تمهيد
عندما تلقيت الدعوة الكريمة من مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات لعرض تجربة مؤسسات الإمام الصدر: تأسيسها وإنجازاتها واستدامتها، تملكتني بعض الحيرة. إذا ماذا عساي أضيف على محتوى الموقع الالكتروني للمؤسسات، أو على غيره من منشورات الجمعية التي تعرض نشأتها وتاريخها وبرامجها؟ ولناحية التقييم وسبل الاستدامة، أصبحتم تعلمون أن المؤسسات تحيي عامها الخمسين، أي أنها منهمكة في ورشة قياس وتقييم وتخطيط... ولن تتظهر نتائج هذه الورشة قبل النصف الثاني من العام القادم. عليه، فإن مساهمتي الآن تستبق السياق التقييمي، ويمكن الاستفادة منها كإطار أو محاور برسم التطبيق تبعًا لمعايير الملاءمة الأكاديمية.
"كلمة سواء" هو باكورة اليوبيل العتيد للجمعية. والبديهي- إذًا- أن يكون لها حصة في برنامجه ومحتواه. ولأن المؤتمر مقدام في خياراته، لا سيما تصديه للتغيير الاجتماعي والسياسي في هذه الأوقات الملتهبة بالتغيير والتحولات... فلا ضير أن أحوّر المطلوب من مداخلتي، فأبدأ بالتغيير الاجتماعي مفهومًا ومضمونًا، ثم أضعه في سياق الزمان والمكان حيث نحن في لجّة التغيير العربي، ولسنا على ضفافه. سأطل مطولًا على موضوعي من منظور الإمام الرؤيوي: ألِأنه حديث الساعة بعد التغيّر الدراماتيكي في أوضاع ليبيا؟ ألِأنه مؤسس جمعية مؤسسات الإمام الصدر المطلوب منّي تقديمها؟ أم لِأنه من روّاد التغيير الجوهري، فنظّر له وروّج وعمل... وبسببه غُيِّب عن الساحة، فأخذت أحداث البلد المنحى الذين تعلمون؟ سأسعى إلى تضمين مداخلتي بعض الإجابات.
التغيير الاجتماعي
تتعدد نظريات التغيير الاجتماعي، وبينما يلتقي بعض فلاسفة الإغريق مع نظرائهم الصينيين على حتمية التغيير، حيث المجتمع كالنهر الذي لا يتوقف عن الجريان والحركة، لا يرى هيجل التغيير الاجتماعي إلا صراعًا جدليًا بين القوى المتعارضة في المجتمع، في حين يعلِّي ماركس شأن البعد المادي وبالنسبة إليه، ما تاريخ البشرية إلا صراع بين الطبقات الاجتماعية.
يستدعي التغيير الاجتماعي جملة مفاهيم منها التطور الاجتماعي، والحراك والتقدّم والثورة والتاريخ. بنظر الكثيرين، يرتبط التغيير الاجتماعي ارتباطًا وثيقًا بطبيعة العلاقات الإقتصادية وأنماط الإنتاج. وهو تطور من مجتمع الالتقاط والرعي، مرورًا بالإقطاعية إلى الرأسمالية. ويمضي الماركسيون ليصلوا بهذا التطور إلى الإشتراكية. وفي سياق هذا التطور الحتمي، تظهر حركات ومجموعات اجتماعية وتتبنى مقاربات خاصة بها أو تتخذ قضية معينة محورًا لنضالها، مثل تحرير المرأة، والخضر، وحقوق الإنسان وحركات المجتمع المدني.
وخلافًا لنظرية ماركس المبنيّة على أن النشاط الإقتصادي هو الذي يحدد البنى الاجتماعية والسياسية، يرى ويبر أن الرأسمالية الحديثة مدينة إلى البروتستانتية (تحديدًا جان كالفن) كونها تمجّد العمل، وهو الأمر الذي يمثّل قطيعة مع الكاثوليكية التي رأت أن التنسك والعبادة ينسجمان مع الإرادة الإلهية.
تقول السيمياء (علم الإشارة والرموز) بأنه رغم ثبات النص لناحية الشكل، هناك محدودية في المعاني المباشرة الممكن استخلاصها من النص، وهناك لانهائية- مجازًا- لناحية مرونة واحتمالية الدلالات المتوالدة من ذات النص تبعًا للزمان والمكان والمرسل والمتلقي والوسيلة... إلى آخره. وحول ثبات النص وحركية التأويلات، يرى السيد محمد حسين فضل الله أن "إيجابيات التعددية الفقهية قد تمنح الساحة الكثير من الحيوية التي قد يكتشف الناس في تنوعاتها أكثر من عنصر حيّ فاعل في الواقع الإنساني كلّه" (1) .
الفكرة أيضًا كانت موجودة عند الإمام الصدر كيف يحدد مهمة الفقهاء والمرشدين الذين يعتبر أن مهمتهم تحريك الفكر والجو العام نحو دين منفتح على الآخر بدل من الإنغلاق عليه.
والإيمان بالله يدفع الإنسان إلى إلتزام القيم الروحية والأخلاقية في بعدها الإنساني الواسع "الإيمان بالله يفتح الإنسان على المطلق"، ومهمة الفقهاء والمرشدين هي تحريك الفكر والجو العام نحو دين منفتح على الآخر بدلًا من الإنغلاق عليه. علمًا أن الممارسة الدينية قد تتسبّب، أو هي تسببت في الكثير من الحالات، بانحرافات وأخطاء في التصور والتطبيق، ونجم عنها مآسٍ إنسانية وحروب وحساسيات مذهبية وعقائدية. عدا عن أن بعض التطبيقات مضرّة بالمشاعر الفردية وبالنسيج المجتمعي، كالتضارب في التقويم والمبالغة في عدد من المناسك والطقوس.
وكمنحى تاريخي عام، يمكن ملاحظة إنتقال أحادي الاتجاه من المجتمعات الريفية (زراعية، محافظة، متدينة، رقابية) إلى المجتمعات المدينية (صناعية وخدمية، مبتكرة، طبقية، تتقبل الإختلاف، تسعى لبلوغ حقوق مستجدة، وتميل إلى التفاوض والتسويات). وعلى تعدّد النظريات، فإن بعض مؤشرات التغيير الاجتماعي التي تؤكد الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة، أو إلى تطوّر ملموس، هي: مدى تقدير الفردانية، مدى التغيّر في العلاقات الاجتماعية، ومدى احترام الهرميات السلطوية القائمة. وبتفصيل أكثر يمكن التعرّف على التغيّر الاجتماعي من خلال عدد من الملامح، أهمها: الحراك الديمغرافي والعمران، الأسرة حجمًا ووظيفة، صورة المرأة ومكانتها، مفهوم العمل، الاعتماد المتبادل بين الأفراد والجماعات، وأخيرًا القيم الاجتماعية.
وإذا كان التغيّر الاجتماعي تلقائيًا ورتيبًا ومحكومًا بمجموعة من القيم التي استتبت بفعل الشريعة والإجتهاد وما تواضع عليه الناس عبر الزمن، فإن التغيير الاجتماعي هو الفعل المقصود والموجّه من قبل الزعيم أو القائد أو الفقيه. ينتج التغيير عن أزمة أو كارثة أو غزو (عسكري أو ثقافي أو تكنولوجي)، وتتحول بعض الشخصيات العامة إلى رموز أو إلى قيم سياسية أو دينية.
هل يساعد الاستعراض السريع لنظريات التغيير الاجتماعي الباحث في اختيار الأداة البحثية التي تعينه على توصيف المجتمعات العربية وقراءتها؟ لو أخذنا لبنان مثالًا، لرأينا التالي:
1- لا حدود واضحة تفصل الريف عن المدينة، عدا عن أن النازحين باتجاه المدينة يحتفظون بالكثير من أنماط معيشتهم وعاداتهم وعلاقاتهم؛
2- انتقال بعض العاملين إلى قطاعي الصناعة والخدمات، لم يترافق مع تشكل هياكل وهيئات نقابية وعمالية ونضالية فاعلة؛
3- يتداخل الديني بالمدني، العقائدي بالسياسي، والشرقي بالغربي؛
4- يجيز الحراك الاجتماعي قيمًا وممارسات مستفزة للفضيلة والسليقة، مثل الرشوة والواسطة (تتفشى هذه الممارسات وتستقر في الأذهان ولا تلبث أن تتحول إلى قيم: هن يوجد التباس في مصطلحات الشطارة والنفوذ: الحربوق، والتقلب في المواقف والأدوار).
على تعددية المقاربات النظرية، ورغم ضبابية المشهد العربي القائم وتداخله بالعوامل الخارجية، سأحاول البحث في المحاور التالية:
1- الربيع العربي: تغيير اجتماعي ومفاهيمي، أم "فشة خلق"؟
2- الإمام الصدر: مصلح أم ثائر أم رؤيوي؟
3- مؤسسات الإمام الصدر: ماذا غيّرت وهل تغيّرت؟
"الربيع العربي"
تميّز تاريخ المنطقة العربية طوال القرن العشرين تقريبًا بحدوث دورات متتالية من العنف، كانت تعيد المواطنين إلى إنتماءاتهم الأولية. إلى كونهم رعايا لهذه الطائفة الدينية أو السياسية أو المحلية، وإلى سوقهم مرغمين إلى توجيهات زعيمهم أو إلى الانكفاء في حمى مجموعتهم المحلية بقوة غريزة البقاء تجاه التهديد الذي تمثله المجموعة المقابلة. هكذا انهارت جسور الثقة وقنوات الاتصال من ناحية، كما تدهورت الأوضاع الإقتصادية وتنامت أعداد الفقراء والمعدمين ما أدى إلى استدامة التصاقهم بالمتنفذ أو المتعهد بإدامة الفقر، أي تأبّدت الحاجة إلى المتعهدين. وهكذا نلاحظ أنه علاوة على استمرار العلاقات التسلطية القديمة (العشائرية والمذهبية)، أضيف إليها تخلف في العلاقات الاجتماعية الناشئة بفعل السوق الإقتصادي والعولمة، كالتفكك الأسري واستغلال المرأة وتغليب الإنقسام الاجتماعي العمودي على خلفيات الدين والطائفة والعشيرة، مما يطمس ملامح الصراع الفعلي بين طبقتي المُسْتَغَلّين والمُسْتَغِلّين. ويستمر الدوران في الحلقة المفرغة من نوبات الحروب الأهلية والعبثية، وتصادم الطوائف والقبائل. أما جمهور السِّلم والإرتقاء فيبقى عاجزًا ومستغرقًا يمنّي النفس بمواعيد متجددة مع الخلاص. وغالبًا ما كان هذا الخلاص مجسدًا في الصمت كموقف سياسي آمن، حيث سادت فرضية أن من يبتعد عن الصراع يبقى الصراع بعيدًا عنه. وهي فرضية تسقط كل مرة لأن من يسقطون عمومًا هم الأبرياء والفقراء في حين تتعزز سطوة المتنفذين والقابضين على مفاصل القرار وعلى شؤون الناس.
مضت عقود مديدة على ذاك الركود الثقافي والسياسي والاجتماعي، والذي لم يعكره سوى إنقلاب هنا، وحرب أهلية هناك، وغزو دولة لأخرى هنالك، عدا عن التفريط بقضية القضايا القومية وتقسيم عدد من البلدان... أما التغيير الاجتماعي الموثوق الذي يهز الهياكل والقيم، فلم يحدث. مع مطلع العام الحالي، كانت العديد من الشوارع والساحات العربية تمور بأمواج الساخطين والثائرين. ويرصد المراقب- حاليًا- في أعمدة الصحف وأحاديث المعلقين، مفردات "الثورات العربية" و"الربيع العربي"، على ما تقود إليه هذه المفردات من غلبة الأمل والوعد بالغد المشرق. وبتقديري، فإن هذا "التسونامي (2) التفاؤلي" ينطوي على مجازفة مهولة، قد تودي بمطلقيها إلى التفريط بمصداقيتهم، وبمستقبليها إلى الإحباط المطبق وإلى الارتماء في أحضان الغيبيات والماورائيات. هي مجرد صرخة تحذير، أو همسة توجّس تتوخى التنبيه إلى أن شبكات الفساد والقمع ما تزال تتحرك وتنمو في الساحات وفي مفاصل الثروات والثورات، في حين أن المحتوى الذهني والتصوري ما يزال يغرف من ذات المعين، رغمًا عن نيّة وإرادة من كانوا الشعلة الأولى من الشباب والشابات، ورغم لجوئهم إلى تقنيات حديثة في التواصل والترويج.
تتقاطع معظم الملاحظات الرصينة حول ما يجري في البلدان العربية على جملة أمور:
- كسرت الثورات العربية الجمود الذي كان سائدًا، وحركت مجتمعاتها نحو أوضاع جديدة يصعب تكهن ماهيتها وعمقها ومجالاتها ومداها الزمني؛
- بغياب الزعامة، وما يتبعه من تقلّب في المواقف وصعوبة في التفاوض، ورغم غياب الأيدولوجيا وامتداد مرحلة العموميات زمنيًا وجغرافيًا، فالأكيد أن الشعوب تكتشف قوتها شيئًا فشيئًا وتستسيغ الإصغاء إلى صوتها. ينمو الوعي بحقوق الإنسان والمواطنة والحياة الحرّة الكريمة. وباختصار، تتعزز مشاركة الناس في صياغة المستقبل؛
- أدّى تجريم العمل السياسي عبر السنوات إلى المزيد من التدّين كتعويض وملاذ. سرعان ما ألهبت العقيدة الدينية مشاعر الساخطين، فواجهوا السلطات بشجاعة وتصميم. بيت القصيد هنا تحوّل المتدينين من الاستغراق في الحلال والحرام (شريعة) إلى التأمّل في موازين العدل والظلم (سياسة) (3) ؛
- يجمع الثورات العربية سخط جامح إزاء الإخفاقات المتمادية والوعود الكاذبة التي أطلقها النظام العربي المتناسخ. يشمل ذلك الطموحات القومية والقضية المركزية في فلسطين، كما حاجة الناس إلى التنمية وتحسين ظروف معيشتهم وأمنهم الإقتصادي والاجتماعي؛
- تفتقد الحركات التغييرية إلى الرؤية ووضوح الأهداف، وإلى البرنامج الذي يرسم ملامح البديل، كما تعوزها الإرادة والجرأة في استلام زمام الأمور. كما تفتقر إلى أواليات التنسيق والتحالف وسرعان ما تتشرذم بزوال النواة التي تشدها معًا، وهي السخط على الحاكم؛
- كما يعيبها استسهال الاستقواء بالخارج (العاهة اللبنانية المستدامة)، وترحيل المسؤولية أو نقلها بغض النظر عن معاناة الناس بفعل الحصار، أو فداحة الخسائر الناجمة عن التدخل الأجنبي، ودونما اعتبار للأجندات والمطامع الخارجية.
- أمام المجتمعات العربية مهامٌ جسام: وبالتوازي مع تذليل المعوقات البنيوية والاجتماعية والتنظيمية، على هذه المجتمعات أن تتصدّى بفعالية لقضايا الأمية والفقر والبطالة وتدهور البيئة وغيرها من التحديات الجوهرية، والتي لا معنى للثورات إن لم تكن قامت لأجل مواجهتها.
ماذا عن لبنان؟ ما موقعه في كل الذي يحدث؟ كيف يستفيد مما يجري حوله، وهل عنده ما يفيد جيرانه؟ هل استشرف الإمام موسى الصدر هذه المرحلة؟ ماذا عن تجربة من يحاولون تشييد حجرٍ في مدماك العبور نحو الغد الأفضل؟ أي تغيير اجتماعي يمكن أن نتوخاه من نضال المجتمع المدني؟
نضال دؤوب وهادف ومأمون النتائج، مع إدراكنا لجسامة المهمات التي تنتظر مؤسسات المجتمع المدني العربي لناحية بناء السِّلم الأهلي بين المجموعات المتصارعة، ولناحية تمكين المواطنين من ممارسة الديمقراطية والمساءلة.
لبنان: ماذا يشبه وبماذا يختلف؟
لبنان بتركيبته هو أشدّ بلدان العالم تأثرًا بهذا العالم، فكيف إذا كان العالم المضطرب ملاصقًا لنا. نحن نطرب بشدّة ساعة العزف، ونلطم بشدّة ساعة الندب. تمنينا وطننا نموذجًا للمحبة والسلام، وطالما أدمنّا التفرّج عليه وهو ينزلق بثبات إلى هاوية الوحشية والبغضاء؛ والذي لا يساهم في إطفاء الحريق المضطرم عند جاره، عليه ألاّ يفاجأ عندما يصله اللهيب.
لعب موقع لبنان الجغرافي على الشاطىء الشرقي للمتوسط وطوبغرافيته الجبلية دورًا بارزًا في رسم الأحداث التي اتخذت منه مسرحًا لها، كما تركت أثرًا بارزًا على خصائصه السكانية وإنتمائه وتركيبته. وقد تنامت شهرته بفعل الحرب الأهلية التي صفت به منذ 1975، وبسبب سخونة علاقاته مع بلدان الجوار.
يمتاز لبنان بتعدد الإنتماءات الطائفية لأبنائه إذ هناك 19 طائفة معترف بها رسميًا. جرى آخر إحصاء رسمي للسكان قبل ثمانين سنة، وتشير آخر التقديرات إلى تجاوز عددهم اليوم الـ 4.5 مليون بينهم نحو 400 ألف من الفلسطينيين إضافة إلى نحو نصف مليون شخص من جنسيات مختلفة. يشهد لبنان منذ القدم حركة نزوح باتجاهين: الأول نحو المدن الساحلية الكبرى، والثاني هجرة مؤقتة (دول الخليج وأفريقيا) أو دائمة باتجاه الأمريكيتين. تساهم الخدمات بما فيها القطاع المصرفي بـ 70% من الناتج القومي الإجمالي، والصناعة بـ 20% والزراعة بـ 10%. تبلغ نسبة السكان في سن العمل إلى إجمالي السكان 67% ومعدّل النشاط الإقتصادي أي نسبة الناشطين إقتصاديًا إلى السكان في سن العمل 50.4% (75.7% للذكور و25% للإناث)، ويصل معدّل البطالة إلى 11.5%.
اعتمد لبنان النظام الإقتصادي الليبرالي ويمتاز بسريته المصرفية وبحرية حركة الأموال والبضائع، وتعاني المالية العامة من صغر القاعدة الضريبية التي بالكاد تتجاوز 20% من السكان. كما يعاني حاليًا من ارتفاع الدين العام، حيث تستنزف خدمة المديونية جزءًا كبيرًا من الموازنة العامة. مما يضغط على مخصصات الاستثمار وعلى ضمان المستحقات الاجتماعية، لا سيما الأكثر فقرًا وتهميشًا. علمًا بأن التعرض للمخاطر الاجتماعية والإقتصادية متواتر الحدوث، إما بفعل التشوهات البنيوية وغياب السياسات الاجتماعية المتكاملة، أو بفعل التوترات العنيفة بين المجموعات اللبنانية، أو بسبب الصراع التاريخي مع إسرائيل وما يتخلله من اجتياحات وتدمير. بالنتيجة، يؤدي المشهد السالف ذكره إلى حشر القطاع العام في زاوية التلقي وردّات الفعل. ويجري تعبئة الفراغ الخدماتي والإغاثي بواسطة مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية.
وبكل الأحوال، يلاحظ المراقب كيف يتلاشى دور الدولة أو كيف تنحرف الدولة عن أداء مهامها في تنظيم الحياة العامة وفي توفير شروط الحياة الكريمة لمواطنيها. إزاء ذلك، أنتج المجتمع اللبناني الجمعيات والمنظمات والتشكيلات المدنية والأهلية التي تمرسّت في أداء الخدمات الاجتماعية والتربوية والصحية للمحافظة على الحد الأدنى من شروط الكرامة الإنسانية، ونجحت إلى حد بعيد في إنقاذ النسيج اللبناني من التحلل والإنهيار التام. وكانت هذه المنظمات قد بدأت تحاول الإرتقاء بأدوارها نحو صياغة معادلات جديدة تنتقل بالمنخرطين في عملها من مجرّد كونهم متلقين للخدمات إلى تمكينهم وتعزيز اعتمادهم على أنفسهم وتأطيرهم في مؤسسات ونظم إنتاجية واجتماعية وثقافية قابلة للاستمرار.
نعتقد بإمكانية وضرورة أن تستفيد المجتمعات العربية من هذه التجربة الغنيّة. إنما، ما عساها تكون رسالة المجتمع المدني؟ وإلى أي عنوان ترسل؟
تنطوي كل جزئية من هذا السؤال الكبير على جملة أسئلة. ولا بدّ من الإقرار بأن المجتمع المدني اللبناني ما يزال منقسمًا على ذاته. بل هو متماهٍ إلى حد كبير مع المجتمع "اللامدني" إذا جاز التعبير. ويكاد الفصل بينهما يرقى إلى التمرين النظري أو البحثي ليس إلا. فالكثير من الأحزاب والطوائف اللبنانية لديها أجنحتها التربوية والصحية والخدماتية، في حين أن الجمعيات والمنظمات المدنية "المستقلة" تتلاشى استقلاليتها أوقات الأزمات لتلتحق بالموجة السائدة في هذه المنطقة أو تلك، وفي هذا المذهب أو ذاك.
إلاّ أنّه، ورغم هذه المعوقات البنيوية والتمويلية، لا يمكن للمراقب أن يتجاهل تقدم الجمعيات التطوعية والأهلية على طريق المساهمة الفاعلة في التغيير الاجتماعي وفي تحريك القطاعات الشعبية وإدماجها في عملية التنمية. لا سيّما وأن تلك الجمعيات قد بدأت تتجاوز أدوارها التقليدية في تأمين الرعاية للضعفاء ونجدة ضحايا النكبات والحروب، وتنتقل منها إلى أدوار أكثر تقدّمًا. وتحديدًا في مجالات التمكين والتدريب والمشاركة سعيًا نحو العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
الإمام الرؤيوي
لسنا هنا في معرض الإحاطة بالمشروع الشامل للإمام الصدر، بل هو تذكير بالسياق العام الذي في رحمه تبلور خطابه. سنتوقف قليلًا عند مفهومه للتغيير الاجتماعي رسالةً ومنهجًا وغاية. قبل أن ننتهي إلى بعض تفاصيل النموذج الذي يستلهم رؤية الإمام وتوجهاته، وعنينا بذلك جمعية مؤسسات الإمام الصدر.
من المفاهيم التنموية الدارجة: التمكين، المشاركة، الجندر، توسيع الخيارات إلى آخره... وإذا كانت هذه الكلمات لم تتواتر بحرفيتها على لسان الإمام الصدر، إلاّ أن مدلولاتها ومضامينها كانت كامنة في المفردات البسيطة والمباشرة والشفافة التي منحت خطابه الزخم والفعالية. ثمّة قوة كامنة في الكلمة التي نطق بها الرجل. ماذ يقول؟ هل اقترح علينا مناهج بحثية ونماذج تطبيقية تفضي إلى معالجة القضايا التموية وإرساء العدالة؟
لنراجع بعض عناوين أطروحة التغيير ضرورة حياتية (هذا الكتاب من الكتب الأخيرة التي طُبعت للإمام)
1- يتحرّك الإنسان بطبيعته نحو الكمال: بعض الناس يخنعون، البعض الثاني يهاجر طلبًا لعلم أو معاش أو ضمان، والبعض الثالث يرفض الواقع ويريد التغيير وتعوزه الحيلة فيستعير وسيلة، والبعض الرابع أسماه الإمام الصدر بالعالم الرابع (4) أو الثورة المؤمنة. فمن مبادراته الواثقة أنّه دعا رجال الدين إلى مغادرة أبراجهم الوعظية، والالتحاق بالناس في أحوالهم وسبل معاشهم. هو حوّل الجامع إلى جامعة ليصبح من حق الكل الإنتماء إليها على قاعدة السعي وراء المعرفة، إذ على الإنسان المؤمن أن يتحرك. وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، ينقل:"ولو أن عبدًا مؤمنًا قامت قيامته وبيده غرسة، لغرسها قبل أن يموت".
2- المجتمع= إنسان+ عمل متبادل. التعاريف للمجتمع، وقد أتى به الإمام الصدر، وركزّ على ما هو أهم ويذكر عن الرسول (ص) أنه يقول: "يا فاطمة! إعملي لنفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئًا". وإذا كانت فاطمة غير جديرة بشفاعة الرسول يوم القيامة إذا لم تكن متسلحة بأعمالها، فمن عساه جدير؟ والسؤال يطرحه الإمام الصدر، ثمّ يجيب عليه مستعينًا بالآية الكريمة ﴿وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى * وأن سعيه سوف يرى﴾ [النجم، 39- 40]. ويسهب الإمام الصدر في تبيان السبيل "إلى إصلاح أوضاعنا" (5) مركزًا على أن الممارسة العملية هي المقياس، وعلى ضرورة نبذ الاتكالية، والبدء بالنفس لنكون قدوة للآخرين، وهو يشبّه الخير بالنور للدلالة على قابليته للإنتشار والإقتداء به. ويستخلص بأن الدين هو الصلاح في العمل واللسان والقلب والسيرة، فلا مناص من تعميق الدين وربطه بعملية التغيير سيّما وأن الله أنزل الأديان لصناعة العالم المتكامل المتآزر.
3- يستعير الكون المنظم العادل ليستدل على إمكانية إحقاق الحق والعدالة، ويصنّف الإمام الصدر طرق التربية بأربع: التربية المتجهة مباشرة إلى الفعل، وتلك المتجهة إلى ما وراء الفعل أي إلى القناعة، وتتجلّى الطريقة الثالثة في خلق المناخات المؤاتية (enabling context) لجو العدل والاستقامة، وأخيرًا الرؤية الكونية وضرورة تمثلها حيث الكون مبني على الحق والعدل: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان﴾ [الرحمن،1-2].
4- ليست الوسيلة بأقل أهمية من الهدف، فالمناقبية والسلوك القويم من أساسيات التغيير الناجح. وإذا كان جيدًا أن نصل إلى نتيجة مُرضية بفعل عمليةٍ ما، فمن المهم أن نحقق هذه النتيجة المرضية كلّ مرّة. ولا نستطيع ضمان ذلك إلا من خلال تعلّم الطريقة السليمة الآيلة إلى النتيجة السليمة.
5- وفي عرضه لوسيلة التغيير السياسي والاجتماعي والإقتصادي الذي يرفع معاناة المحرومين في لبنان، يركز الإمام الصدر على الجذر الأساسي لمبدأ التغيير، وهو رفضه التغيير بالعنف. ويؤكد "عدم جواز مسك النار بالأصابع ما دامت الوسائل الديمقراطية متوفرة مبدئيًا، وتنظيم استعمالها ممكنًا ومرجوًا". وفي سياق آخر يذكّر بهوية الوطن الذي تؤمن به الطائفة الإسلامية الشيعية، لبنان الواحد الموحد النهائي السيد المستقل، العربي المنفتح على العالم بأسره، الملتزم بقضية الإنسان لأنها من صلب رسالته الحضارية. ولبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وعلى مبدأ فصل السلطات، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات.
6- وظّف الإمام الصدر الأسس المنهجية العلمية في خدمة العمل الاجتماعي، والممكن تلخيصها بالتالي:
- مسح الواقع الاجتماعي- الإقتصادي وفهمه (إحصاءات، بحوث.. إلى آخره)،
- النظرة الاستراتيجية وإدراك مضاعفات الحرمان التي تطال المحروم كما المقتدر، فتبليهما بالتوترات الاجتماعية والحروب الأهلية،
- التركيز على أهمية التنظيم المؤسسي كشرط أساسي لنجاح كل عمل،
- الحرص على الإطار التكاملي للتغيير الاجتماعي، تفاديًا لأي شرح قد يعيق تقدّم المسيرة بأكملها بسبب الوهن في أحد أركانها أو مكوّناتها،
- وتحديدًا، خلق الظروف والمجالات التي تُمكّن المرأة من المساهمة في النهوض الاجتماعي والثقافي.
لبنان: ساحة العمل
جال الإمام الصدر لبنان طولًا وعرضًا وحمَلَ هموم الوطن والمنطقة إلى معظم العواصم. فحالة الاستنهاض الاجتماعي التي حمل لواءها والمراكز والهيئات والتنظيمات التي أطلقها، قد أحدثت انعطافًا اجتماعيًا وتايخيًا ما تزال تداعياته وتجلياته تتردد وتتفاعل يومًا بعد يوم. لقد كانت أحزمة البؤس آخذة في محاصرة المدن في ستينات البحبوحة والرخاء عندما ظهر الإمام الصدر في لبنان، وكانت بذور الحرب الأهلية قد وجدت الأرض الخصبة للنمو، وأخذت تترعرع بفعل عوامل وتناقضات إقليمية وعالمية متنوّعة. وتلك الأحزمة بالتحديد، كانت ساحة العمل السياسي والاجتماعي والتنموي للإمام الصدر إذ إنّه أدرك وحذر مبكّرًا من مخاطر ما يختمر بداخلها من كوامن التفجّر. وهذا ما أثبتته السنوات اللاحقة بما حملته من مآسٍ ونكبات. وقد كان سبّاقًا إلى التحذير من عواقب ذلك على الناس والوطن والحضارة. ولعلّه لم يكن "قدرًا" أن يكون في طليعة من اصطفاهم الإعصار، وقد تبعه كثيرون. في حين، أنّه- أي الإعصار- اجتاح عشوائيًا الأخضر واليابس.
من أقوال الإمام الصدر: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، ولبنان رسالة حضارية يجب التمسك بها، وإذا أظلمت تجربة لبنان أظلمت البشرية جمعاء، إلى آخره. أحبّ الإمام موسى الصدر أن يقدّم لبنان كنموذج. ليس نموذجًا للإطفائي بل نموذجًا للبشرية السمحة حيث معدنها ونباتها وهوائها مواد غير قابلة للاشتعال.
يظن البعض أن الإمام الصدر كان عراب استنهاض الشيعة في لبنان والواقع أنّه عرّاب استنهاض المحرومين لأي طائفة انتموا. تشاء الصدفة (؟) أي النظام السياسي التمييزي العشائري أن يكون معظم الشيعة محرومون، وعليه كان من الطبيعي أن يكون جمهور الإمام الصدر شيعيًا بأكثريته. وعلينا أن نتذكر دومًا كيف أخفقت السياسات في توزيع الثروات والحرمان بعدالة بين الطوائف.
أنشأ الإمام الصدر العشرات من المراكز والأنشطة والمعاهد بين عامي 1962 و1978، وقد شهد مشروع تنقلات في المكان والحجم والجهات الراعية والإدارية، دون أن ينعكس ذلك انقطاعًا عن النهج أو الغايات الكلّية، سيّما أن الدروس التي يمكن تعلّمها من تجربته الشخصية في العمل الاجتماعي وفي التنمية البشرية ما تزال الأغنى والأشمل قياسًا بالتجارب الفردية الأخرى. من ذاك البرعم الصغير الذي غرسه الإمام الصدر في صور، أسماه بيت الفتاة، وأسند إدارته إلى شقيقته السيدة رباب الصدر، سوف تتفرع الشجرة إلى شبكة متكاملة من البرامج والخدمات والمعاهد.
لقد تبلورت تجربة مؤسسات الإمام الصدر في لبنان من خلال العمل مع أولئك المتروكين على قارعة الكباش الإقتصادي، مع المحرومين. وسرعان مع تداخلت عوامل السياسة والحرب والطائفية ليغدو المشهد أكثر تعقيدًا من أن تستطيع مقاربة مبسّطة من توصيفه أو تحريكه. كما اتخذ الحرمان أبعادًا شتى، منها الإقصاء الاجتماعي، ومنها الطغيان السياسي، ومنها الاستباحة البيئية.
في هذا القسم الأخير جزآن: الأول وصفي يصوّر الجمعية وبرامجها حسبما هي منشورة في أدبيات الجمعية. والجزء الثاني تحليلي يقيّم الأثر التغييري للجمعية من منظورين هما المرأة كفاعل تنموي، والتنشئة على ثقافة السِّلم كتأسيس تنموي طويل الأجل.
مؤسسات الإمام الصدر
جمعية مؤسسات الإمام الصدر هي جمعية أهلية لا تتوخى الربح، باشرت نشاطها منذ بداية الستينات. وتسعى في تدخلاتها نحو المجتمع العادل المتعافي من الجهل والفقر والمرض، حيث تكافؤ الفرص أمام الجميع، وحيث الحوار المتنامي بين إسهامات المقتدرين وحاجات المحرومين وتوقعاتهم في جو من الحوار القائم على المشاركة وعلى بناء الثقة بالنفس وبالآخرين. وتتميز الجمعية بتدخلها الاجتماعي والثقافي والصحي في المناطق المحرومة من جنوب لبنان، وتقدمها في خدماتها إلى المناطق النائية عبر شبكة المراكز الصحية والاجتماعية الثابتة والمستوصفات النقالة. وهي أثبتت فعالية عالية أوقات الأزمات.
تساهم الجمعية عبر علاقاتها المحلية والإقليمية والدولية في تبادل خبراتها وتعميقها وفي تغذية النقاش حول أمور الإغاثة والتنمية في لبنان، لهذا حرصت على حيازة الصفة الاستشارية الخاصة في المجلس الإقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، وذلك بهدف زيادة فعاليتها وتأثيرها على المستويين المحلي والدولي. كما وتبذل الجمعية جهودًا مميزة لتشجيع وتعزيز الحوار والتلاقي بين الأديان والثقافات المختلفة لتحقيق التفاعل والتسامح تمشيًا مع شخصيتها الوطنية المنفتحة على الجميع. منذ تأسيسها بداية الستينات، تميّزت الجمعية بسجلها الواضح في التصدي لمشكلات المرأة ولاحتياجاتها التربوية والصحية والمهنيّة. فاكتبست مكانة مرموقة في أذهان وذاكرة المجتمع النسائي خصوصًا الفقيرات ومحدودات الموارد، وكان ذلك بفضل مساهماتها في المساعدة الاجتماعية ورعاية اليتيمات والتصدي لغير ذلك من المشاكل الاجتماعية والإقتصادية التي تواجه المرأة الجنوبية في الظروف العصيبة.
استهلت الجمعية نشاطها ببرنامج الرعاية الشاملة المستديمة والذي يستهدف أساسًا اليتيمات وأصحاب الحالات الاجتماعية الحرجة (الفقر المدقع، العائلات المفككة، ضحايا العنف المنزلي). ونظرًا لتنامي حاجات تلك الفئة واتساعها، عملت الجمعية على مواكبة ذلك بإنشاء سلسلة من الخدمات المتماسكة أبرزها الحضانة والروضات والمرحلة الإبتدائية والمتوسطة، إضافة إلى برامج متنوعة ثقافية واجتماعية وترفيهية. في حين يتم تعليم الفتيات للمراحل الثانوية والجامعية في معاهد المنطقة على نفقة الجمعية وبإشرافها. والراغبات في التعليم المهني يجدن في البرامج المهنية تخصصات متعددة أهمها مدرسة التمريض العريقة والتي تنخرط خريجاتها في سوق العمل بسهولة، وبرامج التدريب المهني المعجل التي أضيف إلى تخصصاتها التقليدية فرع رائد لتأهيل ناشطات اجتماعيات حسب برنامج معتمد من وزارة التربية. كما افتتح عام 2010 فرع لتأهيل مصورين فوتوغرافيين، علمًا بأنه يراعى عند وضع البرامج المهنية حاجة سوق العمل إلى التخصصات المختارة.
اتسع نطاق خدمات الرعاية ليشمل بقيّة أفراد الأسرة بحسب برنامج رعاية الفتاة ضمن أسرتها. وهي خدمة تصل بالنساعدة الاجتماعية والإرشادية إلى أسرة الفتاة، وتتيح للأخيرة أن تستفيد من كل الخدمات النهارية في حين تنضم إلى عائلتها للمبيت ليلًا.
يتبيّن من طبيعة الخدمات أن نواتج عمل الجمعية هي بمعظمها غير مادية لأنها تتعلق ببناء القدرات البشرية (برامج تعليم وتدريب)، أو بتحسين نوعية الحياة (الاعتناء بالصحة والجوانب الاجتماعية في حياة الإنسان. بينما تتمثل بعض النواتج الثقافية على هيئة كتب (إصدارات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، معجم مفاهيم التنمية، تقارير ودراسات متنوعة)، أو عبر إيجاد مساحات مشتركة للتلاقي والحوار.
ينخرط جميع الإداريين والعاملين وبعض المتطوعين في أنشطة التطوير الإداري المستديم الذي بدأته الجمعية قبل مدّة، وتترافق أعمال التحديث والتوسع مع إمكانية استيعاب قفزات مهمّة في أعداد المستفيدين من الخدمات التربوية والمهنيّة يمكن اختصار المشاريع المستمرة كالتالي:
- خدمة الرعاية المتكاملة لليتيمات وللمعرضات من الحالات الاجتماعية الحرجة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية؛ مع كل الخدمات المكمّلة مثل المطعم والملب ووسائل النقل وغيره؛
- برامج أكاديمية في دار الحضانة والمدرسة الابتدائية وقسم التربية المختصة؛
- برامج مهنية في مدرسة التمريض والتدريب المهني المعجل؛
- خدمات صحية واجتماعية في ثمانية مراكز ريفية ثابتة وبواسطة عيادات متنقلة، وبعضها يتلقى الدعم من جهات حكومية كوزارة الصحة العامة، أو دولية كمنظمة فرسان مالطة؛
- مؤتمرات ونشاطات بحثية ودراسات عبر مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بالنسبة للمشاريع المحددة المدّة، فيما يلي نماذج عن المشاريع المنجزة في العقد الأخير:
- مشروع الإغاثة الطارئة لسكان جنوب لبنان، بدعم من المكتب الإنساني التابع للاتحاد الأوروبي؛
- مشروع دعم الجمعيات الأهلية في مجال تكنولوجيا المعلومات والتواصل بدعم من برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية (أجفند)؛
- مشروع دمج الأسرى المحررين في جنوب لبنان وإعادة تأهليهم، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛
- توريد الحصص الغذائية للمدارس الحدودية بدعم من اللجنة الأرثوذكسية؛
- معجم مفاهيم التنمية بدعم من البنك الدولي ولجنة الأمم المتحدة لدول جنوب غرب آسيا (الإسكوا)؛ كما قالت السيدة ميرڤت التلاوي: "مؤسسات الإمام الصدر is a benchmark" أي أنه نموذج يحتذى به للمؤسسات والعمل الإنساني بالعالم العربي.
- معمل تجميع الحليب وتصنيع مشتقاته، بدعم من الصندوق الدولي للأغذية والزراعة (إيفاد)؛
- مشروع تعزيز الصحة الإنجابية بدعم من منظمة الصحة العالمية؛
- مشروع تمكين المزارعات الجنوبيات في عيتا الشعب وجوارها، بدعم من مجلس الإنماء والإعمار؛
- مشروع التربية المختصة للحاجات التربوية الخاصة، بدعم من هيئة المساعدة النرويجية (نورواك)؛
- وغيرها
جديد "المؤسسات"
مؤسسات الإمام الصدر حريصة على مواكبة العصر، وعلى متابعة حاجات الناس ومحاولة التفاعل معها. ولو أخذنا العام الحالي كمثال، لأمكننا رصد الجديد التالي:
على صعيد البرامج
- تم افتتاح مركز تعزيز القدرات الإنسانية "طاقات"، في تشرين الأول 2011. في المجمّع الثقافي لمؤسات الإمام الصدر في صور. يهدف المشروع إلى استثمار الخبرة المتراكمة في مجالات التربية والإدارة، ونقلها إلى الراغبين عبر نشاطات تدريبية وحوارية متنوعة؛
- تمّ أوائل الصيف الماضي افتتاح مركز التدخل المبكر "إسيل" لمساعدة الأطفال ذوي الحاجات الخاصة في مرحلة مبكرة من عمرهم. وذلك في مجمّع الإمام موسى الصدر الثقافي الاجتماعي في بيروت. يعمل المركز على تنمية القدرات المتنوعة للأطفال، وعلى تدعم ذويهم بالمشورة والمعلومة والتدريب.
- بوشر العمل في توفير الخدمة النفسية في المراكز الصحية التابعة لمؤسسات الإمام الصدر. وقد أصبح ذلك ممكنًا بعد أن تمّ تخريج دفعتين من العاملين النفسيين المؤهلين لتقديم المساعدة النفسية.
- تم تخريج الدفعة الأولى من المتخصصات في التصوير الفوتغرافي في معهد الآفاق للتنمية، وهو مقرّر تمّ استحداثه وترخيصه من قبل مديرية التعليم المهني والتقني في لبنان؛
على صعيد البنى التحتية والمؤسسية
- استكملت Booz@ Co. دراستها حول البناء المؤسسي وأساليب الأداء في مؤسسات الإمام الصدر، ومقارنتها بمثيلاتها من الجمعيات والمنظمات الناشطة محليًا وإقليميًا ودوليًا. وخلصت إلى تقديم توصيات ومقترحات جاري العمل على اختبار ملاءمتها وكيفية تطبيقها.
- إنطلقت أعمال الإنشاءات في المبنى المدرسي الجديد في المجمّع الثقافي. يتسع المبنى لـ 1400 مقعد دراسي، أي أنّه يضاعف الطاقة الاستيعابية لناحية عدد المقاعد الدراسية في المجمّع. كما يحتوي المبنى على ملاعب شتوية وصيفية، قاعة عامة، مكتبات، مختبرات، وكافة المرافق والتجهزيات حسب أحدث المعايير والمواصفات الدولية؛
التمويل
وصل مجموع الإنفاق السنوي حسب آخر ميزانية مدققة إلى ثمانية ملايين وثمانمائة ألف دولار أمريكي. وكانت نسب الإسهام في التمويل حسب الآتي:
- تبرعات الأفراد والمغتربين : 38.4 %
- مبيع بضائع وخدمات من الوحدات الإنتاجية : 15 %
- مساهمات المستفيدين من الطلاب والمرضى : 10.8 %
- مساهمات حكومية : 9.4 %
- منظمات دولية ومانحة : 9.3 %
- موائد الإفطارات الرمضانية في لبنان : 7.38 %
- عوائد أخرى متنوعة : 5 %
- متكفلي الأيتام : 4.73 %
توجهات مستقبلية
خلصت جمعية مؤسسات الإمام الصدر إلى أنّ الحاجات الأساسية للسكان في منطقة الجنوب اللبناني ما تزال أولوية ملحّة، وإلى أن مقاربة تلك الحاجات تتطلّب رؤية استراتيجية لتوظيف التدخلات المتنوعة في سياق تنموي مستدام. فمن خلال احتواء المرض والفقر والجهل، يمكن أن ننسج مقوّمات المجتمع العادل الزاخر بالفرص المتكافئة للجميع:
على مستوى توفير الخدمات، ترى الجمعية ضرورة التدخل المباشر مع المستهدفين ضمن مشاركتهم في التخطيط واتخاذ القرار والتقييم، وذلك لضمان تشخيص الحاجات الحقيقية للمجتمعات المحلية. كما وترى ضرورة العمل ضمن شراكات استراتيجية مع الجهات التي تشاطرها الرؤيا وتؤمن بالشفافية والمساواة وتحديد الأدوار. وذلك لتأمين التالي:
1. ضمان حق الناس في الأرياف الجنوبية بالتمتع بصحة جيدة طوال العمر؛
2. تمكين النساء بالتأهيل والتدريب وخلق فرص العمل؛
3. وتحسين فرص الناس في التعلّم مدى الحياة.
وعلى المستوى التنموي الأعمق، ترى الجمعية أنّ وظيفتها لا يجب أن تقتصر على مجرّد أداة تنفيذية، إنما هي محرّك للتغيير، وهي منبر حوار بين من يطلب الخدمة ومن يستطيع تلبيتها. والتغيير المجتمعي المنشود يطال عدّة مستويات أهمها:
1. إزالة كل ترسبات التمييز بسبب المعتقد أو الانتماء الديني أو المناطقي؛
2. تكامل الأدوار بين المرأة والرجل، وتوخي المزيد من العدالة بين تلك الأدوار؛
3. التفاعل بين إسهامات المقتدرين وحاجات المحرومين بحيث تتوسع خيارات الناس جميعًا.
ضمن تلك الرؤية، ترسم الجمعية صورتها للأعوام القادمة على النحو التالي:
على صعيد البرامج والخدمات:
- الاستمرار في تقديم الخدمات الحالية وتأطيرها ضمن 3 حزم أساسية هي تمكين المرأة، رعاية الطفل واليافع، والصحة للجميع في المناطق النائية.
- توسيع النطاق الجغرافي لبعض الخدمات الحالية، وتحديدًا محو الأمية المعلوماتية، التدريب المهني المعجل، التدخل المبكر، والتربية المختصة.
- التحسب للحاجات المستجدة للناس، لا سيما التطورات الديمغرافية (المسنين).
- مواكبة تلبية الحاجات الآنية للناس بمحتويات تمكينية وهيكلية، منها برامج الدمج الاجتماعي وتمكين المرأة وتفعيل الأعمال التطوعية.
على صعيد البناء التنظيمي والإداري:
- ضمان التوزيع العادل بين الرجل والمرأة في الهيئة العامة والمراكز الإدارية والتنفيذية المهمة، وعلى مستوى فرص العمل الناشئة عن نشاط الجمعية ومشاريعها؛
- تطبيق السياسات المقررة حول التدريب والتعلّم مدى الحياة تحقيقًا لمبدأ استمرار عملية التطوير في مرافق الجمعية ولدى أفرادها؛
- تأطير الخريجين في جمعيات وهيئات ترعى مصالحهم وتيسر سبل التواصل فيما بينهم، ومع الجمعية؛
- وضع المعايير وآليات المتابعة والمراقبة حسب أنجح النماذج العالمية في الحوكمة والمساءلة والمشاركة، وبحيث يتحقق أعلى قدر ممكن من الشفافية والفعالية.
حسب هذا الدمج بين الاستراتيجيات الخدماتية والاستراتيجيات التنموية تتشكل هياكل الجمعية وآليات عملها، وتتجسد فلسفتها القائمة على التعلّم الدائم عبر التمكين وبناء القدرات. كما وتتشكّل ذاكرتها المؤسسية عبر توثيق خبراتها والتقرير عنها، وهي تسعى إلى تعميم تجربتها وإلى التأثير في السياسات العامة والبيئة الخارجية إيمانًا منها بأن "زكاة العلم في إنفاقه".
تجربة الجمعية والتغيير الاجتماعي
أولًا: من منظور المرأة كفاعل تنموي
1. السياق الثقافي والمفاهيمي
يرتكز الإسلام على مبادىء أساسية قوامها المساواة الكاملة في الإنسانية، وفي العبادات. ولدينا في ذلك خير دستور وأفصح دليل، سيّما في شرعنة الحقوق والواجبات ﴿لهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ [البقرة، 228]. ونحن نجد هذا المعنى في قول الإمام السيّد موسى الصدر "في الحقيقة لو حاولنا تحرير المرأة تحريرًا حقيقيًا، فإننا نجد في التعاليم الدينية ما يؤمّن ذلك لها". كما ويقول "الدين لا يمنع إطلاقًا من ممارسة المرأة لمختلف النشاطات الاجتماعية".
رغم ذلك، هناك تيّار كاسح يجتهد في إعادة إنتاج أحكام وشرائع فيما عنى المعاملات، دون أن يوضح فيما إذا كان اجتهاده على مستوى المعاملات أم المبادئ. والفرق واضح بين المبادئ والمعاملات. فهذه الأخيرة يضع معظمها الفقهاء، وهي بحاجة دومًا إلى إعادة النظر فيها بما يتماشى مع تطوّر حاجاتنا وظروف دنيانا. ولنا دائمًا في المبادئ خير مرشد ونعم الدليل.
من المفاعيل الخطيرة لجمود المعاملات وثبات تطبيقاتها أنّها تترسّخ في الذاكرة المجتمعية وتتسّق سلّم القيم لترقى إلى مستوى المبادئ. والأمثلة الشعبية مثل "المرأة بربع عقل" خير شاهد على ذلك. تكمن خطورة المفاهيم التقليدية في أنها تأسر أو آليات التفكير وتكبّل السلوك الاجتماعي. والمفاهيم المتراكمة والمتوارثة أنتجت ما يشبه الممانعة الشعبية لتحقيق العدالة الاجتماعية وبالأخص العدالة بين الجنسين.
لقد آن الأوان للتعاطي مع المرأة كونها عصرًا فاعلًا وإيجابيًا، وليست مجرد مستفيد سلبي من برامج الدعم والمساعدة. يستدعي ذلك انتهاج استراتيجية شاملة متكاملة مبنية على تحديات الواقع بكل حقائقه المرّة والحلوة، وهادفة إلى إحداث تغييرات نوعية وكمية ومتراكمة تفضي إلى العدالة الاجتماعية وإلى تحقيق إنسانية الحياة.
الإنتقال نحو الغد الأفضل مهمّة صعبة ومركبة وطويلة، إلاّ أنها ممكنة وضرورية. والتغيير المنشود ليس مسرحه القيادات والتشريعات فقط، بل أيضًا – وربما الأهم- ما يحدث في أوساط العامة: على مستوى العائلة والحي والشارع والمدرسة والوسيلة الإعلامية. وفي كل دائرة من هذه الدوائر تلعب المرأة دورًا محوريًا، وإلاّ فإننا نعيد إنتاج الاوضاع القائمة بكل ما فيها من وهن وقصور.
إنّ وعي المرأة لنفسها، أو التعاطي مع الذات بإيجابية، هو الشرط الضروري والأساسي حتى يمكنها خوض حوار حول أدوارها ومواقعها في إطار تفاعلي بنّاء. هذا الوعي (أي بناء الثقة بالنفس) هو الكفيل باستنهاض وعي مختلف للعالم وبطريقة مختلفة، لأنه سيكون معززًا بالإيمان بالقدرة على إحداث تغيير إيجابي شامل. لا يمكن الثقة بالآخر إذا كانت الثقة بالذات مهزوزة.
وفي عصر العولمة الذي ندور حوله، أو أنّه يدور بنا، تتوالى البيانات والتوصيات والشعارات من المؤتمرات والتظاهرات الدولية كما المحليّة، وواقع المرأة في هذه المنطقة من العالم ما يزال يدور حول نفسه. كما وأنها ليست بأفضل حالًا حيثما كانت، حيث نلاحظ "أن الحضارة الحديثة قد أعلنت تحريرها، لكنها قيّدتها بمختلف وسائل الإعلام والتجارة والأزياء والحفلات... " (الإمام الصدر)
صحيح أن نسبة الأميات بين النساء تشهد انخفاضًا متناميًا، وخروجهن من المنزل لم يعد معضلة في حدّ ذاتها. كما وأن أزمتنا الاقتصادية المتفاقمة تدفعنا إلى الاستعانة بسواعد المرأة في العمليات الإنتاجية.. إلاّ أن الطريق أطول بكثير مما خلناه أو نخاله.
2. المرأة في مؤسسات الإمام الصدر
منذ تأسيسها، تميزّت الجمعية بسجلها الواضح في التصدي لمشكلات المرأة ولاحتياجاتها التربوية والصحية والمهنيّة. فاكتسبت مكانة مرموقة في أذهان وذاكرة المجتمع النسائي خصوصًا الفقيرات ومحدودات الموارد، وكان ذلك بفضل مساهماتها القيّمة في المساعدة الاجتماعية وبرامج محو الأمية ورعاية اليتيمات والتصدي لغير ذلك من المشاكل الاجتماعية والإقتصادية التي تواجه المرأة الجنوبية في الظروف العصيبة.
إضافة إلى اسهاماتها المحليّة، تنخرط المؤسسات في شبكة روابط وعلاقات وطنية وعالمية خصوصًا مع المنظمات المهتمّة بقضايا المرأة. كما وساهمت المؤسسات في كافة النشاطات والتحركات ذات العلاقة بمناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. والخطاب الرسمي للجمعية يدعم بوضوح قضايا العدالة الجندرية ومساهمة المرأة في الحياة العامّة.
كيف تميزت المؤسسات بالتصدي لمشكلات المرأة وماذا فعلت بعدة أمور في المخطط الشامل التي وضعته لتمكين النساء؟!
وضعت جمعية مؤسسات الإمام الصدر مخططًا شاملًا لتمكين النساء، واستطرادًا للرجال. وهو يقوم على أربعة محاور:
- تعزيز الصحة الإنجابية: لأجل إنجاب واعد، والصورة البهيّة للمستقبل في مخيلة الطفل يبدأ تشكلها من خلال حكايات الأمهات وعبر خلجات الإرضاع؛
- محو الأمية التربوية: إذ إن نظام التنشئة، الموكل بشكل شبه حصري للأم، لا معنى له إذا لم يكن مرتبطًا بنظام الحياة وبما يحدث داخل الأسرة والمجتمع. ونظام التعليم سيؤول إلى الفشل إذا لم يكن نظامًا تطويريًا قابلًا للتعديل باستمرار تبعًا لتغيّر المواضيع والحاجات.
- التمكين الإقتصادي: مفهوميًا ووظيفيًا في أمور الوعي المهني وبناء القدرات؛
- ومحو الأمية الحقوقية: لناحية القدرة على التحكم بالموارد والمشاركة في صنع القرار.
... وستكون أميّة الألفباء في هذا السياق مكافحة حكمًا، ومن باب تحصيل الحاصل.
استراتيجيات النهوض
تساهم الجمعية في النهوض بالمرأة بانتهاج 4 استراتيجيات:
1- التدخل المباشر، وتحديدًا في ضمان حقوق البنت الطفلة عبر توفير الرعاية الشاملة لنحو 350 طفلة سنويًا من اليتيمات ومن ضحايا أوضاع اجتماعية أو إقتصادية صعبة، منها العنف والنزاع المسلح. وفي مكافحة تأنيث الفقر بتوفير التعليم والتدريب المهني لنحو 230 شابة سنويًا. وفي توفير الرعاية الصحية شبه المجانية في شبكة مستوصفات.
2- حفز المعنيين وإشراكهم، عبر مروحة أنشطة تهدف إلى التمكين والتوعية بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والبيئة والتنمية، كما وتهدف إلى تأطير الناس في هيئات وشبكات لضمان ديمومة الأنشطة وتوسيعها.
3- الشراكة بتنفيذ مشاريع ميدانية مع جمعيات وهيئات محلية ودوليّة، أو ضمن آليات مؤسساتية واسعة عبر المساهمة الفاعلة في الندوات والمؤتمرات والشبكات ذات الاهتمامات المتناسبة.
4- وأخيرًا استراتيجية البناء المؤسسي الحريصة على أن يكون هيكل الجمعية وثقافتها ترجمة واقعية للشعارات والمبادىء القائمة على التمكين المنصف، للنساء والرجال، في الوصول إلى الموارد والتحكم بها وفي صنع القرار والمساءلة بشأنه.
3. التحديات الأساسية
تمّ تصنيف العقبات تحت 4 عناوين أساسية، يمكن لتذليلها أن يؤدي إلى تغيير اجتماعي جذري على مستوى الوطن، ومنه إلى المنطقة المحيطة:
1- عقبات مرتبطة بمكان وزمان العمل، والمعروف أن لبنان بقي لعقود عديدة ضحية نزاعات مسلحة واعتداءات أنتجت واقعًا معقدًا كان الوزر الأكبر فيه يقع على عاتق المرأة،
2- عقبات ثقافية مرتبطة بالعادات والتقاليد السائدة حيث ما يزال يلزم الكثير من الجهد لتعديل الأنماط والسلوكيات المجحفة بحق المرأة،
3- عقبات تشريعية، إذ إن لبنان ورغم مصادقته على معظم المعاهدات والاتفاقيات الدولية، فإن لديه تحفظات على بنود أساسية فيها، كما وإن التطبيق ما يزال مجافيًا لروحية النصوص والمواد الواردة في القوانين والمعاهدات،
4- عقبات مؤسساتية مرتبطة بندرة الهيئات المتمكنة وبمحدودية فعاليتها. وينطبق ذلك على النسبة المتواضعة لحصة النساء في المؤسسات الوطنية (البرلمان، الهيئات الحكومية)، كما على النسبة الأكبر من مؤسسات المجتمع المدني التي تعاني خللًا في تركيبتها البنيوية كما في ثقافتها التي ما تزال تعكس الوضع السائد لناحية ضعف المشاركة النسائية. ناهيك عن أن فعالية المجتمع المدني في الأرياف ما تزال في طورها الجنيني.
5. استراتيجية تخطي العقبات
تقترح الجمعية 3 استراتيجيات رئيسية لتخطي العقبات:
1- تشجيع المبادرات القائمة على التركيز المتوازن والمتزامن على المرأة والرجل معًا، حيث أن الهيئات والمشروعات أحادية اللون والبنية والتوجه أقل فعالية من تلك التي تعمل مع الرجال والنساء وتستهدفهم معًا،
2- إدراك الاحتياجات الاستراتيجية للرجال والنساء، وتصميم المشاريع المرتبطة بالاحتياجات العملية والمباشرة بحيث توظف عوائدها ضمن رؤية شمولية تخدم الاحتياجات الاستراتيجية بعيدة المدى والأثر،
3- التركيز على فئات الاحتياجات الخاصة الماثلة فعليًا وحاليًا (النساء المعيلات لأسرهن)، أو الكامنة والمؤكدة التأزم مستقبلًا (العزوبية النهائية لأعداد متنامية من النساء).
ختامًا، كانت المرأة وستبقى مركز الثقل في ترميم الوطن، وفي صناعة المستقبل. وإلى أن تستعيد المرأة زمام المبادرة في بناء ذاتها وبناء أطفالها، سيبقى الوطن مأزومًا. وسيبقى المستقبل رهينة الحاضر الفصامي بين ماضٍ لا يستعاد وآتٍ ننشغل في القلق منه بدل العمل على صنعه.
ثانيًا: من منظور التنشئة على ثقافة السِّلم
هناك حاليًا 1450 تلميذة أو تلميذ نظامي في المجمّع الثقافي في صور، عدا عن الآلاف من زوار المراكز الصحية والاجتماعية الذي يترددون بوتيرة متفاوتة.
بعض اليتيمات يدخلن إلى المجمّع في عمر الثالثة ويبقين فيه إلى أن يتزوجن أو ينهين الدراسة الجامعية. وبعضهن يقضين سنة دراسية واحدة في برامج التدريب المهني المعجل. الجمعية تحتفل هذه السنة بمرور خمسين عامًا على تأسيسها، وبعملية حسابية بسيطة نستنتج أن عشرات الآلاف استفدن لغاية تاريخه كمحصلة تراكمية. وكلّ واحدة أو واحد منهم تعرّض بمناسبة أو بأخرى لأحد أشكال العنف، بل إنّ البعض تعرّض لأكثر من شكل واحد من العنف، وغالبًا ما وجدنا أنفسنا أمام نماذج مركبّة من الضحايا.
مستويات التدخل
تبعًا للحالات، يمكن تصنيف استراتيجيات التدخل ضمن عنوانين أساسيين، وسيقتصر التركيز في هذه الورقة على العنوان الثاني نظرًا لاتصاله الوثيق والمباشر بتنشئة الأطفال على السِّلم. فالعنوان الأول هو تحصين للكبار بالقوّة الإقتصادية والنفسية التي تزيل عنهم الضغوط وتحميهم من مطامع الآخرين، كما وتؤهلهم لتنشئة أطفالهم تنشئة صالحة. في حين أن العنوان الثاني يتصل بسلسلة الإجراءات والتدخلات النفسية والتخصصية الآيلة إلى توازن الفرد مع ذاته وتهيئته للدخول في حوار آمن مع الآخر، يوصلهما إلى علاقة سلمية.
يكون التدخل النفسي- الروحاني بالمساعدة على إدراك الصدمة والاعتراف بالألم والحزن وصولًا إلى تحديد الهوية واحترام الذات. وهنا تلعب التربية الأخلاقية والدينية دورًا فعالًا نظرًا لما تدخله في النفس من طمأنينة وهدوء، ولما تخلقه من استعداد للتسامح والرحمة، وصولًا إلى الشفاء التام عبر مواجهة الذات والآخر والاعتراف بهما. أي الاعتراف بأخطاء الذات وغفران أخطاء الآخر، بمعنى القبول بتسوية ترمم العلاقات وترسي ثقافة السِّلم.
الذات والآخر
لعلّ مرحلة مواجهة الذات والآخر هي – في عملنا مع الفئة المحددة- الأصعب على الإطلاق. والفئة المحددة هي مجموعة الفتيات اللواتي وقعن ضحية شكل أو عدّة أشكال من العنف، وجئن إلى الجمعية طلبًا للحماية والرعاية والتعلّم:
- عند مواجهة الذات، هناك سؤال (ماذا فعلت؟)، والإجابة عن اليتيمات وضحايا العنف الخارجي أو المنزلي أو المجتمعي، تكون غالبًا (أنا لم أفعل شيئًا، أي لم أظلم ولم اعتدِ ولم أسرق ولم أقتل)
- وعند مواجهة الآخر، هناك سؤال (ماذا فعلوا بي؟)، والإجابة عند نفس الفئة تكون غالبًا على هيئة سؤال (ماذا لم يفعلوا بي؟ لقد هجروني، وقتلوا والدي أو أخي... إلى آخره، واختلسوا طفولتي، واغتصبوا براءتي، وصادروا مستقبلي.. إلى ما هنالك).
إن استعداد هؤلاء الأشخاص للتوصل إلى تسوية هو أمر بالغ الصعوبة. فهم لم يرتكبوا جرمًا أو خطأ ليقايضوا به نظير ما وقع بحقهم من ارتكابات. واستعدادهم للغفران يبدو أمرًا غير عادل علمًا بأن "الجلادين" مجهولون أو مجهَّلون. تكبر الفتاة وتتسع مداركها لتكتشف أنها في المكان الخطأ (أي أنها لا تعيش ضمن أسرتها كباقي الناس). ويبدأ طرح الأسئلة من نوع: لماذا أنا؟ ومن أتى بي إلى هنا؟ وإلامَ أنا ذاهبة؟... تبقى غالبًا من دون إجابات شافية.
المبادىء الأخلاقية
تقوم رؤية الجمعية على مجموعة قيم أساسية، أهمها العدالة والتقوية أو التمكين. وتقوم مبادىء العمل على:
- تمكين الأفراد والمجموعات الضعيفة،
- عدم الحياد أي الإنحياز نحو الأضعف، ومحاولة تبديد سطوة المتنفذين
- تعددية المقاربات (إذ ليس ثمّة وصفة جاهزة صالحة لكل الظروف والحالات).
آليات التدخل، وأشكاله
- يتم اتخاذ القرار بالتدخل بعد إجراءات دقيقة من التمحيص، وذلك توخيًا للعدالة. فاختيار الأحق بالرعاية أمر بالغ الصعوبة عندما تكون الإمكانيات في حدود استقبال عدّة مئات فقط بينما طالبو الخدمة يعدّون بالآلاف. والمعيار الآخر الأكثر صعوبة هو تقدير مدى صعوبة الحالة وبالتالي مدى فعالية التدخل؛
- القرارات ذات الصلة بعملية التدخل (أي ما بعد القبول): وهذه العملية معقدّة، حيث علينا أن نلعب دور المؤيد للطرف الأضعف (اليتيمة، ذوو الحاجات التربوية الخاصة، إلى آخره... )، ودور الوسيط (تسوية الأوضاع مع الأهل، ضمان تواصلهم مع أبنائهم) ودور المطبّق لمجموعة متشعبة من البرامج (تربوية، صحية، اجتماعية، رعائية، تدريب الأهل على تقبّل أوضاع أبنائهم أو بناتهم).
- قرار إنهاء التدخل لاعتبارات متعددة: بعضها يتصل بمصلحة التلميذة في الإندماج المبكر في المجتمع الطبيعي ضمن أسرتها، وبعضها يتصل باستكمال التمكين، وأحيانًا يكون قرار الإنهاء لإفساح المجال أمام أفراد آخرين أولى بالرعاية.
الرؤية الاستراتيجية: ثقافة السلم نحو تكافؤ الفرص في مجتمع عادل
* حوار متنامٍ بين إسهامات المقتدرين وحاجات المحرومين
* أدوار أكثر عدالة بين المرأة والرجل
* لا تمييز بسبب اللون أو العرق أو الدين..
1- تطبيقات الحوار المتنامي:
- إدماج الطلاب من شرائح اجتماعية وإقتصادية متنوعة، بهدف التعارف المتبادل وإزالة إحساس الغبن واليتم من النفوس، ومساهمة المقتدرين (أقساط مدرسية) في توفير الموارد المالية اللازمة لتأمين نوعية عالية من الخدمات يستفيد منها الجميع.
- التواصل مع المغتربين والمقتدرين، وتلقي إسهاماتهم في دعم برامج الجمعية.
- المشاركة مع وكالات التنمية والمنظمات الإقليمية والدولية، وتلقي مساهماتهم ودعمهم.
2- تطبيقات العدالة بين الجنسين:
- تتبوأ المرأة مراكز مرموقة في هيكل الجمعية وفي آليات اتخاذ القرار.
- هناك جهد نظامي في أوساط العاملين والمتطوعين والمستفيدين، كذلك مع الجمعيات المحلية، ويرمي هذا الجهد إلى إحداث تغيير ذهني وسلوكي في النظرة إلى المرأة والرجل وأدوارهما.
- معظم البرامج مصممة بحيث تلبّي حاجات المرأة إلى التمكن والوصول إلى الموارد والتحكم بها.
3- تطبيقات اللاتمييز:
- يتم اختيار أماكن المراكز الصحية والاجتماعية بحيث تلعب دور المساحة المشتركة لالتقاء الأهالي متعددي الانتماءات؛
- تتكرر مبادرات التواصل واللقاء مع المدارس والجمعيات والهيئات من كافة المناطق اللبنانية بهدف التجسير، وتصفير مساحات الوهم والجهل بالآخر؛
- يتوخى مؤتمر "كلمة سواء" السنوي أن يكون مناسبة مستمرة لتلاقي إرادات المختلفين وحوارها؛
الخلاصة:
ختامًا،
تبقى العبرة في الآثار العميقة والبعيدة التي نحدثها، وفي مدى توافقها مع القيم الاجتماعية والثقافية والمواثيق والأعراف الإنسانية بما فيه حقوق الطفل والمرأة والفئات المهمشة والضعيفة والإنسان عمومًا. وسوف يستمر رصد تلك الآثار على رأس اهتمامات الجمعية، وذلك لقياس ما يحدثه وجودها واستمرارها من قيمة مضافة على سلم إحراز الحقوق الأساسية للإنسان وتمكينه من التمتع بحياة أفضل، وتوسيع خياراته وممارسة موهبته في تلوين أنوار الغد.
كان لبنان سباقًا في تجرع الكؤوس المرّة، سحابة مغامرته الأهلية علّ القارئين في الفنجان الماضي اللبناني يلتقطون من طلاسمه خطًا واضحًا مؤداه بحثية العنف الأهلي، ثمة منافع إيجابية في تلك المغامرة لعله أن بعض الناس تعلموا أن الثقة بالنفس والثقة بالآخرين تأسيسًا لقدرة بناء العمل معهم في نسج مستقبل حر وكريم.
والسلام.
____________________________
1- الثابت والمتغير في الدين، المنطلق، العدد 118، 1997
2- نبيل عبد الفتاح، مجلة روز اليوسف، العدد 4353، 12 تشرين الثاني 2011
3- شفيق الغبرا، صحيفة الوسط البحرينية- العدد 3348- الإثنين 7 نوفمبر 2011 م
4- التغيير ضرورة حياتية، من منشورات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، ص 12
5- من منشورات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.