نرتقي ونتقدم ليس إلى قيم مجردة بل إلى نماذج حية من البشر يصح التماهي بها والإستنارة بهديها وبين هؤلاء البشر يتصدى الإمام موسى الصدر رسولاً وشاهداً. وقدمت للأب بشير عون، فألقى مداخلة بعنوان "المسيحية في لبنان بين الدين والدنيا" وانتهى إلى استخلاص ثلاث حقائق ثابتة في الفكر المسيحي: الأولى مفادها أن المسيحية تروم خلاص الإنسان كله ولاتنتبذ منه شيئاً مهما تضاءلت قيمته والثانية فحواها أن المسيحية شديدة التطلب في بحثها عن أفضل الشرائع البشرية في إدارة شؤون المدينة الأرضية وليس صادقاً القول إنها تأبى التعبير التاريخي عن ذاتها ولو ظل هذا التعبير عنها ناقصاً في نطاق نهج سياسي بين وشريعة أخلاقية صريحة والحقيقة الثالثة مؤداها أن شرعة حقوق الإنسان ونهج الديموقراطية هما من أحسن الأطر القانونية التنظيمية الممكنة في يومنا الحاضر لإدارة المجتمع البشري.
وختم بالقول: "لا يسع المسيحية اللبنانية أن ترضى بإخلاء المساحة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية والتشريعية لما يزفه إليها الإسلام من شريعة مستقاة من القرآن وموسومة في تطبيقها بثبات الوحي النبوي وأزلية معانيه. وكذلك لا ترضى المسيحية اللبنانية في واقعها الحاضر، بديلاً عن النظام الديموقراطي الحر الذي يرعى حقوق الإنسان، على نحو ما تشير إليه الشرعية العالمية لحقوق الإنسان. بيد أنها، بسبب من طبيعة المجتمع اللبناني المتنوع دينياً، تؤثر التعاون مع الإسلام اللبناني في سبيل لبننة هذه الشرعة والنظام الديموقراطي المنبثق منها، وذلك بحسب ما يوائم مقتضيات التسامي المنطوية عليها الديانتان المسيحية والإسلامية في مختلف جماعاتهما البشرية واصطباغاتهما الفكرية.
شرف الدين
وكان ثاني المتحدثين في الجلسة السيد حسين شرف الدين فعرض لموقف الإمام الصدر بالنسبة لموضوع الحوار الإسلامي- المسيحي اعتماداً على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكيفية تطبيق هذه النصوص عملياً، إذ أنه بدأ بممارسة فعل الحوار قبل طرح أفكاره. وقدم أمثلة حية عن أسلوبه العملي في موضوع الحوار وخلص إلى التساؤل من هو الآخر بالنسبة للإمام الصدر بعد أن تطرق إلى أن كل من آمن بالله وكتبه ورسله ويومه الآخر هو شقيق وأخ للمسلم، أما الآخر فهو الذي لا يؤمن بالله. والآخر في حياتنا الحاضرة هي الصهيونية وإسرائيل وليس هناك من آخر غير هؤلاء.
رسالة من البابا إلى الصدر
وجه البابا يوحنا بولس الثاني رسالة إلى السيدة رباب الصدر، عبر السفير البابوي المونسنيور بابلو بوانتي، جاء فيها: إن البابا، إذ تسره الدراسات حول المساعي الروحية التي يعيرها مركز الإمام موسى الصدر انتباهه، يتمنى أن يكون البحث عن الله لدى المؤمنين في الشرق الأوسط ولدى الجميع ذوي الإرادة الطيبة في المنطقة مناسبة لحوار أكثر عمقاً يسهم في بناء مجتمع أكثر إخاء. وان قداسته يلتمس ان يمدك العلي القدير بعضده".
المولى
وبعث الدكتور سعود المولى بمداخلة مكتوبة قال فيها: ان بناء الحوار والعيش الواحد على قاعدة المعرفة والتضامن هو الضمانة الوحيدة للنجاح: معرفة الآخر واحترامه واحترام عقيدته وفكره وانسانيته وحقوقه، والتضامن في شراكة الحياة والمصير. ومن هنا الدور المركزي والكبير للمسيحية العربية بالشراكة مع المسلمين، في إطلاق هذا الحوار على أسس جديدة من دون المرور عبر الوسيط الغربي. وهذا يقتضي من المسلمين إعادة وصل ما انقطع في ذاكرتهم وتاريخهم ووعيهم، وإعادة التأسيس المعرفية للحوار كأصل ومبدأ، كقيمة إنسانية ثابتة، وللتعايش ضمن التنوع والإختلاف كسنة إلهية... إن هذا يعني ضرورة الإنطلاق من الدين وليس من التاريخ السياسي أو القانوني للعلاقات الإسلامية المسيحية ضمن إطار منطق الدولة ونظامها... "ان جعل الدين منطلقاً للحوار لا موضوعاً له" (حسب ما يقول الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين) هو الكفيل بتجاوز العقبات وتحقيق الآمال.
جلسة بعد الظهر
وعقدت بعد الظهر جلسة ترأسها السفير السابق فوزي صلوخ وتكلم فيها كل من عضو اللجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار عباس الحلبي والباحث جورج ناصيف، وهاني خسروشاهي والدكتور طلال عتريسي والدكتور مهدي فيروزان.
الحلبي
اقترح الحلبي مجموعة إجراءات حتى لا يبقى التعايش مجرداً من المعنى، تشمل الآتي: إنشاء وزارة خاصة للوفاق الوطني، البحث منذ اليوم بقانون الإنتخاب الجديد، إنشاء فرع في الجامعات اللبنانية لدراسة الفوارق الدينية والسعي إلى معرفة الآخر، تجاوز الحالة الطائفية من دون إنكارها، الإتفاق على قراءة الأحداث التاريخية على قاعدة الأخذ والعطاء، وضع ضوابط للمؤسسات التعليمية من دون المساس بحرية التعليم، تحقيق الإصلاح الإداري وعزل الإدارة عن التأثير السياسي، تعزيز دور اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي – المسيحي، إقامة المخيمات الشبابية المختلطة، وخلق الأطر الثقافية والمدنية التي تساهم في تكريس العيش المشترك.
ناصيف
واعتبر ناصيف ان التعايش ليس حاجة لبنانية داخلية فحسب، بل هو حاجة حضارية عامة، ولاحظ ان الحرب وان ولت لكنها لم تحل مكانها لسلم أهلي حقيقي ، مشيراً إلى أن ما نعيشه أدنى إلى الحرب الباردة، حيث اجتماع عناصر قد توقد الحرب، وان بعد سنوات. وقال: ان الإصلاح السياسي الذي قال به اتفاق الطائف أفرغ من مضمونه، فأوغلنا أبعد في الطائفية عوض أن نقترب من إلغائها، وقانون الإنتخاب بات أسوأ، وأصحاب الكفايات يطردون من الوظائف، ليحل محلهم حملة المباخر من السقماء، والعلاقات المسيحية – الإسلامية ليست في خير تماماً، وكم هي تشتاق إلى قامة الإمام وعباءته.
خسروشاهي
ركز خسروشاهي على مقام المسيح ووالدته في القرآن الكريم، مشيراً إلى أن ذكرهما ورد في 175 آية، واعتبر أنه لولا القرآن لما كان للمسيح كل هذه القيمة.
عتريسي
وقال عتريسي أنه من خلال مراجعة العديد من الكتب المدرسية في لبنان، خصوصاً كتب التربية المدنية، يتبين لنا أن صورة الآخر تغيب تماماً عن هذه الكتب التي تنزع إلى تقديم صورة أحادية عن الذات.
وأضاف: ثمة من يعتبر هذا النوع من التعليم الديني في مدارس لبنان خطراً على الحياة النفسية والعقلية والإجتماعية، لأن هذا التعليم يقوم في أحد جوانبه على إبراز الفوارق والمفاضلة بين الأديان، مشيراً إلى أن التفرقة الدينية تبلغ ذروتها في المدارس الرسمية وتحدث عن وجهة نظر تقول اعتماد التعليم الوصفي عن الدين وليس تعليم الدين كبديل عن السائد حالياً.
فيروزان
ورأى فيروزان ان الإسلام والمسيحية يشتركان في القول بأن "رؤية الجمال في هذا العالم يجب أن تكون حالة سابقة لرؤية السعادة في العالم، والجمال الأرضي يجب أن يذكر بالمثال الأعلى للجمال في الملكوت ويعكس الأعيان الثابتة لذلك العالم".
وتابع: من هنا، فإن مفهوم الله وكماله وحقيقته المتعالية والجمال المطلق هي مفاهيم مشتركة بين الأديان الإلهية التي تنظر إلى الإنسان على أنه حامل للأمانة الإلهية والعلم الإلهي ومظهر لصفات الحق وأسمائه وخليفته في الأرض.
أضاف: ان أول خطوة على طريق الحوار الإسلامي – المسيحي هو الحوار الذي دار بين الإمام علي عليه السلام و "جاثليق" حوالي العام 657 ميلادي، وذروة هذا الحوار كانت في أوائل القرن التاسع الميلادي أي القرن الثاني الهجري، في عهد الإمامين الصادق والرضا.
وتقوم الشخصيات المشاركة في مؤتمر "كلمة سواء" وعائلة الإمام الصدر بزيارة مقابر شهداء مجزرة قانا اليوم، على أن تصدر عن المؤتمر سلسلة مقررات وتوصيات بعد الظهر تتركز حول آفاق الحوار الإسلامي – المسيحي في ضوء الإقتراحات المرفوعة من قبل المشاركين.