كلمة سماحة القاضي الشيخ عباس الحلبي في الجلسة الثالثة من مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر
رؤية الإمام إلى التغيير السياسي في لبنان
يكتسب مؤتمرنا هذه السنة بعدًا مميزًا يتمثل بقرب جلاء الحقيقة حول جريمة إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه. والأمل كل الأمل أن يستجيب القيّمون على ليبيا الجديدة بعد مقتل الطاغية وسقوط زمرته ونظامه برفع الغطاء عن هذا اللغز المحيّر وأن يتمكن العالمان العربي والإسلامي من معرفة مصير الإمام ورفيقيه.
وإن غاب الإمام فهو أبدًا حاضر بيننا، بطيفه، بعباءته، بفكره الوقاد، وحضوره الوهاج. ليست المرة الأولى التي تتاح لي فيها فرصة المشاركة في مؤتمر "كلمة سواء". ويسعدني هذه السنة أن يقع الاختيار عليّ لبحث موضوع لطالما تساءلت مثل غيري ماذا يبغي الإمام الصدر في حركته من إحداث التغيير وما هو التغيير السياسي المقصود في فكره وما هي رؤيته فيه؟
لقد عاصرت الإمام في بداياتي وتعرّفت عليه وتقرّبت منه فشَملني بمحبته وتمكنت من تنظيم أكثر من اجتماع له، بعضه مع المثقّفين والجامعيين الدروز في مركز رابطة العمل الاجتماعي في بيروت وبعضه الآخر مع طلاب من الجامعة اليسوعية بفروعها الحقوق والعلوم السياسية والإقتصادية. كان ذلك قبيل الحرب اللبنانية التي اشتعلت سنة 1975 وفي عز تحرك الإمام والمهرجانات تتوالى في المناطق والشعارات ترتفع والتجمّعات تتكاثر والمؤيّدون كذلك. ولكن المعارضين كانوا في المرصاد وهم كثر أيضًا. وأهم ما بقي في الذاكرة من تلك الحقبة فضلًا عن المحبة والاحترام أن الإمام يسعى إلى تغيير الوضع ليس فقط داخل طائفته ولكن أيضًا وخصوصًا على المستوى الوطني. ولا أبالغ إن قلت أنني عايشت جزئيًا هذا المسعى نحو التغيير ولكن لاستكشاف الأبعاد الوطنية في فكر الإمام ورؤيته للتغيير كان لا بد من الاستعانة بمؤلفاته والمنشورات الصادرة عنه لاقتفاء فكره في تحديد رؤيته وبلوغ أهدافه.
وفي ظني أن أبرز ما تركه الإمام من أثر في هذا الخصوص وفي توضيح رؤيته للتغيير السياسي هو الوثيقة (1) التي أصدرها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وسوى ذلك من النصوص التي تركها وعمل على جمعها ونشرها مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات والذي يستحق الشكر عليها.
ولفهم هذه الوثيقة وهذه النصوص لا بد من استذكار تلك المرحلة التي بدأ فيها الإمام حركته وسعيه لإحداث التغيير. لأنه لا يمكن فهم مآل الرؤية إذا لم نتفحص الإطار السياسي المحلي والإقليمي التي أطلق فيهما مواقفه.
لبنان لم يخرج يومًا عن عين العاصفة وبصورة خاصة بعد هزيمة 1967 ونشوء الحلف الثلاثي سنة 1968 الذي أطاح بامتداد العهد الشهابي الثاني وأسقط المكتب الثاني وأضعف الدولة وأتى بالرئيس سليمان فرنجية إلى الحكم بفارق صوت واحد كان نذيرًا للانقسام العامودي الذي كانت فيه البلاد مثل هذه الأيام منقسمة إلى نصفين الجبهة اللبنانية من جهة والحركة الوطنية من جهة أخرى.
ولم يكن الانتشار الفلسطيني المسلّح في بعض مناطق الجنوب وبيروت والضواحي إلا ليزيد من حدة الانقسام السياسي وبالتالي الطائفي. ولم يطل المقام بالفوضى المسلّحة التي عمّمتها القيادات الفلسطينية من الاصطدام بالجيش اللبناني المشكّك بشرعيته من قبل المسلمين والذي يعتبره المسيحيون بالمقابل حامي الدولة فجرى قصف المخيّمات الفلسطينية بالطائرات الحربية اللبنانية مما فاقم الأوضاع الأمنية والسياسية وعزّز الاشتباك السياسي التعقيدات الطائفية.
كانت الطائفة الشيعية يومذاك مخترقة من الأحزاب الوطنية والشيوعية والحركات الفلسطينية ولم يكن لها قيادة ولا توجّهاً مستقلًا ولا دورًا فاعلًا بل كانت طبقتها السياسية جزءًا من لعبة تقاسم السلطة في البلد. والجنوب تجري على أرضه الصدامات وردات الفعل الإسرائيلية والبقاع منطقة الحرمان والبعد عن منافع الدولة ومرتع الإهمال والخروج عن القانون.
لا يمكن فهم حركة الإمام الصدر إن لم نفهم المحيط الذي تحرك فيه والبيئة التي انطلق منها. فعمل على محاور عدة أذكر منها محور المؤسسات الإنسانية والتربوية والاجتماعية والمحور الديني الشرعي وهما محوران لن أتوقف عليهما على أهميتهما ولكن لا بد أن اتوقف عند حركته في تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لكي يكون للطائفة قيادتها المنتخبة وحركة أمل التي أراد من تأسيسها مقاومة إسرائيل واسترداد القرار الشيعي وقرار الجنوب من سالبيه وحركة المحرومين ذات البعد الوطني لأن الحرمان ليس وقفًا على طائفة أو منطقة وأحسب أن هذه المؤسسات هي إرث الإمام السياسي الذي انتقل بموجبها من مرحلة التفكير إلى مرحلة العمل والتنفيذ.
لقد لاحظ الإمام أنه بخلاف السنة والدروز ليس للشيعة تمثيل مذهبي بل كان الشيعة ملحقين ضمن المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى وتجربة التنظيم المذهبي غريبة عنهم وبخاصة أن عضوية هذا المجلس تتم بالإنتخاب فلا سطوة للإقطاع عليه ولا طغيان شخصي بل تحرر من التصاق البيئة بالنزاعات الإقطاعية التي كان يعتقد أنها لم تقم بما يجب لتحسين الأوضاع الاجتماعية للشيعة. فإرادة التغيير كانت عازمة على نقل الشيعة من مرحلة لبنان القديم إلى مرحلة التجديد في إبراز الشخصية الوطنية وتعزيز الشراكة مع الطوائف الأخرى من الندّ إلى الندّ وليس بطوائف درجة أولى ودرجة ثانية.
ولإعطاء هذا المجلس دوره وإبراز الشخصية العصرية صدرت عنه الوثيقة السياسية. والإرث الآخر المعبر عن الرغبة في التغيير هو أفواج المقاومة اللبنانية بمفهومها الأصلي وبغطائها الوطني كانت على ما ذكرت مقاومة إسرائيل لإبقاء الجنوب محررًا ولم يكن الجنوب بعد قد تعرّض للاحتلال بل كان مسرحاً لعمليات الانتقام التي كانت تنفذها القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والذي كان يدفع ثمنها اللبنانيون في الجنوب واسترداد قرار الجنوب من يد المسيطرين عليه.
أما الإرث الثالث الهام الذي يجدر البدء به لأنه الغطاء الوطني العاكس للشراكة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين وهي حركة المحرومين التي جمعت اعلامًا وأقطابًا ومرجعيات دينية وثقافية واجتماعية من مختلف الطوائف ذلك أن في فكر الإمام الحرمان لا طائفة له ولا منطقة له بل هو عام عابر للطوائف والمناطق.
لقد رأى الإمام أن المجتمع يُبنى بواسطة الإنسان ولأجل الإنسان (2). "إن رفع مستوى المحرومين لا يتم على حساب المرفّهين" (3) الحرمان ليس وقفًا على الناس فالوطن أصبح محرومًا بوجوده وإنسانه بسمعته وتراثه.
لقد كان الجامع المشترك في رؤية الإمام للأبعاد الثلاثة التي أشرت إليها التغيير حتى على مستوى القناعات الإيمانية "فالإنسان بطبيعته يطمح نحو الكمال وعندما يتحرك نحو الكمال إذا وجد في طريقه صعوبات يتصدى لهذه الصعوبات ويتقدم ...." (4).
وكيف له أن يركن إلى حال المجتمع الراكد الذي يقول عنه "لا نريد هذا المجتمع ونفتش عن التغيير ولا نهرب ولكن لسنا معترفين بالإفلاس" (5) ويصنف المجتمعات إلى أربعة أصناف أعددها دون الدخول في مصطلحاتها وتفسيراتها الأول إما أن يستسلم المرء للواقع يأخذ ولا يعطي، والثاني من لا يرضى بالوضع الاجتماعي أو البيتي أو الشخصي أو القومي فيهاجر، والثالث وهو الأفضل برأيه لا يقبل بالمجتمع ولا يهرب إنما يريد أن يغيّر، ولكنه يصنف نفسه في الفئة الرابعة التي يعتقد "أنه في هذه الأرض وتحت هذه السماء وفي هذه البيئة استعملت وسيلة للتغيير ونفعت..... الإسلام" "أولئك الذين يستعملون الثورة المؤمنة والنضال الأصيل" (6).
وقد عوّل الامام ليس فقط على المؤسسات التي أنشأها لإحداث التغيير بل تعدى ذلك أيضًا إلى التربية وهي المدخل الصالح لأي عمل إصلاحي متسائلًا "كيف نحن نربي الناس؟ وكيف يتصرف المربون في تربية الناس" وأن على المرء ألا يستسلم أو يهرب بل يجب أن يسعى إلى التغيير مهما كانت الصعاب مستشهدًا بموقف الحسين عليه السلام: "لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد" (7) .
تلك شذرات من فكر الإمام عبر بهذه المؤسسات إرادته في التغيير.
لقد قلت في موقع سابق وأمام نخبة كريمة أن الإمام الصدر أخرج المارد من القمقم ولكن لم يخرج يومًا عن فهمه لمعنى لبنان ودوره في هذه المنطقة كما لم يخرج يومًا عن رغبته في تعزيز الشراكة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين ولا في تعزيز التقارب بين المذاهب الإسلامية المختلفة. لم يكن هناك بعد تباين بين السنة والشيعة كما نعيشه اليوم مع الأسف. ولو قدر للإمام أن يحيا المرحلة الحالية التي نعيشها بإسقاطاتها وتبعاتها فماذا عساه يقول؟ واسمحوا لي هنا من موقفي ومن حقي أن أتساءل ومن موقع الضنين والحريص: أي دور لبعض الشيعة اليوم في حفظ لبنان المتعدد والمنفتح وتعزيز رسالته كجسر حوار بين الثقافات والحضارات في ظل إغلاق بعض المناطق؟
وأي مساهمة يقدمونها اليوم لتعزيز الشراكة بين المسلمين والمسيحيين والفرز السكاني والمناطقي قائم وشراء العقارات والانتشار المسلّح في كل قمة جبل وهضبة وسهل؟
وأي دور للقيادات الشيعية في تلافي المواجهة السنية- الشيعية بعد 7 أيار واعتباره يوما ًمجيدًا والتهديد بتكراره؟ وهل مدرسة الإمام الصدر لا تزال حية بالنزاهة الفكرية والترفّع عن المكاسب المادية وتقديم النموذج الأفضل لبناء الإدارة والقضاء والجيش وسوى ذلك من مؤسسات الدولة؟
وهل كان ليقبل ربط لبنان بالمحاور الإقليمية وبإعلاء لغة العنف واستيراد العادات والتقاليد والطقوس والآراء الفقهية وإسقاطها على هذا المجتمع المتنوّع الرائد في حفظ خصوصيته وانفتاحه على كل جديد؟
وماذا كان ليقول لو عاصر الطائف والدستور المعدّل ورأى تطبيقاته الناقصة والمشوّهة؟
التغيير في فكر الإمام أو التغيير على فكر الإمام
إن الطائفة الإسلامية – الشيعية في لبنان تعتز بكونها من دعائم كيانه الراسخة والتي ساهمت بصورة فاعلة في نضاله الطويل من أجل استقلاله ولم تتأخر في تقديم التضحيات لصيانة وحدة لبنان وسلامة أراضيه وبقائه ضمن الواقع العربي. وقد كانت للإمام قراءة خاصة في إبقاء لبنان ضمن الواقع العربي وحتى في أصعب المحن ويوم وقف بعض العرب متفرّجين ابان محنة لبنان، تمسك الإمام في بقاء لبنان ضمن واقعه العربي ولم يسعَ إلى ربطه لا في محاور إقليمية ولا مطالبًا بالخروج عن دوره وموقعه العربيين. وهو لم يضع كامل المسؤولية على إسرائيل ولم يغفل عن المسؤولية الوطنية للبنانيين في حفظ بلدهم وحريته واستقلاله كما لم يُسقط من حسابه الصراع الدولي بين يمينٍ ويسار وكنا لا نزال في ظل الحرب الباردة ولا أسْقَط مسؤولية الفلسطينيين عن تلاعب قياداتهم في أوضاع لبنان ولكن لم يسقط أيضًا مسؤولية اللبنانيين كمثل رجال الدولة الذين يرون الأمور على حقيقتها والأوضاع على واقعيتها ولكنه كان يرى الجسم اللبناني قد فقد مناعته الطبيعية وأمسى عرضة لجميع المضاعفات.
لقد رأى الإمام أن الوطن ليس أرضًا وحسب بل هو مناخ استقرار وطمأنينة وثقة في إخاء حقيقي وحرية مسؤولة وطموح على بساط العدالة الاجتماعية في إطار تكافؤ الفرص وفي احترام حضاري لكرامة الإنسانية "وإن البدء بالعمل الواقعي هو معايشة المواطنين المحرومين والسعي المباشر إلى حل مشاكلهم تلك هي بداية الحل" (8). وأحسب أن تركيزه على العدالة الاجتماعية هو الذي دفعه إلى تأسيس حركة المحرومين وقد رأى انعدام تكافؤ الفرص بين اللبنانيين ولا بين مناطقهم. "إن الحرمان والأخطار لا تفرق بين الجنوب وعكار والبقاع وبيروت وبين الطوائف" (9) "والحركة قامت لتصحيح المناخ السياسي لا لاختيار السياسيين" (10) .
إن إعلاء هذه الفكرة هي التي كرّسها لاحقًا دستور الطائف في إقراراه بمبدأ الإنماء المتوازن في جميع المناطق ليس في الجنوب وحسب وقد خرج الجنوب اليوم من دائرة الحرمان ولكن في البقاع أيضًا الذي يعاني الضائقة والحرمان كما في سائر المناطق اللبنانية لأن بعض من وُلّي تنفيذ الطائف حصر الإنماء في مناطق معيّنة دون أخرى وضاعف الإنماء في بيروت على حساب سائر المناطق.
وقد كان الإمام من أوائل الذين دعوا إلى نهائية الكيان اللبناني أمام المد العروبي القومي الذي كان مسيطرًا على القلوب والعقول وأمام بعض الإيديولوجيات الحزبية التي تعتبر لبنان وطنًا مرحليًا ينحو نحو الوحدة العربية أو السورية، فاعتبر كما اعتبر سواه من أصحاب هذه الفكرة أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه دون إنكارٍ لصفته العربية كمشروع حضاري وليس كإيديولوجية جامدة يسعى إليها بعض الحزبيين بما ينفر حتى أكثر المتحمّسين إلى العروبة. هذا اللبنان المنفتح على عروبته لا يكون منغلقًا على الإنسانية جمعاء، وهذا أيضًا ما كرّسه اتفاق الطائف بالإعلان عن أن لبنان عربي الهوية والإنتماء وعضو فاعل في المجتمع الدولي ومقرًّا بشرعة حقوق الإنسان وهذا نفَس الإمام الصدر معبّرًا عنه في مقدمة الدستور التي تعتبر ميثاقًا لبنانيًا – إسلاميًا – مسيحيًا معًا.
لقد انحاز الإمام إلى لبنان كما نعرفه اليوم وعبّر عن عدم قبوله بالتقسيم أو تحجير الصيغة اللبنانية والقيام بأية تسوية على حساب الوطن اللبناني أو تشويه وجه لبنان الحضاري. وهذه المبادئ التي أرساها الإمام الصدر هي نفسها التي تكرّست بالدستور اللبناني حيث لا تجزئة ولا تقسيم وإن الوحدة الوطنية اللبنانية هي عماد قيام لبنان واستمراره ولكن الصيغة اللبنانية تأخذ بالاعتبار المتغيرات دون أن تؤدي إلى إيذاء الشراكة الإسلامية المسيحية التي تُبقي معنى لبنان. وقد رأى أن الدستور ليس وحيًا منزلًا لا يمكن تغييره (11) .
لقد عرض الإمام تصوره السياسي للإصلاح المطلوب في النظام ولكنه يرى نفسه وطائفته جزءًا مكونًا من الوطن وليس وحيدًا ينفرد بتصوّراته واقتراحاته للإصلاح. على أن الطائفة ليست واحدة لتفرض ما تشاء ولكنها جزء من كل. وقد رفض الإمام التغيير بالعنف لا لأن الوطن الصغير حرام عليه العنف والبنية اللبنانية معقدة التركيب فحسب بل لعدم جواز مسك النار الأصابع ما دامت الوسائل الديمقراطية متوافرة مبدئيًا وتنظيم استعمالها ممكنًا ومرجواً (12)... وأحسب لو قدر للإمام أن يعاصر المرحلة الحالية في لبنان فماذا كان يقول في إعطاء الأوامر لأبناء الطائفة ولسائر الطوائف. لم يكن الإمام من أتباع ادعاء "الأمر لي" بل كان ليقترح ما اقترحه من إصلاحات بما لا ينقص من حق سائر الطوائف في الاقتراح ولا في الاستئثار بالسلطة حتى داخل طائفته لم يطلق مقولة الأمر لي بل كان قابلًا للتنوع داخل الطائفة وبالتأكيد داخل الوطن. لقد عرّف الإمام الطائفية على أنها "التعصب لأفكار ومعتقدات تنتسب في الأصل إلى دين معيّن دون القدرة على إيجاد المبررات العقلية لهذا التعصب تجاه الآخرين سوى أنها العادات والعقائد الموروثة عن الآباء ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾ [الزخرف، 23] (13). ولا علاقة لها بالدين لأن الدين هو ما يدين به الإنسان ويسلم به سواء كان مصدره الإله أم البشر، فالدين الدعامة المتينة لتحرير الإنسان ولمجده ولوحدة أبنائه يرى اليوم محبوسًا في كهوف الطائفية (14).
وأحسب أن اتفاق الطائف أجاب على ما كان يؤرق الإمام في الصيغة اللبنانية بتطمين المسيحيين على اعتبار أن قلق بعضهم "كان ذريعة للحفاظ على الامتيازات الفئوية" فنص الاتفاق على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بغضّ النظر عن العدد وقد كان يرى أن المسيحيين هم عناصر الاستيعاب والنقل والتفاعل (15) وكذلك طمأن الطوائف الإسلامية بحيث لم يعد عامل "الغبن لديهم بابًا للنزاع" بنقل صلاحيات السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعًا.
لقد تصدى الإمام إلى مسألة الطائفية فهي التعصب الأعمى والتقوقع على هذا الذات ضمن الطائفة الواحدة واستعداء الآخرين فرآها الخطر الحقيقي على الدين باعتبارها الإطار الذي يتحرك من خلاله أصحاب المصالح من سياسيين ومترفين. إنها مطية الإقطاع والمستغلين والمتزعمين والساعين وراء المناصب... أولئك الذين يستفيدون من نمو الشعور الطائفي لأنه ضمان استغلالهم وستار هيمنتهم وسيطرتهم (16). بخلاف الدين الذي هو بنظره الدعامة المتينة لتحرير الإنسان ولمجده ولوحدة أبنائه يرى اليوم محبوسًا في كهوف الطائفية (17) .
لم يغلق باب الاقتراحات. فكان يعتبر أنه قابل لكل ما يجمع عليه اللبنانيون من اقتراحات أخرى حتى ولو قدمت من أخصامه. وهنا يطرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية والنقاش الذي يدور في كل مرة حوله. إن وثيقة الوفاق الوطني قد حددت الآلية لإلغاء الطائفية السياسية ولم تقل بإلغائها، وأعتقد أن الإمام الذي وصم الطائفية بأبشع النعوت كان ليتفاجأ بتجار الطائفية الذين يتوسلون الدين في ارتكاباتهم السياسية، "هم تجار الأديان من الساسة المخادعين للشعب خدمة لمآربهم وامتيازاتهم الخاصة هم أعداء الدين والشعب ولو صلّوا وصاموا لأن الدين يعلّم بأن: لا ننظر إلى طول ركوع المرء وسجوده لأنه يمكن أن يكون قد اعتاد ذلك فلو تركه لاستوحش ولكن علينا أن ننظر إلى صدق حديثه وأدائه للأمانة (18) .
لم يكتفِ الإمام باقتراح الإصلاح في بنود السياسة على أهميتها بل تعدى ذلك إلى تقديم الاقتراحات في الإدارة في كيفية عمل المؤسسات الدستورية في الدفاع عن الوطن والأمن الداخلي في الثقافة والتربية والتعليم والإعلام والوضعين الاجتماعي والاقتصادي مما يعطي لبنان هيكلية إصلاحية في شتى المجالات والتي تعيد الألفة إلى لبنان بعد الركود التي اتّسمت به الصيغة ولا سيما النظام على مدى عشرات السنين وكانت من إحدى أسباب النزاع المسلح بين اللبنانيين.
أحسب أنه لا يمكن الإحاطة في كل جوانب هذه الآراء والاقتراحات وهذا يحتاج إلى جهد ووقت ليس هنا متّسع لهما لذلك اتوقف عند عدد قليل من الملاحظات التي سأردها تباعًا في السياسة إلغاء الطائفية السياسية واعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي والانتخاب على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة.
إنني وإن كنت لا أوافق الرأي لا بإلغاء الطائفية السياسية ولا بالانتخاب على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة لأن ذلك يؤذي في هذه المرحلة العيش المشترك بين اللبنانيين وفي ظل ما أفرزته أحداث السنوات الماضية من هواجس خوف لدى الطوائف وإن كنت أوافق الإمام الرأي أن الطوائف اللبنانية جميعها ولا أستثني منها أحدًا ستبقى على أساس التمزيق في الباطن والتلفيق في الظاهر "دون أية وحدة وطنية حقيقية" (19) .
وقد توقف الإمام أمام سقطات بعض الذين لم يعوا المسألة الطائفية فاعتبروها عارضًا سطحيًا طرأ على حياة المجتمع "فاعتبر البعض أن الطائفة المسيحية ذات جوهر يميني رجعي والطائفة الإسلامية تقدمية. على أساس التفاوت الموجود بين الطائفتين بحيث يمكن أن يكون هذا التفاوت السلاح الفعال في قضية التغيير إلا أن الواقع أن الطائفية سواء كانت مسيحية وإسلامية فهي رجعية وأنه لا يجوز استغلال هذا العارض المرضي من أجل التغيير وإلا فإن صرح التغيير سيكون أساسه من ملح" (20).
وقد اقترح إلغاء النظام الطائفي وتشكيل مجلس آخر غير مجلس النواب يكون ممثلًا لكل الطوائف بالتساوي ينعقد قبل نهاية كل عام ليدرس نتائج اعتماد الكفاءات ويتدارك النقص وكأنه يتنبأ بقيام مجلس الشيوخ العزيز على قلب الموحدين لحفظ الجماعات والذي نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني.
وفي عمل المؤسسات أتوقف عند مطالبته بفصل النيابة عن الوزارة وكم من وزراء نواب سخّروا موارد الدفع والنفع العام لمصالح انتخابية ومحسوبية ضيقة.
وفي الإدارة أتوقف عند مطالبته بإدخال التكنولوجيا لتحديث الإدارة واحسب أن هذا الاقتراح هو الوحيد الذي يقضي على الرشوة والمحسوبية في القطاع العام وهي أمراض مزمنة لا علاج لها. وقد استشرف الإمام تطور التكنولوجيا فماذا عساه يقول لو رأى ثورة المعرفة التي نعيش في ظلها اليوم.
وفي الدفاع والأمن مطالبته بحل جميع الميليشيات والتنظيمات المسلحة وتجميع سلاحها لمصلحة الدولة الوحيدة التي تملك السلاح في الدفاع عن الوطن وفي حفظ الأمن الداخلي أما في الداخل فالسلاح لا يبني الأوطان ولا الإنسان وهذه أقوى رسالة إلى الذين يتوسلون السلاح لحل النزاعات الداخلية (ص 25). وفي الثقافة مطالبته بإنشاء مركز الأبحاث العلمية وعلوم الإنسان في جبيل وفي الإعلام مطالبته بإلغاء الإذاعات الخاصة التي أفرزتها الأحداث. وكم كان هذا الاقتراح ليساعد على تخفيف الاحتقانات الشعبية والطائفية التي تمعن ليليًا في مقدمات نشرات الأخبار على إعطاء التحاليل الفئوية المناهضة الواحدة للأخرى، وسوى ذلك من المطالب الاجتماعية والاقتصادية (21).....
ولا بد من الإشارة أخيرًا إلى أن الإمام ما كان ليوافق على قانون العفو الذي صدر بعد انتهاء الحرب بل كان سباقًا في الدعوة إلى تشكيل هيئة المصالحة والمصارحة. المصالحة ستلد المصارحة وعندها تتشكل هيئة تحقيق شامل تحدد المسؤوليات فالدماء التي أُهرقت والمدن التي خربت لا يجوز هدرها حتى تعود الثقة ويشعر المواطن أنه لا يعيش في غابة (22) .
الإمام الصدر صاحب رؤية ومشروع وصفه بيان المثقفين بأن الحركة التي قادها شيعية بمظهرها وبقاعدتها الشعبية إنما هي حركة شعبية لبنانية ذات أبعاد وطنية (23): رؤية شاملة لوطنه بحيث تتبدى إرادته في أن يكون متقدمًا جميع الأمم ومتصدرًا في المنطقة والعالم وصاحب مشروع وطني حريص على لبنان ومعناه وكذلك مبناه. ديمقراطيًا كان، داعيةً للتنوع، محترمًا وجهة نظر الآخر، سياسيًا عصريًا، حامل تراث جبل عامل في مقاومة الأعداء. ولم يكن الإمام يرفع السلاح إلا في وجه العدو الإسرائيلي الذي وصفه بالشر المطلق. لقد أوجد مدرسة وطنية إسلامية مسيحية وعمل على الوحدة الإسلامية ولم تمنعه عمامته من الوقوف خطيبًا في الكنائس ولا حجبته من الاعتصام يوم رأى الخطر على لبنان ولا علمه في التعاطي مع الناس ببساطة ولا إيمانه في تحجر فكره والإتيان بآراء أكل عليها الدهر وشرب بل كان صاحب رؤية عصرية مستقبلية، لقد كان لبنان محظوظًا بوجوده خاسرًا في تغييبه. وكم من مرة أقول في نفسي وأنا أشاهد ما أشاهد ماذا كان ليقول الإمام الصدر ومن هو مؤتمن على مدرسته حتى ليصح السؤال هل نحن في صدد دراسة التغيير في فكر الإمام أم التغيير عن فكره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________________________
1- ورقة العمل تاريخ 11/05/1977
2- التغيير ضرورة حياة. المجتمع الأفضل ص 39.
3- تقرير إلى المحرومين ص 14.
4- التغيير ضرورة حياة. أصالة التغيير ص 10.
5- المرجع السابق ص 11.
6- المرجع السابق ص 11.
7- التغيير ضرورة حياة. الكون مبني على الحق والعدل ص 19.
8- التغيير ضرورة حياة. بناء لبنان الاجتماعي ص 48.
9- المرجع السابق ص 46.
10- المرجع السابق ص 48.
11- تقرير إلى المحرومين ص 9.
12- المرجع السابق ص 10.
13- التغيير ضرورة حياة. حركية الدين والطائفية ص 33.
14- تقرير إلى المحرومين ص 5.
15- تقرير إلى المحرومين ص 7.
16- التغيير ضرورة حياة. حركية الدين والطائفية ص 34.
17- تقرير إلى المحرومين ص 5.
18- التغيير ضرورة حياة. حركية الدين والطائفية ص 34.
19-ورقة العمل 11/05/1977
20- التغيير ضرورة حياة. حركية الدين والطائفية ص 35.
21- ورقة العمل 11/05/1977
22- تقرير إلى المحرومين ص 12.
23- التغيير ضرورة حياة. بيان المثقفين ص 41.